المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نهضة الشعر الأندلسي: - الفن ومذاهبه في الشعر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع

- ‌الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم

- ‌الشعر صناعة

- ‌ صناعة الشعر الجاهلي:

- ‌ الصناعة الجاهلية مقيدة:

- ‌ الطبع والصنعة:

- ‌ الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:

- ‌ زهير ومذهب الصنعة:

- ‌ نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي:

- ‌ الشعر التقليدي والغنائي:

- ‌الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة

- ‌الشعر العربي نشأ نشأة غنائية

- ‌ تعقد الغناء الجاهلي:

- ‌ مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي:

- ‌ موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي:

- ‌ تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌ انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام:

- ‌ انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي:

- ‌ نمو مقطوعات الشعر الغنائي:

- ‌ تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي

- ‌الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع

- ‌الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة

- ‌ العلاقات اللغوية:

- ‌ العلاقات الثقافية:

- ‌ ازدهار مذهب الصنعة:

- ‌ بشار وصنعته في شعره:

- ‌ صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ:

- ‌ صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ:

- ‌ ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ:

- ‌ التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة

- ‌البحتري: نشأته وحياته وصنعته

- ‌ الخلافُ بينَ البحتريِّ وأصحابِ التَّصنيعِ:

- ‌ البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ:

- ‌ ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:

- ‌ الهجاءُ السَّاخِرُ:

- ‌جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي

- ‌الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع

- ‌أبو تمام أصله وحياته وثقافته

- ‌ ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ التصنيعِ القديمةِ:

- ‌ التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ تصنيعٍ جديدةٍ:

- ‌ المزجُ بين ألوانِ التصنيعِ القديمةِ والجديدةِ:

- ‌ قَصِيدةُ عموريةَ:

- ‌ ابنُ الْمُعْتَزِ، نشأَتُهُ وحَيَاتُهُ وتصنيعُهُ:

- ‌ تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ:

- ‌ الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنع

- ‌التصنع في الحضارة العربية

- ‌ التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ:

- ‌ التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ:

- ‌ ألوانُ التصنيعِ العقليةِ لا تستوعَبُ ولا تتحولُ إلى فنٍ:

- ‌ جمودُ الشِّعرِ العَرَبي:

- ‌ التَّحْوِيرُ:

- ‌الفصل الثاني: الثقافة والتصنع

- ‌المتنبي نشأته وحياته وثقافته

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ:

- ‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ:

- ‌ المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ:

- ‌ تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ:

- ‌ حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ:

- ‌ شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتلفيق

- ‌ميهار أصله وتشيعه ومزاجه

- ‌ تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ:

- ‌ تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ:

- ‌ الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:

- ‌ غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ:

- ‌ الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار وتحوُّلُه إلى شعرِ مناسباتٍ:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في التصنع

- ‌أبو العلا نشأته وحياته وثقافته

- ‌ ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:

- ‌ اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ:

- ‌ اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ:

- ‌ صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌ اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ:

- ‌ اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصيَّةُ الأَنْدَلُسِ:

- ‌ الشِّعْرُ في الأَنْدَلُسِ:

- ‌ نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي:

- ‌ الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شَخْصِيَّةُ مِصْرَ:

- ‌ الشِّعْرُ في مِصْرَ:

- ‌ الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ:

- ‌ الأيوبيونَ ونهضةُ الشِّعرِ في عهدِهِمْ:

- ‌ المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ:

- ‌ العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ:

- ‌خَاتِمَةٌ:

- ‌ الصُّورةُ العامَّةُ لِلْبَحْثِ:

- ‌ الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ:

- ‌ الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ:

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار:

الفصل: ‌ نهضة الشعر الأندلسي:

بمنهج جديد لا من حيث الموضوعات ولا من حيث المعاني ولا من حيث الأخيلة والأساليب، إنما كل ما هنالك أنها تستطيع أن تفخر بشعراء يعيشون في إطار الشعر العباسي العام، وهم يعيشون في هذا الإطار معيشة مضطربة؛ إذ نرى الشاعر الواحد يخلط بين مذاهب الفن العباسي خلطًا شديدًا، فهو تارة صانع يفيض بالشعور ولا يجعل للزخرف سبيلًا إليه كما رأينا عند ابن دراج في وداعه لزوجه وطفله، وتارة نراه متصنعًا يعنى بالتصنع للثقافات، كما يعنى بالغريب والأنساب والأمثال والاقتباس من القرآن الكريم على نحو ما رأينا عند ابن دراج أيضًا، ثم هو أخيرًا مصنع، يشفع شعره بألوان التصنيع والزخرف العباسي من جناس وطباق وتصوير، على نحو ما مر بنا عند ابن دراج. وهكذا نرى الشاعر الأندلسي يجمع في شعره بين جميع المذاهب العباسية، وهذا هو معنى ما نقول من أن الشعراء الأندلسيين يخلطون خلطًا شديدًا بين المذاهب الفنية للشعر العربي؛ إذ يستعيرون منها جميعًا بدون تفريق ولا اختلاف في التطبيق. على أنه ينبغي أن نتريث قليلًا في هذا الحكم العام على الأندلس وشعرائها حتى نرى شعرهم وما أصابه من نهضة في عصر ملوك الطوائف.

ص: 431

4-

‌ نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي:

لا نكاد نمضي في صدر القرن الخامس الهجري حتى نرى الدولة الأموية التي أقام صرحها عبد الرحمن الداخل وأبناؤه تتحكم ويحل مكانها نظام جديد، يقوم على أن تحكم كل مدينة كبيرة في الأندلس نفسها بنفسها، ويعرف هذا النظام باسم نظام ملوك الطوائف؛ إذ أصبح في كل مدينة فرد أو أسرة تحكمها حكمًا منظمًا، وقد اشتد التنافس بين هذه المدن، واستطاعت الأندلس عن طريق هذا التنافس أن تظفر بأكبر حظ من النشاط العلمي والأدبي؛ إذ كان كل أمير، أو ملك -كما كانوا يسمونه- يريد أن يبذَّ من حوله في القوة والسلطان والثروة المادية والعقلية والفنية. وإن الإنسان ليحس تشابها -من بعض الوجوه- بين نظام

ص: 431

الأندلس في هذا العصر وبين نظام اليونان في العصور القديمة؛ إذ كانت تنافس أثينا إسبرطةَ وغيرها من المدن اليونانية، وكما أن هذا النظام اليوناني القديم يعد أزهى عصور اليونان بما تركوا فيه من آثار فنية وفلسفية وأدبية، كذلك يعد عصر ملوك الطوائف من أزهى عصور الأندلس من الوجهة الحضارية.

واستمرت هذه الحركة الدافعة في العصرين التاليين: عصر المرابطين والموحدين إذ استطاعت الأندلس أن تظفر بطائفة من الفلاسفة كابن باجة وابن رشد، كما استطاعت أن تظفر بطائفة كبيرة من العلماء في الأبحاث الدينية والأبحاث النحوية. وهي أيضًا حققت لنفسها رقيًّا واسعًا في الأدب بقسميه من شعر ونثر.

وبذلك نهض الشعر الأندلسي نهضة واسعة في هذه العصور وهي نهضة ظلت في حدود الصورة العامة لشعرنا العربي، فلم يَثرُ الشعراء هناك على خطوط هذه الصورة وظلالها وأضوائها، بل ظلوا يعيدون رسمها، لا يكلُّون ولا يملُّون، وفي أثناء ذلك يقعون على تشبيهات واستعارات طريفة، وقد يمتد ذلك إلى مقطوعات بديعة في الغزل وغير الغزل كقول يحيى بن بقي1:

عاطيته والليل يسحب ذيلَهُ

صهباء كالمسكِ الفتيقِ لناشقِ

وضممته ضمَّ الكمي لسيفِهِ

وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي

حتى إذا مالت به سِنَةُ الكرى

زَحْزَحْتُه شيئًا وكان مُعَانقي

باعدتُه عن أضلعٍ تشتاقُهُ

كي لا ينامُ على وسادٍ خافق

وقول ابن شطرِيَّة2:

ستر الصبح بطُرَّةْ

وجلا الليلُ بغرةْ

وأرى من وجهه في

قدِّهِ غصنًا وزهرةْ

جاءني كالظَّبي في أشـ

راكِهِ إذا حلَّ شعرَهْ

ومضى عني ولكنْ

بعد ما خلَّف نشْرَهْ

فتراني في افتضاحٍ

كلما أخفيتُ سرَّهْ

1 معجم الأدباء "طبعة القاهرة" 20/ 21. والمغرب لابن سعيد "طبع دار المعارف" 2/ 21.

2 المغرب 1/ 140.

ص: 432

وقول أبي حفص عمر بن عمر1:

هم نظروا لواحظها فهاموا

وتشرب عقلَ شاربِها المدامُ

يخاف الناسُ مقلتَهَا سواها

أيذعرُ قلبَ حاملِه الحسامُ

سما طَرْفي إليها وهو باكٍ

وتحت الشمسِ ينسكبُ الغمامُ

وأذكر قدَّها فأنوحُ وجدًا

على الأغصانِ ينتدبُ الحمامُ

وأعقب بينُها في الصَّدرِ غمًّا

إذا غربت ذُكاءُ أتى الظلامُ

والقطع جميعًا تستمد من جذاذات الشعر المشرقي في المعاني والصور؛ ولكنها تعيدها في معارض جديدة، فيها طرافة الخيال وبراعة التصوير. وكانوا كثيرًا ما يلمون بوصف وداع المعشوقة في الصباح، ولكن لا تظن أنهم يسبقون المشارقة في ذلك، فإننا نجد هذا الوصف عند عمر بن أبي ربيعة في قصيدته المشهورة "أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمبكِرُ" ونقله عنه العباسيون من أمثال أبي فراس، وشاع عنهم في الأندلس بين الشعراء والوشاحين والزجالين.

وربما كان أهم موضوع برع فيه الأندلسيون هو وصف الطبيعة، وقد أعانهم فيه جمال المناظر في إقليمهم، ولهم فيه روائع كثيرة، وهي روائع كانت تستمد من كنوز الشعر العباسي، مضيفة إليها أخيلة دقيقة كثيرة، على شاكلة قول الرُّصافي يصف نهرًا وما على جانبيه من أشجار تتراءى على صفحته ظلالها2:

ومُهَدَّلِ الشطَّين تحسب أنه

متسايلٌ من دُرَّةٍ لصفائِهِ

فاءت عليه مع الهجيرةِ سَرْحَةٌ

صدئت لفيئتها صفيحةُ مائِهِ3

وتراه أزرق في غلالة سندسٍ

كالدَّارعِ استلقى لظلِّ لوائِهِ

وقد يمزجون وصف الطبيعية بالخمر ووصف الصباح أو وصف المساء، فنقع عندهم على صور طريفة كهذه الصورة للرصافي أيضًا؛ إذ يقول:

وعشيٍّ رائقٍ منظرُهُ

قد قطعناه على صِرْفِ الشَّمولِ4

1 انظر الأبيات في كتاب "رايات الْمُبَرَّزين" لابن سعيد.

2 راجع الأبيات في رايات المبرزين.

3 السرحة: الشجرة، فاءت: نشرت فيئها أي ظلها.

4 الشمول: الخمر، وصِرْفُها: خالصها.

ص: 433

وكأن الشمسَ في أثنائِهِ

ألصقت بالأرضِ خدًّا للنزولْ

والصبا ترفع أذيال الرُّبى

ومحيَّا الجوِّ كالنهر الصقيلِ

حبَّذا منزلُنا مغتبقًا

حيث لا يطربُنا إلا الهديلْ1

طائرٌ شادٍ وغصنٌ منثنٍ

والدُّجى يشربُ صهباءَ الأصيلْ

ودائمًا تلقانا مثل هذه الصور الطريفة في أشعارهم، لا في وصف الطبيعة والغزل فحسب، بل أيضًا في مدائحهم ومراثيهم، كقول ابن عمَّار يمدح المعتضد ملك إشبيلية2:

أنْدَى على الأكبادِ من قطرِ النَّدى

وألذُّ في الأجفانِ من سِنَةِ الكَرى

ومثل قول أبي عامر بن الحمارة يرثي زوجه3:

ولما أن حللت التُّربَ قلنا

لقد ضلَّت مواقعَها النُّجومُ

ألا يا زهرةً ذبلتْ سريعًا

أضنَّ المزنُ أم ركدَ النَّسيمُ

واشتهروا بمراثيهم للدول الزائلة، ومراثي ابن اللبَّانة في بني عباد مشهورة، وكذلك مراثي ابن عبدون في بني الأفطس أصحاب بطليموس، ومن بديع قوله فيها هذا المطلع الرائع لإحداها4:

ما لليالي أقال اللهُ عثرتَنَا

من الليالي وخانَتْها يدُ الغيرِ

تسُرُّ بالشيء لكن كي تَغُرُّ به

كالأيمِ ثار إلى الجاني من الزَّهَرِ5

ولم تسقط مدينة في يد مسيحيي الشمال إلا بكوها وتفجعوا عليها تفجعًا حارًّا، وهو تفجع كانوا يضمنونه استصراخًا للمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها لعلهم يستنقذون تلك المدن من براثن الإسبان، ويعيدونها إلى حظيرة الإسلام، قبل أن تدكَّ هناك كل صروحه وتسقط كل راياته وأعلامه.

ومن غير شك نهض الشعر العربي في هذا الفردوس المفقود نهضة رائعة. على أنه ينبغي أن لا نبالغ في تصور هذه النهضة؛ إذ كان الأندلسيون يولون

1 المغتبق: مكان الاغتباق وهو شرب المساء. الهديل: صوت الحمام وفرخه.

2 المغرب 1/ 391.

3 المغرب 2/ 120.

4 المغرب 1/ 376.

5 الأيم: الثعبان.

ص: 434

وجوههم دائمًا نحو المشرق يقلدون شعراءه في مذاهبهم ونماذجهم، ولعله من أجل ذلك شاعت عندهم فكرة معارضة قصائد المشارقة، فابن برد الأصغر ينظم قصيدته:

بخداعٍ علَّلُوه

وبهجرٍ وصَلُوهُ

على نمط قصيدة لشاعر من شعراء بغداد في وزنها ورويها1، وابن زيدون ينظم قصيدته

المشهورة:

بنتُم وبنَّا فما ابتلَّت جوانِحُنا

شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا

على نمط قصيدة البحتري:

يكاد عاذلنا في الحب يغرينا

فما لجاجُك في عذلِ المحبينا

وابن خفاجة ينظم قصيدته:

كفاني شكوى أن أرى المجدَ شاكيا

وحسب الرزايا أن تراني باكيا

على نمط قصيدة المتنبي:

كفي بك داءً أن ترى الموتَ شافيا

وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمَانيا

وهو كذلك ينظم قصيدته:

قل لِمَسْرَى الرِّيحِ من إضمِ

وليالينا بذي سلَمِ

على نمط قصيدة أبي نواس، إن صح أنها له:

يا شقيقَ النَّفْسِ من حكمِ

نمت عن ليلى ولم أَنَمِ

وعلى هذه الشاكلة يصوغ الشعراء قصائدهم على صورة القصائد العباسية، وهي صورة لا تقف عند المشابهة في الوزن والروي، بل تمتد إلى المشابهة في المعاني والأساليب، وكأنما القصيدة في رأيهم ليست إلا تلفيقًا للمواد الفنية التي تركها العباسيون، فهم يبدِئُون ويعيدون في المعاني والصور الموروثة دون أن يضيفوا.

1 الذخيرة 2/ 43.

ص: 435

إليها جديدًا إلا قليلًا. إنما هي مواد وعناصر تتراكم وتتجمع فتحدث قصيدة ولكنها لا تحدث عملًا فنيًّا قيمًا إلا في الندرة، أما الكثرة فإنها تصنع تحت تأثير المواد العتيقة، ولقد كان حريًا بالشعراء أن ينحوا عن شعرهم كل ما هو عتيق؛ غير أن التفكير الفني عند العرب كان قد فَقَدَ كل مقدرته على الابتكار والتجديد ولذلك لم يستطع الأندلسيون أن يتجهوا بشعرهم إلى وجهات جديدة، سوى ما سنراه بعد قليل عندهم من الموشحات والأزجال، أما بعد ذلك فالشعر الأندلسي باقٍ على قديمه العربي، سوى ما كان من تجديداته في أوزان موشحاتهم وأزجالهم، وهي تجديدات اضطرهم إليها الغناء اضطرارًا، أما بعد ذلك فأساليبهم وصورهم هي نفس الأساليب والصور المشرقية. ونحن نبحث عبثًا إذا حاولنا أن نجد عند الأندلسيين رغبة في تغيير صياغة الشعر تغييرًا تامًّا بحيث تدفع بالشعراء إلى إحداث مذهب جديد، إنما هم يعيشون في الإطار الفني العباسي العام وما فيه من مذاهب الصنعة والتصنيع والتصنع يخلطون بين هذه المذاهب في غير نظام ولا نسق معين على نحو ما رأينا سابقًا عند ابن هانئ وابن دراج، ونحن نقف عند نفر من شعراء هذا العصر لنرى حقيقة هذا الرأي ومدى صحته.

ابنُ بُرْدٍ الأَصْغَر:

هو أبو حفص أحمد الأصغر حفيد ابن برد الأكبر الذي كان وزيرًا في الأيام العامرية وكان كاتبًا بليغًا أيضًا1. حدَّث الحميدي أنه رآه في المرية بعد الأربعين وأربعمائة غير مرة2، وأشاد به صاحب الذخيرة؛ إذ يقول: "كان أبو حفص بن برد الأصغر في وقته فلكَ البلاغة الدائر ومثلها السائر، نفث فيها بسحره، وأقام من أودها بناصع نظمه وبارع نثره، وله إليها طروق، وفي عروقها الصالحة عروق"3. ومن يرجع إلى القطعة التي رواها له صاحب

1 انظر ترجمته في: المغرب 1/ 86. وبغية الملتمس: للضبي ص153. والمطمح: للفتح ص24. والذخيرة 2/ 18. ومعجم الأدباء: لياقوت 2/ 106.

2 معجم الأدباء 2/ 106.

3 الذخيرة 2/ 18.

ص: 436

الذخيرة من شعره1، وهي قطعة كبيرة يراه يحتذي دائمًا على مثال العباسيين بل إنه ليبلغ من ذلك مبلغًا لا يكاد يدور بخلد الإنسان؛ فقلما يوجد له معنى إلا وهو مسبوق به، قد طرقه الشعراء من قبله، ولاحظ ذلك عليه صاحب الذخيرة في غير موضع من روايته لشعره، فمن ذلك قوله في النسيب:

لما بدا في لا زَوَرْ

ديِّ الحرير وقد بَهَر

كبَّرتُ من فَرْطِ الجَمَالِ

وقلت ما هذا بَشَرْ

فأجابني لا تنكرن

ثوبَ السَّمَاءِ على القمَرْ

وهو من قول ابن الرومي:

يا ثوبهُ الأزرقُ الذي قد

فاقَ العِراقيَّ في السناءِ

كأنه فيه بدرٌ تِمٍّ

يشق في زُرْقةِ السماءِ

وقول ابن المعتز أيضًا:

وبنفسجي الثوبِ قَتْـ

ـل محبِّه من دابِهِ

الآن صرتَ البدر حـ

ينَ لبستَ ثوبَ سحابه

ونستمر في قراءة ابن برد، فإذا هو يقول:

بأبي أنت وأمي

لم تطبَّعتَ بظلمي

أبدًا تأتي بعتبٍ

دون أن آتي بجُرْمِ

بيننا في الحب قُربى

سقمُ عينيك وجسمي

وهو من قول ابن الرومي:

يا عليلًا جعل العِلَّة

مفتاحًا لسُقْمي

ليس في الأرض عليلٌ

غير جفنيكَ وجسمي

وهو كما يتأثر ابن الرومي نراه يتأثر ابن المعتز؛ بل ربما كان تأثره بابن المعتز أكثر وأوضح، فقد تعلق مثله بالأوصاف والتشبيهات فمن ذلك قوله:

1 انظر الذخيرة، الجزء الثاني، من ص37 إلى ص50.

ص: 437

عارضٌ أقبل في جنح الدُّجى

يتهادى كتهادي ذي الوَجَى1

أتلفتْ ريحُ الصَّبا لؤلؤه

فانحنى يوقد عنه السُّرُجا

وقوله:

وكأن الليلَ حين لوى

هاربًا والصُّبحُ قد لاحا

كلة سوداء حرَّقها

عامدٌ أسرج مصباحا

فإن ذلك كله من قول ابن المعتز الذي مر في غير هذا الموضع:

والصبحُ يتلو المشتري فكأنه

عُريانُ يمشي في الدُّجى بسراجِ

ويقول ابن برد في وصف كلف البدر:

والبدرُ كالمرآةِ غَيَّرَ صَقْلَها

عبثُ العذاري فيه بالأنفاسِ

والليلُ ملتبسٌ بضوءِ صباحِهِ

مثل التباسِ النِّقسِ بالقرطاسِ2

وهو واضح الصلة يقول ابن المعتز في وصف فرند السيف:

جرى فوق متنَيهِ الفِرِندُ كأنما

تنفسَ فيه القينُ وهو صقيلُ

وعلى هذا النمط نرى ابن برد يمضي في تأليف شعره، وكأنه نسخة طبق الأصل من شعر أصحاب المشرق، وخاصة ابن المعتز وابن الرومي.

والحق أنه ينبغي أن لا نتعلق بالفكرة الشائعة من أن الأندلس كان لها شخصية واضحة في تاريخ الشعر العربي، فإن هذه الشخصية تنحصر في كثرة الإنتاج وخاصة في شعر الطبيعة، أما بعد ذلك فالأندلس تستعير من المشرق موضوعات شعرها ومعانيه وصوره وأساليبه وكل ما يتصل به استعارة تكاد تكون طبق الأصل، على نحو ما نرى الآن عند ابن بُرْد؛ فقد استقر في أذهان الشعراء أن خير عصور الشعر وأزهاها هو العصر العباسي وما ينطوي فيه من شعراء عظام أمثال أبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز والمتنبي، فذهبوا يقرءون هؤلاء الشعراء وأمثالهم، ثم أخذوا يحاكونهم دون

1 العارض: السحاب الممطر. الوجى: الحفا أو أشد منه.

2 النفس: المداد.

ص: 438

أن يفهموا مذاهبهم فهمًا واضحًا أو يعرفوا ما بين هذه المذاهب من مفارق واسعة، وكأني بالأندلسيين انتهوا إلى التقليد وارتضوه لأنفسهم فعاشوا في الشعر العربي هذه المعيشة التقليدية التي نرى آثارها الآن عند ابن برد وغيره من الشعراء.

ابْنُ زَيْدُونٍ:

لعله يحسن بنا أن نقف عند ابن زيدون1 لننظر في حقيقة هذا الحكم العام الذي نحكم به على شعراء الأندلس، وكان حامل لواء الشعر في عصره، وهو من أسرة اشتهرت بالفقه، ونعمت بالثراء. ولد بقرطبة سنة 394 للهجرة واهتم به أبوه منذ نعومة أظفاره فأحضر له الأدباء المعلمين والفقهاء والمثقفين، ولم تلبث ملكته الشعرية أن تفجرت على لسانه ينبوعًا عذبًا، فعلا شأنه ولمع نجمه.

وليس بين أيدينا أخبار واضحة من موقعه في حوادث سقوط الدولة الأموية، وإن كنا نظن أنه لم يقف مكتوف اليدين إزاءها، بل لعله كان أحد من أعانوا في قيام دولة بني جهور واعتلاء أبي الحزم عرش قرطبة سنة 426. ونراه غارقًا في حب ولادة بنت الخليفة المستكفي، وكان ابن عبدوس ينافسه في هذا الحب، ويظهر أنه كان أحد من وشى به إلى أبي الحزم؛ إذ نسبت إليه مؤامرة ضده للعودة بزمام الأمور إلى بني أمية، فأودع السجن سنوات طوالًا، وهو يضرع إلى أبي الحزم بشعره ورسالته الجدية، واستشفع بابنه أبي الوليد؛ ولكنه لم يعف عنه فهرب من السجن ليلة عيد. وأخيرًا عفى عنه أبو الحزم، وقربه أبو الوليد منه، حتى إذا توفي أبوه وولِّي مكانه عيَّنه للنظر على أهل الذمة، ثم رفعه إلى مرتبة الوزارة، وسفر بينه وبين كثير من ملوك الإمارات الأندلسية. وفسدت الأمور بينه وبين أبي الوليد كما فسدت بينه قبلًا وبين أبيه، فولَّى وجهه نحو إشبيلية واستقبله ملكها المعتضد استقبالًا حافلًا، واتخذه وزيرًا له، كما اتخذه من بعده ابنه المعتمد وزيره ومستشاره واستطاع بفضل جهوده أن يغزو قرطبة

1 انظر كتابنا "ابن زيدون" طبع دار المعارف؛ حيث فصلنا الحديث عن حياته وشعره. وراجع الذخيرة 1/289. والقلائد: للفتح بن خاقان ص70. والمغرب في حلى المغرب 1/63. والمعجب: للمراكشي "طبعة دوزي" ص74. والحلة السيراء: لابن الأبار ص45.

ص: 439

ويستولى عليها. وحدث أن أرسل به المعتمد إلى إشبيلية في بعض المهام، فدعاه القدر هناك إلى جوار ربه سنة 463.

وخصومة ابن زيدون لابن عبدوس -كما قدمنا- لم تكن ترجع إلى أسباب سياسية إنما كانت ترجع إلى حبه لولَّادة بنت الخليفة المستكفي فقد كان يحبها كذلك ابن عبدوس، وجعله هذا الحب يصطدم بابن زيدون، فكاد له حتى سجنه. وحياة ابن زيدون من الوجهة الأدبية حياة طريفة؛ فقد تعلق بولادة وأصبح مغرمًا بها صبًّا، وكان لها منتدى لطيف تجلس فيه للرجال والشعراء، ويظهر أنها كانت ماجنة خليعة. يقول صاحب الذخيرة: "إنها أوجدت إلى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها. كتبت -زعموا- على أحد عاتقي ثوبها:

أنا والله أصلحُ للمعالي

وأمشي مشيتي وأتيه تيهَا

وكتبت على الآخر:

وأمكن عاشقي من صَحْنِ خدي

وأعطي قبلتي من يشتهيها1

وهناك نص طويل يرويه صاحب الذخيرة عن ابن زيدون يصف فيه إحدى وقائعه الغرامية معها ذات ليلة2، ومن يرجع إلى مجموع ما روي عن حياة ولادة في الذخيرة ونفح الطيب، ثم يرجع مع ذلك إلى ما روي في نفح الطيب عن غيرها من حرائر الأندلس3 يحس أن المرأة الأندلسية الحرة لعبت في الأدب الأندلسي دورًا يشبه من بعض الوجوه دور المرأة في الأدب الفرنسي في أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر، وليس من شك في أن هذه الناحية تعطي ديوان ابن زيدون أهمية في تاريخ الشعر الأندلسي. على أنه ينبغي أن نعرف أن حبه لولادة أصطدم بأشياء؛ إذ نراها تؤثر ابن عبدوس عليه، ثم يفرق بينهما السجن ولا يستطيع أن يجد سبيلًا إلى لقائها، ثم يكون الحرمان منها بخروجه عن قرطبة إلى أشبيلية، ولوَّن ذلك شعره بألوان من الصبابة بها واللوعة فرأيناه يصف أيامه معها، كما يصف المعاهد التي كانا يتفرجان

1 الذخيرة 1/ 376.

2 الذخيرة 1/ 377.

3 انظر الجزء الثاني من نفح الطيب "طبع بولاق" من ص1076 إلى 1173.

ص: 440

عليها أو يتنزهان فيها، ومعنى ذلك أن شعره يفيض بالعواطف ويكتظ بالشعور، ولعله من أجل ذلك كان يسميه النقاد باسم: بحتري الأندلس، فذوقه أقرب إلى ذوق البحتري؛ إذ يطلب في شعره أن يعبر عن خواطره في حرية دون تقييد بضروب التصنيع أو التصنع؛ غير أنه ينبغي أن نقيد هذا الكلام؛ لأن من يتتبع ابن زيدون في ديوانه يجده كبقية الشعراء الأندلسيين يخلط بين مذاهب العباسيين من صنعة وتصنيع وتصنع في غير طريقة مرسومة ولا خطة موضوعة. ومرَّ بنا أن أهم قصائده وهي"بنتم وبنَّا" قد صنعها على نمط قصيدة للبحتري، وهو في قصائده الأخرى لا يزال يعيش هذه المعيشة التقليدية، واقرأ له هذه القطعة المشهورة:

ما على ظَنِّيَ باسُ

يَجْرحُ الدهرُ وياسُو

ربما أشرفَ بالمرءِ

على الآمالِ ياسُ

ولقد ينجيك إغفا

ل ويرديك احتراسُ

والمحاذيرُ سهامٌ

والمقاديرُ قياسُ1

يا أبا حفصٍ وما سا

واك في فهمِ إياسُ2

من سنا رأيك لي في

ظلمِ الخطبِ اقتباسُ3

وودادي لك نصٌّ

لم يخالفه القياسُ

فإنك تراه يصنع إذ يطابق بين يجرح ويأسو، كما يجانس بين يأسو في البيت الأول ويأس في البيت الثاني، وهو كذلك يتصنع لذكر النص والقياس والاقتباس. فحتى النموذج الواحد فيه خلط بين المذاهب؛ فالشاعر تارة يصنع وتارة يتصنع، ومع ذلك فهذه القطعة قريبة من ذوق الصانعين بما اشتملت عليه من حسن جرس وإيقاع!

وإذا تركنا هذا المظهر العام في شعره من الخلط بين المذاهب الفنية العباسية إلى تتبع معانيه وأخيلته وأساليبه وجدنا صورتها العامة هي الصورة العباسية وقد

1 قياس هنا: جمع قوس.

2 هو إياس بن معاوية، من قضاة العراق في العصر الأموي، وكان يشتهر بالذكاء وحدة الفهم.

3 سنا: ضوء.

ص: 441

عُنِي صاحب الذخيرة ببيان هذا الجانب في شعره، فرأيناه يرجع عشرات من أبياته وأشعاره إلى دواوين العباسيين وخاصة البحتري وأبا تمام والمتنبي والمعري، فمن ذلك

قوله في وصف سواد ليلة:

يا ليتَ ذاك السوادَ الجونَ متَّصِلٌ

قد استعار سوادَ القلبِ والبصرِ1

فقد استعاره من قول أبي العلاء:

يود أن ظلامَ الليلِ دامَ لهُ

وزيد فيه سوادُ القلبِ والبصرِ2

ويقول ابن زيدون في بني جَهْوَر:

بني جهورٍ أحرقتم بجفائِكُم

جناني، فما بالُ المدائحِ تَعْبقُ3

تعدونني كالعنبرِ الوردِ إنما

تطيبُ لكم أنفاسُهُ حين يُحْرَقُ4

وهو بَيِّن الصلة بقول أبي تمام:

لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورتْ

ما كان يعرفُ طيبُ عَرْفِ العودِ

وكذلك قوله:

هرمتُ وما للشيبِ وَخْطٌ بمفرقي

ولكن لشيب الهمِّ في كبدي وَخْطُ5

واضح الصلة بقول المتنبي:

إلا يشبْ فلقد شابتْ له كبدٌ

شيبًا إذا خضبته سلوةٌ نصلا6

وكذلك قوله في المديح:

وصلنا فقبَّلنا النَّدى منك في يدٍ

بها يُتْلَفُ المالُ الجسيمُ ويخلفُ

مأخوذ من قول البحتري:

دنوتُ فقبَّلتُ النَّدى من يد امرئ

كريمٍ محيَّاهُ سباطٍ أنامِلُه7

يقول صاحب الذخيرة: "وبيت ابن زيدون لفظ بيت البحتري ومعناه،

1 الجون: الحالك.

2 الذخيرة 1/ 299.

3 تعبق: تفوح.

4 الورد: الأحمر، ولعله يقصد الزعفران لحمرته.

5 وَخط الشيب: انتشاره.

6 نصل الشعر: زال عنه الخضاب.

7 سباط: جمع سبط ضد الجعد، وسباط أنامله: كناية عن الكرم.

ص: 442

ويقول بعض أدبائنا: إن ابن زيدون بحتري زماننا وصدقوا"1. وهو حقًّا يشبه البحتري في صوته؛ ولكنه -كما نرى الآن- كان يتتبع غيره من الشعراء ويحتذي على أمثلتهم في أفكاره ومعانيه كقوله في المديح:

ومحاسنٌ تندى رقائقُ ذكرِِها

فتكادُ توهمُكَ المديحَ نَسِيبا

فإنه من قول أبي تمام:

طابَ فيه المديحُ والتذَّ حتى

فاق وصفَ الدِّيارِ والتَّشْبيبا

وكذلك قوله:

إن السيوفَ إذا طالَ جوهرُها

في أول الطبعِ لم يعْلَقْ بها الطَّبعُ2

من قول أبي تمام:

والسيفُ ما لم يلفَ فيه صيقلٌ

من سِنْخِهِ لم ينتفع بصِقالِ3

والحق أن الإنسان لا يتابع ابن زيدون في شعره، حتى يحس بأن هذا الشعر يوشك أن يسقط من ديوانه؛ فيرتد إلى أمكنته من شعر العباسيين، ولعل هذا ما جعل صاحب الذخيرة يقول:"وأبو الوليد ابن زيدون على كثير إحسانه كثير الاهتدام في النِّثار والنظام"4. وهو حقًّا كثير الاهتدام لأشعار العباسيين يغير عليها فيسلبها من دواوينها ويسلكها في شعره على هذا النحو الذي رأيناه.

وما أشك في أن صوت ابن زيدون اتَّضح لنا الآن فهو -بالرغم مما يبدو عليه من صفاء وعذوبة- صوت مصنوع؛ إذ هو صدى لصوت العباسيين، وهو صدى لا يطَّرد على نسق واحد؛ لأن الشاعر لا يختار له نسقًا معينًا يعيش فيه، بل هو يعيش في كل نسق يقرؤه: فتارة يعيش في جو البحتري وأخرى في جو أبي تمام أو المتنبي أو أبي العلاء من غير تفريق بين هؤلاء الشعراء ومعرفة أن كلا منهم يمثل مذهبًا خاصًّا له، وهذا هو معنى ما نقوله من أن الشاعر الأندلسي ما يزال في شعره يخلط بين جميع المناهج والمذاهب العباسية.

1 الذخيرة 1/ 326.

2 الطبع: الصدأ.

3 السنخ: الأصل والجنس.

4 الذخيرة 1/ 305.

ص: 443

ابْنُ خَفَاجَة:

هو أبو إسحاق إبراهيم1 بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة، عربي الأصل، ولد سنة 450 للهجرة بجزيرة شُقْر من أعمال بلنسية، وهي جزيرة يحيط بها نهر هناك، فيجعلها جنة من جنان الأندلس، وقد نشأ في بيت علم وأدب، وأقبل على الدرس، وسرعان ما تفتحت مواهبه الشعرية ولمع اسمه واشتهر واتجه بشعره إلى تصوير الطبيعة الجميلة من حوله، ويقول ابن بسام في الذخيرة: إنه لم يتعرض لاستماحة ملوك الطوائف مع تهافتهم على الأدب؛ غير أننا لا نمضي إلى عصر المرابطين "484- 539هـ" حتى نجده يمدح واليهم في الأندلس إبراهيم بن يوسف بن تاشفين ومساعدِيهِ من العمال والقضاة أمثال ابن تيفلويت حاكم شرق الأندلس وأبي العلاء بن زُهْر الطبيب والفقيه المشهور. وذهب إلى حاضرة المرابطين في المغرب؛ فمدح سطانهم علي بن يوسف بن تاشفين ووزراءه وعلى رأسهم صديقه ابن عائشة فكانت تُغْدَق عليه الأموال والهبات من كل جانب، وكان يعود بها إلى بلدته؛ فينفقها في متعه ومسرَّاته. ويقال إنه كف عن صبوته بآخرة، وإنه كان يخرج من جزيرته ويسير بين الوديان والجبال وينادي بأعلى صوته: يا إبراهيم تموت، فيجيبه الصدى ويخرُّ مغشيًّا عليه. وأخيرًا يلبِّي نداء ربه سنة 533 عن اثنين وثمانين عامًا.

وكان الأندلسيون يعجبون به وبشعره حتى ليرفعونه إلى الأفق الأعلى، يقول ابن بسام:"الناظم المطبوع، الذي شهد بتقديمه الجميع، المتصرف بين أشتات البديع". ويقول الفتح في القلائد: "مالكُ أعنةِ المحاسنِ وناهج طريقها، العارف بترصيعها وتنميقها، الناظم لعقودها، الراقم لبرودها". ويقول الحجاري في المسهب:

1 انظر في ترجمته: الذخيرة "النسخة المخطوطة بمكتبة الجامعة" المجلد الثالث، الورقة 87 وما بعدها. والفتح في القلائد ص231. وابن الأبار في التكملة "البقية المطبوعة في الجزائر" ص175. ووفيات الأعيان: لابن خلكان. والمغرب: لابن سعيد 2/ 367. والمطرب من أشعار أهل المغرب: لابن دحية "طبعة وزارة التربية والتعليم" ص111. ومعجم الصدفي ص59. ونفح الطيب: للمقري "طبعة أوربا" 2/ 328.

ص: 444

"هو اليوم شاعر هذه الجزيرة، لا أعرف فيها شرقًا ولا غربًا نظيره"1.

وأكثر ديوانه يدور في المديح، وهو يجري فيه على سنة الشعراء من قبله، وقلما أضاف فيه جديدًا إلا بعض مبالغات مفرطة، ولا نراه يخلطه بمعانٍ إنسانية وحكم وأمثال على طريقة المتنبي، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه لم يمر به طيف من الحزن والتشاؤم، فحياته تمضي هنيئة سعيدة. ونراه يقول في مقدمة ديوانه: إنه كان ينهج في شعره نهج الشريف الرضي ومهيار وعبد المحسن الصُّوري. وقد طبع شعره في التشبيب بطوابع الأوَّلين فأكثر فيه من ذكر الطيف والخيال والظعائن والعيس والأماكن الحجازية والنجدية ونسيم الصبا وأنفاس الخزامى. وربما كان ذكره لعبد المحسن الصوري إشارة إلى تشبهه بشعراء الشام في وصف الطبيعة، وكان يعجب بألوان البديع وهو يقترب في ذلك من ذوق أصحاب التصنيع أمثال أبي تمام.

وأهم موضوع عُني به وصف الطبيعة؛ إذ كان مغرىً بوصف الأنهار والأزهار وما يتعلق بها. ولعل أهم ما يلاحظ على فنه أنه كان يُعْنَى بالتشخيص للطبيعة والتصوير لمباهجها، وهو ليس تصويرًا جديدًا، فمن قبله كان العباسيون أمثال أبي تمام وابن الرومي وابن المعتز وغيرهم يصورون هذه المباهج تصويرًا لا يقل عن تصوير ابن خفاجة. وقد لا نعدو الحق إذا قلنا إن كل ما له في هذا الجانب إنما هو الكثرة، أما فيما عدا ذلك فليس له جديد. وحتى لون التشخيص الذي اتخذه في تصوير الطبيعة استعاره استعارة من أبي تمام وتلامذته. وإن الإنسان ليلاحظ جملة أن ذوق ابن خفاجة كان قريبًا من ذوق المصنعين في المشرق؛ إذ يكثر من ألوان التصنيع، من تشخيص وجناس وطباق وما يندمج في ذلك من صور وأخيلة. وكان يقف عند هذه الألوان الحسية في التصنيع التي سبق أن عرضنا لها عند أبي تمام، أما الألوان العقلية فلم يكن يعنى بها أو بعبارة أدق لم يكن يفهمها. على كل حال انحاز ابن خفاجة إلى جانب الألوان الحسية في التصنيع، وأظهر فيها مهارة واسعة إذ كان يمزج

1 المغرب 2/ 367.

ص: 445

بينها مزجًا طريفًا، وانظر إليه يصف سراه بالليل:

بَعَيشِكَ هَل تَدري أَهوجُ الجَنائِبِ

تَخُبُّ بِرَحلي أَم ظُهورُ النجائِبِ

فَما لُحْتُ في أولى المَشارِقِ كَوكَبًا

فَأَشرَقتُ حَتّى جِئتُ أُخرى المَغارِبِ

وَحيدًا تَهاداني الفَيافي فَأَجتَلي

وَجوهَ المَنايا في قِناعِ الغَياهِبِ

وَلا جارَ إِلّا مِن حُسامٍ مُصَمَّمٍ

وَلا دارَ إِلّا في قُتودِ الرَّكائِبِ

وَلا أُنسَ إِلّا أَن أُضاحِكَ ساعَةً

ثُغورَ الأَماني في وُجوهِ المَطالِبِ

وَلَيلٍ إِذا ما قُلتُ قَد بادَ فَانقَضى

تَكَشَّفَ عَن وَعدٍ مِنَ الظَنِّ كاذِبِ

سَحَبتُ الدَّياجي فيهِ سودَ ذَوائِبٍ

لِأَعتَنِقَ الآمالَ بيضَ تَرائِبِ

فَخَرَّقت جَيبَ اللَّيلِ عَن شَخصِ أَطلَس

تَطَلَّعَ وَضّاحَ المَضاحِكِ قاطِبِ

فإن أبصارنا تغرق في هذه الكثرة من المناظر والصور، وهي كثرة قد تعب ابن خفاجة في توفيرها حتى يحاكي بها أبا تمام وغيره من شعراء الطبيعة في المشرق، وارجع إلى البيت الأخير؛ فإنك تراه يعبر عن غبش الفجر الذي تختلط فيه أشعة النهار بظلام الليل بهذا الشخص المتنافر في الصورة؛ فهو يضحك ويقطب في آن واحد، وهي صورة طريفة.

والواقع أن ابن خفاجة كان يعنى بكثرة الصور في شعره، حتى لتكاد بعض أبياته أن لا تفهم من كثرة ما يودع فيها من أخيلة واستعارات، ولعل ذلك ما جعل ابن خلدون يقول عنه:"كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبي بكر ابن خفاجة شاعر شرقي الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد"1.

وكنَّى ابن خلدون عن ابن خفاجة بأبي بكر وكنيته المشهورة أبو إسحاق، ويظهر أن ذلك سهو منه؛ فلسنا نعرف شاعرًا مشهورًا بشرقي الأندلس يسمى ابن خفاجة غير صاحبنا. فأما ازدحام المعاني فيقصد به -كما قلنا- ازدحام الصورة في شعره. على أنه لم يكن يكتفي بالصور بل كان يضيف إليها الألوان الأخرى من الجناس والطباق، وكان ما يزال يعنى في شعره أن يكون فياضًا

1 المقدمة "طبع بولاق" ص571.

ص: 446

بالشعور، وقد أحال الطبيعة من حوله إلى صور ووجوه ناطقة، واقرأ له هذا الوصف للجبل الذي اعترضه في سراه فتحدث عن لسانه قائلًا:

وَأَرعَنَ طَمّاحِ الذُّؤابَةِ باذِخٍ

يُطاوِلُ أَعنانَ السَماءِ بِغارِبِ1

وَقورٍ عَلى ظَهرِ الفَلاةِ كَأَنّهُ

طِوالَ اللَيالي مُفَكِّرٌ في العَواقِبِ

يَلوثُ عَلَيهِ الغَيمُ سودَ عَمائِمٍ

لَها مِن وَميضِ البَرقِ حُمرُ ذَوائِبِ2

أَصَختُ إِلَيهِ وَهوَ أَخرَسُ صامِتٌ

فَحَدَّثَني لَيلُ السُّرى بِالعَجائِبِ

وَقالَ أَلا كَم كُنتُ مَلجَأَ قاتِلٍ

وَمَوطِنَ أَوّاهٍ تَبَتَّلَ تائِبِ3

وَكَم مَرَّ بي مِن مُدلِجٍ وَمُؤَوِّبٍ

وَقالَ بِظِلّي مِن مَطِيٍّ وَراكِبِ4

فَما كانَ إِلّا أَن طَوَتْهُم يَدُ الرَّدى

وَطارَت بِهِم ريحُ النَّوى وَالنَّوائِبِ

فَما خَفقُ أَيكي غَيرَ رَجفَةِ أَضلُعٍ

وَلا نَوحُ ورقي غَيرَ صَرخَةِ نادِبِ5

وَما غَيَّضَ السُّلوانَ دَمعي وَإِنَّما

نَزَفتُ دُموعي في فِراقِ الصَواحِبِ

فَحَتّى مَتى أَبقى وَيَظعَنُ صاحِبٌ

أُوَدِّعُ مِنهُ راحِلًا غَيرَ آيِبِ

ومن يقرأ هذه القطعة يعجب بابن خفاجة ومقدرته على تشخيص عناصر الطبيعة؛ ولكن لا تظن أنه أول من ألم بالجبل على هذا النحو، فحدَّثه ذلك الحديث، فإن من يرجع إلى ترجمة مجنون ليلى في الأغاني يجد فيها الأصل الذي بنى عليه ابن خفاجة مقطوعته، فقد حدثوا أن المجنون مر بجبل التوباد، فأجهش بالبكاء، وراح يقول6:

وَأَجهَشتُ لِلتُّوبادِ حينَ رَأَيتُهُ

وكبَّر لِلرَّحمَنِ حينَ رَآني

وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ

وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني

فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتُهُم

حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زَمانِ

1 الأرعن: الجبل الشامخ، والغارب: الكاهل.

2 يلوث: يلف، والذوائب هنا: أعالي العمامة.

3 الأواه: العابد.

4 المدلج: السائر في الليل ومثله المؤوب. وقَالَ: استراح وقت القيلولة.

5 الأيك: الشجر المتكاثف، والورق: جمع ورقاء وهي الحمامة.

6 أغاني "طبعة دار الكتب" 2/ 53.

ص: 447

فَقالَ مَضَوا وَاِستودَعوني بِلادَهُم

وَمَن ذا الَّذي يَبقى مَعَ الحَدَثانِ

وَإِنّي لَأَبكي اليَومَ مِن حَذَري غَدًا

فِراقَكِ وَالحَيّانِ مُجتمعانِ

ومن غير شك استمد ابن خفاجة من هذه المقطوعة منظومته في الجبل، مضيفًا إليها من خياله ما يكمل به الصورة من تفاصيل ودقائق جديدة؛ فقد أعطانا أولًا هيئة الجبل، وصوَّره لنا وقورًا لاث عمامته وهو يطوي الليالي مفكرًا في العواقب، ثم أخذ يفصل الحديث عمن يمرون به من مجرمين وتقاة صالحين.

وصوَّره حزينًا لفراق أصحابه ملتاعًا لوحدته من دونهم. ولعل في هذا كله ما يصور لنا جهد ابن خفاجة في إعادة الصور القديمة، وكثيرًا ما نقع عنده على صور بديعية كقوله:

لقد خلعت ليلًا علينا يدُ الهوى

رداءَ عناقٍ مزَّقتهُ يدُ الفجرِ

وقوله في غرة فرس أشقر:

يطلعُ للغرَّةِ في شقرةٍ

حبابةً تضحكُ في كأسِ

فهو يستمد من القديم حقًّا، ولكننا من حين إلى حين نقع عنده على أخيلة طريفة. وكان ذوقه أقرب ما يكون إلى ذوق المصنعين وما أشاعه أبو تمام من تشخيص عناصر الطبيعة، ومع ذلك كان يتصنع في أطراف كثيرة من شعره، ولعل خير ما يصور ذلك عنده ما شغف به من نقل أوصاف الطبيعة إلى موضوعات شعره الأخرى، فكما كان المتنبي ينقل أوصاف الغزل إلى الحرب كان ابن خفاجة ينقل أوصاف الطبيعة إلى الأبواب المختلفة كأن يصف ثناء ممدوحه بأنه رطب إذ يقول:

تشيمُ بصفْحَتَيهِ بروق بِشْرٍ

تعيد بشاشةَ الرَّوضِ الجديدِ

وهو يتصنع لذلك في الرثاء كأن يقول:

في كل نادٍ منك روضُ ثناءٍ

وبكلِّ خَدٍّ فيك جدولُ ماءِ

وَلِكُلِّ شَخصٍ هِزَّةُ الغُصنِ النَّدي

غِبَّ البُكاءِ وَرَنَّةُ الْمُكَاءِ

أرأيت إلى هذا التصنع؟ لقد جعل ابن خفاجة الدموع السائلة على الخدود

ص: 448

كأنها جداول ماء، كما شبه اضطراب الباكين وانسكاب دموعهم بهزة الغصن الذي غمرته أمطار السماء. ولم يكتف بذلك؛ بل راح يشبه أنينهم بصوت قُبَّرة تصفر وتصيح. وانظر كيف تصنع وكيف بالغ في تصنعه، حتى اجتمعت له هذه الصور والخيالات، التي تتجمع حقًّا في الطبيعة؛ ولكن لا يمكن للحس الطبيعي أن يجمعها في رثاء. وعلى هذا النمط كان ابن خفاجة يجمع بين التصنيع والتصنع في شعره، وإننا لنحس إزاءه ما أحسسناه عند سابقيه: ابن برد وابن زيدون من ضرب خواطره وأفكاره وصوره على النماذج المشرقية، ولاحظ ذلك ابن بسام في الذخيرة، فقرنه إلى الشعراء العباسيين، واستخرج طرفًا من أبياته وأشعاره التي نقلها عنهم نقلًا كقوله:

يا بدرَ تِمٍّ زارَني

منه الهلال وقد تلثَّمْ

فقد أخذه لفظًا ومعنى من قول الشريف الرضي:

تلثَّم مرتابًا بفضلِ ردائِهِ

فقلت هلالٌ بعد بدرِ تمامِ

ومن ذلك أيضًا قوله:

كأنني بعدكم شمالٌ

قد فارقتْ منكم يمينَا

وقد أخذه بلفظه ومعناه من قول ابن المعتز:

وإني وإيَّاك مثل اليدينِ

ولكن لك الفضلُ أنت اليمينُ

ونحن لا نريد أن نطيل بمثل هذه الأمثلة؛ إنما نريد أن نكثر من ذكر الأدلة على صحة ما نقوله من أن شعراء الأندلس لم يحاولوا الثورة على الأوضاع والأنماط العباسية فقد انساقوا يقلدون العباسيين ويحاكونهم، ولم يفكر أحد منهم في الخروج على هذا التقليد وتلك المحاكاة.

ونحن نتساءل هل رأينا حتى الآن شيئًا جديدًا في الأندلس؛ إن الشعراء الأندلسيين لم يستطيعوا أن يحدثوا في عصر ملوك الطوائف وما تلاه من عصور إلى سقوط غرناطة اتجاهًا جديدًا في الشعر العربي يمكن أن نسميه مذهبًا، وهل عندهم إلا التقليد والاطراد مع الأفكار والصور السابقة، وكأني بالحياة العربية

ص: 449