الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بها عند شعراء القرن الثالث، إنها جناسات باهتة لا نحس إزاءها بأنها تعبر عن جمال وفن كما كان ذلك الشأن في القديم.
على أن هذا الجانب الباهت في شعر مهيار يعم في جميع جوانب قصائده ونماذجه؛ بحيث يمكن أن نقول إنها قصائد أو نماذج باهتة، فليس فيها ما يسر العين والأذن فضلًا عما يسر العقل والذهن إلا قليلًا.
واقرأ في مهيار طويلًا ثم سلْ نفسك ماذا حصلت عليه فستجدك قلما تحصل على شيء رائع من فن أو شعر؛ بل أنا أومن بأنك لن تستطيع أن تديم النظر فيه طويلا، فسيفجؤك ملل وسأم يحولان بينك وبين الاستمرار في القراءة، فقد أصبح الشعر تلفيقًا خالصًا سواء في صوره أم في ألوانه أم في أفكاره، وهو تلفيق كان مهيار يعتمد على دفع المشقة فيه بالتقليد، ولكن أي تقليد؟! إنه هذا التقليد الذي لا يشعُّ إلا مللًا وسأمًا غريبين، وكأنما أجدب التفكير الفني، ولم يعد من الممكن أن يتحول إلى التصنيع القديم وما كان فيه من زخرف حسي وعقلي.
3-
تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ:
لم يقف مهيار بتلفيقه عند تطويل الأفكار المطروقة والخواطر الموروثة في أسلوبه المنبسط؛ بل راح يحاول تحقيق ذلك من طرق أخرى، هي إدخال مراسيم الرسائل في قصائده، حتى يستطيع أن يطيل فيها طولًا شديدًا. وإن الإنسان ليشعر شعورًا واضحًا إزاء كثير من نماذجه بأنها قد ألفت كما تؤلف الرسائل؛ فهي تبدأ في العنوان بتلك الكلمة: "وكتب إلى
…
"، وينتقل الإنسان من هذا العنوان إلى القصيدة فإذا هي قد ألفت على نمط أسلوب الرسائل وما تعارف عليه أصحابها من ولعهم بما يسمَّى: براعة الاستهلال، وكان السابقون يعرفون لمهيار إحسانه في هذا الجانب. يقول ابن حجَّة الحموي: "ومن ألطف البراعات وأحسنها براعة مهيار الدَّيلمي؛ فإنه بلغه أنه
وُشِيَ به إلى ممدوحه فتنصل من ذلك بألطف عذر، وأبرزه في معرض التغزل والنسيب؛ فقال:
أما وهواها حلفَةً وتَنصُّلا
…
لقد نقَلَ الواشي إليها فأمْحَلا
وما أحلى ما قال بعده:
سعى جُهْدَه لكن تجاوز حدَّهُ
…
وكثَّر فارتابتْ ولو شاء قلَّلا
ومهيار كما يبدأ قصائده ببراعة الاستهلال نراه يختمها بالدعاء على نمط ما يصنع الكتاب برسائلهم، وانظر إليه يقول في نهاية إحدى قصائده:
فلا قَلَصتْ عني سحائبُ ظلِّكم
…
فمنها مُرِذٌ تارة وسَكُوبُ1
ولا عدِمتَكم نعمةٌ خُلقتْ لكم
…
ودنيا لكم فيها الحياةُ تطيبُ
يزوركُم النَّيروزُ مقتبَلَ الصِّبا
…
وقد دبَّ في رأسِ الزَّمانِ مَشِيبُ
تصَوَّحُ أغصانُ الأعادي وغصنُكم
…
من السَّعد ريَّانُ النباتِ رطيبُ2
دعاءٌ حِيالي فيه ألفُ مؤمِّنٍ
…
تَوافقُ منهم ألسنٌ وقلوبُ
وماذا بقي لأسلوب الكتاب في رسائلهم؟ إن مهيار يبدأ قصائده ببراعة الاستهلال ويختمها بالدعاء، وكأنه يؤلف رسالة من الرسائل، وكيف يطيل قصائده إن لم يستخدم معرفته بمراسيم الرسائل في هذا الطول وينقل إلى القصيدة كل ما يمكنه من هذه المراسيم؟
على أن هذا الجانب من التجديد عند مهيار لم يضف للشعر جمالًا، بل أضاف إليه هلهلة وإسفافًا؛ فإن مهيار حين عدل بالشعر إلى مراسيم النثر استعار له ما يُطْوى في هذه المراسيم من الحشو وكثرة التَّكْرار والاعتراض، وعمَّم ذلك في نماذجه، حتى ليؤذينا إيذاء شديدًا، وانظر كيف يعتمد على الاعتراض في صنع أبياته:
أقولُ وقد تعرَّمَ جُرحُ حالي
…
وسُدَّ على مَطالِعيَ السَّراحُ3
وكاشفني وكان مجاملًا لي
…
عَبوسُ الوجهِ من زمني وَقاحُ
1 قلصت: رحلت. مرذ: من الإرذاذ وهو المطر الضعيف، ضد السكوب.
2 تصوح: تذبل.
3 تعرم: اشتد.
وقد منعت غضارَتها وجفَّت
…
على أخلاقها الأيدي الشِّحاحُ
غدًا يا نفسُ فانتظري أناسًا
…
هُمُ فرَجٌ لصدركِ وانشراحُ
فقد فصل بين أقول ومتعلقاتها بنحو ثلاثة أبيات، جاء بها حشوًا، لا لشيء سوى أن يطيل في نموذجه، وأن يحقق الكَمَّ الذي يريده لقصيدته؛ فإذا الإنسان لا يقرأ في شعر، وإنما يقرأ في نثر أو رسالة من الرسائل. ونحن لا نرتاب في أن مهيار حين خرج بنماذجه وقصائده إلى التطويل فيها، وجلب مراسيم الرسائل لم يستطع أن يشفع ذلك بجمال فني لا من جهة حسية ولا من وجهة عقلية إلا قليلا جدًّا، وكان ابن الرومي يطيل من قبله في قصائده ولكن الطول عنده كان مفهومًا؛ إذ كان يستخدم فيه ثقافته ومنطقه، فإذا المعاني تتسع عنده اتساع الرقاقة في قوله يصف خبَّازًا:
ما أَنسَ لا أنس خبازًا مررتُ بِهِ
…
يدحو الرقاقةَ وشك اللَّمح بالبصرِ1
ما بين رُؤيتها في كفِّهِ كُرَةً
…
وبين رؤيتِها قوراء كالقَمَرِ2
إلا بمقدارِ ما تنداحُ دائرةٌ
…
في لُجَّةِ الماءِ يُرْمَى فيه بالحجَرِ3
فابن الرومي كان يخبز معانيه خبزة عقلية إن صح هذا التعبير، أما مهيار فلم يكن يطيل في شعره بدافع عقلي؛ إنما كان يطيل من أجل الطول نفسه؛ ولذلك فقد الشعر عنده كل ما يحمل من حرارة العاطفة وتوهجها، لولا ما كان يسلكه فيه من أقواس موسيقية.
وحقًّا إن مهيار تسلم له بعض قطع من نماذجه يوفر لها من القيم الصوتية ما نعجب به؛ ولكن ذلك لا يسري إلى أكثر شعره وأغلبه، بل إنه لا يسري إلى بقية القصائد التي قد نستجيد منها هذه القطع، فما يزال يهجم علينا منه هذا التلفيق وهذا الحشو، وكأني به حينما بسط نماذجه كل البسط أصبح الجمال الفني عنده مهوَّشًا لا روعة فيه ولا تنسيق.
1 يدحو: يبسط.
2 قوراء: واسعة.
3 تنداح: تنبسط.