الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأبو تمام يدخل الفلسفة في العمل الفني على أنها شيء أساسي؛ فالشعر لا يخاطب الشعور فقط بل هو يخاطب العقل قبل كل شيء، وهو لذلك قد يعدل في أدوات التصنيع التي يستخدمها غيره، وهو تعديل يرضينا ويرضي عقولنا، ومن لا يروعه هذا الطباق الفلسفي الذي يقيمه أبو تمام على قانون الأضداد المعروف في الفلسفة؛ فإذا هو لا يعتمد على العبث اللفظي ولا على هذه المعاني التي تتوالي في الذهن حين نذكر الليل فيأتي النهار أو الضوء فيأتي الظلام أو غير ذلك من مقابلات تخرج من وعاء الذاكرة، بل هو يعقد هذا الطباق ويجعله عملًا عقليًّا واسعًا؛ ففيه خيال وفيه تناقض وتضاد، وفيه هذه الدابة التي لا تزال تَرعى وتُرعى، ترعى الفيافي وترعاها الفيافي!
3-
البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:
لم يكن البحتري يعتمد في شعره على فلسفة وثقافة يعقدان في أدواته، وكان يعرف ذلك من نفسه، كما كان يعرفه معاصروه، وتلوَّموه من أجله فرد عليهم بقوله:
كلفتمونا حدودَ منطقِكُم
…
والشعرُ يغني عن صدقِهِ كذبُهْ
ولم يكن ذو القروحِ يلهجُ بالـ
…
منطق ما نوعه وما سببُهْ
والشعرُ لَمْحٌ تكفي إشارتُه
…
وليس بالهذرِ طوِّلت خطبُهْ
ولكن أحقًّا ما يقول البحتري من أن الشعر لا يحتاج فلسفة ولا منطقًا؟ إن وقائع الفن المادية في العصر العباسي لا تتفق وهذا القول؛ فقد دخلت الفلسفة والمنطق في صناعة الشعر وعقَّدا في وسائله وأدواته هذا التعقيد الذي رأينا وجها من وجوهه عند أبي تمام، ولا ينفع البحتري استشهاده بامرئ القيس، حقًّا أن امرأ القيس لم يكن يعرف فلسفة ولا منطقًا، ولكن هل يمكن تطبيق ذلك على العصر العباسي؟ إن امرأ القيس تثقف بالثقافة التي عاصرته، وهي لم تشفع
بشيء من الفلسفة والمنطق إلا في الحدود الساذجة، أما لو أنه كان في عصر البحتري لما رضي لنفسه أن ينفصل عن عصره وأن يقيم حواجز وحدودًا بينه وبين الثقافة الحديثة. ونفس البحتري يناقض هذا الرأي في عمله؛ إذ يحاول استيعاب الوسائل الحديثة في صناعته من الطباق والجناس والتصوير؛ إلا أنه لا يستطيع أن يستخدم الأداة العقلية الخالصة، أداة المنطق والفلسفة؛ لأنه ليس من أهل المنطق ولا من أهل الفلسفة، وهو بذلك ينحاز عن شعراء عصره؛ ويقول النقاد إنه لم يفارق عمود الشعر، فلم تكن هناك ثقافة ولا فلسفة تضطره إلى هذه المفارقة.
ودائمًا نجد شيئًا من المنطق ينقص البحتري في فنه؛ وانظر في صياغته ونقصد الصياغة الذهنية؛ فإنك تراه لا يعنى بتنسيق أفكاره وترتيب معانيه ترتيبًا منطقيًّا دقيقًا. وبونٌ بعيد جدًّا بينه وبين شاعر كأبي تمام في هذا الجانب؛ فإنك تحس عند الأخير بوحدة القصيدة واضحة كما تحس بتسلسل الأفكار، أما عند البحتري فإنك ترى دائمًا خنادق وممرات بين أبياته. وتتبع الباقلاني عنده هذه الظاهرة في قصيدته.
أهلًا بذلك الخيالِ المقبلِ
…
فعل الذي نهواه أو لم يفعل
ولاحظ أن التسلسل المنطقي فيها مضطرب، وأن التفكير فيها غير منتظم1 وذكر غيره من النقاد أن البحتري لا يحسن الخروج من موضوع إلى موضوع في الشعر، وإنه يجنح دائمًا إلى ما يسميه ابن رشيق طفرًا وانقطاعًا2.
وهذا كله جاء البحتري من أنه لم يكن متفلسفًا ولم يكن من رجال الفكر العميق؛ ولذلك لم يحسن تنسيق شعره من جهة، كما أنه لم يستطع التعديل في أدوات صناعته من جهة أخرى. وليس معنى ذلك أنه لم يكن يستخدم أدوات التصنيع؛ بل كان يستخدمها؛ ولكنها ظلت عنده كأنها من طراز مخالف لما نراه عند أبي تمام؛ فقد كان بدويًّا أعرابيًّا ولذلك ظل منحرفًا عن مذهب المصنعين، وظلت أدوات الصناعة عنده ساذجة بسيطة يستخدمها، ولكنه لا يستطيع أن
1 إعجاز القرآن ص105، 106، 108.
2 العمدة 1/ 159.
يعقدها ولا أن يولد منها أدوات أخرى؛ إذ لم يكن عقله يسعفه، واقرأ له هذين البيتين اللذين كانا يروعان السابقين بتقسيمه فيهما؛ إذ يقول:
ذاك وادي الأراك فاحبس قليلًا
…
مقصِرًا من صبابةٍ أو مُطيلا
قِفْ مشوقًا، أو مُسْعدًا، أو حزينًا
…
أو معينًا، أو عاذرًا، أو عذولا
فإنك إذا نَحَّيتَ جمال الأصوات الذي عرضت فيه الأفكار وجدت البحتري لا يحسن التقسيم؛ لأن التقسيم عمل عقلي يحتاج إلى منطق وهو لم يكن من رجال العقل ولا من رجال المنطق؛ فنحن نراه يقسم من يناديه قسمه متداخلة غير معقولة، إذ يجعله إما مشوقًا أو مسعدًا أو حزينًا أو معينًا أو عاذرًا أو عذولًا، وهي صفات متداخلة، ولكن البحتري يعتذر بأنه ليس من أهل المنطق، فالشعر شيء والمنطق شيء آخر، وكأنه يريد أن يقول: إن الشعر ابن أبولو لا ابن منيرفا.
ولكن غاب عنه ما حدث بين الشعر والمنطق أو الفلسفة من تزاوج في العصر العباسي، وأنه انعدمت بينهما الحدود والحواجز، وما تقدم الزمن إذن؟ وما فائدة الرقي العقلي الذي أصابه العباسيون؟ إن واجب الشاعر أن يلم بالثقافة الحديثة، وأن يلم بالفلسفة بنوع خاص، وأن يتخذ ذلك مادة أساسية في صنع قصائده ونماذجه. والبحتري لا يصور لنا ذلك؛ فهو من جماعة الصانعين الذين لا يسرفون على أنفسهم في استعمال أدوات الصناعة وتعقيدها؛ إنما يصوره أبو تمام الذي كان يفهم أن الشعر تطور في العصر العباسي، وأنه لم يعد ضرورة كما كان في العصور القديمة؛ فقد ظهر النثر وزاحمه، وأصبح لونا من ألوان الترف لا تخاطب به العامة، وإنما تخاطب به الخاصة وخاصة الخاصة من أصحاب الفلسفة والمعاني كما يقول الآمدي1.
ومهما يكن فإن عقل البحتري لم يكن من عقل أبي تمام، لا في الدرجة ولا في النوع، بل هو من جنس مخالف. كان أبو تمام من أهل المدن، وكان مثقفًا ثقافة عميقة، وقد أدخل هذه الثقافة في صناعة شعره ومواد قصائده، أما
1 الموازنة بين الطائِيَّينِ للآمدي ص2.
البحتري فكان أعرابيًّا، ولم يكن يأخذ بحظ واسع من الثقافة؛ فلم يصب أدوات الفن عنده ما أصابها من تعقيد وتركيب عند أبي تمام، على نحو ما سنعرف في الفصل التالي. حقًّا إن البحتري أحسن على نحو ما مر بنا في الفصل الثاني جانبَ الموسيقى الداخلية في الشعر وما تستتبعه من المشاكلة بين الألفاظ والمعاني والتوافق الصوتي بين الحروف والحركات والكلمات، وكأني به كان يوفر وقته جميعه للصوت، وهذا جل ما يعتمد عليه في شعره من جو، فهو يطلق الموسيقى ويدعها تؤثر في أعصابنا كما يريد ويشتهي، أما جو أبي تمام فجو غامض مبهم يطلق فيه الموسيقى وهي لا تبلغ سمت موسيقى البحتري؛ غير أنه لا يعتمد عليها فقط، بل نراه يضيف إليها ألوان البديع ويعقد فيها، ولا يكتفي بذلك بل ما يزال يضيف إليها ألوانًا ثقافية قاتمة، تؤثر في الحس وأعصاب الفكر. وحاول البحتري في كثير من جوانب فنه أن يقلِّد أبا تمام في تصنيعه وعبر عن ذلك الجانب في صناعة الشعر وإعجابه به؛ إذ يقول:
وبديع كأنه الزهرُ الضا
…
حكُ في رونقِ الربيعِ الجديدِ
ومعانٍِ لو فصلتها القوافي
…
هجَّنت شعر جرولٍ ولبيدِ
حزن مستعمل الكلام اختيارًا
…
وتجنَّبْن ظلمةَ التعقيدِ
وركبنَ اللَّفظَ القريبَ فأدرك
…
نَ به غاية المرام البعيد
ولكنه ظل مقصرًا في استخدام هذا البديع؛ فعدل في أكثر أحواله إلى الصوت والصنعة في الموسيقى؛ لأنها الجانب القديم الذي يستطيع أن ينميه دون حاجة إلى ثقافة أو فلسفة. أما ألوان البديع فكانت شيئًاجديدًا لا يحسنه من الشعراء إلا من عاشوا في الحضارة، وأخذوا أنفسهم بحظ من الثقافة والعقل العميق على نحو ما سنرى عند أبي تمام. ومهما يكن فإن البحتري لم تكن عنده أسباب تؤهله لاستخدام التصنيع وأدواته على نحو ما انتهت إليه عند جماعة المصنعين؛ فهو بدوي أعرابي رحل إلى المدينة وتحضر، ولكن هذا التحضر لم يتغلغل في عقله ولم ينفذ إلى أعماق نفسه؛ فلم يستطع أن يستخدم الثقافة في عمله، كما أنه لم يستطع التعقيد في أدوات حرفته.