المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حكم عام على تصنع المتنبي وشعره: - الفن ومذاهبه في الشعر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع

- ‌الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم

- ‌الشعر صناعة

- ‌ صناعة الشعر الجاهلي:

- ‌ الصناعة الجاهلية مقيدة:

- ‌ الطبع والصنعة:

- ‌ الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:

- ‌ زهير ومذهب الصنعة:

- ‌ نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي:

- ‌ الشعر التقليدي والغنائي:

- ‌الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة

- ‌الشعر العربي نشأ نشأة غنائية

- ‌ تعقد الغناء الجاهلي:

- ‌ مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي:

- ‌ موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي:

- ‌ تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌ انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام:

- ‌ انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي:

- ‌ نمو مقطوعات الشعر الغنائي:

- ‌ تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي

- ‌الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع

- ‌الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة

- ‌ العلاقات اللغوية:

- ‌ العلاقات الثقافية:

- ‌ ازدهار مذهب الصنعة:

- ‌ بشار وصنعته في شعره:

- ‌ صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ:

- ‌ صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ:

- ‌ ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ:

- ‌ التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة

- ‌البحتري: نشأته وحياته وصنعته

- ‌ الخلافُ بينَ البحتريِّ وأصحابِ التَّصنيعِ:

- ‌ البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ:

- ‌ ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:

- ‌ الهجاءُ السَّاخِرُ:

- ‌جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي

- ‌الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع

- ‌أبو تمام أصله وحياته وثقافته

- ‌ ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ التصنيعِ القديمةِ:

- ‌ التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ تصنيعٍ جديدةٍ:

- ‌ المزجُ بين ألوانِ التصنيعِ القديمةِ والجديدةِ:

- ‌ قَصِيدةُ عموريةَ:

- ‌ ابنُ الْمُعْتَزِ، نشأَتُهُ وحَيَاتُهُ وتصنيعُهُ:

- ‌ تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ:

- ‌ الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنع

- ‌التصنع في الحضارة العربية

- ‌ التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ:

- ‌ التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ:

- ‌ ألوانُ التصنيعِ العقليةِ لا تستوعَبُ ولا تتحولُ إلى فنٍ:

- ‌ جمودُ الشِّعرِ العَرَبي:

- ‌ التَّحْوِيرُ:

- ‌الفصل الثاني: الثقافة والتصنع

- ‌المتنبي نشأته وحياته وثقافته

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ:

- ‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ:

- ‌ المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ:

- ‌ تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ:

- ‌ حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ:

- ‌ شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتلفيق

- ‌ميهار أصله وتشيعه ومزاجه

- ‌ تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ:

- ‌ تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ:

- ‌ الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:

- ‌ غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ:

- ‌ الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار وتحوُّلُه إلى شعرِ مناسباتٍ:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في التصنع

- ‌أبو العلا نشأته وحياته وثقافته

- ‌ ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:

- ‌ اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ:

- ‌ اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ:

- ‌ صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌ اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ:

- ‌ اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصيَّةُ الأَنْدَلُسِ:

- ‌ الشِّعْرُ في الأَنْدَلُسِ:

- ‌ نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي:

- ‌ الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شَخْصِيَّةُ مِصْرَ:

- ‌ الشِّعْرُ في مِصْرَ:

- ‌ الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ:

- ‌ الأيوبيونَ ونهضةُ الشِّعرِ في عهدِهِمْ:

- ‌ المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ:

- ‌ العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ:

- ‌خَاتِمَةٌ:

- ‌ الصُّورةُ العامَّةُ لِلْبَحْثِ:

- ‌ الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ:

- ‌ الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ:

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار:

الفصل: ‌ حكم عام على تصنع المتنبي وشعره:

صورًا من الألفاظ ليحدث بها شيئًا من الخلل والارتباك في موسيقاه. وهذه كل وسائله الجديدة، وهي وسائل قد تفصح عن ثقافة؛ ولكنها لا تفصح عن طرافة في التفكير الفني نفسه ولا عن تنويع في آفاقه وآماده، وحقًا إنه عنى بشيء من الوسائل القديمة، وسائل الاستعارة والمشاكلة والجناس والطباق؛ ولكنها كانت تأتي عنده نادرة فإن استعملها أضاف إليها هذا التعقيد الذي يحيلها عن أصباغها، كما رأينا في الفصل السابق؛ إذ عرضنا لاستخدامه الطباق والاستعارة، ورأينا كأن هذه الألوان القديمة تفارق أصباغها عند شعراء هذه العصور، ولذلك انحاز المتنبي عن هذه الوسائل التي تجمدت في تاريخ الفن إلى وسائله الثقافية الجديدة. وفي هذه الوسائل تستقر مهارته في صنع القصيدة العربية، وهي مهارة تدل على أن آماد الشعر الفسيحة أخذت تضيق منذ القرن الرابع؛ فلم يعدل الشعراء إلى تنويع في التفكير الوجداني؛ إنما عدلوا إلى هذا التصنع الثقافي يؤدون به إيماءة مذهبية أو شارة فلسفية أو شاذة موسيقية.

ص: 342

9-

‌ حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ:

لعلنا نغلو إذا قلنا: إن المتنبي استطاع مع كل ما رأيناه عنده من ضروب تصنع مختلفة أن يحلق في أسمى أفق للشعر العربي، إذا كان لشعره -ولا يزال- حيوية وطلاوة وروعة تأخذ بالألباب على الرغم من هذا التصنع للإيماءات المذهبية والشواذ الموسيقية والشوارد النحوية؛ فقد كان لديه من المهارة الفنية ما يستطيع أن يخفي به سمات هذا التصنع وما ينطوي فيه من تكلف شديد؛ حتى ظن اليازجي في الفصل البديع الذي عقب به على ديوانه أن ما عند المتنبي من معجمات مستغلقة إنما يقتصر على القسم الأول من شعره الذي نظمه في الحداثة. وهذا وهم من اليازجي ومن لفَّ لفَّه فقد استمرت هذه المستغلقات في شعره حتى التنفسات الأخيرة من حياته، وغاية ما في الأمر أن مقدرة المتنبي على صوغ العبارة ونمو المقدرة على طول الزمن هو الذي يخفي على النقاد هذه الجوانب

ص: 342

من التصنع التي وقفنا عندها حتى ليخيَّل إليهم وقد رأوها متجلية في شعره الذي نظمه في الشباب وقبل أن تكتمل له مهارته الفنية أنها انقطعت بعد ذلك، وهي لم تنقطع يومًا لسبب بسيط هو أن المتنبي كان يأتي بهذه المستغلقات عامدًا؛ إذ كان يتخذها مذهبًا له في صناعة شعره طوال حياته. على أنه ينبغي أن نشير -من طرف آخر- إلى أن اليازجي لم يكن يريد مستغلقات المتنبي ما وصفناه من ضروب تصنعه المختلفة؛ فإنه لم يحاول أن يدرسه دراسة منظمة يعرضه في أثنائها على ثقافات عصره ويرى مدى تأثره بها في الصياغة؛ فشيء من ذلك لم يفكر فيه اليازجي؛ إنما أراد ما في شعر حداثته من تكلف والتواء. وهي سمة تكاد توجد عند جميع الشعراء في الأدوار الأولى من حياتهم فإنهم يبدءون مقلدين متكلفين، وما يزال الشاعر يتقلب في هذا الدور حتى يتبين نفسه فيستقل عن سابقيه ويستحدث لنفسه مذهبًا جديدًا، ومع ذلك فإن مذهب المتنبي في التصنع بدا فيه منذ الأدوار الأولى من حياته الفنية، ولذلك أشرنا إلى رأي اليازجي مخافة أن يقرأه بعض المحدثين فيظن أن المتنبي إنما كان يلتزم ما أشرنا إليه من تصنع في أوائل حياته الفنية فقط؛ بينما هو في الواقع شيء عام في هذه الحياة، يبدأ معه في حداثته ويستمر معه في هرمه وشيخوخته. وقد يكون من الغريب حقًّا أن المتنبي استطاع أن يضع هذه الأشياء في شعره دون أن تلتفت إليها جمهرة النقاد سوى ما كان من الثعالبي في يتيمته، وقد عرض لها عرضًا عامًّا، ينقصه التنظيم، تنظيم المادة وتنظيم الفكرة، والخروج من ذلك إلى بيان طريقة المتنبي في صناعة شعره. وأكبر الظن أن كثيرًا من النقاد المحدثين إنما خفيت عليهم هذه المواد من التصنع بفضل ما أشاعه المتنبي في شعره من حيوية وجمال، مردهما -في رأينا- إلى خمسة جوانب، ونحن نقف قليلًا لتفسير هذه الجوانب حتى يستطيع القارئ أن يحكم حكمًا دقيقًا على شعره وما يستوعبه من تصنع في طرف وضروب جمال في طرف آخر.

أما الجانب الأول فهو غزله في شعره بالأعرابيات؛ إذ يشعر قارئ ديوانه بأن الشاعر يجذبه من حياته المتحضرة المعقدة وما فيها من تكلف إلى البداوة والبساطة

ص: 343

وأحضان الطبيعة، وأيضًا فإن العناصر البدوية في الشعر العربي تكسبه ضربًا من الجلال والروعة، وقد يكون مرجع ذلك إلى أن هذه العناصر البدوية تجعلنا نذكر الحجاز وما به من أماكن مقدسة، ولذلك كثر حشد أماكنه في شعر الشيعة والمتصوفة، وسنرى مهيارًا في الفصل التالي يُعْنَى بهذا الجانب عناية واسعة في غزلياته، ومهما يكن فقد عنى المتنبي في غزله بالبدويات وفضَّلهن على قريناتهن من أهل الحضر، وعبَّر عن ذلك أجمل تعبير؛ إذ يقول:

مَنِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ

حُمر الحُلى وَالمَطايا وَالْجَلابيبِ1

إن كنتَ تسأل شكًّا في معارفها

فمنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ

كَم زَورَةٍ لَكَ في الأَعرابِ خافِيَةٍ

أَدهى وَقَد رَقَدوا مِن زَورَةِ الذيبِ

أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي

وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي

قَد وافَقوا الوَحشَ في سُكنى مَراتِعِها

وَخالَفوها بِتَقويضٍ وَتَطنيبِ2

جِيرانُها وَهُمُ شَرُّ الجِوارِ لَها

وَصَحْبُها وَهُمُ شَرُّ الأَصاحيبِ

فُؤادُ كُلِّ مُحِبٍّ في بُيوتِهِمِ

وَمالُ كُلِّ أَخيذِ المالِ مَحروبِ3

ما أَوجُهُ الحَضَرِ المُستَحسَناتُ بِهِ

كَأَوجُهِ البَدَوِيّاتِ الرَعابيبِ4

حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ

وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجْلوبِ

أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها

مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ

وقد استخرج المتنبي كثيرًا من نغم هذا اللحن ونشره في جميع أطراف ديوانه، وليس من شك في أنه نغم محبب إلى كثير من النفوس التي تميل إلى البساطة والتي لا تعرف مضغ الكلام ولا تعجب بصبغ الحواجيب.

هذا أحد الجوانب الخمسة التي تجعلنا نعجب بشعر المتنبي، أما الجانب الثاني فهو ضرب من التشاؤم يبدو في ديوانه، وقد جعله برمًا بالدهر ساخطًا على الناس حتى لكأنَّه ثائر على الدُّنيا. وهي ثورة يرجعها ماسينيون -على

1 الجآذر: جمع جؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية. والاستعارة واضحة.

2 التقويض: رفع الخيام، والتطنيب: نصبها.

3 المحروب: الذي ذهب ماله.

4 الرعابيب: جمع رعبوب، وهي المرأة البيضاء الممتلئة.

ص: 344

نحو ما مر بنا- إلى قرمطيته؛ فقد كان القرامطة ثائرين على الدهر والناس ونواميس المادة وفي رأينا أنها ثورة نابعة من نفسه كأن يقول:

صَحِبَ النُّاسُ قَبْلَنا ذا الزَمانا

وَعَناهُم مِن شَأنِهِ ما عَنَانا

وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم مِنـ

ـهُ وَإِن سَرَّ بَعضهُم أَحيانا

أو يقول:

رماني الدَّهرُ بالأَرْزَاءِ حتَّى

كأني في غشاءٍ من نبالِ

فصرتُ إذا ما أصابتني سهامٌ

تكسَّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ

أو يقول:

فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا

جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ

وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ

لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ

وعلى هذا النمط نراه ساخطا في ديوانه على الدهر والناس ومجتمعهم الفاسد سخطًا شديدًا. والإنسان لا يقرأ فيه وفي أبي العلاء حتى يشعر بالصلة الواضحة بين الشاعرين في تشاؤمهما. وكأني بأبي العلاء لم يصنع أكثر من تنميته لهذا الجانب الذي وجده عند أستاذه المتنبي. واقرأ هذا البيت:

وَما الدَّهرُ أَهلٌ أَن تُؤَمَّلَ عِندَهُ

حَياةٌ وَأَنْ يُشتاقَ فيهِ إِلى النَّسلِ

فإنك ترى فيه جانبًا من منهج أبي العلاء في حياته؛ إذ حرَّم على نفسه الزواج كما حرم عليها طلب النوال من الخلفاء والأمراء، ومعروف أنه أشاع هذا النهج من التشاؤم في لزومياته. على أنه ينبغي أن نعرف أن المتنبي لم يكن يائسا في تشاؤمه على نحو يأس أبي العلاء؛ إنما هو يتشاءم تشاؤم المحروم الذي يحس بلذائذ ومسرات في الحياة لا يستطيع أن ينالها، ولعله من أجل ذلك كان يعلن عشقه للدنيا وعتبه عليها فهي صادَّة عنه مدلَّة عليه، يقول:

ومن لم يعشقِ الدُّنيا قديْمًا

ولكن لا سبيلَ إلى الوصالِ

ويقول:

وَلَذيذُ الْحَياةِ أَنفَسُ في النَفـ

سِ وَأَشهى مِن أَن يُمَلَّ وَأَحلى

ص: 345

وَإِذا الشَيخُ قالَ أُفٍّ فَما مَـ

لَّ حَياةً وَإِنَّما الضَعف مَلّا

ويقول:

أَرى كُلَّنا يَبغي الحَياةَ لِنَفسِهِ

حَريصاً عَلَيها مُستَهاماً بِها صَبّا

فَحُبُّ الجَبانِ النَّفسَ أَورَدَهُ التُّقى

وَحُبُّ الشُّجاعِ النَفسَ أَورَدَهُ الحَرْبا

وواضح ما في البيتين الأخيرين من احتكام للقياس، وكان المتنبي يعنى في شعره بأقيسة المنطق، وأكثر من هذه الأقيسة في ديوانه كثرة مفرطة، وهي تعطي شعره ضرب من الحدة في التعبير والإحكام في التفكير. ومهما يكن فإن المتنبي لم يكن متشائمًا على هذا النحو الذي نجده عند أبي العلاء؛ إذ لم يكن يرفض الدنيا إنما كان يشعر إزاءها بالحرمان الشديد، ومع ذلك فليس من شك في أنه هو الذي أهَّل لكل ما نجد عند أبي العلاء من تشاؤم ونقد للحياة الاجتماعية، وحتى مشكلة الحياة والموت التي وقف عندها أبو العلاء كثيرًا في لزومياته نجدها عند المتنبي أيضًا؛ إذ يقول:

نَحنُ بَنو المَوتى فَما بالُنا

نَعافُ ما لا بُدَّ مِن شُربِهِ

تَبخَلُ أَيدينا بِأَرواحِنا

عَلى زَمانٍ هِيَ مِن كَسبِهِ

فَهَذِهِ الأَرواحُ مِن جَوِّهِ

وَهَذِهِ الأَجسامُ مِن تُربِهِ

لَو فَكَّرَ العاشِقُ في مُنتَهى

حُسنِ الَّذي يَسبيهِ لَم يَسبِهِ

لَم يُرَ قَرنُ الشَمسِ في شَرقِهِ

فَشَكَّتِ الأَنفُسُ في غَربِهِ

يَموتُ راعي الضَأنِ في جَهلِهِ

مَوتَةَ جالينوسَ في طِبِّهِ

وَرُبَّما زادَ عَلى عُمرِهِ

وَزادَ في الأَمنِ عَلى سِربِهِ1

وهذا الجانب من التشاؤم والتفكير في حقائق الحياة انطوى في جانب ثالث كان القدماء يعجبون به إعجابًا شديدًا، وهو جانب الحكم والأمثال، وقد ساق منها العُكْبَري في القسم الأول من شرحه على المتنبي نماذج كثيرة قدم لها بقوله: "وقد أجمع الحذاق بمعرفة الشعر والنقاد أن لأبي الطيب نوادر لم تأت في شعر غيره وهي مما تخرق العقول، منها قوله:

1 السرب هنا: النفس.

ص: 346

وَما الحُسنُ في وَجهِ الفَتى شَرَفًا لَهُ

إِذا لَم يَكُن في فِعلِهِ وَالخَلائِقِ

وقوله:

أَتى الزَمانَ بَنوهُ في شَبيبَتِهِ

فَسَرَّهُم وَأَتَيناهُ عَلى الهَرَمِ

وقوله أيضًا:

وَلَم أَرَ في عُيوبِ النَّاسِ شَيئًا

كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَّمامِ

واستمر العُكْبَري يحشد حكمًا وأمثالًا كثيرة، وعقب على حشده بقوله:"فهذا الذي لم يأت شاعر بمثله؛ ولكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويؤتي الحكمة من يشاء"1 ومعروف أن المتنبي استعان -كما مر بنا- في صناعة هذه الحكم بما قرأه في عصره من حكم نسبت إلى أرسططاليس. ومهما يكن فقد رفع هذا الجانب كثيرًا من شعر المتنبي إذ عالج أطرافًا من علل الإنسانية مبينًا لأدوائها كما أدلى بكثير من الآراء التي تزيد من خبرتنا بالإنسان وطباعه والحياة وتصاريفها، وتعينه في ذلك عين واعية بصيرة.

وليس ذلك كل ما يرفع من المتنبي في ديوانه؛ فهناك جانب رابع لا يقل أهمية في رأينا عن الجوانب السابقة، وهو تغنِّيه بالبطولة؛ إذ كان سيف الدولة أمير حلب هذه الولاية الصغيرة يقف في عصر المتنبي درعًا للأمة العربية يحميها من دولة الروم الشرقية؛ فمجَّد المتنبي هذه البطولة فيه، وتغنَّى بها غناءًا حارًّا حتى ليتفوق على أقرانه من الشعراء الذين مدحوا قادة العرب وأبطالهم تفوقًا بينًا، ومرجع ذلك -في رأينا- إلى سببين: أما السبب الأول فواضح، وهو موقف سيف الدولة من الروم وحمايته للعرب، وكان المتنبي يشعر بعروبته شعورًا عميقًا، وأما السبب الثاني فيرجع إلى أن المتنبي نشأ ثائرًا، يريد أن يرد للعرب دولتهم المفقودة، وحمل السيف، وسله، ولم يكتب النجاح لثورته؛ غير أن نفسه ظلت تموج بالثورة ومنازلة الأعداء وأيضًا فإن المتنبي كان فارسًا يمجد الفروسية وبذلك اجتمعت له عناصر مادية ونفسية كثيرة جعلت وصفه لحرب سيف الدولة شعلًا من الحماسة القوية كأن يقول:

1 التبيان 1/ 161.

ص: 347

لَهُ عَسكَرا خَيلٍ وَطَيرٍ إِذا رَمى

بِها عَسكَرًا لَم يَبقَ إِلّا جَماجِمُه

فَقَد مَلَّ ضَوءُ الصُبحِ مِمّا تُغِيرُهُ

وَمَلَّ سَوادُ اللَيلِ مِمّا تُزاحِمُه

وَمَلَّ القَنا مِمّا تَدُقُّ صُدورَهُ

وَمَلَّ حَديدُ الهِندِ مِمّا تُلاطِمُه

سَحابٌ مِنَ العِقبانِ يَزحَفُ تَحتَها

سَحابٌ إِذا اِستَسقَت سَقَتها صَوارِمُه

ومن أروع ما يصور احتدام مشاعر العروبة في نفسه قوله مخاطبًا سيف الدولة وقد انتصر على الروم في درب القلة:

لَقيتُ بِدَربِ القُلَّةِ الفَجرُ لَقيَةً

شَفَت كَمَدي وَاللَّيلُ فيهِ قَتيلُ

فقد جعل انتصاره يشفي غيظ نفسه، وتصور فترة الخمود السابقة لهذا الانتصار ليلًا ثقيلًا، وهو ليل لم يلبث أن طعنه سيف الدولة طعنة نجلاء، فتبلج الظفر ونشر نور الفرحة في النفوس.

وعلى هذا النمط اندفع المتنبي في شعره يتغنى ببطولة سيف الدولة، وهو غناء لا شك في أن كل نفس عربية تجد فيه صورة روحها وقوميتها وكل ما تعتز به من فتوة وقوة ضد أعدائها الذين تنازلهم وتمحقهم محقًا. وانطوى في هذا الغناء جانب خامس، وهو تعبير المتنبي عن طموحه واعتداده بنفسه وترفعه عن كل من حوله كأن يقول:

يُحاذِرُني حَتفي كَأَنِّيَ حَتفُهُ

وَتَنكُزُني الأَفعى فَيَقتُلُها سُمّي1

كَأَنّي دَحَوتُ الأَرضَ مِن خِبرَتي بِها

كَأَنّي بَنى الإِسكَندَرُ السَدَّ مِن عَزمي2

أو يقول:

وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِهِ

وَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ

وَلَكِنَّ قَلبًا بَينَ جَنبَيَّ مالَهُ

مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ

أو يقول:

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ

فَلا تَقنَعْ بِما دونَ النُّجُومِ

فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ حقيرٍ

كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ

وليس من شك في أن المتنبي كان موفقًا حين وضع هذه النغمة في شعره،

1 تنكز: تلسع.

2 دحا: بسط.

ص: 348