الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكى
…
وسقاني أربعًا في أربع
تستمر المنظومة على هذا النمط؛ غير أن هذه الموشحة منتحلة على ابن المعتز وهي لابن زهر الشاعر الأندلسي المشهور1، والشائع أن الموشحات فن أندلسي خالص2.
ومما ينسب إلى هذا العصر ضرب يسمى المواليا، وهو شعر ينظم من بحر البسيط بعبارة عامية ملحونة وتقفَّى شطوره أربعة أربعة، ويقولون إن مولاة للبرامكة هي التي بدأت هذا الضرب3. وهو الذي يعرف عندنا الآن بالموّال. على أن هذه القصة يحوطها شيء من الغموض. ومهما يكن فإن الغناء العباسي لم يؤثر تأثيرًا واسعًا في القوافي، على نحو ما أثر في الأوزان؛ إذ يترك ذلك للأندلس، والغناء هناك وما نشأ معه من موشحات وأزجال.
1 معجم الأدباء 7/ 22، وانظر المغرب في حل المغرب "الطبعة الثانية بدار المعارف" 1/ 272.
2 انظر هنا العصر العباسي الأول للمؤلف "دار المعارف" ص199.
3 الدمنهوري على الكافية ص36.
تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي
…
10-
تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر التقليدي:
وتأثير الغناء العباسي لم يقف عند موسيقى الشعر الغنائي؛ بل تعداها إلى موسيقى الشعر التقليدي؛ فقد كان أكثر الشعراء العباسيين ينظم من النوعين جميعًا، فأحدث ذلك صلة واضحة بينهما، وأخذ كل منهما يتأثر بما يصيب الآخر في مناهجه وطرق صناعته، ولذلك كنا نجد في الشعر الغنائي كثيرًا من الأوزان الطويلة الشائعة في الشعر التقليدي، كما نجد في الشعر التقليدي كثيرًا من الأوزان القصيرة المجزوءة أو المولدة الشائعة في الشعر الغنائي، على نمط ما نجد في شعر مسلم بن الوليد زعيم الشعر التقليدي؛ فقد رُوي له في ديوانه قصيدتان من وزن مولَّد إحداهما1:
1 ديوان مسلم "طبعة دار المعارف" ص194. المعمود الذي حطمه الشوق.
يا أيها المعمود
…
قد شفك الصُّدودُ
والأخرى1:
نبا به الوساد
…
وامتنع الرقاد
وصنع سَلْم الخاسر أرجوزة على جزء واحد مدح بها موسى الهادي، ومما يقوله فيها:
موسى المطر
…
غيثٌ بكر
عدل السير
…
باقي الأثر
وهي تمضي على هذا النمط، ويقول ابن رشيق إنه أول من ابتدع ذلك في الرجز2.
وليس هذا كل ما صنع الغناء بالشعر التقليدي؛ فقد أثر فيه من جانب آخر هو جانب "الموسيقى الداخلية" وما يستتبعه ضبطها من عناية بفنون البديع الصوتية. ولعل أهم شاعر تقليدي نجده في هذا الجانب هو البحتري؛ فقد كان يعنى بالموسيقى الداخلية عناية شديدة، حتى ليروع النقاد روعة بالغة. وحقًّا إنه ملأ آذان عصره بألحان عذبة جميلة، وعبَّر المدى عن ذلك عبارات مختلفة؛ إذ يقول في كتابه "الموازنة بين الطائيين" عن شعره:"إنه صحيح السبك، حسن الديباج، ليس فيه سفساف ولا رديء ولا مطروح"3 ويقول عنه أيضًا: "إنه يؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق"4. ولكن ماذا يريد الآمدي بهذه الأوصاف؟ إنه لا يذكر إلا إشارات وتلميحات، وقد شكا عبد القاهر من مثل هذه العبارات وشيوعها في النقد؛ إذ يقول: "إنك لا ترى نوعًا من أنواع العلوم إلا وإذا تأملت كلام الأولين الذين علَّموا الناس وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة، والتصريح أغلب من التلويح، والأمر في علم الفصاحة بالضد من هذا، فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه وجدت جله أوكله رمزًا ووحيًا وكناية وتعريضًا وإيماءً إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلا من غلغل الفكر، وأدق النظر، ومن يرجع من طبعه إلى ألمعية يقوى
1 ديوان مسلم ص240.
2 انظر العمدة لابن رشيق "باب الرجز والقصيد".
3 الموازنة "طبع الجوانب" ص2.
4 الموازنة ص3.
معها على الغامض، ويصل بها إلى الخفي، حتى كأن بَسْلًا حرامًا أن تتجلى معانيهم سافرة الوجه لا نقاب لها، وبادية الصفحة لا حجاب دونها"1. وحقًّا أن كتب النقد والفصاحة عندنا مملوءة بكثير من هذه العبارات التي نجدها عند الآمدي، واليت تذهب إلى الرمز والتلويح والإشارة من طرف خفي، ويظهر أن هذا عيب يعم في النقد جميعه العربي والغربي؛ فنحن نجد "رتشاردز" يعقد فصلًا في كتابه "أصول النقد الأدبي" يبحث فيه لغة النقد، ويشكو من إبهامها وغموضها نفس هذه الشكوى التي نجدها عند عبد القاهر2.
وإذن فينبغي أن نحترس من عبارات الآمدي وأمثالها، وإن كانت تلفتنا إلى أن جمال الشعر عند البحتري لا يستقر في وعاء فلسفي أو ثقافي؛ إنما يستقر في المادة والجسم وما به من سبك وخفة ورشاقة، ولكن هل نستطيع أن نقيس هذا الجانب الصوتي الداخلي ونحلله؟ وإذا استطعنا فبأي شيء نقيسه؟ هل يمكن أن نقيسه بالعروض؟ يقول النقاد: إن العروض إنما يقيس "الموسيقى الخارجية" للشعر، أما هذه "الموسيقى الداخلية" فإنه يفشل في قياسها لأنها "قيم صوتية خفية" لا يمكنه ضبطها، وأشار إلى ذلك "لامبورن" في كتابه "أسس النقد"؛ إذ يقول:"توجد موسيقى داخلية في الشعر وهو أوسع من الوزن والنظم المجردين"3. ويقول "سبنجارن" في كتابه: "النقد الخالق": "إن البيتين من الشعر المرسل قد يتطابقان في الوزن ولكن من لا يشعر باختلاف بينهما كاختلاف شعر بوب من نثر دي كوينسي؟ "4. وحقًّا أنه لا يوجد بيتان في الشعر من صوت متكافئ واحد قد يتفقان في رقيمهما الموسيقي؛ ولكنهما يختلفان بعد ذلك في قيمهما الصوتية الداخلية، فلكل بيت صوته الخاص الذي لا يتحد مع صوت بيت آخر والذي يفضي بنا دائمًا إلى هذا الجمال الموسيقي الغريب.
1 دلائل الإعجاز ص320.
2 RICHARDS، PRINCIPLES OF LITERARY CITICISM، CHAP.III.
3 LAMBORN، RUDIMENTS OF CRITICISM، CHAP. II..
4 SPINGARN، CRAITIVE CRITICISM،P.45.
العروض لا يستطيع أن يقيس هذه القيم الصوتية الداخلية في موسيقى الشعر، وإذن يحسن أن نبحث عن مقياس آخر، ولعل من أهم هذه المقاييس التي تقيس هذا الجانب ما اكتشفه عبد القاهر في دلائل الإعجاز من "قواعد النظم" وقواعد هذه "الموسيقى الداخلية" وقد اتخذ من البحتري وشعره دليله على هذه القواعد التي وضعها؛ إذ يقول: أعمد إلى قول البحتري:
بلونا ضرائب من قد نرى
…
فما إن رأينا لفتح ضريبا1
هو المرء أبدت له الحادثا
…
ت عزمًا وشيكًا ورأيًا صليبا
تنقَّل في خلق سؤدد
…
سماحًا مرجَّى وبأسا مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخًا
…
وكالبحر إن جئته مستثيبا
فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازًا في نفسك؛ فعد فانظر في السبب، واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر، وعرف ونكر وحذف وأضمر، وأعاد وكرر، وتوخى على الجملة وجهًا من الوجوه التي يقتضيها علم النحو؛ فأصاب في ذلك كله، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة"2.
ويبدئ عبد القاهر ويعيد في هذا المقياس الذي اتخذه من النحو، ولكن فاته أن علم النحو لا يكشف "الموسيقى الخارجية" موسيقى العروض؛ فأولى به ألا يكشف "الموسيقى الداخلية" موسيقى النظم وهي لا ترتبط به ولا بقواعده، ولم ينفع عبد القاهر ما اعتمد عليه من فلسفة وتفكير دقيق في فهم العبارات والأساليب اللغوية؛ وبذلك فشل علم النحو عنده في تحليل هذا الجانب؛ لأنه الجزء الموسيقي الذي لا يتكرر، والذي كان من أجل ذلك لا يمكن ضبطه في نحو ولا عروض، وقارنْ بين قصيدتين من وزن واحد عند البحتري وأبي تمام بل قارن بين بيتين من قصيدة واحدة عند البحتري فستجد فروقًا وخلافات كثيرة.
1 ضرائب: طبائع. ضريبًا: شبيهًا.
2 دلائل الإعجاز ص65.
ومهما يكن فإن تحليل الموسيقى الداخلية في الشعر لا يكشفه النحو ولا العروض، ولعل خيرًا من ذلك أن نرجع إلى ما لاحظه "لامبورون" في كتابه:"أسس النقد" من أن هذه الموسيقى يشخصها جانبان مهمان، هما اختيار الكلمات وترتيبها من جهة، ثم المشاكلة بين أصوات هذه الكلمات والمعاني التي تدل عليها من جهة أخرى، حتى تحدث هذه الصناعة الغريبة1. أما الجانب الأول وهو اختيار الكلمات وترتيبها؛ فقد اهتم به العباسيون اهتمامًا شديدًا وجعلوه محور الفصاحة والبلاغة كما نرى ذلك في كتابات الجاحظ؛ إذ يكثر من توصية الأدباء بتصفية أساليبهم واختيار ألفاظهم، وما يزال يرشدهم إلى مواقع الكلمات واستعمالها وما يحسن منها وما يستهجن2. ولعل من طريف صنيعه أنه وضع فاصلًا بين صناعة العباسيين ومن سبقهم من الأعراب، وأقام هذا الفاصل على الملاءمة الدقيقة بين الكلمات والحروف؛ إذ يقول:"ومن ألفاظ العرب ألفاظ تنافَرُ وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض استكراه3". فالشعر القديم كما يلاحظ الجاحظ لا يبلغ من تنقيح ألفاظه وتصفيتها مبلغ الشعر العباسي الذي كان يعيش فيه والذي ألهمه هذا الحكم؛ ويحمد الجاحظ لحذَّاق الشعراء تخيرهم ألفاظهم وملاءمتهم بين كلماتهم حتى؛ لكأنها سُبكت سبكًا واحدًا4. وكان الناس من حول الجاحظ يعجبون مثله بهذا الجانب، يقول بعض الأدباء العباسيين: "أنذركم حُسْنَ الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم دلًا متعشقًا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملى، والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، وتحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زينت وحسب ما زخرفت"5، ولعل هذا ما جعل الجاحظ يقول من بعض الوجوه أن البلاغة في الألفاظ لا في المعاني6؛ فقد بلغ الشعراء والأدباء من تصفية ألفاظهم.
1 LAMBORN، RUDIMENTS OF CRITICISM، CHAP.III
2 البيان والتبيين 1/ 20.
3 البيان والتبيين 1/ 65.
4 البيان والتبيين 1/ 67.
5 البيان والتبيين 1/ 254.
6 الحيوان للجاحظ 3/ 131.
وإحكام تحبيرها ما جعل الناقد العباسي يحس أن المعاني إذا سُبكت سبكًا جيدًا تتحول عن مقادير صورها، وتُرْبى على حقائق أقدارها.
والبحتري هو أبرع شاعر عباسي صور هذا الجانب وما بلغ الشعراء من إحسانه وتحبيره؛ فقد عرف بمهارة واسعة فيه، ويقول الباقلاني:"إنه كان يتتبع الألفاظ وينقدها نقدًا شديدا"1 ولا يزال يتتبعها وينقدها حتى يؤلف منها ألفاظًا عذبة جميلة يحس ابن الأثير إزاءها "كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي"2 فألفاظه عليها رشاقة وأناقة، ولها صوت جميل كوسوسة الحليّ، بل قد يكون لها خشخشة الحصى؛ ولكنه حصى هذا النوع الذي يقول فيه بعض الشعراء.
يروع حَصاة حاليةَ العذارى
…
فتلمس جانب العقد النَّظيم
وأما الجانب الثاني وهو "المشاكلة بين اللفظ والمعنى"، فقد كان الأدباء والنقاد وعلي رأسهم الجاحظ يتواصون به كثيرًا3، وكان البحتري يستوفيه استيفاء غريبًا، حتى ليرتفع في بعض مقطوعاته إلى هذا الأفق الذي عرف به بعض الشعراء الغربيين من أمثال تنيسون وفرجيل. ويجد الباحث في كتاب:"أسس النقد" للامبورون بحثًا واسعًا في هذا الجانب إذ حلله تحليلًا دقيقًا؛ غير أنه تحليل خاص بموسيقى الشعر الانجليزي، وما تعتمد عليه من مقاطع وضغوط وحركات طويلة وقصيرة، ومن العسير أن نطبق ذلك على شعر البحتري، فإن الشعر العربي لا يعتمد كالشعر الانجليزي على المقاطع والضغوط والنبرات والحركات الطويلة والقصيرة، ومع ذلك نستطيع أن نلاحظ في وضوح أن البحتري كان يشاكل بين ألفاظه ومعانيه مشاكلة دقيقة، واقرأ له رثاءه للمتوكل إذ يقول:
مَحَلٌّ عَلَى القاطولِ أخلق داثرُهُ
…
وعادت صروف الدهر جيشًا تُغاورُه4
1 إعجاز القرآن "طبع مطبعة الإسلام" ص106.
2 المثل السائر "طبعة بولاق" ص106.
3 البيان والتبيين 1/ 83، 88، 92، 114، 135 وما بعدها.
4 القاطول: موضع على دجلة كان به قصر المتوكل المسمى الجعفري. أخلق: بلي. الدائر: الدارس. صروف الدهر: نوازله. تغاوره: تحاربه.
كَأَنَّ الصَبا توفي نُذوراً إِذا اِنبَرَت
…
تُراوِحُهُ أَذيالَها وَتُباكِرُه1
وَرُبَّ زَمانٍ ناعِمٍ ثَمَّ عَهدُهُ
…
تَرِقُّ حَواشيهِ وَيونَقُ خَصرُه
تَغَيَّرَ حُسنُ الجَعفَرِيِّ وَأُنسُهُ
…
وَقُوِّضَ بادي الجَعفَرِيِّ وَحاضِرُه3
تَحَمَّلَ عَنهُ ساكِنوهُ فُجاءَةً
…
فَعادَت سَواءً ضورُهُ وَمَقابِرُه4
فإنك تحس بالقوة والعنف في هذا الرثاء؛ إذ اختار البحتري ألفاظه من ذوات الحروف الضخمة أو من هذا النوع الذي كانوا يسمونه بالجزل؛ لأنه غاضب ثائر، وكأنه ينحت الألفاظ نحتًا ليعبر عن هذا الغضب وتلك الثورة التي أعلنها فيما بعد من القصيدة؛ إذ دعا إلى الانتقاض على من قتلوا المتوكل، وكان الخليفة الجديد هو الذي دبر هذه المؤامرة، وليس من شك في أن البحتري كتب هذه القطعة بمفتاح موسيقى محكم، فقد عبر بهذه الألفاظ الضخمة عن عاطفة الحزن الثائرة، حتى لكأن الألفاظ لها قعقعة السلاح ودوي الموقع التعسة الحزينة؛ ووفق في ربط القوافي بالهاء الساكنة، فجعل الصوت بعد انطلاقه على الكلمات والمقاطع ينخفض فجأة عند القافية، وكأنه لم تعد فيه بقية، ثم يعلو وينطلق في الاندفاع على البيت الثاني، وما يلبث أن ينخفض فجأة كرة أخرى، وهكذا لا يزال الصوت بين ارتفاع وانخفاض كأن الشاعر نائح، فهو يرتفع بالصوت، وما يلبث أن ينخفض به لشدة التأثر والتعب. وبذلك مثل البحتري زفرات الحزن تمثيلًا جيدًا، وندب المتوكل الخليفة المقتول على عرشه ندبًا خالدًا. واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في وصف بركة.
تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة
…
كالخيل خارجة من حبل مُجريها
كأنما الفضَّة البيضاء سائلةً
…
من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكًا
…
مثل الجواشن مصقولًا حواشيها5
1 تراوحه: تنتابه في الرواح "عشيًّا". تباكره: تهب عليه بكرة "صباحًا".
2 ناعم: ناعم أهله. حواشيه: جوانبه، ورقة حواشيه كناية عن سعادة أوقاته، والشجر الناضر: الجميل والمراد أن عهده جميل.
3 الجعفري: قصر المتوكل. قوض: تهدم. بادية: ظاهرة. حاضرة: داخلة.
4 سواء: متساوية.
5 الصبا: ريح خفيفة كالنسيم تهب من جهة الشرق. الحبك: الطرق في الرمل، الجواشن: الدروع.
فحاجب الشمس أحيانًا يضاحكها
…
ورَيِّق الغيث أحيانًا يباكيه1
إذا النجوم تراءت في جوانبها
…
ليلًا حَسِبْتَ سماء رُكِّبَتْ فيها
فإنك تشعر أنه أودع هذه القطعة كل ما يمكن من حلية الصوت وزينته فالألفاظ تعبر بأنفسها عن معانيها، إذا عرف كيف يختارها وكيف يلائم بينها؛ حتى جعلنا نحسُّ هذه الحال منشدة اقتضائها لقوافيها. وهذا الجانب من جوانب إحكام القافية وقف عنده النقاد العباسيون كثيرًا، وألحوا على الشعراء أن تصير القوافي إلى قرارها بحيث تتصل بشكلها، وتأخذ حظها من الأماكن المقسومة لها2، حتى ليقول شبيب بن شيبة إن حظَّ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت3.
وقد أقبل الشعراء يرصدون قوافيهم، ويرشحون لها على صور وهيئات مختلفة، ولعل في هذا ما يلفتنا إلى أن الترشيح والإرصاد وغيرهما من ألوان البديع الصوتية التي ترتبط بقوافي الشعر إنما نشأت تابعة لهذه العناية التي كَلِفَ بها الشعراء، إذا كانوا يلائمون ملاءمة شديدة بين الألفاظ والغناء، ولا يزالون بشعرهم حتى يحيلوه أنغامًا وأرقامًا موسيقية.
وأيًّا كان البحتري كان يعرف كيف يلائم بين ألفاظه، وكيف يرشح لقوافيه، وكيف يهيئ لها مكانها، ويَصُفُّ الآذن للقائها، إذا كان شاعرًا ممتازًا في فن الصوت وإن استمر يستمده من القيثارة العتيقة، فيثارة الرعاة القدماء التي حكمها أصحاب الشعر الغنائي -كما رأينا- في كثير من صورها وجوانبها؛ ولكنه عرف كيف يستخرج من هذه القيثارة المحطمة أصواتًا جديدة معجبة، شأن الموسيقيين الممتازين. وكان يعرف في نفسه هذه الخاصة وكان تيَّاهًا بها مُدِلًا، حتى قالوا إنه كان إذا أنشد يتشادق ويتزاور في حركته مرة جانبًا ومرة القهقرى، ويهز رأسه مرة ومنكبه أخرى، ويشير بكمه، ويقف عند كل بيت، ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين فيقول: ما لكم لا تقولون
1 حاجب الشمس: قرنها عند طلوعها.
ريق الغيث: أوله.
2 البيان والتبيين 1/ 138.
3 البيان والتبيين 1/ 112.
لي أحسنت، هذا والله ما لا يحسن أحد يقول مثله، وربما صنع ذلك أمام الخلفاء فضج المتوكل من صنيعه ذات يوم وأقبل على الصَّيمريّ فقال: أما تستمع ما يقول يا صيمري وكان ينشده قصيدته:
عن أي ثغرٍ تبتسمْ
…
وبأيّ طرف تحتكمْ
فقال: بلى يا سيدي مُرنِي فيه بما أحببت، فقال: بحياتي اهجُه على هذا الروي الذي أنشدنيه1.
ومهما يكن فإن البتحري استطاع أن يحول موسيقاه إلى ألحان وأرقام موسيقية خالصة واقرأ له هذه القطعة:
لي حَبيبٌ قَد لَجَّ في الهَجرِ جِدَّا
…
وَأَعادَ الصُدودَ مِنهُ وَأَبدى
ذو فُنونٍ يُريكَ في كُلِّ يَومٍ
…
خُلُقًا مِن جَفائِهِ مُستَجَدّا
يَتَأَبّى مَنعًا وَيُنعِمُ إِسعا
…
فًا وَيَدنو وَصلاً وَيَبعُدُ صَدّا
أَغتَدي راضِيًا وَقَد بِتُّ غَضبا
…
نَ وَأُمسي مَولَىً وَأُصبِحُ عَبدا
وَبِنَفسي أَفدي عَلى كُلِّ حّالٍ
…
شادِنًا لَو يُمَسُّ بِالحُسنِ أَعدى2
مَرَّ بي خالِيًا فَأَطمَعَ في الوَصـ
…
ـلِ وَعَرَّضتُ بِالسَلامِ فَردّا
وَثَنى خَدَّهُ إِلَيَّ عَلى خَو
…
فٍ فَقَبَّلتُ جُلَّنارًا وَوَردا3
سَيِّدي أَنتَ ما تَعَرَّضتُ ظُلمًا
…
فَأُجازى بِهِ وَما خُنتُ عَهدا
رِقَّ لي مِن مَدامِعٍ لَيسَ تَرقا
…
وَإِرثِ لي مِن جَوانِحٍ لَيسَ تَهدى
أَتُراني مُستَبدِلاً بِكَ ما عِشـ
…
ـتُ بَديلاً وَواجِدًا مِنكَ نِدّا
حاشَ لِلَّهِ أَنتَ أَفتَنُ أَلحا
…
ظًا وَأَحسَنُ شَكلاً وَأَحسَنُ قَدّا
فقد كان صاحب الصناعتين يعجب بها إعجابًا شديدًا4، وحقًّا إن البحتري استوفى فيها كل ما يمكن من وسائل التفوق في فن الصوت، فأنت تراه يبدأ
1 معاهد التنصيص 1/ 83.
2 الشادن: ولد الظبية تشبه به الفتاة الجميلة.
3 الجلنار: زهر الرمان الأحمر.
4 الصناعتين ص63.
فيوفق بين الشطرين في المطلع، ويجعلهما مصرعين هذا التصريع الذي كان يعجب به أصحاب البيان، ولا يكتفي بذلك بل نره يلائم بين الحروف في الشطرين؛ فقد تكررت الجيم في الشطر الأول كما تكررت الدال في الشطر الثاني فأحدث ذلك توافقًا صوتيًّا بين الكلمات، وما تلبث أن تراه في البيت الثالث يوفق بين الألفاظ توفيقًا دقيقًا؛ إذ جاء بكلمة "يتأبى" كأنها مشدودة إلى كلمة "ينعم" بواسطة هذا الرباط المحكم "منعًا". وهنا نحسن ما يصنعه التوافق الصوتي بين الحروف والكلمات من صلة في العبارات، ولا يزال البحتري يطلب هذا "التوافق الصوتي" حتى يأتي في الشطر الثاني بكلمتين ثم أخريين على نسقهما وحركاتهما، واستطاع أن يصل إلى ذلك بهذا "الطباق الصوتي" بين "يدنو ويبعد وصلًا وصدًا" وإن هذا ليلفتنا إلى الطباق العباسي يمكن أن نعتبر بعض جوانبه أيضًا لونًا صوتيًّا يأتي به الشاعر من أجل الموسيقى، ومثل الطباق في ذلك هذا التقسيم الذي نراه في البيت والذي كان يُعْرَف به البحتري. والحق أن صاحبنا كان يعرف سر مهنته معرفة دقيقة، وانظر إليه في البيت الرابع كيف حقق لنفسه موسيقاه بما أحدث فيه من الوصل والقرابة بين كلماته؛ فكل كلمة تقبل على أختها، تقبل "أمسى" على "أصبح"، و"مولى" على "عبدًا"، كأن الكلمات من أسرة واحدة، وليست هذه الأسرة إلا أسرة "الطباق الصوتي" وما تستبعه من تقسيم. وانظر في البيت الخامس إلى الكلمتين: بنفسي أفدي، ألا تحس أنهما متشابكتان كأنهما عقدتا الخناصر. وانظر في البيت السابع إلى الجلنار والورد تَرَ البحتري يلائم بين ألفاظه ويشاكل بين كلماته حتى يستوعب هذا اللون الذي كان يعجب به أصحاب البديع والذي سُمي بعدُ مراعاة النظير.
وانظر إلى قوافي الأبيات كيف أُحْكم قرارها؛ فقد تتابعت منسقة تنسيقًا جيدًا وها هي "أبدا، صدا، عبدا، أعدى، فردا، وردا، عهدا، تهدا، ندا، قدا" فإنك تراها متحدة في عدد حروفها وحركاتها وسكناتها، وسَمَّى أصحاب البديع ذلك بعدُ بالتطريز، وهو وشي غريب، واستمع إلى هذا البيت:
رِقَّ لي من مدامع ليس تَرْقَا
…
وارث لي من جوانج ليس تهدا
فقد أقام الكلمات في الشطرين على صفين متقابلين وكأن كل كلمة في الشطر الأول تطلب قرينها في الشطر الثاني، وحاول ذلك ثانية في البيت الأخير:
حاشَ لله أنت أفتن ألحا
…
ظًا وأحلى شكلًا وأحسن قَدَّا
ولكنه لم يبلغ من ذلك ما بلغه في البيت السابق، وهو وجه من وجوه التوافق الصوتي ويسميه أصحاب البديع باسم المماثلة. ومن يقرأ في شعر البحتري يجد أمثلة كثيرة للجوانب الموسيقية الأخرى التي ضبطها أصحاب البديع، من مثل التصدير والترصيع وغير ذلك مما يتصل بالصوت وتنظيمه تنظيمًا موسيقيًّا خاصًّا.
ونحن لا نتصفح ديوان البحتري حتى نحس إحساسًا عميقًا بأن موسيقى الشعر العربي أصيبت بترف صوتي شديد؛ إذ استطاعت أن تنهض بقم فنية لم يكن يحلم بها الشعراء القدماء، شعراء البادية، والحق أن البحتري استطاع أن يستخرج من القيثارة القديمة للشعر كل ما يمكن من مهارة فنية للصوت والموسيقى، واقرأ له قصيدته السينية التي يصف فيها إيوان كسرى؛ فإنك ستُرَاعُ حين تراه لا يكتفي بالتوافق الصوتي بين بعض الكلمات أو بعض الحروف في بعض الأبيات؛ بل هو يعمم هذا التوافق في القصيدة كلها، واستمع إليه يستهلها بقوله:
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي
…
وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ1
وتماسكتُ حين زعزعني الدَّهـ
…
ـرُ التماسًا منه لتعسي ونَكْسِي2
بُلَغٌ من صبابة العيش عندي
…
طَفَّفَتَها الأيامُ تطفيفَ بخسِ3
وبعيدًا ما بَيْنَ واردِ رَفْهٍ
…
عَلَلٍ شُرْبُهُ وواردِ خِمْسِ4
1 الجدا: العطاء. الجبس: اللئيم.
2 النكس: الانقلاب على الرأس.
3 البلغ: جمع بلغة وهي ما يكفي من العيش. والصبابة: البقية، طففتها: نقصتها. البخس: الغبن.
4 الرفه من العيش: اللين. والعلل: الشرب تباعًا. الخمس: أن ترد الإبل الماء بعد ثلاثة أيام.
وقديمًا عهدتُني ذا هنَاتٍ
…
آبياتٍ على الدنيَّاتِ شُمْسِ1
ولقد رابني نُبُوٌّ ابن عَمِّي
…
بَعْدَ لينٍ من جانبيه وأُنْسِ2
وإذا ما جُفِيتُ كنتُ حريًّا
…
أن أرى غير مصبح حيث أمسي
حضرتْ رحلى الهموم فوجَّهْـ
…
ـتُ إلى أبيضِ المدائن عَنْسِي3
أَتَسلّى عن الحظوظ وآسَى
…
لمحلّ من آل ساسان دَرْسِ4
ذكَّرتنيهم الخطوبُ التوالي
…
ولقد تُذكر الخطوب وتُنْسي
وهم خافضون في ظلّ عالٍ
…
مشرفٍ يحسر العيون ويخسي5
حِلَلٌ لم تكن كأطلال سُعْدَى
…
في قفارٍ من البَسابس مُلْسِ6
ومساعٍ لولا المحاباة منِّي
…
لم تطقها مسعاةُ عَنْسٍ وعَبْسِ7
فإنك لا شك وعيت ما في هذا الصوت من جمال وزينة، وإذا أخذت تحقق مرجع هذا الجمال ومرد هذه الزينة وجدتهما جميعًا يعودان إلى توافقات موسيقية. وركز البحتري هذه التوافقات في القافية؛ إذ اختار لنفسه قافية ثلاثية في القصيدة كلها حتى يطرزها بهذا التنميق والوشي البالغ. والإنسان لا يتابع البحتري في هذه القصيدة حتى يشعر في وضوح بأنه يسمع الصوت من جهة ويبصره من جهة أخرى؛ فهو مجسم في شكل رائع. وقد وصل صاحبنا إلى هذا التجسيم لا عن طريق القافية وحدها؛ بل عن طريق
1 الهنات هنا: الخصال، الدنيات: الأشياء والأغراض الخسيسة، شمس: عنيدة.
2 رابني: أوقعني في الريب والشك، نبو: جفوة ونفور، ويقصد بابن عمه الخليفة المنتصر.
3 أبيض المدائن: يريد القصر الأبيض بالمدائن، وهو من صنع الأكاسرة، والعنس: الناقة القوية.
4 آسى: أحزن، وآل ساسان: هم حكام الفرس من الأكاسرة قبل الإسلام، درس: دارس وعاف.
5 خافض: راغد العيش رافهه، عال: قصر شاهق، ويقصد القصر الأبيض. مشرف: بالغ الارتفاع، يحسر العيون: يضعفها إذا نظرت إليه، لارتفاعه الشديد. يخسي: يؤذي ويؤلم.
6 حلل: جمع حلة، وهي الطائفة من بيوت القبيلة، البسابس: القفار، ملس: خالية.
7 مساع: مكارم وأعمال جليلة. لم تطقها: لم تستطعها، عنس: قبيلة يمنية، وعبس: قبيلة مضرية.
التوفيق في الملاءمة بينها أو بعبارة أدق بين الحرف الأخير منها وهو السين، وبين الكلمات الأخرى في أبيات القصيدة كلها؛ فكثير منها تكثر فيه السين، وأعد النظر في الأبيات السابقة وخاصة الأول منها والثاني والتاسع والثاني عشر والثالث عشر فإنك تراه يعرف كيف يأتي بكلمات من ذوات السين كي يلائم بينها وبين القافية؛ حتى ليشعر الإنسان كأن الكلمات تريد أن تتجاذب فبينهما صلة شديدة من الموسيقى. ولم يكتفِ البحتري بالإكثار من حرف السين في القصيدة، بل جنح إلى فكرة ربما كانت أكثر تعقيدًا من سابقتها، وهي فكرة الإكثار من حركات الكسر في الكلمات، وبذلك أوجد مجانسة واسعة بينها وبين القافية، كأن يقول في الأبيات السابقة.
وقديمًا عهدتني ذا هنَاتٍ
…
آبياتٍ على الدنيَّات شُمْسِ
وواضح ما في هذا البيت من تقطيعات صوتية داخلية؛ ولكن الذي يهمنا الآن وما نلفت إليه هو أنه عمد إلى الكسرة فعممها في كثير من الكلمات؛ بحيث لا يصل الإنسان إلى القافية إلا ويحس بأن الكلمات تتجاذب تجاذبًا شديدًا، ولعل ذلك هو السبب في أنه أكثر في تلك القصيدة من صنع قوافي داخلية قبل القافية الخارجية على نمط ما نرى في قوله:
وتماسكتُ حين زعزعني الدهـ
…
ـر التماسًا منه لتَعْسِي ونَكْسِي
وأكثرَ من هذه القوافي الداخلية في القصيدة لتتم له تقطيعات صوتية يستطيع بها أن يرتفع هذا الارتفاع الفني الذي جعل القدماء يقولون إن شعر البحتري به صناعة خفية، وليست هذه الصناعة الخفية إلا ما نصفه الآن من هذه المهارة الفائقة في استخدام فن الصوت في الشعر ومعرفة قيمه والاحتكام إليها في صناعته. ويتصل بهذه القوافي الداخلية ما نراه في "سينيته" من تقطيعات في الكلمات كأن يقول:
وإذا ما جُفِيتُ كنت حريًّا
…
أن أُرَى غَيْرَ مُصْبحٍ حيث أمسى
فإنك تراه يوازن بين الكلمتين "غير مصبح" و"حيث أمسى" موازنة دقيقة فهو
يخرجهما متجاذبتين ولكن لا بواسطة السينات ولا بواسطة الكسرات وإنما بواسطة التجانس الصوتي فيها؛ فقد سبقت الأولى بغير والثانية بحيث، وهما متوافقتان في عدد الحروف والحركات والسكنات، ونفس الكلمتين مصبح وأمسى بينهما اتفاق في الموسيقى إذ هما يبدآن بضمة ثم سكون فكسر. ومن هذا النمط قوله:
وهُمُ خافضون في ظلّ عالٍ
…
مُشْرِفٍ يُحْسِرُ العيون ويُخْسِي
فإنك تراه هنا يلائم ملاءمة أوضح من حيث التوافق الصوتي إذا عبَّر قبل يخسي بكلمة يحسر، وكأنه أراد أن يتقدمها برائد بديع من جنسها. والحق أن البحتري فكر طويلًا في الحركات والسكنات والحروف والكلمات في أثناء صناعته لتلك القصيدة. ولعل ذلك هو الذي جعله يصل إلى ملاءمة أخرى بين القافية وكلمات البيت؛ ولكن لا من حيث السينات أو الكسرات أو التقطيعات الصوتية؛ وإنما من حيث عدد الحروف، إذ يلاحظ من يتتبعه في هذه القصيدة أنه عني بالكلمات الثلاثية في صناعتها عناية وفرت كثيرًا من القيم الصوتية، كأنه يقول:
وبعيدٌ من بين واردِ رَفْهٍ
…
علل شبه ووارد خمس
فإنك تحس في هذا البيت جمال الكسرات، وتحس شيئًا آخر وهو نوع من التوافق الصوتي بين آخر الشطر الأول وبين القافية، إذا اتحد معها في عدد الحروف والحركات والسكنات، وهو حقًّا لم يتحد في الحرف الأخير معها، فإن ذلك يخصصه الشعراء بمطالع قصائدهم إذ يصرِّعونها على نحو ما نرى في القصيدة نفسها؛ فالشطر الأول كأنه مسجوع مع الشطر الثاني، وما في هذا البيت الذي نحن بصدده ليس تصريعًا، ومع ذلك فهو ضرب دقيق من التوافق الصوتي، عممه البحتري في كثير من أبيات القصيدة على نحو ما نرى في الأبيات الثالث والسادس والثالث عشر من القطعة السابقة. ومن ينكر أن كلمة علل تلاءمت مع أخواتها في البيت بواسطة هذه الثلاثية المشتركة بينها وبين القافية؟ أرأيت إلى
أي حد استطاع البحتري أن يوفر كثيرًا من القيم الصوتية في القصيدة بطريقة قد تكون معقدة ولكنها في غاية الدقة؟ إذ أمكنه بملاءمات بين القافية وعدد حروفها ورويها وحركة رويّها وبين كلمات البيت أن ينهض بموسيقى بديعة. وهذه الملاءمة يوزعها البحتري على قصائده الأخرى في ديوانه؛ ولكنه لا يركزها في قصيدة كما ركزها في تلك القصيدة السينية فقد جمع لها كل ما يستطيعه من مهارة في استخدام فن الصوت وما وقف عليه من أسرار.
وما من شك في أن ذلك كله نشأ عند البحتري متأثرًا بموسيقى الشعر الغنائي إذ كانت هذه الموسيقى تعتمد عليها في أصواتها وأرقامها؛ وكانت هي وما ترتبط به من غناء تعين عليه، وتدعو إلى العناية به والتجديد فيه.