الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصياغة الأمم الحديثة، ولكن أن يهجو الشعراء أحاسيس أمتهم وطرقها في التعبير عن الفكر والشعور إلى أحاسيس وطرق جديدة فإن مثل هذه الحركة لا تؤدي إلى منهج واضح من التجديد. وأي تجديد؟ أليست تنبذ تقليد القديم إلى تقليد آخر سقيم؟ ولسنا نشك في أن التقليد في داخل القديم أكثر اتصالا بالأمة من هذا التقليد الجديد للأجنبي الخالص. وأكبر الظن أن ذلك ما جعل الشعراء المحافظين أكثر قبولا عند الناس والنقاد من هؤلاء الشعراء الذين نبذوا الصور القديمة للشعر العربي، وكأنما خيل إليهم أن التعبير الفني كالأزياء، فإذا كان من الممكن أن نخلع زينا، فكذلك يكون من الممكن أن نخلع الزي القديم في الفن إلى زي غربي حديث، لا نعتدُّ فيه بالأوزان القديمة، ولا بنظم القوافي، ولا بطريقة القوم في التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم، إنما نعتد بشيء واحد هو التقليد للشعر الغربي تقليدًا ننسى فيه شخصياتنا القديمة. ولسنا نرتاب في أن هذه الحركة كانت تطرفًا في التجديد، ولذلك لم تحدث الانقلاب المنشود.
ونحن لا ننكر أننا نجد أحيانًا عند بعض الشعراء المجددين قصائد بل دواوين رائعة استطاعوا أن يوازنوا فيها بين الصياغة العربية والأفكار والصور الغربية، ولكن ذلك قليل وفي الندرة. ولعل من الحق أن نذكر هنا أن الشعر العربي الحديث يغلي باتجاهات جديدة كثيرة فيه، إلا أنها لم تنظم حتى الآن تنظيمًا دقيقًا، ولا نزال نجد فيها التذبذب الذي يكون عادة رائدًا للثبوت والاستقرار.
3-
الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ:
ونحن نؤمن بأن هذه الحال من التذبذب في الشعر العربي الحديث ترجع إلى أن كثرة الشعراء لا يعتنقون عملهم مذهبًا وعقيدة، وهم ينقلون عن الغرب دون أن يستوعبوا، وهم كذلك لا يحققون لأنفسهم ثقافة واضحة بالصياغة العربية
الأصيلة، ولسنا نشك في أن إصلاح هذه الحال ينبغي أن يمتد على أصلين مهمين: أما الأصل الأول فهو أن يدرس شعراؤنا تلك المذاهب الفنية القديمة التي وصفناها دراسة دقيقة، يقفون بها على صورتها الحقيقية، حتى يعرفوا كيف يبنون على هذا الأساس الفني العتيد، وحتى يقوم بينهم وبين أسلافهم ضرب من التفاعل الفني تنتج عنه الأصالة التي يريدونها لأنفسهم وفنهم. وأما الأصل الثاني فهو الاستمرار في التأثر بالفن الغربي والثقافة الغربية، والتعمق في ذلك تعمقًا أوسع مما نرى الآن، ولكن على أن يكون ذلك في حدود التزاوج بين المنبعين من التفكير الفني عند العرب، وهذا التفكير عند الغرب، لا في هذا الخلط السقيم الذي نجده في كثير من النماذج. وإذا كان العباسيون لم يترجموا الأدب اليوناني ولم يتأثروا به، واستمروا يعيشون في شعرهم معيشة داخلية فيها ضرب من القصور، فإن واجب شعرائنا في العصر الحديث ألا يعودوا إلى هذا الخطأ القديم، وأن يتعمقوا الأدب الغربي والثقافة الغربية، وأن لا يقفوا بذلك عند السطح والقشور؛ وهؤلاء صبري ومطران وشوقي كانوا يلمون بأطراف من الثقافة الفرنسية، وقد تطور كل منهم بشعره تطورًا يختلف باختلاف ثقافته اتساعًا وعمقًا.
ومن المحق أن شعراءنا المعاصرين قلَّ منهم من درس الفن الغربي أو الثقافة الغربية -وخاصة الثقافة الفلسفية- دراسة غيرت الأوضاع الفنية عنده أو الأوضاع الفكرية. وقد نجد نفرًا منهم يستعير عناوين قصائده أو دواوينه من الشعر الغربي، كما يستعير بعض المعاني والأفكار، وهو ضرب من الترجمة، إذ يترجمون بعض الألفاظ والأسماء والصور والأفكار من الشعر الغربي واهمين أن ذلك يحقق لهم التجديد المنشود.
والناقد المعاصر يشعر بشيء من الأسى لهذا التحول الذي صار إليه الشعر العربي في العصور الحديثة، فالشاعر لا يأخذ نفسه بثقافة غربية واسعة تكوِّن عنده مركبًا فنيًّا جديدًا، كما كان الشأن عند العباسيين في استخدامهم للفلسفة اليونانية والثقافة الأجنبية، بل هو يكتفي باستعارة بعض العناوين والصور والمعاني، ظانًّا أن تلك هي الطرافة التي نبحث عنها، ولذلك كنا نقرأ في كثير
من الشعر الحديث بدون لذة، ونحن لا نبالغ إذا زعمنا أنه لا يوجد بيننا شاعر قرأ فلسفة العصور الحديثة أو القديمة قراءة دقيقة، كما أنه لا يوجد بيننا من قرأ الميثولوجيا القديمة، أو من قرأ في دقة آثار سوفوكليس أو كورني أو جيته أو بيرون؛ ولعله من أجل ذلك لم يحدث التجديد المنشود في الشعر المعاصر، فلم يكتب شاعر في الملاحم الكبرى كما كتب هوميروس في الإلياذة، ولم يوجد من تثقف ثقافة فلسفية عميقة يلائم بينها وبين التفكير الفني. ومن أجل هذا القصور في الثقافة كان الشاعر عندنا مرتبكًا في سلوك طريق التجديد الذي يريده، وكأني به يظن التجديد شيئًا يُلقَى في الطريق، وليس دراسة عميقة ولا ثقافة واسعة. وقد أحدث شوقي محاولات في المسرح ولكنها تعاب بنقص ثقافته المسرحية، ولو أنه درس المسرح اليوناني، ثم درس المسرح الغربي الحديث وما أصابه من تطورات مختلفة لخرج عمله أدنى إلى الكمال.
والحق أن واجب شعرائنا أن يحتووا لأنفسهم ما خلفته أوربا من كنوز فكرية وفنية، وليس عيبًا أن يستمد شعر من شعر آخر، فهذا الشعر الغربي نفسه نراه يستمد في أجياله الحديثة من جميع العناصر القديمة يونانية أو رومانية، وشرقية أو عربية، وكأنما الحضارة الغربية تأخذ بحظ من جميع العناصر السابقة، فالفكر البشري ليست له حدود، ولا تقوم بين مناطقه وأقاليمه حواجز وفواصل، والحضارة العربية نفسها في العصور الوسطى كانت تمتص جميع العناصر التي سبقتها، وأمكنها الحصول عليها من الحضارات التي تقدمتها، وإن واجبنا أن نعود مرة أخرى إلى هذا الامتصاص إزاء الحضارة الغربية وعناصرها المتنوعة. ويحسن إلا يحجز الشعراء أنفسهم داخل إطار الشعر الغربي وثقافته، بل يضيفوا إلى ذلك ثقافة عميقة بالفلسفة القديمة والحديثة، وكذلك ينبغي أن يتثقفوا ثقافة واسعة بالنحت والرسم والموسيقى، فإن هذه الفنون تتشابك جميعًا بفن الشعر عند الغربيين بحيث نراهم لا يتصورون فرعًا منها منفصلا عن الفروع الأخرى من شجرة الفن.
وليس من شك في أنه حين ينظِّم الاتصال بين شعرائنا المعاصرين وبين
المذاهب الفنية القديمة التي وصفناها من صنعة وتصنيع وتصنع، كما ينظم بينهم وبين الفن الغربي وطرائقه، فيقبلون على تعمق أصول الصناعة الفنية عند العرب، كما يقبلون على تعمق المناهج الفنية والفلسفية عند الغرب، ولا يكتفون بذلك بل يتجهون شطر المشرق فيطلعون على آداب الفرس والترك والهند والأمم الشرقية الآخرى؛ ولكن لا ليستعيروا وينقلوا أو يترجموا، بل ليتفاعلوا ويستوعبوا ويعبروا عن شعورهم وسرائرهم تعبيرًا لهم مادته وصورته وما فيه من معارض التفكير ومنازع الوجدان، حينئذ تجد قافية التجديد طريقها الذي أخطأته، ودليلها الذي ضَلَّتْهُ.