الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7-
تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ:
لم يكن المتنبي يقصر تصنعه الثقافي على طائفة خاصة من المثقفين؛ فهو يرضي أصحاب الفلسفة والتصوف والتشيع، كما يرضي أصحاب الغريب من اللغة والأساليب الشاذة من النحو، واقرأ قصيدته:
ألا كلُّ ماشية الخيزلي
…
فِدَا كل ماشية الهيدبي1
فإنك تراه يخرجه إخراجًا لغويًّا؛ إذ يحشد فيها الألفاظ الغريبة حشدًا، وكأنه ليس له وجهة إلا أن يعبر تعبيرًا لغويًّا غريبًا، حتى ينال إعجاب اللُّغويين من أصحاب الغريب، وكان القدماء يعرفون له هذه الرغبة من إظهار علمه وفضله، يقول الصاحب بن عباد عنه:"ومن أهم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة والكلمات الشاذة، حتى كأنه وليد خباء وغذيُّ لبن لم يَطَأَ الْحَضَر، ولم يعرف الْمَدَر"2 ويعلل الصاحب لهذه الحال بأنه كان يقصد إلى التبدي في لفظه. والحق أنه لم يكن يقصد إلى التبدي فحسب؛ إنما كان يريد أن يحقق لنفسه التفوق في أوساط اللُّغويين من أصحاب الغريب، وأشار إلى ذلك العُكْبَري؛ إذ رآه يستخدم كلمة "تفاوح" في إحدى مدائحه لكافور، وهي لفظة فصيحة إلا أنها غريبة، فعلق عليها بأنه كان يأتي بهذه اللفظة وأمثالها لمن يكون بالمكان من العلماء والأدباء3.
كان المتنبي يصنع الشعر -كما يقول العُكْبَري- للفضلاء والعلماء
1 الخيزلى: مشية فيها استرخاء. الهيدبى: مشية فيها سرعة. يقول: فدتك امرأة تمشي الخيزلى كل ناقة تمشي الهيدبى.
2 اليتيمة للثعالبي 1/ 134.
3 التبيان "العكبري على المتنبي" 2/ 21.
لا لكافور وأمثاله من الممدوحين، ولذلك كنا نراه يحاول الإغراب بشعره وأساليبه، وكان يطلب هذا الإغراب ويحققه لنفسه في صور مختلفة من التفلسف والتصوف والتشيع. وأخيرًا في تلك الصور الغريبة من الألفاظ اللغوية النادر التي يريد أن يروع بها أساتذة اللغة والغريب؛ فإذا هو يأتيهم بمثل "تفاوح" السابقة أو بمثل "جفخت" في قوله:
جَفَخَت وَهُم لا يَجفَخونَ بِها بِهِم
…
شِيَمٌ عَلى الحَسَبِ الأَغَرِّ دَلائِلُ1
فقد كان يستطيع أن يضع مكانها فخرت؛ ولكنه كان يريد الإعراب في اللفظ، حتى يثبت مهارته وتفوقه في اللغة. ولعله من أجل ذلك كان يصوغ الأراجيز يحاكي بها رؤبة والعجاج وأبا النجم وأضرابهم، وما يزال يكثر فيها من الغريب كثرة مفرطة. ولم يقف عند هذا الجانب بل طلب الشواذ في الحروف وبناء الأسماء وكأنه لم يترك لغة شاذة في حرف أو اسم إلا جلبها في شعره. وقد يكون من الطريف أن نتعقبه في شوارده اللُّغوية؛ فمن ذلك استعماله للكيذبان بدلًا من الكذاب والتَّوْراب بدلًا من التراب؛ ومن ذلك أن يجمع كوبًا على أكوب، وبوقًا على بوقات، ودارًا على أدؤر، وأرضًا على أروض، وعينًا على أعيان، وأخًا على إخاء ومن ذلك أن يأتي "بربَّتَما" بدلًا من "ربما" و"أيما" بدلًا من "إما" و"أولاك" بدلًا من "أولئك"، و"اللذ" بدلًا من "الذي" و"هنَّك" بدلًا من "إنك" و"هلمِّنَّا" بدلًا من "هلموا" إلى غير ذلك من لغات شاذة، ولولا خوف الإملال لأكثرنا من إحصاء هذه اللغات وعرضناها في أشعاره، ولكنها كثيرة في ديوانه، ويمكن الرجوع إليها، وهي أكثر من أن ندلَّ عليها.
على أن هذا التصنع اللُّغوي يلفتنا إلى تصنع آخر لعله أكثر تعقيدًا، وهو تصنع للأساليب الشاذة؛ فقد كان عالِمًا بالنحو ومشاكله، وكان كوفي المذهب، فنقل كثيرًا من التراكيب الشاذة التي روتها الكوفة وخالفت بها على البصرة، واعتمدها في صنع قصائده ونماذجه، وكان ذلك يعد غريبًا على الناس في
1 جفخت: فخرت.
عصره؛ إذ كانوا قد هجروا النحو الكوفي إلى النحو البصري، ولعله من أجل ذلك شغف العلماء -كما أسلفنا- بشعره وشرحوه مرارًا. ونحن نسوق جانبًا من هذه التراكيب الكوفية الشاذة عنده، يقول ابن الأنباري:"ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترخيم الاسم الثلاثي إذا كان وسطه متحركًا، وذلك نحو قولهم في عنق: "يا عن". وفي حجر: "ياحج". وفي كتف: "ياكت". وذهب بعضهم إلى أن التخريم يجوز في الأسماء على الإطلاق، وذهب البصريون إلى أن ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف لا يجوز بحال"1 ويقول المتنبي:
أَجِدَّكَ ما تَنفَكُّ عانٍ تَفُكُّهُ
…
عُمَ اِبنَ سُلَيمانَ وَمالٌ تُقَسِّمُ
فيرخِّم كلمة عمر ويجعلها "عم" بل هو يرخم في غير النداء كقوله:
مَهلاً أَلا لِلَّهِ ما صَنَعَ القَنا
…
في عَمرو حابِ وَضَبَّةَ الأَغتامِ3
يريد عمرو بن حابس. ويقول ابن الأنباري: "ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض لضرورة الشعر، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز بغير الظرف وحرف الجر"4 ويقول المتنبي:
حَمَلتُ إِلَيهِ مِن ثنائي حَديقَةً
…
سَقاها الحِجى سَقيَ الرِياضَ السَحائِبِ
فيفصل بين السقي والسحائب بالمفعول على رأي الكوفيين، ويقول ابن الأنباري:"ذهب الكوفيون إلى أنَّ "أنْ" الخفيفة تعمل في الفعل المضارع النصب مع الحذف من غير بدل وذهب البصريون إلى أنها لا تعمل مع الحذف من غير بدل"5
ويقول المتنبي:
وَتَوَقَّدَت أَنفاسُنا حَتّى لَقَد
…
أَشفَقتُ تَحتَرِقَ العَواذِلُ بَينَنا
1 الإنصاف "طبعة أوربا" ص156.
2 أجدك: أهذا دائمًا بجد منك. العاني: الأسير.
3 عمرو حاب: عمرو بن حابس وهي قبيلة. الأغتام: الجهال الأغبياء.
4 الإنصاف ص178
5 الإنصاف ص232
فينصب تحترق من غير "أن". ويقول ابن الأنباري: "ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يستعمل ما أفعله في التعجب من البياض والسواد خاصة من بين سائر الألوان نحو أن تقول: هذا الثوب ما أبيضه، وهذا الشعر ما أسوده؛ وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان"1، ومعروف أن حكم التفضيل كالتعجب في هذا الباب، ويقول المتنبي:
ابْعَدْ بَعِدتَ بَياضًا لا بَياضَ لَهُ
…
لَأَنتَ أَسوَدُ في عَيني مِنَ الظُلَمِ
وعلى هذا النحو يستطيع الباحث أن يجد كثيرًا من الصيغ الكوفية الشاذة في ديوان المتنبي؛ بل إنه ليجد في هذا الديوان شذوذًا أوسع من شذوذ النحو الكوفي حتى لكأنه مستودع للتراكيب الشاذة في اللغة؛ إذ كان المتنبي يطلب كل غريبة أو شاذة في التعبير، من ذلك أن نراه يتصنع لاستخدام لغة "أكلوني البراغيث" في مثل قوله:
نَفديكَ مِن سَيلٍ إِذا سُئِلَ النَّدى
…
هَولٍ إِذا اختَلَطا دَمٌ وَمَسيحُ
فإنه أتى بألف الاثنين مع ذكر الفاعل. ومن ذلك أن يرى بعض العرب لا يحرصون على التفريق بين المذكر والمؤنث في الأفعال والمشتقات3، فيقلدهم في هذا الصنيع كقوله:
مُخلىً لَهُ المَرجُ مَنصوبًا بِصارِخَةٍ
…
لَهُ المَنابِرُ مَشهودًا بِها الْجُمَعُ
إذ كان القياس أن يقول منصوبة ومشهودة؛ ولكنه عدل إلى التذكير وهو يصنع ذلك كثيرًا. ومن ذلك أن يجزم المضارع مع حذف "لام" الأمر في قوله:
جَزى عَرَبًا أَمسَت بِبُلبَيسَ رَبُّها
…
بِمَسْعَاتِها تَقْرَر بِذاكَ عُيونُها
ومن ذلك أن يستعمل ليس استعمال الحروف كقوله:
بَقائي شَاءَ لَيسَ هُمُ ارتِحالًا
…
وَحُسنَ الصَبرِ زَمّوا لا الجِمالا
وليس من شك أن المتنبي كان يعمد إلى هذه الشواذ عمدًا، يقول ابن جني: "إن كان في بعض ألفاظه تعسف عن القصد في صناعة الإعراب من
1 الإنصاف ص68.
2 المسيح: العرق يمسح عن الجسد. يقول: إن ممدوحه عند العطاء سيل لسائليه وفي الحرب هول لأعدائه.
3 الإنصاف ص323.