الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حد ما رسائل الكتاب1 وماذا يفصل الشعر من النثر؟ لقد أصبح الشعر كالنثر يعتمد على المنطق والوضوح ومن ثم كان ابن الرومي من أوائل العباسيين الذين أعدوا لهذا الممر الذي يصل بين الشعر والنثر. حقًّا كان الكُتَّاب من قبله ينثرون معاني الشعر وبخاصة في عصر عبد الحميد2؛ ولكن تَطَوَّر النثر بعد ذلك، وأصبح أداة عقلية تعبر عن الثقافة والفلسفة، وانفصل مجراه عن مجرى الشعر، ولا نصل إلى ابن الرومي حتى نجد المجريين يتصلان مرة أخرى إلا أن الشعر في هذه المرة هو الذي ينزع إلى هذا الاتصال. ونحن لا نَبْعُد إذا قلنا إن ابن الرومي كان ممن أهَّلوا لهذه الحركة الواسعة من نظم النثر وحَلِّ الشعر فقد انتفت بينهما الفواصل إلا ما كان من الرُّقم الموسيقية التي يتقيد بها الشعر ولكن هذه الرقم لا تستطيع أن تعوق هذه الحركة الواسعة.
1 من حديث الشعر والنثر، ص266.
2 نفس المصدر ص101.
6-
التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:
ما كان ابن الرومي يعتمد في شعره على الثقافة الحديثة وخاصة المنطق، كان يعتمد على فن مهم هو فن التصوير، إذا كان لديه قدرة غريبة على ملاحظة دقائق الأشياء وتصويرها تصويرًا بارعًا، واستعان في ذلك بأداتين وجدهما عند أبي تمام وهما: التشخيص والتجسيم.
أما التشخيص: فقد استخدمه استخدامًا واسعًا في شعر الطبيعة؛ إذ كان يحس -كما يقول العقاد- بأن الطبيعة ذاتٌ ناطقة وأشخاص متحركة فهو يعيش مع كل نسمة فيها وكل حركة وكل خفقة وكل همسة1، وكأنها تستغويه وتستهويه:
ورياض تخايل الأرض فيها
…
خيلاء الفتاة في الأبراد
1 ابن الرومي: للعقاد، ص283. وانظر مقدمته لمختار الديوان.
منظرٌ معجبٌ، تحيَّة أنف
…
ريحها ريحُ طيب الأولادِ
فهي تدلُّ على إدلال الفتاة الحسنة، وهو يحنُّ إليها حنانًا غريبًا، يحس فيه برائحة ذكية، رائحة الأولاد النجباء وما يشعر به الآباء نحوهم من عطف وحنو ومحبة؛ بل إنها لتتصبَّاه إذ تتبرَّج له:
تبرَّجت بعد حياءٍ وخفرٍ
…
تبرجَ الأنثى تصدَّت للذَّكَر
وهذه الطبيعة المتبرجة مكث ابن الرومي يجري لاهثًا وراءها، وقد ملكت عليه حواسه، وملأت عليه قلبه؛ فهو مفتون بها، يفكر خلالها، ويُغرق بصره في ألوانها، ويغمر أشعاره بآثار لمسها وشمِّها، وكأنه لا يعيش في حدود نفسه؛ وإنما يعيش فيما حوله من الطبيعة الفاتنة. وهو جانب رائع في شعر ابن الرومي، يجعلنا نذكر شعراء الطبيعة عند الغربيين، ونقصد شعراء الحركة الرومانسية من أمثال وردزورث في إنجلترا ولامارتين في فرنسا؛ إذ نجد الشعراء يُهرعون إلى الطبيعة وواقع حياتهم يصفونهما منحرفين عن المدرسة الكلاسيكية التي عمت في القرنين السابع عشر والثامن عشر والتي كانت تتقيد بالأوضاع اليونانية واللاتينية، وقلما عدلت إلى شعر الطبيعة. وكذلك كان العباسيون قبل ابن الرومي يتأثرون بالقديم وقلما يلجئون إلى تصوير الطبيعة التي عاشوا فيها، وقد أقبل ابن الرومي يصورها تصوير العاشق المفتون على نمط يشبه -من بعض الوجوه- عمل أصحاب الحركة الرومانسية في أوربا. وقَرَن العقاد -مع شيء من الاحتياط- هذا الجانب في شعر ابن الرومي بيونانيته1. وإذا رجعنا إلى حقائق الظاهرة في الشعر الغربي الحديث وجدنا شعر الطبيعة عند الكلاسيكيين ولكن في صورة محدودة؛ فقد كان شعر الطبيعة حينئذ يشبه قناة ضيقة محدودة قد غصَّت بأعشاب كثيرة من الأوضاع اليونانية واللاتينية، فلما جاء القرن التاسع عشر فاضت القناة، واتسع
1 ابن الرومي: للعقاد، ص282.
المجرى، وكادت تفقد الصلة بين شعر الطبيعة القديم والجديد، على أن نفس الآثار اليونانية ليس فيها ما يدل على شيوع هذا الضرب من شعر الطبيعة عند اليونان القدماء. هم ألَّهوا الطبيعة وملئوها بالآلهة، ولكنهم لم يعبروا عن شعورهم نحوها كما يعبر شعراء الحركة الرومانسية وكما يعبر ابن الرومي. وليس معنى ذلك أنهم أهملوها كل الإهمال، ولكن معناه أنهم لم يصفوها بهذا الاتساع والعمق والهيام المعروف عند أصحاب الرومانسية، ولعل ذلك ما جعل شيلر يقول:"إن اليونانيين كانوا يتأملون الطبيعة بعقولهم لا بعواطفهم فلم يرد لهم عندهم أي ذكر يشعرنا صريح حبهم إياها وإعجابههم بها"1، ويقول همبولت:"إن تصوير الطبيعة لذاتها وفي مختلف مظاهرها كان بعيدًا عن أفكار اليونانيين، ويصرح بأن المنظر الطبيعي يشغل الجزء الظهري من صورتهم بينما تشغل الجزء المهم منها شئون الناس وأعمالهم وأفكارهم"2.
شعر الطبيعة في الواقع شعر حديث، وليست له صلة قوية بالأدب اليوناني القديم، ونفس أوربا حين كانت تعيش في العصور الكلاسيكية لم يزدهر هذا الضرب من الشعر عندها؛ لأنه لا يتصل بتقليد القدماء، أما قبل ذلك حين كانت لا تتقيد تقيدًا شديدًا بتقليدهم أي في القرن السادس عشر؛ فإننا نجد هذا الضرب من الشعر، كما نجد الأغاني الشعبية، فلما جاء مالرب"malherbe" ثم بوالو وراسين أصبح الشعر مقيدًا، ولم يعد يعنى بالحديث عن الطبيعة؛ فلما ظهرت الحركة الرومانسية وتحلل الشعر من قيوده الكثيرة اتصل مرة أخرى بالطبيعة وحياة الناس اليومية3، وقد حاول "ورد زورث" على ما هو معروف أن يستعمل اللغة الدارجة في أغانيه المسماه باسم"bllads" على كل حال يرينا تطور الشعر في أوربا في أثناء العصور الحديثة أن شعر الطبيعة إنما يشيع حين يصبح
1 كتاب: ما خلفته اليونان، طبع لجنة التأليف والطب والنشر، ص168.
2 نفس المصدر ص168.
3 انظر في حركة الرومانسية ومنابعها وثورة أصحابها على أوضاع الكلاسيكية كتاب: Paul Van Tieghem، le Mouvement Romantique
الشعر شعبيًّا أو يكاد، وينفصل عن القدماء من يونان وغير يونان. وهذا نفسه ما نلاحظه عند العرب فقد نما شعر الطبيعة واتسعت أبوابه حين قرب الشعر من التعبير عن الحوادث اليومية وأصبح أدنى إلى الواقع الحسي، واقع الجماعة، على نحو ما نعرف في تاريخ الشعر الأندلسي؛ إذ ظهرت هناك الموشحات والأزجال وظهر معهما شعر الطبيعة. ونفس ابن الرومي صاحب شعر الطبيعة في القرن الثالث كان ينزل بأسلوبه إلى درجة دانية من الأساليب اليومية حتى ليحس الإنسان عنده بضروب من الإسفاف، وكان هو نفسه يعرف ذلك فقال يصف شعره، وقد عابه بعض من عاصروه:
قولا لمن عاب شعرَ مادحِه
…
أما ترى كيف رُكِّب الشجرُ
ركِّب فيه اللِّحاء والـ
…
خشبُ اليابسُ والشوكُ بينه الثمرُ
فشعره فيه اللحاء وفيه الخشب، وفيه الورد وفيه الشوك، فيه المتين المصقول وغير المتين المصقول. وهذا هو ما يدفع ابن الرومي عن مدرسة المصنعين؛ فقد كان لا يعنى بتجميل شعره، وأن يخرج في زخارف التصنيع المختلفة، وهو مع ذلك قد يأتي بهذه الزخارف، ولكن دون أن يتخذها مذهبًا؛ إذ تأتي عابرة.
ولم يكن ابن الرومي من ذوق المصنعين، ومع ذلك فقد كان يستعير منهم أدواتهم، كما نرى الآن في شعر الطبيعة فقد اعتمد عنده على التشخيص الذي فتحه أبو تمام في الشعر العربي على نحو ما سنعرف في الفصل التالي. وقد استعار ابن الرومي هذه الأداة واستخدمها استخدامًا واسعًا في شعره، وهو استخدام لا يرجع إلى يونانيته -كما ظن بعض النقاد- وإنما يرجع إلى مزاجه فقد كان شديد الحس مرهف الشعور، فأغرم بالطبيعة وظل مشغوفًا بها، فهي تهيج روحه ومشاعره.
واستعار ابن الرومي أداة أخرى من أدوات التصوير عند أبي تمام، وهي أداة التجسيم، واستخدمها في شعره استخدامًا واسعًا على نحو ما رأينا في صنيعه بأداة التشخيص. وانظر إليه يجسِّم هنوات صاحبه القاسم بن عبيد الله فيجري بينه وبينها هذا الحوار الغريب:
كشفتْ منك حاجتي هنوات
…
غُطِّيت بُرهةً بحسن اللقاءِ1
تركتني ولم أكن سيِّئَ الظ
…
ـن أسيءُ الظنون بالأصدقاء
قلت لما بدت لعيني شُنعًا
…
ربَّ شوهاءَ في حشا حسناءِ2
ليتني ما هتكتُ عنكن سترًا
…
فثويتنَّ تحت ذاك الغطاء
قلن لولا انكشافُنا ما تجلَّت
…
عنك ظلماءُ شبهةٍ قتماء3
قلت أعجب بكن من كاسفاتٍ
…
كاشفاتٍ غواشيَ الظلماء4
قد أفدتني مع الخبر بالصا
…
حب أن رب كاسف مستضاء
قلن اعجبْ بمهتد يتمنَّى
…
أنه لم يزل على عمياء
كنت في شبهة فزالت بنا عنـ
…
ـك فأوسعتنا من الإزراء
وتمنيتَ أن تكون على الحيـ
…
ـرة تحت العماية الطخياء5
قلت تالله ليس مثلي من ودّ
…
ضلالًا وحيرةً باهتداء
غير أني وددت ستر صديقي
…
بدلًا باستفادة الأنباء
قلن هذا هوى فعرِّج على الحـ
…
ق وخلِّ الهوى لقلبٍ هواء6
ليس في الحق أن تودَّ لخلّ
…
أنه الدهر كامنُ الأدواء
بل من الحقِّ أن تنقر عنهـ
…
ن وإلا فأنت كالبُعَدَاء7
إنَّ بحث الطبيب عن داء ذي الد
…
اء لأسُّ الشفاء قبل الشفاءِ
دونك الكشف والعتاب فقوِّم
…
بهما كل خلَّة عوجاء
وإذا ما بدا لك العُرُّ يومًا
…
فتتبَّع نقابَه بالهناء8
قلت في ذاك موتكنَّ وما المو
…
ت بمستعذب لدى الأحياء
قلن ما الموتُ بالكريه إذا كا
…
ن بحقٍّ فلا تزدْ في الْمِراء9
1 هنوات: جمع هنة، وهي الشيء الصغير.
2شوهاء: قبيحة.
3 قتماء: سوداء.
4 كاسفات: محتجبات.
5 الطخياء: شديدة الظلمة.
6 هواء: فارغ.
7 تنقر: تبحث
8 العر: الجرب. النقاب: جمع نقبة. وهي قرحة الجرب. والهناء: القطران وكانوا يداوون به الجرب في أول ظهوره.
9 المراء: اللجاج والجدال