الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي
…
8-
جوانبُ أخرى من صناعةِ ابنِ الروميّ:
كان ابن الرومي من أصحاب مذهب الصنعة؛ ولكن عقله كان أميل إلى التجديد فاستحدث هذا الضرب السابق من الهجاء، كما اتخذ لنفسه التعبير بالتشخيص
والتجسيم. ولم يقف عند ذلك فنحن نجده يعنى بجوانب أخرى في صناعته، ولعل من أهم هذه الجوانب ما يلاحظ عليه من استخدام لوني الطباق والجناس، وهو يشبه البحتري في هذا الجانب؛ إلا أن البحتري كان يكثر من الطباق؛ بينما كان ابن الرومي يكثر من الجناس، وارجعْ إلى أبياته السابقة التي جسم فيها هنوات القاسم بن عبيد الله فإنك تجده يقول فيها:
قلت لما بدت لعينيَّ شُنعًا
…
ربَّ شوهاءَ في حشا حسناءِ
قلن لولا انكشافُنا ما تجلَّت
…
عنك ظلماءُ شبهةٍ قتماء
قلت أعجب بكن من كاسفاتٍ
…
كاشفاتٍ غواشيَ الظلماءِ
فهو يطابق بين كلمتي شوهاء وحسناء، وهو يجانس بين كلمتي كاسفات وكاشفات؛ إلا أنه يلاحظ أن ابن الرومي لم يكن يكثر من هذين اللونين؛ فهو ليس من أصحاب التصنيع إنما هي أشياء تسقط في بعض شعره، وقد لا تسقط؛ إذ هي لا تأتي عنده كمذهب، إنما تأتي كما تأتي عند البحتري على أنها أدوات مستحدثة لا بأس من استخدامها، ولكن الشاعر لا يتقيد بها، بل هو يستخدمها في الحين بعد الحين، وقد يكثر من استخدامها في بعض نماذجه، وقد يعود إلى نفسه فلا يستخدمها في النماذج الأخرى.
على أن ابن الرومي كان يهتم بجانب آخر في صناعته، وهو جانب القافية؛ فقد كان يطلب شواذها ولا يترك حرفًا شاردًا من حروفها؛ إلا ويؤلف عليه قصيدة أو قصائد مختلفة، وليس ذلك كل ما يلفتنا في صناعة قوافيه؛ إنما تلفتنا جوانب أخرى أشار إليها القدماء، يقول ابن رشيق:"كان ابن الرومي يلتزم حركة ما قبل الروي في المطلق والمقيد في أكثر شعره اقتدارًا"1، فمن ذلك في الروي المطلق:
لم يسترحْ من له عينٌ مؤرقةٌ
…
وكيف يعرف طعمَ الرَّاحةِ الأرِِقُ
فقد مضى في هذه المقطوعة يلتزم كسرة قبل الروي وهو هنا مطلق،
1 العمدة: لابن رشيق 1/ 102
ويماثله في المقيَّد قصيدته:
أبَينَ ضلوعي جمرةٌ تتوقَّد
…
على ما مضى أم حسرةٌ تتجددُ
فقد التزم الفتحة قبل الرَّوي. وعلى هذا النمط نجد ابن الرومي يصعِّب على نفسه في قوافيه وحركاتها؛ بل إنه يصعِّب على نفسه في حروفها أيضًا، يقول ابن رشيق:"وكان ابن الرومي خاصة من بين الشعراء يلتزم ما لا يلزم في القافية حتى إنه لا يعاقب بين الواو والياء في أكثر شعره قدرة على الشعر واتساعًا فيه"1؛ فمن ذلك مطولته:
شابَ رأسي ولاتَ حين مشيبِ
…
وعجيبُ الزمانِ غيرِ عجيبِ
فقد التزم فيها الياء قبل الرَّوِيِّ كما التزم الواو في مقطوعته السابقة:
وجهُك يا عمرو فيه طولُ
…
وفي وجوهِ الكلابِ طولُ
ويقول صاحب سرِّ الفصاحة: "إنه قد يلتزم الحرف وحركته قبل الروى، وذلك كثير في شعره"2، ونحن نجد في ديوانه مطولة يبدؤها على هذا النمط:
صبرًا على أشياءَ كلِّفتُها
…
أعقبتها الدَّنَّ وسُلِّفتُهَا
وقد مضى يلتزم فيها الفاء قبل الروى، وكأنه كان يرى أن الروي في هذه المطولة هو الفاء لا الهاء ولا التاء. وأكبر الظن أن هذا الجانب عند ابن الرومي لم يكن يأتي به ليدل على مقدرة فنية؛ وإنما كان يأتي به مزاجه الحاد، كأنه كان يرى لشدة حسِّهِ أن الفاء هي الروي فالتاء والهاء ضميران. وهو كذلك يرى أن المعاقبة بين الواو والياء تُخرج الشعر عن قوافيه أيضًا فهو يستريح أكثر لالتزام الحركة السابقة للروي، ومن أجل ذلك كله كان يُصَعِّب على نفسه في قوافيه، وهو تصعيب يأتي من مزاجه الحاد وإحساسه المرهف.
ومهما يكن فإن ابن الرومي لم يستطع أن ينتقل بصناعته من دائرة الصانعين
1 العمدة 1/ 106.
2 سر الفصاحة "طبعة الخانجي" ص172.
إلى دائرة المصنِّعين؛ لأنه كان يفهم الشعر بصورة أقرب من الصورة التي علقت بأذهان أصحاب التصنيع؛ فلم يكن يعتقد مثلهم بأن الشعر جهود عنيفة يبذلها الشعراء في استحداث تلك الزخارف الدقيقة التي شغف بها أبو تمام وأمثاله. ليس الشعر زخرفًا وتصنيعًا؛ بل هو تعبير، ومن الممكن أن يضاف إلى هذا التعبير شيء من الحلي والوشي المرصَّع، ولكن في خفة، وبدون أن يتعمد ذلك الشاعر تعمدًا يخرج به عن غرضه الأساسي من التعبير عن خواطره إلى التعبير عن ألوان التصنيع الأنيقة. ومن هنا كانت جماعة الصانعين تستعير أدوات التصنيع في بعض الأحيان، ولكن دون أن تستمرَّ في ذلك، ودون أن تتخذها مذهبًا في صناعتها، قد تطبقها ولكنها لا تستمر في التطبيق. وربما أخفقت في هذا التطبيق، كما أخفق البحتري في كثير من طباقه، وكما أخفق ابن الرومي أحيانًا في استخدامه للفلسفة كزخرف جميل؛ فقد رأيناه يقف في هذا الجانب عند استعارة الصياغة المنطقية؛ بينما رأينا أبا تمام يستخدم الفلسفة فيعقد بها في طباقه، ويستخرج هذا اللون الجديد من نوافر الأضداد الذي سبق أن وصفناه.
ونحن نلاحظ من طرف آخر أن طائفة الصانعين كانت تختلف فيما تستعيره من أدوات المصنعين ووسائلهم؛ فقد كان البحتري يستعير أدوات الطباق والجناس؛ بينما كان ابن الرومي يوسع هذه الاستعارة إلى أدوات من الثقافة والمنطق والتشخيص والتجسيم. ونفس الأدوات التي اتفقا في استعارتها اختلفا في استخدامها؛ فقد كان البحتري يعجب بالطباق أكثر مما يعجب بالجناس؛ بينما كان ابن الرومي يعجب بالجناس أكثر مما يعجب بالطباق. ونفس الجناس اختلفا في استخدامه؛ فبينما كان البحتري يستخدم الجناس الكامل كان ابن الرومي يكثر من استخدام جناس الاشتقاق. وليس هذا كل ما بينهما من خلاف؛ فقد اختلفا في صنعة الأسلوب نفسه؛ إذ كان البحتري يعنى بصفاء تعبيره حتى يحدث فيه صناعته الصوتية الخاصة.
وكل ذلك دليل على أن جماعة الصانعين في القرن الثالث كانت تستعير من جماعة المصنعين بعض أدوات التصنيع غير أنها لم تكن تطبقها في نماذجها
جميعًا؛ إذ كانت تستخدمها من حين إلى حين؛ ولكن دون أن تفهم أن الشعر زخرف خالص ووشي وتنميق. لم تكن جماعة الصانعين تشقُّ على نفسها في فَهم صناعة الشعر بل كانت تفهمها فهمًا بسيطًا، أو على الأقل لم تكن تفهمها فهمًا معقدًا تعقيدًا شديدًا كما هو الشأن عند جماعة المصنعين، وهي لذلك لا تعقِّد في زخرفها ولا تحاول أن تستخرج من الثقافة والفلسفة زخرفًا جديدًا على نحو ما سنرى عند أبي تمام؛ إنما هي تقف عند الزخرف القديم زخرف مسلم، ومع ذلك فهي لا تستخدمه استخدامًا واسعًا؛ إنما هو استخدام يأتي من حين إلى حين. وليس من شك في أن هذا الاستخدام يدل دلالة واضحة على أن موجة التصنيع في هذا القرن كانت عنيفة، وسنتعقبها في الفصل التالي ونرى ما أصابها من حِدَّة.