الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهم يعيشون على تقليدهم، ومن ثمَّ كنا نراهم يقفون معجبين بالأزياء الفنية التي نسجها أبو نواس والبحتري وابن الرومي، والأخرى التي نسجها أبو تمام وابن المعتز، والثالثة التي حاكها المتنبي وأبو العلاء وأضرابهما، وقلما بدلوا في هذه الأزياء، إنما هم يتنازعونها فيما بينهم، كل يحاول أن يتزيَّى بها في فنه، وأعجبوا خاصة بزي التصنيع والبديع، وما تزال ترى الشاعر منهم يجمع بين هذه الأزياء جميعًا في فنه دون أن يعرف الفروق بينها، فهي كلها أزياء، وهي كلها تحتذى وتقلد.
ومع ذلك استطاعت الأندلس أن تمثل نفسها -إلى حد ما- في شعرها، فاستحدثت الموشحات والأزجال، وصور الشعراء بيئتها تصويرًا طريفًا، وكذلك شأن مصر، فقد استطاعت داخل هذا التقليد أن تمثل نيلها وزروعها وجناتها، كما استطاعت أن تمثل موجة الزهد والتصوف التي كانت منبثة في بعض جوانبها، وأيضًا فإنها مثلت موجة اللين والدعة التي كانت شائعة فيها، كما مثلت جانب الفكاهة والدعابة في شعرائها أروع تمثيل.
3-
الشِّعْرُ في مِصْرَ:
إذا تعقبنا الشعر في مصر أثناء العصر الأموي لم نجد لها سوى أشعار كانت تقال في المناسبات والأحداث المختلفة. أما بعد ذلك فليس لها شاعر ممتاز يمكن أن نضعه في صف الشعراء الممتازين للحجاز ونجد والعراق والشام.
وإذا تركنا العصر الأموي إلى العصر العباسي وجدنا مصر تأخذ بأسباب النهضة الفنية التي ستقبل عليها في العصر الفاطمي، فقد أخذ الشعر ينمو فيها أكثر من ذي قبل، ومع ذلك فلا يزال بينها وبين بغداد بون بعيد. روى الرواة أنه لما قدم أبو نواس مصر على الخصيب عامل الخراج عليها من قبل هارون الرشيد
"وجد لديه جماعة من الشعراء فاستنشده، فقال: لا، ههنا جماعة من الشعراء هم أقدم مني وأسن، فأذن لهم في الإنشاد، فإن كان شعري نظير أشعارهم أنشدت، وإلا أمسكت، فاستنشدهم، فأنشدوا مديحًا فيه، فلم تكن أشعارهم مقاربة لشعر أبي نواس، فتبسم ثم قال للخصيب: أنشدك -أيها الأمير- قصيدة هي منزلة عصا موسى، تتلقَّف ما يأفكون، قال: هات، فأنشده: "أجارة بيتينا أبوك غيور" حتى أتى على آخرها، فانفض الشعراء من حوله"1.
وواضح ما يدل عليه النص من أن مصر حتى عصر أبي نواس لا تظفر بشاعر ممتاز يقاس إليه وإلى أضرابه من شعراء العراق، ولما قدم بعد ذلك أبو تمام إلى مصر في أوائل القرن الثالث كان أشهر شعرائها سعيد بن عفير والمعلَّى الطائي وابنه حِطَّان. ومن يرجع إلى شعرهم الذي روي في الولاة والقضاة للكندي وخطط المقريزي يلاحظ أنهم كانوا شعراء فحسب، ولكن لم يكونوا شعراء ممتازين بحيث يستطيعون أن يقرنوا إلى كبار الشعراء في العراق.
وإذا استمررنا نتقدم في القرن الثالث أحسسنا بأن مصر بدأت تتضح شخصيتها قليلا، فقد ظهرت فيها طائفة من الصوفية على رأسها ذو النون المصري، كما ظهر فيها الترف، أو بعبارة أدق بدأت تأخذ في أسبابه، وأتاح لها ذلك -من بعض الوجوه- قيام الدولة الطولونية، فإن أحمد بن طولون كانت لديه نزعة إلى الغناء2 كما كانت لديه نزعة إلى الترف، فاهتم ببناء القصور والبساتين، وقالوا: إنه كان ينفق على طعامه كل يوم ألف دينار3، وكان ابنه خمارويه يحب الشراب ويسرف فيه4، ويظهر أنه كان مولعًا بالترف، فقد اهتم اهتمامًا واسعًا بالبستان الذي غرسه أبوه، وجلب إليه ضروب الرياحين والأشجار من كل نوع، كما جلب إليه ضروب الورد والزعفران والنيلوفر، وكسا أجسام النخل نُحاسًا مذهبًا حسن الصنعة، وتفنَّن فيه بضروب من الزخرف.
1 أخبار أبي نواس: لابن منظور "طبع مصر" ص234.
2 المغرب "القسم الخاص بمصر".
3 النجوم الزاهرة 3/ 8.
4 نشوار المحاضرة: للتنوخي ص261.
والتجميل1. وروى الرواة أنه كان بقصره بركة من الزئبق طولها خمسون ذراعًا وعرضها خمسون، أقيمت عليها أساطين من الفضة، شدت إليها زنانير من الحرير تحمل فراشًا كان ينام عليه "وكانت هذه البركة يرى لها في الليالي المقمرة منظر عجيب إذا تألف نور القمر بنور الزئبق"2.
وليس من شك في أن هذه الصورة بالغة من الثَّراء والترف، وقد تكون هي أهم الأسباب التي جعلت الشعراء يبكون الدولة الطولونية بكاءً شديدًا3. وتجتمع النصوص التي أثرت عن الدولة الطولونية أن الشعراء كثروا في عهدها4، وهي كثرة أتاحت للصولي فيما بعد أن يكتب عن أخبار شعراء مصر كتابًا5، غير أن هذا الكتاب مفقود، وربما كان أهم شاعر ظهر في هذا العهد هو الجمل الأكبر المتوفى عام 358 للهجرة. يقول ياقوت: "كان شاعرًا مفلقًا مدح الخلفاء والأمراء"6 وتخصص أخيرًا بابن طولون. ويقول صاحب المغرب أنه كان ينحو نحو الفكاهة والدعابة، غير أنه لم يصلنا من شعره، ما نستطيع به أن نحكم حكمًا واضحًا على قيمته الفنية أو قيمته الفكاهية.
وإذا انتقلنا إلى عصر الإخشيديين وجدنا شاعرهم الفكه الملقب بقاضي البقر ومن شعره الماجن7:
يا ربِّ دعني بلا صلاحِ
…
يا ربِّ ذرني بلا فلاحِ
يدي مدى الدَّهر فوق ردفٍ
…
وراحتي تحت كأسِ راحِ
واشتهر في هذا العصر أيضًا أبو هريرة أحمد بن أبي عصام، وفيه يقول صاحب المغرب: "كان من شعراء الإخشيد المصريين من أصحاب النوادر والمجون والإدمان على شرب الخمر، ومن شعره في وصف مجالس الشراب.
مجلسٌ لايرى الإله به غيـ
…
ـر مُصَلٍّ بلا وضوءٍ وطهرِ
1 خطط المقريزي 1/ 316.
2 خطط المقريزي 1/ 317.
3 انظر: النجوم الزاهرة 3/ 140 وما بعدها.
4 نفس المصدر 3/ 140.
5 معجم الأدباء 2/ 415.
6 معجم الأدباء 4/ 76.
7 المغرب: لابن سعيد ص272.