الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع ذلك لم يخرج عن الفصحى، وظلت عنايته بالمعاني تحول بين شعره وبين السقوط. والذي لا شك فيه أنه بسَّط لغة الشعر لا في مجال اللهو والغزل والخمر كما صنع بشار أحيانًا وأبو نواس غالبًا؛ بل أيضًا في مجال الزهد والمديح، فحتى المديح لم يقف عائقًا في سبيل هذا الأسلوب المبسط السهل، إذا انفك عن كثير من تقاليده القديمة من حيث مقدماته في وصف الصحراء والرحلة على النوق، وكذلك من حيث لغته الضخمة الجزلة وما كان يشوبها من الغريب عند بشار وأضرابه. وأدته هذه السهولة وما يدمج فيها من تبسيط إلى اختيار الأوزان الخفيفة والمجزوءة يصوغ منها شعره؛ بل لقد اندفع يجدد في الأوزان على نحو ما مر بنا في الفصل السابق مُظْهِرًا براعة فائقة.
8-
ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ:
كان ذوق التصنيع أو الزخرف والزينة يعم في كثير من جوانب الحياة العباسية؛ فقد كانت قصور الخلفاء والأمراء وكثير من القواد والوزراء والأشراف تكتظ بالستور والبُسط المعلَّقة على الحوائط والنوافذ متنافسة بألوانها الزاهية وما عليها من التصاوير المذهبة، وكانت الحيطان والسقوف والأبواب تُذَهَّبُ وتفضض، كما كانت الغرف والأبهاء تزدان بالأثاث النفيس والفرش الأنيقة. ويصف أحمد بن حرب المعروف بأبي هفان مجلسًا للأمين؛ فيقول: إنه دعا الشعراء، فدخلوا إليه في إيوان "بَهْو" فائح فاسح يسافر فيه البصر، جعل كالبيضة بياضًا، ثم ذُهِّب بالإبريز المخالف بينه باللازورد ذي أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيها مسامير الذهب، قد قمعت رءوسها بالجوهر النفيس، وقد فرش بفُرش كأنها صبغ الدم، منقَّش بتصاوير الذهب وتماثيل العِقْيَان، ونضِّد فيه العنبر والكافور وعجين المسك، والتزايين"1 ويصف آخر دارًا للواثق فيقول:
1طبقات الشعراء ص209.
"إنها كانت مُلْبَسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، وإنه رآه يجلس على سرير مرصع بالجواهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه فريدة تغنيه وعليها مثل ثيابه"1.
وكانت دور كثير من الوزراء لا تقل عن دور الخلفاء أناقة مثل دور البرامكة وبني سهل، وكذلك كانت دور الأمراء والأشراف والموظفين الكبار؛ ممن كانت تغدق عليهم الدولة. وعلي نحو ما تأنقوا في قصورهم وفُرشهم تأنقوا في أطعمتهم؛ فاحتفلوا بموائدهم، ويعرض علينا الجاحظ في كتابه البخلاء أطرافًا من مآكلهم ومشاربهم، كما يعرض علينا ذلك أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني، وقد عرفوا آنية الصيني المنقوشة، ومر بنا وصف أبي نواس لكأس مذهبة، نقش عليها منظر صيد لكسرى وفوارسه. ولم يكن تأنقهم في ثيابهم أقل من تأنقهم في طعامهم وشرابهم، وكان لكل طائفة زيّ. فللقضاة زيّ ولأصحابهم زيّ وللشُّرط زي وللكتَّاب زيّ2. وبالغ النساء في أزيائهن وفي زينتهن وخاصة الجواري من فارسيات وروميات؛ فكن يصبغن شفاههن وخدودهن، ويُسْدِلن شعورهن على وجوههن بصور مختلفة، تثير الإغراء والفتنة.
ولم يكن الشعراء يعيشون بعيدًا عن هذا الجو من التصنيع والزخرف والزينة؛ فقد كانوا ينادمون الخلفاء والوزراء وكبار رجال الدولة ويختلطون بالجواري والإماء، وانصبَّ في حجورهم كثير من الأموال التي جعلتهم يعيشون في ترف ونعيم بالغ، بل يحققون كل ما يريدون من تصنيع وتنميق في حياتهم. وفي أخبارهم ما يدل على الأموال الطائلة التي كانوا يحصلون عليها، يقول ابن رشيق: "وأما المجددون في التكسب بالشعر والحظوة عند الملوك؛ فمنهم: سلم الخاسر، مات عن مائة ألف دينار ولم يترك وارثًا، وقال فيه أبو العتاهية:
تعال له يا سلم بن عمرو
…
أذلَّ الحِرْصُ أعناقَ الرِّجالِ
وكان صديقه جدًّا؛ فقال سلم: ويلي جمع القناطير من الذهب ونسبني إلى ما ترون من الحرص. ومروان بن أبي حفصة أعطى مائة ألف دينار غير
1 أغاني "طبعة دار الكتب" 4/ 116.
2 البيان والتَّبَيُّن3/ 114.
مرة. وكان أبو نواس محظوظًا لا يدري ما وصل إليه؛ لكنه كان متلافًا سمحًا، وكان يتساجل في الإنفاق هو وعباس بن الأحنف وصريع الغواني "مسلم بن الوليد"، وكان البحتري مليئًا قد فاض كسبه، وكان يركب في موكب من عبيده"1
وعلى هذه الشاكلة توفرت الأموال لدى الشعراء، وعاشوا في عالم مترف زاخر بالحلى والزينة، يقول الجاحظ:"وكانت الشعراء تلبس الوَشْي والمقطَّعات والأَرْدية السود وكل ثوب مشهَّر"، ويقول: إنهم كانوا يتندرون على من يتزيَّا بزي الماضين2، ويقول صاحب الأغاني عن سلم الخاسر: كان يأتي باب المهدي على البرذون "الفرس المطهم" قيمته عشرة آلاف درهم، والسرج واللجام المقذوذين "المزينين" ولباسه الخزُّ والوشي وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان ورائحة المسك والطيب والغالية تفوح منه"3. وكان غير سلم يصنع تصنيعه في حياته وثيابه وطيبه.
وأخذ هذا التصنيع والتنميق يتسرب من حياة الشعراء العامة إلى حياتهم الفنية الخاصة، وهي حال طبيعية توجد دائمًا في الصنائع حين يعمُّ الترف؛ فإذا هي تتحول إلى زخارف دقيقة. وليس الشعر وحده الذي أخذ يسود فيه هذا التصنيع فقد كان يشيع في فن العمارة وبناء المساجد والقصور، كما كان يشيع في التصوير الذي كان يستخدم زينة وزخرفًا للكتب والقصص؛ فلا عجب أن ينتقل إلى الشعر والشعراء، وأن ينمو مع الزمن حتى تصبح القصيدة كأنها واجهة لمسجد مزخرف بديع، قد تألَّق في وشي مرصَّع كثير.
ولعل أقدم النصوص التي تشير إلى نشأة مذهب التصنيع وأول من اعتنقوه ما نجده عند الجاحظ إذا يقول: "ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمرو العتَّابي وكنيته أبو عمرو، وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل
1 العمدة، لابن رشيق "طبعة أمين هندية" 2/ 150.
2 البيان والتَّبَيُّن 3/ 115.
3 أغاني "طبعة ساسي" 21/ 78.
ذلك من شعراء الْمُوَلَّدين كنحو منصور النَّمري ومسلم بن الوليد الأنصاري وأشباههما، وكان العتَّابي يحتذي حذو بشار في البديع، ولم يكن في المولدين أصوب بديعًا من بشار وابن هَرْمة"1.
وتختلط في هذا النص أسماء عربية هي العتابي والنمري وابن هرمة بأسماء فارسية هي بشار ومسلم بن الوليد، ما يجعلنا نتردد في قبول الرأي القائل بأن البديع، أو كما اقترحنا له اسم "التصنيع" نشأ في الأدب العربي من طريق الفرس الذين يعرفون بميلهم إلى التعبير باللون2. كل ما يمكن أن يقال: إنهم أعانوا في هذا المذهب؛ ولكنهم لم يخترعوه ولم يبتكروه من تلقاء أنفسهم؛ إنما هو مذهب عباسي تعاونت فيه طوائف الشعراء من العرب مع طوائف الشعراء من الفرس.
على أن العباسيين كانوا يردونه إلى أصول عربية خالصة؛ فالجاحظ يقرر في بيانه أن "البديع أمر خاص بالعرب مقصور عليهم، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة وأربت على كل لسان"3 ويقول ابن المعتز في مقدمة كتابه البديع: "قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارًا ومسلمًا وأبا نواس من تقيَّلهم "أشبههم" وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن؛ ولكنه كثر في أشعارهم، فعرف في زمانهم حتى سُمِّي بهذا الاسم فأعرب عنه ودلَّ عليه. ثم إن حبيب بن أوس الطائي -أبا تمام- من بعدهم شُغِفَ به حتى غلب عليه وفرَّع فيه وأكثر منه؛ وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيتَ والبيتين في القصيدة، وربما قُرئت من شعر أحدهم قصائدُ من غير أن يوجد فيها بيت بديع، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرًا ويزداد حظوة بين الكلام المرسل، وقد كان بعض العلماء يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال، ويقول: "لو أن صالِحًا نثر أمثاله في شعره وجعل بينها فصولًا من كلام لسبق أهل زمانه وغلب
1 البيان والتَّبَيُّن 1/ 51.
2 النثر الفني، لزكي مبارك 1/ 44.
3 البيان والتَّبَيُّن 4/ 55.
على مد ميدانه. وهذا أعدل كلام سمعته في هذا المعنى"1. ويمضي ابن المعتز في كتابه؛ فيستشهد لكل لون من ألوان البديع بأمثلة؛ مما جاء عن العرب قبل العصر العباسي وظهوره، ومما جاء في الذكر الحكيم وأحاديث النبي الكريم.
فالبديع لم ينشأ لأول مرة في العصر العباسي؛ بل له مقدمات واضحة في الأدب العربي، وقد رأينا أن نسمِّي هذا المذهب الذي كمل نضجه عند العباسيين باسم التصنيع؛ لأن كلمة البديع معناها الطريف ولا تعطي معنى الزخرف والزينة بخلاف كلمة التصنيع التي تدل بمعناها على التأنق والتنميق. وسنرى عندما نتعمق في بحث هذا المذهب أنه لم يقف عند الألوان التي اصطلح عليها أصحاب البديع؛ بل تعدَّاها إلى ألوان أخرى استمدها من الثقافة والفكر العباسي العميق وما وعى من الفلسفة.
ونعود إلى مناقشة الجاحظ وابن المعتز في نشأة المذهب، أما الجاحظ فاتسع به وسلك فيه ابن هرمة وبشار والنمري والعتَّابي. وقال في بعض كلامه إن الرعي -معاصر الفرزدق- كثير البديع في شعره2؛ فهو ليس مذهبًا عباسيًّا إنما هو مذهب قديم. وأكبر الظن أن مرجع ذلك عنده أنه كان يعني بكلم البديع التشبيهات والاستعارات الطريفة.
وكان ابن المعتز أكثر دقة منه حين لاحظ أن البديع بمعناه الاصطلاحي المحدث؛ إنما كثر عند بشار ومسلم وأبي نواس، وهو يعود فيذكر أن أبا تمام أول من جعله وكده من صناعة الشعر وعمله. فالأولون لهم الكثرة من ألوان هذا المذهب التي كانت تأتي في ندرة عند القدماء، وأول من جعله مذهبًا أبو تمام.
وإذ أخذنا نستعرض آراء النقاد السابقين وجدناهم يلاحظون أن بشارًا زعيمُ المحدثين، يقول صاحب الأغاني عنه: "ومحله في الشعر وتقدمه طبقات المحدثين
1 انظر كتاب البديع" نشر كراتشقوفسكي"ص1.
2 البيان والتَّبَيُّن4/ 56
فيه بإجماع الرواة ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك"1، ويسميه الحصري قائد المحدثين2، ويقول ابن خَلَّاد الشاعر في شطر بيت له:
والآخرون يقودهم بشار"3، وأوضحنا في غير هذا الموضع قيادة بشار ورياسته للمحدثين، ورجعناها إلى تجديدات واسعة في موضوعات الشعر مع موازنة دقيقة بين هذه التجديدات والعناصر التقليدية الموروثة، وكان أول من ثَبَّت أسلوب المولدين العباسيين الذي يعتمد على استنباط المعاني الدقيقة، مستمدًّا من الثقافة الحديثة، كما يعتمد على تبسيط الأسلوب ومرونته وسهولته، وخاصة في شعر اللهو والغزل.
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن بشارًا لم يفرغ للتصنيع في فنه والتنميق في شعره، وإن كنا نلاحظ عنده خيوطًا منه بحكم ذوقه العباسي الذي كان يعنى بالتأنق. ومعنى هذا أن من يريدون أن يجدوا عنده أمثلة للجناس والطباق وما إليهما من ألوان البديع لا يعدمون ذلك بل يلقونه كثيرًا؛ غير أنه لم يكن يرى أن يكون الشعر حُلى بديعية، ومن أجل ذلك سلكناه في جماعة الصانعين الذين لا يبعدون في التكلُّف للبديع وزخارفه. وكان كثيرًا ما يترك نفسه على سجيتها، ولذلك لاحظ القدماء أن له شعرًا غثًّا4 وأنه يأتي بالهجين المتفاوت5، وأنه كثير التخليط في شعره، وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضًا6. وإن كنا لا نغلو غلوهم؛ إذ لا شك أنه أكبر شاعر نلقاه في مفتتح هذا العصر، وقد جدد كثيرًا في فنون الشعر ومعانيه وأساليبه.
ومَثَلُ أبي نواس مِثْلُ بشار نجد عنده ضروبًا مختلفة من التجديد، وقد استطاع أن يصل بفن الخمرية إلى الذُّروة، ومرَّن كثيرًا في أسلوب المولَّدين الجديد وخاصة في باب الغزل والخمر والمجون، وجاء بكثير من المعاني والصور الطريفة، وعنى بزخرف البديع في بعض شعره، ولكنه لم يتخذه مذهبًا يطبقه.
1 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 125.
2 زهر الآداب على هامش العقد 2/ 21.
3 اليتيمة للثعالبي "طبعة بيروت" 3/ 388.
4 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 179.
5 أغاني 3/ 162.
6 أغاني 3/ 155.
على أبياته بيتًا بيتًا؛ إذ كان كثيرًا ما ينظم الشعر عفو الخاطر؛ ولذلك تفاوت شعره قوة وضعفًا ونفاسة وغثاثة، وهو بذلك كله كصاحبه بشار من ذوق الصانعين الذين لا يجهدون أنفسهم في صنع الشعر وتحقيق كل ما يمكن من زخارف البديع.
ونحن بذلك نتفق مع ابن المعتز في أن أبا نواس وبشارًا جميعًا لم يتخذا التصنيع والبديع مذهبًا، ونطلق هذا الحكم معه على شعراء القرن الثاني من أمثال النميري والعتابي؛ فالبديع أو التصنيع عندهم جميعًا لم يكن مذهبًا يعيشون فيه؛ غير أننا نستثني مسلم بن الوليد، مخالفين في ذلك ابن المعتز حين نظمه مع بشار وأبي نواس؛ فهو أول من عاش لهذا المذهب ينمِّيه، وتناوله منه أبو تمام فبلغ به الغاية، ولسنا أول من يقول ذلك فقد سبقنا كثير من النقاد القدماء إليه، يقول ابن قتيبة:"هو أول من ألطف في المعاني ورقق في القول وعليه يعوِّل الطائي في ذلك"1، ويقول أبو الفرج الأصبهاني:"وهو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع، وهو لقَّب هذا الجنس البديع واللطيف، وتبعه فيه جماعة، أشهرهم فيه أبو تمام الطائي"، وينقل عن القاسم بن مهرويه قوله: أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد جاء بهذا الذي سمَّاه الناس بالبديع2، ويقول ابن رشيق:"هو أول من تكلف البديع من المولدين وأخذ نفسه بالصنعة -البديع- وأكثر منها، ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل صريع الغواني إلا النُّبَذ اليسيرة"3.
ويردِّد صاحب معاهد التنصيص ما قاله أبو الفرج فيقول: "هو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع، وهو لقَّب هذا الجنس بالبديع واللطيف، وتبعه فيه جماعة، أشهرهم أبو تمام الطائي"4.
فمسلم هو صاحب هذا المذهب الجديد من التصنيع وهو الذي اقترح له اسمه البديع؛ على أن اعتناقه له لا يعني أنه قضى على المذهب القديم مذهب
1 الشعر والشعراء ص528.
2 انظر: ترجمة مسلم بن الوليد في الأغاني الملحقة بديوانه، نشر سامي الدهان "طبع دار المعارف" ص364 وما بعدها.
3 العمدة 1/ 85.
4 معاهدة التنصيص 1/ 20.
الصنعة؛ فقد مضى الشعراء في القرن الثالث يقفون في صفين متقابلين، منهم من يفهم الشعر على أنه تصنيع وزخرف وتنميق مثل أبي تمام وابن المعتز، ومنهم من لا يبعد في فهمه كل هذا البعد، مثل البحتري وابن الرومي، وإن كنا نلاحظ عندهما وعند أمثالهما من أصحاب مذهب الصنعة في القرن الثالث أنهم كانوا يستخدمون زخارف التصنيع في صورة أقوى وأوضح منها عند أسلافهم في القرن الثاني، ومِن ثَمَّ أخذ مذهبهم في التعقد. ولعل في ذلك ما جعلنا نؤمن بأن إيجاد الحواجز والفوارق المطلقة بين المذاهب الفنية أمر عسير؛ إذ ما تزال تتداخل وتتشابك على هيئات مختلفة، وهذا شيء طبيعي فإن الشعراء حينئذ كانوا يلتقون كثيرًا في مجالس الخلفاء والوزراء والنوادي الأدبية العامة، وكانوا دائمًا يعلقون على ما يسمعون من شعر باستحساناتهم، وبذلك تبادلوا التأثر بعضهم ببعض، ونسوق لذلك مثلًا: نادي القراطيسي الذي مرت الإشارة إليه وكان مألفًا للشعراء؛ فكان أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم وطبقتهم يقصدون منزله، ويجتمعون عنده ويقصفون ويدعو لهم القيان وغيرهن من الغلمان"1 ولا تخلو ترجمة شاعر عباسي في الأغاني من وصف هذه الاجتماعات وما كان يحدث فيها بين الشعراء ومن مطارحات ونوادر أدبية، وكل منهم يسأل صاحبه عن أجود شعره.
وعلى شاكلة اجتماع مسلم بأبي نواس وأبي العتاهية ظل أصحاب التصنيع والصنعة يجتمعون في بغداد، وهيأ هذا الاجتماع لشيء من التداخل بين المذهبين العامين في حرفة الشعر حينئذ، وأصبحنا نجد عند الصانعين محسنات المصنِّعين وزخارفهم؛ ولكنهم لا يستخدمونها مذهبًا، بل تسقط في نماذجهم وقصائدهم من حين إلى حين. وهذا هو فرق ما بين العملين والمذهبين، يوجد اختلاط؛ ولكن لا يوجد اتحاد، ويوجد عند الصانعين حليات التصنيع من حين إلى حين ولكن لا يوجد استمرار التطبيق.
1 أغاني "طبعة الساسي" 20/ 88.