الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن الشباب والفراغ والجِدَه
…
مفسدة للمرء أي مفسده1
وأكبر الظن أن في ذلك كله ما يوضح أن العلاقة كانت وثيقة بين الشعر والثقافات الدخيلة؛ فقد تحول إلى جوانب منها ينظمها كالفلك، وأيضًا فإن الشعراء نظموا تاريخ الأمم الخالية2، ولا نشك في أن أرجوزة أبي العتاهية لم تكن أمثالها كلها من صُنعِه، وأنه استقاها من أمثال الفرس والهند واليونان أو على الأقل استقى كثيرًا من جوانبها. وكم تلقانا إشارات في كتب الأدب لما كانوا ينظمون من معاني اليونان3 وغيرهم4. ولا نبالغ إذا قلنا إن منهم من كان يحسن من التفلسف ما يحسنه من الشعر، ولسنا نقصد النظام وأضرابه من المتكلمين؛ وإنما نقصد الشعراء أنفسهم من مثل صالح بن عبد القدوس وأبي العتاهية، ومن لا يبلغ مبلغهما من التفلسف كان يأخذ بأطراف منه إن لم يكن مباشرة فعن طريق المتكلمين، كما رأينا عند بشار وأبي نواس.
1 انظر في هذه المزدوجة الأغاني 4/ 36. والحدة: الغنى.
2 الحيوان 6/ 149.
3 الأغاني 4/ 43 وما بعدها؛ حيث روى أبو الفرج مرثية لأبي العتاهية استمدها من أقوال الفلاسفة حين حضر واتابوت الإسكندر المقدوني وقد هيئ ليدفن. وانظر البيان والتبيين 1/ 407.
4 انظر على سبيل المثال عيون الأخبار3/ 6 حيث يروي حكمة هندية نظمها العتابي.
وراجع زهر الآداب 1/ 90 حيث يذكر عن محمود الوراق أنه كان كثيرًا ما ينقل أخبار الماضين وحكم المتقدمين فيحلي بها نظامه ويزين بها كلامه.
4-
ازدهار مذهب الصنعة:
لعل فيما قدمنا من حديث عن الشعر العربي في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة ما يوضح أن تأثيرات واسعة أخذت تؤثر في صورته؛ فقد كان أكثر من ينظمونه من الأجانب وخاصة من الفرس، وكانوا متحضرين تحضرًا أقبلوا فيه على كثير من فنون اللهو والمجون كما كانوا مثقفين ثقافة واسعة نوَّعت أفكارهم وخواطرهم وأججت عقولهم وأذهانهم، فانطلقوا يعبرون بالشعر عما أصابوا من كنوز المعرفة، ويصورون ما يجول في نفوسهم من نزعات
وأحاسيس؛ فإذا بنا إزاء عصر جديد، وهو عصر لا ينقطع فيه الصلة بين ماضي الشعر وحاضره، فقد وضع الشاعر العباسي نُصْبَ عينيه نموذج الشعر القديم وحول كل ما يتضمنه هذا النموذج من معانٍ وصور إلى عصره، وأضاف إليها حشودًا من معانٍ وصور جديدة وألف من ذلك كله نموذجه الحديث.
وتختلف صلة هذا النموذج بالنموذج القديم سعة وضيقًا، فهو في المديح والشعر الرسمي أقرب إلى القديم منه في شعر الغزل والخمر والمجون، وبذلك يستمر فيه أو بعبارة أدق في مدائحه الحديث عن الأطلال ووصف الصحراء وما يتصل بها من رحلة وصيد، وحتى هو في الموضوعات ذات الصبغة الجديدة كالخمريات يستمد مما قاله القدماء. ومعنى ذلك أن الشعراء كانوا يجددون؛ ولكن مع ضرب من التوازن، فهم لا ينسون القديم، بل هم يعكفون عليه محاولين أن يستنفدوا دِنانه، وكأنه يشبه -عندهم- الخمر المعتقة التي كانوا يشغفون بها.
ويخيَّل إلى الإنسان كأنما أحال الشاعر العباسي الشعر القديم إلى ما يشبه تلك الجذاذات التي يجمعها العلماء حين يريدون أن يبحثوا موضوعًا ويستقصوه استقصاء، ومن الحق أن استقصاءهم كان عميقًا؛ فهو استقصاء فيه جِدّ وصرامة، وفيه غير قليل من المصاعب والمتاعب، فهم لا ينظمون الشعر إلا بعد أن يحفظوا آلاف القصائد ومئات الأراجيز وإلا بعد أن يستظهروا ذخائر الشعراء الجاهليين والإسلاميين. ومن غير شك يرجع الفضل في ذلك إلى اللغويين الذين جمعوا لهم مادة الشعر القديم ووضعوها تحت أعينهم مفسّرة مشروحة.
وقد أشاعوا بينهم تلك العقيدة التي ثبتت في الأذهان تفوق الشعر الجاهلي وأنه مثل أعلى خليق بالشاعر العباسي أن يجاريه. وتبعهم الشعراء يدرسون هذا الشعر ويحاولون بكل ما يستطيعون أن يحاكوه، وكأنما رأوا حيوية كامنة في روحه تجعله خليقًا بالبقاء والمحاكاة، وأثبتوا في مهارة أنهم جديرون بالقيام على تراثه النفيس واستغلاله واستنفاد طاقاته.
وتوضح لنا كتب السرقات مدى هذا الاستنفاد والاستغلال، وكلما مضينا في العصر أضافت الأجيال إلى هذا التراث أعمال المحدثين ممن سبقوهم.
وأشعارهم، وأكبَّ الشعراء عليهم بحثًا ودرسًا وتعمقًا واستقصاء؛ وبذلك اتصلت الأسباب وتوثقت بين قديم الشعر العربي وحديثه، واحتفظ بكل مادته ومشخصاتها على مر العصور وتعاقب الدهور.
وليس معنى ذلك أن الشعر العربي لم يتطور في العصر العباسي تطورًا واسعًا، ولكن معناه أن الشعراء كانوا في أثناء تطورهم به ينسقون بين سَدَى الماضي ولُحْمة الواقع ونغمات الغابر وألحان الحاضر. ونستطيع أن نستعرض فنون الشعر، فنًّا فنًّا فسنراها جميعًا تتطور، وإن كان التطور يختلف كثرة وقلة؛ فهو في المديح والشعر الرسمي محدود، إذ نجد الشاعر يحافظ غالبًا على التقاليد الفنية الموروثة، ولكنه مع ذلك يلوِّن في معانيه تلوينًا واسعًا بفضل ثقافته وما أتاحت له من قدرة على توليد المعاني والغوص على الأفكار والأحاسيس الدقيقة من مثل قول بشار في عمر بن العلاء1:
دعاني إلى عُمَرٍ جودُهُ
…
وقول العشيرة بحر خِضَم
ولولا الذي ذكروا لم أكن
…
لأمدح ريحانة قبل شم
فتى لا ينام على دِمْنَةٍ
…
ولا يشرب الماء إلا بدم2
إذا نَبَّهَتْكَ حروب العُداة
…
فنَبِّهْ لها عُمْرًا ثُمَّ نَمْ
وقل علي بن جبلة في أبي دُلَف العِجْلي3:
كل من في الأرض من عَرَبٍ
…
بين باديه إلى حَضَرِهْ
مستعير منك مكرمةً
…
يكتسيها يوم مُفتَخَرِه
إنما الدنيا أبو دُلَفٍ
…
بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولَّى أبو دلفٍ
…
ولَّت الدنيا على أَثَرِهْ
وتفيض كتب الأدب والنقد بمثل هذه المعاني الرائعة. وكذلك كان شأنهم في الرثاء؛ إذ أدخلوا فيه كثيرًا من خيوط الحكمة والعظة التي قرءوها،
1 طبقات الشعراء ص25، والأغاني 3/ 193.
2 الدمنة: الحقد.
3 طبقات الشعراء ص172.
كما أدخلوا كثيرًا من أحاسيسهم النفسية الباطنة على شاكلة مرثية أبي العتاهية لأحد أصدقائه المسمى علي بن ثابت، وفيه يقول1:
وقد كنت أغدو إلى قصره
…
فقد صرت أغدو إلى قبره
أخٌ طالما سرَّني ذكره
…
فقد صر أشجى لدى ذكره
فتى لم يملّ النّدَى ساعة
…
على عسره كان أو يسره
فصار عليٌّ إلى ربه
…
وكان عليٌّ فتى دهره
أتته المنية مغتالة
…
رويدًا تخلل من ستره
فلم تغن أجناده حوله
…
ولا المسرعون إلى نصره
وخَلَّى القصور إلى شادها
…
وحلَّ من القبر في قعره
أشدُّ الجماعة وَجْدًا به
…
أشد الجماعة في طَمْرِه
وتحولوا بالهجاء من نقائضه الطويلة المعروفة عند جرير والفرزدق التي تزخر بالأنساب والأيام إلى ضرب قصير يشبه الأمثال الفارسية التي تنسب إلى بزرجمهر وأضرابه؛ فأصبح كلمات قليلة حادة، تشبه السهام السريعة النافذة، وكل شاعر يبحث عن سهم مُصْمٍ يرسله إلى خصمه يريد ألا يُبْقي عليه ولا يذر، ولعل ذلك ما جعلهم يعمدون فيه إلى القذف في الأعراض والرمي بالزندقة والإلحاد، حتى بين الزنادقة أنفسهم، مثل بشار وحماد عجرد، وقد استطار الهجاء بينهما، وفي بشار يقول حماد2:
نهاره أخبث من ليله
…
ويومه أخبث من أمسه
وليس بالمقلع عن غَيِّه
…
حتى يُوَارَى في ثرى رمسه
وكان يكثر من هجائه بالعمى على شاكلة قوله3:
ويا أقبح من قرد
…
إذا ما عمي القرد
ويغضب بشار ويثور، فيرميه بالزندقة وعبادة إلهي النور والظلمة على شاكلة قوله4:
يا ابن نهيا رأس عليَّ ثقيلُ
…
واحتمال الرأسين خطبٌ جليلُ
1 ديوان أبي العتاهية ص124.
2 أغاني "طبعة الساسي" 13/ 74.
3 طبقات الشعراء ص67.
4 أمال المرتضى 1/ 133.
فادْعُ غيري إلى عبادة رَبَّيْـ
…
ـن فإني بواحد مشغولُ
وما زال هذا الضرب القصير من الهجاء اللاذع ينمو حتى تحول عند ابن الرومي إلى ما يشبه الصور الساخرة "الكاريكاتورية" وسنعرض لذلك عنده في الفصل التالي.
ومر بنا أنهم أثاروا في هذا العصر دعوة الشعوبية، ومن خلال تطور فن الفخر القديم؛ فلم يعد فخرًا في حدود العصبيات القبلية فحسب، بل أخذ يجول في حدود العصبيات الجنسية، على نحو ما أسلفنا عند بشار. وليس معنى ذلك أن الفخر القبلي اختفى فقد ظلت منه أسراب، ودخل فيها الموالي أيضًا، فافتخروا باليمنية والمضرية ولاء، على نحو ما نجد عند بشار في افتخاره بمضر، وكان أبو نواس يكثر من افتخاره باليمنية مواليه1، ومثله هارون مولى الأزد الذي كان يرد على الكميت، ويفخر بقحطان2.
وتطور الغزل تطورًا قويًّا، ولا نقصد ما ظهر فيه من الغزل بالغلمان وآثامه؛ وإنما نقصد الغزل الطبيعي، فإن المرأة الحرة الكريمة لم تعد موضوعه، وإنما أصبح موضوعه الإماء والجواري ممن كانت تزخر بهن دور الرقيق ومجالس الشعراء وقصور الأشراف والخلفاء، وقد أذاعوا فيه ضروبًا من الحرية والصراحة المكشوفة كما أذاعوا فيه إغراء شديدًا ودعوة إلى التهتك والخلاقة وانتهاز الفرص واللذات، من مثل قول بشار3:
لا يُؤْيِسَنَّك من مُخبَّأةٍ
…
قولٌ تغلِّظه وإن قَبُحَا
عُسْرُ النساءِ إلى مياسرةٍ
…
والصعب يمكن بعدما جَمَحا
ومن الحق أنهم بجانب ذلك استغلوا الغزل العذري العفيف الذي شاع في نجد وبوادي الحجاز أيام الأمويين، واشتهر بالضرب على مثاله العباس بن الأحنف، وحتى الشعراء الماجنون من أمثال بشار وأبي نواس ومطيع بن إياس كانوا ينظمون
1 انظر طبقات الشعراء ص195 وما بعدها، والديوان ص155 وما بعدها.
2 الحيوان 7/ 75.
3 طبقات الشعراء ص25، والأغاني 3/ 209، 221.
منه أحيانًا ما يعجب ويروع وهم يروون أن الذي بعث أبا نواس على صحبة والبة وأرغبه فيه بيتان سمعهما منه، هما:
ولها ولا ذنبٌ لها
…
حُبٌّ كأطراف الرماح
في القلب يجرح دائمًا
…
فالقلب مجروح النواحي1
ويمتلئ الأغاني بآلاف المقطوعات الغزلية والتي نظمها هؤلاء الشعراء وأمثالها، وكثير منها يتسم بدقة الذوق ورقة الشعور ولطف الإحساس.
واستوت للخمرية صورتها في هذا العصر، وحقًّا نجد منها نماذج عند الوليد بن يزيد؛ ولكن هذا العصر هو الذي انتهى بها إلى شكلها النهائي؛ سواء من حيث القصر أو من حيث التنويع في معانيها وأخيلتها، ويكفي أنه أنتج أبا نواس أكبر من تغنوا بالخمر وكئوسها وسُاقتها وأديرتها، وكان طبيعيًّا أن تحدث الخمر وما يتصل بها من مجون رد فعل في العصر؛ فإذا شعر الزهد يدور على الألسنة في مقطوعات قصيرة تنفر من المتاع بزخارف الحياة، وتتحدث عن الموت ومصير الإنسان حديثًا يهز النفوس على نحو ما قدمنا في غير هذا الموضع.
وهذه كلها تجديدات من حيث المضمون، أما من حيث الشكل والصيغة فقد مر بنا في الفصل السابق ما استحدثوه من أوزان بتأثير الغناء والموسيقى، وكانوا من أجلهما يؤثرون الأوزان المجزوءة، وشاع ذلك في الغزل والخمر، وعرفوا المخمس والمزدوج، واختار أصحاب الشعر التعليمي القالب الأخير لشعرهم، وكأنما أغراهم به وفرة الموسيقى فيه؛ حتى تتلافى ما في معانيهم من جفاف المعرفة والحكمة.
ومن المؤكد أن الشعراء عانوا كثيرًا في صياغاتهم، حتى وصلوا إلى أسلوبهم الذي يسمى بأسلوب المولدين، وهو أسلوب ناصع شفاف، لا يُعْنَى بالثروة اللغوية من حيث هي؛ وإنما يعنى قبلها بثروة الفكر وباستثارة الوجدان، حتى يعرض المعاني النادرة والأحاسيس الدقيقة. وهو أسلوب ليس فيه ركاكة ولا ابتذال، ومع ذلك فهو أسلوب مبسط استطاعوا بذوقهم الحضري الرقيق أن يحدثوه،
1طبقات الشعراء ص208.
فإذا لغته أشد ما تكون نقاء، وإذا هذا النقاء يُخْفَى عنا جهدهم في صنعة وما عانوه من تصيُّد صيغه الصوتية لمعانيهم وأحاسيسهم واختيار أثوابه وأبراده الوضَّاحة لأفكارهم ودقائقها الخفية.
والحق أنهم كدحوا طويلًا في معانيهم وصياغاتهم وأخيلتهم وصورهم، حتى يحققوا ما يريدون من تفوق وبراعة، وقد أكبّوا على ينابيع اللغة العذبة ينهلون منها ويستمدون أساليبهم، وقد تَنِدّ فيها بعض ألفاظهم الأعجمية؛ ولكن ذلك يأتي في الندرة وعلى سبيل التظرف والتملح. أما بعد ذلك فهم يتمسكون بالصياغة العربية النقية، ويستخدمون كل وسائلهم في صوغ أساليب تموج بالحيوية والفكر العميق والحس الدقيق في نظام موسيقي رشيق. ولم ينسوا أبدًا أن روعة الصياغة لا تقل عن روعة الفكر والحس جمالًا، وكلنا نعرف قصة غضب بشار على تلميذه سلم الخاسر حين صاغ بيتًا له صياغة جديدة أجمل من صياغته؛ فقد قال بشار:
مَنْ راقب الناسَ لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفاتك اللَّهِجُ
ولم يكن يسمعه منه سلم، حتى أعجب بمعناه وأخذ يفكر في صياغته صيغة جديدة أعذب وأرشق، وما زال يفكر حتى قال:
من راقب الناس مات غَمًّا
…
وفاز باللذة الجسور
ونقل البيت إلى بشار، فحَنِقَ على سلم حنقًا شديدًا1، ولم يكن مصدر هذا الحنق سوى تلك الكسوة اللفظية البديعة التي كسا بها سلم معناه. وكان الشعراء يجتمعون دائمًا لينشد كل منهم خير ما نظم، متنافسين في ذلك متسابقين، وكلما ألَمَّ منهم شاعر بمعنى غريب تداولوه، ونسوق لذلك مثالًا، وهو ما يُرْوَى من أن أبا نواس استمع إلى خمرية للحسين بن الضحاك يقول فيها:
كأنما نُصْبَ كأسه قَمَرٌ
…
يَكْرَعُ في بعض أنجم الفَلكِ
فنعر "صاح" نعرة منكرة، فقال له الحسين: مالك قد رعتني؟ قال: هذا المعنى
1 طبقات الشعراء ص100، وانظر الأغاني 3/ 199، 200.