الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ:
كان مهيار أجنبيًّا عن اللغة؛ ولكن هذا الجانب لم يعطنا ثروة فكرية واسعة في شعره بل كان شأنه شأن غيره يلفق قصائده على طريقة الشعراء الذين عاصروه وجاءوا من بعده، وهو تلفيق لا يعتمد عنده على الثقافة كما رأينا عند المتنبي؛ إنما هو تلفيق داخلي إن صح هذا التعبير، إذ نرى الشعراء عاجزين عن التجديد إلا في حدود ما سبقهم من أفكار وخواطر، وهم لذلك ما يزالون يتناقلونها فيما بينهم، حتى يحدثوا لأنفسهم تلك النماذج التي كانوا يسمونها قصائد، ومن السهل أن يقرأ الإنسان لأي شاعر في تلك العصور ويرد ما يقرؤه إلى من سبقه من الشعراء، وحقًّا قد يستعين بعضهم على إخفاء هذا الجانب عنده بما يحققه لنفسه من الأسلوب العربي الأصيل كما نجد عند الشريف الرضي؛ ولكنا لا ننتقل إلى تلميذه مهيار حتى يكشف لنا كشفًا واضحًا عن تلك المهارة الحديثة في الفن العربي، وذلك أنه كان يعمد إلى تطويل نماذجه، فانبسطت الأبيات واتضح التلفيق، وانظر إلى هذه الفكرة عند المتنبي:
أَثافٍ بِها ما بِالفُؤادِ مِنَ الصَّلى
…
وَرَسمٌ كَجِسمي ناحِلٌ مُتَهَدِّمُ1
وهي فكرة أخذها عن أبي تمام؛ ولكنه أبقى لها حدة الأسلوب العربي إذ أخرجها في بيت واحد دون أن يتكلف التطويل؛ غير أننا لا نصل إلى مهيار حتى نراه يعرضها في أبيات كثيرة، وما فائدة الزمن وما فائدة التطور الذي أصاب الشعر العربي بعد القرن الثالث، إن لم يلفق الشاعر من البيت الواحد القديم أبياتًا كثيرة حديثة، وانظر كيف تحولت هذه الفكرة عند مهيار إلى تلك الأبيات:
1 الصلى: الاحتراق.
هل عند هذا الطَّلَلِ الماحِلِ
…
من جَلَدٍ يُجِدي على سائلِ
أصمُّ، بل يسمعُ؛ لكنَّهُ
…
من البلى في شُغُلٍ شاغلِ
وقفتُ فيه شبحًا ماثلًا
…
مرتفدًا من شبحٍ ماثِلِ
ولا ترى أعجبَ من ناحلٍ
…
يشكو ضنا الجسمِ إلى ناحلِ
لهفَكِ يا دارُ ولهفي على
…
قَطينِك المحتمِل الزَّائلِ2
قلبيَ للأَحْزانِ بعد النَّوى
…
وأنتِ للسَّافي وللنَّاخلِ3
مثلُكِ في السُّقمِ ولي فضلةٌ
…
بالعقلِ والبَلوى على العَاقِلِ
فإنك ترى أن أساس الفكرة في هذه الأبيات هو أنه رسم يبكي رسْمًا، وهي فكرة المتنبي بل هي فكرة أبي تمام من قبله، وكل ما جاء به مهيار من جديد أنه عمد إلى التطويل والتفصيل؛ ولكن ألا يشعر القارئ على الرغم مما وفِّق إليه مهيار من إحكام الصوت في هذه القطعة أن الأبيات لا تبلغ من التأثير ما يريده لها مهيار؛ فقد تقاربت الأفكار وأصبح الأسلوب هادئًا ليس فيه عنف العاطفة ولا حدة التعبير الأصيل في الشعر، أصبح كأنه أسلوب نثر؛ فهو يعتمد على المقارنة والتفصيل. وهو يعتمد أيضًا على شيء آخر يفسده، وهو ما فيه من تكرار للألفاظ، وهو تكرار لم نتعوَّده في الشعر قبل القرن الرابع؛ إذ يدنو به إلى حال من الابتذال، قد لا تبدو واضحة في تلك القطعة، ولكن ارجع إلى ديوان مهيار، فستراها منتشرة هناك، وستراها تصيب شعره بضروب من الركاكة والإسفاف، وهل تستريح الأذن في تلك القطعة نفسها إلى كلمة "الفضلة" أو كلمة "البلوى" ومثلهما كثير في شعر مهيار؛ إذ كان يدخل فيه كلمات كثيرة غير شعرية، حتى ليصبح أصلًا في قصائده أن تنتشر في نسيجها تلك الرقع التي لا تكسبها جمالًا إلا جمالًا غير شعري، وانظر إلى فكرة ضلال القلب وراء الحبيب، وهي فكرة معروفة من قبله، وقد أعجب بها مهيار، وذهب يلفق منها أبياتًا كثيرة في ديوانه كأنه يقول:
1 مرتفدًا: طالبًا للرفد وهو العطاء.
2 القطين: السكان. المحتمل: الراحل.
3 السافي والناخل: الرياح.
نشدتُكِ يا بانةَ الأَجْرعِ
…
متى رفعَ الحيُّ من لَعْلَعِ1
وهل مرَّ قلبيَ في التابعيـ
…
ن أم خارَ ضعفًا فلم يَتْبَعِ
لقد كان يُطمُعني في المُقام
…
ونيّتُهُ نيَّةُ الْمُزْمعِ
وسِرْنا جميعًا وراء الْحُمُول
…
ولكن رجعتُ ولم يرجِعِ
فأنّتُهُ لكِ بين القلوبِ
…
إذا اشتبهت أنَّةُ الموجَعِ
وشكوى تدلُّ على سُقْمِهِ
…
فإن أنتِ لم تُبصري فاسمعي
فقد أطال مهيار الفكرة ودار حولها هذا الدوران الذي يبعدها عن طبيعة الأفكار الغنائية؛ ولكن ما للأفكار الغنائية ومهيار؟ إنه يريد أن يجدد فلا يجد عنده ثروة فكرية يستعين بها على ما يريد، وإذن يعمد إلى تطويل الأفكار القديمة وبسطها كل البسط؛ غير أنه حين صنع ذلك ضل منه أسلوب الشعر الغنائي في الطريق، فقد طالت الأفكار، ولم يعد لها شيء من اللذع والحدة. وما أشبه أسلوب مهيار بالسهل المنبسط الذي لا تجد فيه سوى نبات واحد فإذا بك تملُّه وتسأمه لما فيه من تكْرار وعدم تنوع. وحقًّا أن أسلوب مهيار أسلوب منبسط فلا نتوء فيه لفكرة أو صورة غير هذا التفصيل الممل الذي ينفِّر الإنسان من متابعته والنظر طويلًا في ديوانه؛ إلا أن يكون باحثًا يحترف البحث؛ فلا يهمه أن يقرأ شعرًا تتقد فيه العاطفة، ويلذع فيه الأسلوب، وهل يجد الإنسان شيئًا من اللذع أو الحدة أو الطرافة في تلك الأبيات وخاصة البيتين الأخيرين؟ وهل كلمة "إذا اشتبهت" كلمة شعرية؟ وهل نستريح إلى التعبير عن الارتحال بالارتفاع كما يقول في البيت الأول؟ وهل نستريح لكلمة النية؟ ألا نحس في ذلك كله بضروب من خبو العاطفة وضعف الأسلوب.
والحق أن مهيار لم يكن يعرف العبارة الحادة في الشعر العربي معرفة دقيقة؛ لأنه أجنبي دخيل على اللغة، وهو لم ينزح إلى البادية كما نزح إليها أبو نواس، ولا تعلَّم الفصاحة من شيوخ بني عقيل كما تعلمها بشار؛ فلم تتعمق فيه السليقة
1 الأجرع: رملة طيبة المنبت. لعلع: جبل.
العربية، وصار إذا أراد التعبير عن فكرة جاءها من بعيد وبعد لفٍّ طويل؛ فانكشفت عيوبه في التلفيق. على أنه يحسن بنا أن نشير إلى أن مهيار استحوذ على إعجاب كثير ممن عاصروه وجاءوا من بعده واستمر ذلك إلى عصرنا الحديث، وأكبر الظن أنه يحسن أن لا يسرف المعجبون به على أنفسهم، فيتخذوه مثلًا من أمثلة البلاغة العربية؛ لأنه يضل التعبير العربي الدقيق، واقرأ له هذه القطعة.
يالُواة الديون هل في قضايا الـ
…
حسن أن يَمْطُلَ الغنيُّ الفقيرا
لي فيكم عهدٌ أُغيرَ عليهِ
…
يومَ سلعٍ ولا أسمِّي المغيرا1
احذروا العارَ فيهِ، والعارُ أن يمـ
…
سي ذمامي في رعيهِ مخفورا
أو فردُّوا على حيرانَ أعْشَى
…
ناظرًا فقد أخذتموه بَصِيرا
أنا ذاك اعتبدتُ قلبي وانفقـ
…
تُ دموعي عليكُمُ تبْذِيرا
فاحفظوا في الإسارِ قَلْبًا تمنَّى
…
شَغَفًا أن يموتَ فيكم أَسِيرا
وقتيلًا لكم ولا يشتكِيكُمْ
…
هل رأيتم قبلي قتيلًا شكورا
ولعل القارئ شعر بغرابة هذه العهود التي يغار عليها وتسلب؛ فنحن نعرف أن العهود تنقض، أما أن يغار عليها وتسلب فهذا تعبير جديد غير مألوف؛ ولكن مهيار يريد التجديد في التعبير، بل هو فارسي قد ينسى الكلمة الأصيلة في اللغة. وانظر بعد ذلك فسترى التلفيق واضحًا، إذ يعمد إلى التفصيل في أفكاره والاتساع في عباراته، ولذلك كان يكثر عنده الحشو والإسهاب الممل؛ وما هذا العار الذي يذكره مجملًا ثم يفصله؟ وانظر إلى البيت الرابع وما فيه من تقديم الصفات على الموصوف. وليس ذلك كل شيء فيه بل انظر إلى القافية كيف اجتلبت لتكميل البيت، لقد اجتلبت هي وما دخلت فيه من تعبير كما اجتلبت قافية البيت الثاني وتعبيرها. والحق أن هذه الأبيات وألفاظها جميعًا مجتلبة، أو هي بعبارة أدق ملفقة أريد بها أن تحدث نموذجًا
1 سلع: جبل في المدينة.
من الشعر؛ وإلا فما هذه العبارات في الأبيات التالية من مثل: إنفاق الدموع تبذيرًا، وموت قلبه فيهم أسيرا؟!
ونحن لا نرتاب في أن كثيرًا مما يؤذينا في هذه القطعة وأمثالها في ديوان مهيار إنما يرجع إلى أنه لم تكن له سليقة عربية إذ تعلم اللغة من الكتب؛ ولذلك لم يكن يعرف كيف ينظم السلك العربي، وكيف يرتب فرائده، وأين يضع الكبرى، وأين يضع الصغرى، ومن ثم انتشر عنده التلفيق على حين ينطوي عند غيره من الشعراء، ولا يظهر واضحًا بتلك الصورة الواسعة التي نراها عند مهيار. واقرأ هذه الأبيات:
مَن دلَّ رباتِ العيونِ النُّجُلِ
…
أن القلوبَ غرضٌ للمُقَلِ
فما رمت سوداءُ منها أسوَدًا
…
فغيرُ أن يجرَحَ إن لم يقتلِ
باعَ رخيصًا لبَّهُ يوم اللِّوى
…
موكل أحشاءَه بالكلَلِ
حكمُ هوىً مسلَّط إذا جنى
…
لم يعتذر وإن قضى لم يعدل
دَمِي وقد حُرِّم إلا بدمٍ
…
على اللِّوى لِمْ حلَّ يا ذاتَ الحُلى
سيقتْ لبلبالِكِ بابليَّة
…
مالكِ يا خالقةَ السِّحرِ ولي
زعمتِ لا يُبلِي هواك جسدي
…
بَلَى وحبِّيك بلَى لقد بَلِي
فإنك تحس إحساسًا واضحًا بأن مهيار يلفق القصائد تلفيقًا؛ فهو يجمع لها الألفاظ والأفكار من هنا وهناك؛ وإلا ففيم هذا الاستفهام الذي بدأ به هذه الأبيات؟ وفيم هذه السهام المكسرة في القلوب إن لم تعرف العيون مكان الرمية؟! إن كل ما هنالك أنه جاء بالمقل والعيون النجل. أما البيت الثاني ففيه سواد وفيه تكلف متعب في التعبير وخاصة في شطره الأخير. وانظر إلى البيت الثالث وهذا الانتقال من القتل إلى البيع، ثم انظر بعد ذلك إلى التكلف في الجناس بين موكل وكلل، وهو جناس باهت لا نشعر إزاءه بطرافة فنية لا من جهة صوتية ولا من أي جهة مادية أخرى. وانظر إلى جناسه بعد ذلك بين: حل وذات الحلى، ثم بين: بلبال وبابلية، ثم بين: بلَى وبلِي في البيت الأخير. إننا لا نستطيع أن نفهم أن هذه الجناسات هي نفس الجناسات التي كنا نعجب