الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بها عند المعاني الموروثة بل يضيف معاني جديدة، وفي الوقت نفسه يولد من المعاني والصور القديمة ما يروع. وبذلك استقام هذا الأسلوب المولد الجديد الذي يأخذ من القديم، ويعرض ما يأخذ عرضًا خلّابًا، ولا ينسى حقوق عصره ولا ما بسط له من الفكر والخيال، وأيضًا فإنه لا ينسى حقوق هذا العصر في البعد عن الكلام الوحشي الغريب والكلام السوقي المبتذل؛ فهو أسلوب مرن، فيه سلاسة وسهولة ووضوح، وفيه رشاقة وعذوبة، أسلوب لا يتورع ولا يسلم إلى تعقيد يفسده ويهجنه، معانيه ظاهر مكشوفة وألفاظه لا تلطف عن العامة ولا تجفو عن الخاصة، مع أناقة التعبير ودقة الحس والذوق. وأخذ هذا الأسلوب المولد الجديد يفر سلطانه على الشعر والشعراء، ولم يستطع اللغويون أن يقفوا عائقًا دون هذا السلطان؛ فإنه على الرغم من معارضتهم له ذاع وانتشر، ولا نصل إلى القرن الثالث حتى يصبح المثل الرفيع الذي يحتذيه كل الشعراء.
3-
العلاقات الثقافية:
رأينا في غير هذا الموضع أن العرب أخذوا منذ الفتوح الإسلامية يحاولون التعرف على ثقافات الأجانب ومعارفهم؛ إذ كانوا ناشرين للدين الإسلامي واصطدموا بيهود ونصارى ومجوس ودهرية يناقشونهم ويناظرونهم في مسائل الدين.
ورأوا عندهم من أساليب النظر والاستدلال ما دفعهم إلى معرفة تلك الأساليب وما كانت تتأثر به من آراء فلسفية. وأيضًا فإن الموالي أقبلوا على الإسلام. وكانوا من أجناس مختلفة، منهم الفارس والهندي والشامي والمصري، والعراقي، وأخذوا ينشرون بين العرب ما عرفوا في لغاتهم الأصلية من ثقافات ومن معارف ونزعات. وكانت هناك مدارس ودوائر علمية في جند نيسابور وفي الرها ونصيبين وحران وفي قنسرين وأنطاكية وفي الإسكندرية، وتسرب كثير مما كان يدور في تلك المدارس إلى الأديرة.
فلما وضع العرب أيديهم على تلك البيئات كلها أخذ كثير مما فيها من ثقافة يتحول إليهم بحكم ما كان يقتضيه دفاعهم عن دينهم وبحكم ما أصاب حياتهم من تطور؛ فقد أصبحوا أصحاب دولة متحضرة، تحتاج إلى كثير من العلوم التطبيقية النفعية، وأخذت الأمم المجاورة لهم تدخل في دينهم وتدخل معها معارفها وكل ما ورثته من الثقافة الهيلينية التي انتشرت في الشرق منذ فتوح الإسكندر، وكان مزيجًا من فلسفة اليونان ومن ديانات الشرق وحكمته، ولا نصل إلى العصر العباسي، حتى تنظم الترجمة، ويقبل السريان على نقل كل ما شاع بينهم وفي مدارسهم بالعراق وجنديسابور من معرفة وعلم وفلسفة، كما يقبل الفرس والهنود أيضًا على نقل كثير من تراثهم.
وعني المنصور بهذه الحركة من الترجمة؛ فجلب من جنديسابور آل بختيشوع الأطباء المشهورين، فشاركوا توًّا في الترجمة، ووفد عليه من الهند "منكه" وكان قيمًا بالحساب المعروف "بالسند هند" في حركات الفلك والنجوم؛ فأمره بتجرمته، وشاركه في هذه الترجمة إبراهيم الفزاري يعاونه جماعة من العلماء. وعهد المنصور أيضًا إلى أبي يحيى البطريق ترجمة أجزاء من كتب بقراط وجالينوس في الطب. ونحن لا ننسى رأس هؤلاء المترجمين جميعًا ابن المقفع الذي ترجم عن الفارسية بعض الكتب التاريخية والسياسية والأدبية، كما ترجم أجزاء من منطق أرسطوا وكتاب كليلة ودمنة الذي يرجع إلى أصول هندية. وأيضًا فإنه ترجم كتابًا من مزدك، أحد دعاة الفرس الدينيين، ويظهر أنه أدخل كثيرًا من تعاليم المجوسية، ومما لا ريب فيه أن كتاب زرادشت المسمى أفستا ترجم في أوائل هذا العصر، كما ترجمت كتب ماني؛ مما كان سببًا في ارتفاع موجة الزندقة، وكان هناك فرس كثيرون خلفوا ابن المقفع على ترجمة التراث الفارسي من أهمهم آل نوبخت.
ونمضي إلى عصر الرشيد؛ فينشئ خزانة الحكمة وإدارة للترجمة يقيم يوحنا بن ماسويه أمينًا عليها ويرتب له كما يقول القفطي كُتَّابًا حاذقين يكتبون بين
يديه1، ومما ترجم في عصره كتاب المجسطي في الجغرافيا لبطليموس الإسكندري.
ونشط البرامكة في تشجيع هذه الحركة؛ سواء عن لغتهم الفارسية أو عن اللغات الأخرى، ويقال: إن يحيى بن خالد جلب مجموعة من أطباء الهند وأمرهم بنقل بعض كتب قومهم في الطب2، ودخل من ثقافة الهند كثير من الأفكار إلى محيط العربية من ذلك صحيفة في البلاغة يحتفظ به الجاحظ في بيانه3، وأيضًا فقد خلت بعض مذاهبهم الدهرية مثل السُّمَنِيَّة4، كما دخل كثير من حكمهم ومن تأملاتهم الزاهدة المتصوفة، مما كان له أثره في الصوفية الإسلامية.
وكلما مضينا في العصر وجدنا موجة هذه الترجمة تزداد حدة؛ فقد شجع المأمون عليها تشجيعًا واسعًا وأرسل في طلب الكتب من بلاد الروم، وجعل خزانة الحكمة مجمعًا لطائفة من كبار المترجمين أمثال سهل بن هارون ومحمد بن موسي الخوارزمي وسلم ويحيى بن منصور وبني شاكر: محمد وأحمد والحسن، وعهد بإدارة الترجمة إلى حنين بن إسحاق، ولم يلبث الكندي فيلسوف العرب الأول أن ظهر ثمرة لكل هذه الحركة المباركة.
ومن المؤكد أن المسألة كانت أوسع من تلك الأخبار التي تساق لنا عن الخلفاء واهتمامهم بالترجمة؛ فقد كان هذا الاهتمام عامًّا بين أفراد المجتمعات في البصرة والكوفة وبغداد، بدليل أننا نجد العلوم الإسلامية توضع قواعدها وأصولها في هذا العصر وضعًا يدل على أن أصحابها كانوا يقفون على أساليب البحث عند اليونان وغيرهم. ويكفي أن نشير هنا إلى علم الكلام والموضوعات التي أثارها المتكلمون؛ مما حكاه لنا الجاحظ في كتابه الحيوان عن أبي الهذيل العلاف والنظَّام وأضرابهما؛ فإننا نرى أمامنا عقولًا كبيرة، اطلعت اطّلاعًا واسعًا على علوم الأوائل، واستطاعت أن تنفذ منها إلى فكر عربي متوهج بالثقافات المنقولة.
1 أخبار الحكماء للقفطي "طبع مطبعة السعادة" ص248 وما بعدها، وانظر طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل "طبعة المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة" ص65.
2 البيان والتبيين 1/ 92.
3 البيان والتبيين 1/ 92.
4 أغاني 3/ 147.
ومسائلها المختلفة، وحتى علم اللغة والنحو لم يخلوا من أثر هذه الثقافات وطرائقها ومناهجها في النظر وبحث المشاكل، وصلة النحو بالمنطق اليوناني مقررة، وقد وضع الخليل معجمًا للعربية بترتيب مخارج الحروف متأثرًا بالهنود في ترتيب حروف لغتهم، وهيأته معرفته بعلم الموسيقى لوضع عروض الشعر العربي وأوزانه.
وطبيعي أن يكون لهذه العلاقات الثقافية الجديدة التي عملت عملًا نافذًا في عقلية العباسيين أثرها الواسع في شعرائهم؛ فإنهم لم يكونوا بعيدين عنها، بل كانوا يتصلون بها اتصالًا وثيقًا. وإذا كنا لاحظنا قبلًا صلتهم بالزندقة الفارسية فإن صلتهم بالمحتويات الأخرى للثقافات الأجنبية لم تكن تقل عن صلته بالزندقة، ومر بنا أن ديوان صالح بن عبد القدوس كان يشتمل على ألف مثل للعرب وألف مثل للعجم، ونراهم يروون عن العَتَّابي التغلبي أنه كان يتقن الفارسية وأنه رحل إلى "مرو" فكتب كتب العجم، ولما سئل في ذلك قال:"وهل المعاني إلا في كتب العجم والبلاغة، اللغة لنا، والمعاني لهم1". ومن يرجع إلى ترجمته في كتاب الأغاني يجد له ضربًا من الشعر القصير الذي يشبه الأمثال كقوله في مديح عبد الله بن طاهر:
ودُّك يكفينيك في حاجتي
…
ورؤيتي كافية عن سؤالْ
وكيف أخشى الفقر ما عشت لي
…
وإنَّما كفاك لي بيتُ مال
وقوله في مديح جعفر بن يحيى البرمكي3:
ما زلت في غمرات الموت مطَّرَحًا
…
قد ضاق عني فسيح الأرض من حيلي
ولم تزل دائبًا تسعى بلطفك لي
…
حتى اختلستَ حياتي من يدي أجلي
وقوله4:
هَيْبةُ الإخوان قاطعةٌ
…
لأخي الحاجات عن طَلَبِهْ
فإذا ما هبتَ ذا أملٍ
…
مات ما أمَّلْتَ من سَبَبِه
1 الجزء السادس من تاريخ بغداد لطيفور ص157 وما بعدها.
2 أغاني "طبعة دار الكتب" 13/ 117.
3 أغاني 13/ 119.
4 أغاني 13/ 116.
وأكبر الظن أن العَتَّابي كان يتأثر في هذه القطع القصيرة معاني فارسية، وكان يتأثر هذه المعاني أبناء الفرس أنفسهم، فهم أصحابها، وهي كنوز كانت ملقاة تحت أعينهم. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا أن الهجاء القصير الذي شاع عند بشار بن برد وحماد عَجْرد وأضرابهما؛ إنما نشأ من هذا التأثر بمعاني الفرس وأمثالهم، وكان بشار خاصة يكثر من الأمثال والحكم في شعره. ويَدْخُلُ في هذا الجانب ما تسرب إلى الشعر من أخيلة فارسية، كقول بعض الشعراء1:
لو لم تكن نِيَّة الجوزاء خدمَتَهُ
…
لما رأيتَ عليها عقد مُنْتَطِقِ
ويقال: إن شاعرًا قرأ قول كسرى في وصف النرجس أنه: "ياقوت أصفر بين در أبيض على زمرد أخضر" فقال وزاد عليه:
وياقوتة صفراء في رأس دُرَّة
…
مركَّبة في قائم من زَبَرْجَد
كأن بقايا الطّلّ في جنباتها
…
بقيَّةُ دمعٍ فوق خَدٍّ مورّد2
وعلى نحو ما كانت العلاقات قائمة بين الشعراء والثقافة الفارسية كذلك كانت قائمة بينهم وبين الثقافة الهندية؛ فقد كانوا يعرفون ما نقل عنها في الفلك وغير الفلك وقد تسرب إليهم كثير من آراء الهنود وأفكارهم وقصصهم كقصة بوذا الملك الذي هجر ملكه، وساح في الأرض عابدًا لربِّه؛ فقد اتخذ منه أبو العتاهية مثالًا للرجل الفاضل فقال3:
يا من تشرّف بالدنيا وزينتها
…
ليس التشرّف رَفْعَ الطين بالطين
إذا أردت شريف الناس كلهم
…
فانظر إلى ملكٍ في زي مسكينِ
ونقل إليهم ما تزعمه الهند في علم الطبائع من أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارًّا مؤذيًا، وعرف ذلك أبو نواس، فقال4:
قل لزهير إِذَا حَدَا وَشَدَا
…
أَقْلِلْ وَأَكْثِرْ فَأَنْتَ مهذارُ
سَخُنْتَ من شدة البرودة حتَّـ
…
ـى صرتَ عندي كأنك النار
1 معاهد التنصيص 2/ 15.
2 زهر الآداب 2/ 209، وانظر 2/ 211.
3 ديوان أبي العتاهية ص274.
4 الشعر والشعراء ص506، وانظر عيون الأخبار 2/ 7.
لا يعجب السامعون من صفتي
…
كذلك الثلج باردٌ حار
ومما تأثر فيه ببعض آراء الهند قوله:
تُخُيِّرَتْ والنجومُ وُقْفٌ
…
لم يتمكن بها المدارُ
وهو يشير بذلك إلى بعض ما نقل عنهم من أن: "الخمر تخيرت حين خلق الله الفلك، وأصحاب الحساب يذكرون أن الله تعالى حين خلق النجوم جعلها مجتمعة واقعة في برج، ثم سيَّرها من هناك، وأنها لا تزال جارية حتى تجتمع في ذلك البرج الذي ابتدأها منه، وإذا عادت إليه قامت القيامة وبطل العالم.
والهند تقول إنه في زمان نوح اجتمعت في الحوت إلا يسيرًا منها فهلك الخلق بالطوفان، وبقي منهم بقدر ما بقي منها خارجًا عن الحوت1" وربما كان أهم ما أثرت به الهند في المجال الشعري العام ما انتشر في كتاب كليلة ودمنة من حكم، وقد نقل هذا الكتاب إلى العربية ابن المقفع ثم نظمه أبان بن عبد الحميد للبرامكة شعرًا، ويحتفظ كتاب الأوراق للصولي بقطع طويلة من هذا النظم الذي يستهله بقوله:
هذا كتاب أدب ومحنه
…
وهو الذي يدعي كليلة دمنه
فيه دلالات وفيه رشد
…
وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كل عالم
…
حكاية عن ألسن البهائم
وإذا تركنا الثقافتين الهندية والفارسية إلى الثقافة اليونانية وجدنا علاقتها بالشعر والشعراء تفوق علاقتي تلك الثقافتين، وحقًّا أنهم لم يعرفوا شيئًا عن الشعر اليوناني؛ إذ اقتصرت معرفتهم بالثقافة اليونانية على الفلسفة والمنطق، ولكن هذه المعرفة أفادوا منها فوائد جُلّي؛ فقد دعم المنطق تفكيرهم ووسعت الفلسفة دوائره، فانصبغ عقل الشعراء بأصباغ من العمق والدقة والتحليل وطرافة التقسيم والبعد في الخيال والتجريد فيه وكان المتكلمون أهم من أذاع هذه الثقافة في محيط الشعر والشعراء؛ إذ كانوا يتأثرون بها تأثرًا واسعًا في جدالهم وأساليب استدلالهم، فأكبوا عليها يقرءونها، وينقلون مصطلحاتها، ويفسرون معانيها من مثل الطفرة.
1 الشعر والشعراء ص504.
والحركة والسكون والتولد والكمون والجوهر والعرض والجوهر الفرد. وكان كثير من الشعراء يستمع إليهم؛ بل لقد وُسِمَ غير شاعر بالكلام والاعتزال، وأنه يستمد منها في موازنة الشيء بالشيء وفي الجدل والمغالطة، كما يستمد منهما في استنباط المعاني الخفية والأفكار الدقيقة، وقد بدأ بشار حياته متصلًا بالمتكلمين وبالمعتزلة منهم خاصة؛ إذ كان يصحب واصل بن عطاء1 وما زال قريبًا منه، حتى أظهر ثنويته وزندقته، ففسد ما بينهما ونادى واصل في الناس أن يقتلوه؛ ففرَّ في البصرة، وذهب يعلن أنه لا يؤمن بواصل ومذهبه في القدر؛ إنما يؤمن بالجبر وأن حرية الإنسان معطلة في الحياة، يقول:
طُبِعَت على ما فِيّ غير مخيَّرٍ
…
هوايَ ولو خُيِّرتُ كنت المهذَّبا
أريد فلا أعطَى وأعطى ولم أرد
…
وقصَّر علمي أن أنال المغيَّبا
فأصْرَفُ عن قصدي وعلمي مقصِّرٌ
…
وأمسي وما أعقبت إلا التعجبا
وكان يكثر من الحجاج والجدال في ذلك ويقول: ما أومن إلا بالحِسِّ وما عاينته2. وتحول بهذا الجدال وما يطوى فيه من قدرة على الاستدلال إلى شعره ومعانيه؛ فكان يكثر فيه من استنباط الأدلة وحشد البراهين على شاكلة قوله3:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
…
برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
…
فإن الحوافي قوة للقوادم4
وما خير كف أمسك الغُلُّ أختها
…
وما خير سيفٍ لم يؤيد بقائم5
وقوله6:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا
…
صديقَك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
1 انظر الأغاني 3/ 152.
2 أغاني 3/ 227.
3 أغاني 3/ 157.
4 القوادم: الريش في أعلى الجناح، والخوافي: الريش الصغير الذي يخفى حين يضم الطائر جناحية.
5 الغل: الحديدة التي تجمع بين يد الأسير وعنقه، وقائم السيف: مقبضه.
6 أغاني 3/ 197.
فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه
…
مقارفُ ذنبٍ مرّةً ومجانبه1
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى
…
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وما نشك في أن كثرة هذه الأدلة في شعره جاءته من بيئة المتكلمين، وما كانت تعتمد عليه في جدالها من أقيسة المنطق والترتيب لمقدماتها الصحيحة واندفع يستنبط كثيرًا من دقائق المعاني ولطائف الفكر؛ كقوله في بعض ممدوحيه2:
ليس يعطيك للرجاء ولا الخو
…
ف ولكن يَلَذُّ طعم العطاءِ
فإنك تراه يفكر تفكيرًا جديدًا؛ إذ يجعل العطاء بدون غاية خارجة عن نفسه، وهي فكرة لم تكن تقع في عقل الشاعر القديم؛ إنما تقع في عقل الشاعر العباسي الجديد الذي لا يزال يغرق في التفكير حتى يتصور الأشياء مجردة عن غاياتها، وإذا كان المتكلمون اشتهروا بمغالطاتهم أو بتأتِّيهم لتعليلاتهم، أو كما يقول البلاغيون بحسن التعليل؛ فإننا نجد من ذلك أصباغًا كثيرة في شعر بشار كتعليله لآفته بقوله3:
عَميتُ جنينًا والذكاء من العَمى
…
فجئت عجيب الظن للعلم موئلًا
وقوله في جارية سوداء4:
وغادة سوداء برّاقةٍ
…
كالماء في طيب وفي لين
كأنها صيغت لمن نالها
…
من عنبر بالمسك معجون
وقوله في بعض ممدوحيه -إن صح أنه له5:
لمستُ بكفي كفَّه أبتغي الغنى
…
ولم أدر أن الجود من كفه يُعْدِي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
…
أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
وتكثر هذه التعليلات في شعر بشار، كما تكثر معها الموازنة والتقسيمات والبعد في التأويل واستخراج المعاني، على شاكلة قوله6:
1 مقارف: مرتكب.
2 أغاني 3/ 189.
3 أغاني 3/ 142.
4 أغاني 3/ 193.
5 أغاني 3/ 150.
6 البيان والتبيين 1/ 4.
وعِيّ الفعال كعيِّ المقالِ
…
وفي الصمت عِيٌّ كعيّ الكَلِمْ
وأنت تراه لا يخصص العيَّ بالكلام. بل يجعله في الفعال، بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقيم في الصمت عِيًّا كعي الكلام؛ فإذا العي على أقسام: عي الصمت وعي الفعال وعي المقال. وأكبر الظن أن هذا التقسيم الطريف هو الذي ألهم الجاحظ رسالته في تفضيل الكلام على الصمت وخروجه عما ألفه الناس في أمثالهم.
وإذا تركنا بشارًا وجيله إلى الجيل التالي الذي خلفه وجدنا أبا نواس الثائر على التقاليد والأوضاع خير من يمثله، وكان كثير الاختلاف إلى مجالس المتكلمين، ولاحظ الجاحظ في بيانه أنه استعار كثيرًا من ألفاظهم ومصطلحاتهم على وجه التظرف والتملح كقوله في جنان1:
وذات خَدٍّ مورَّد
…
قوهيَّةِ المتجرَّدْ2
تأمَّلُ العينُ منها
…
محاسنًا ليس تنفد
فبعضها قد "تناهى"
…
وبعضها "يتولد"
والحسن في كل عضوٍ
…
منها معاد مردَّدْ
وقوله:
يا عاقدَ القلب عني
…
هَلَّا تذكرت حَلّا
تركت مني قليلًا
…
من القليل أقلّا
يكاد لا يتجزّا
…
أقل في اللفظ من لا
ويُرْوَى أن النظام سمع منه الأبيات الأخيرة فقال له: "أنت أشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ مذ دهرنا الأطول نخوض فيه ما خرج فيه لنا من القول ما جمعته أنت فيه في بيت واحد3". ولم يكن أبو نواس ينهج نهج المتكلمين في ذكر مصطلحاتهم فحسب؛ بل كان ينهج نهجهم أيضًا في
1 البيان والتبيين 1/ 141، وانظر أخبار أبي نواس ص13 حيث ساق ابن منظور له طائفة من معاني المتكلمين وألفاظهم.
2 قوهيّة: أراد بيضاء، والقوهي: ضرب من الثياب البيض.
3 أخبار أبي نواس ص13.
توليد المعاني واستنباط غرائبها، حتى قالوا: "مازالت المعاني مكنوزة في الأرض حتى جاء أبو نواس فاستخرجها1. ولم يكن يغرب في معانيه إغرابًا قريبًا، بل كان يبعد في إغرابه، حتى ليصوِّر الحسي بالمعنوي على شاكلة قوله في الخمر2:
وقد خفيتْ من لطفها فكأنها
…
بقايا يقينٍ كاد يذهبه الشك
وقوله3:
صَفتْ وصفت زجاجتها عليها
…
كمعنى دقَّ في ذهنٍ لطيفِ
وقوله4:
فتمشت في مفاصلهم
…
كتمشي البُرْءَ في السَّقَمِ
قلما نجد بعد أبي نواس شاعرًا ممتازًا إلا وهو يلزم المتكلمين المعتزلة، وقد عُدّ أبو تمام منهم، وكان ابن الرومي ينزع منزعهم، ومعروف أن النظام من متقدميهم، وقد نال شهرة مدوية على رأس المائتين بقدرته على الجدال وغوصه على المعاني الدقيقة، ولم يكن متكلمًا يحسن الكلام فحسب، بل كان شاعرًا أيضًا، وكان يستقي شعره من الكلام والجدل، على شاكلة قوله5:
مازلتُ آخذ روح الدَّن في لُطُفٍ
…
أستبيح دمًا من غير مذبوحِ
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي
…
والزِّقُّ مطَّرَحًا جسمٌ بلا روحِ
وقوله6:
توهمه طرفي فآلم خَدّه
…
فكان مكان الهم من نظري أثرُ
وصافحه قلبي فآلم كفه
…
فمن صفح قلبي في أنامله عَقْرُ7
ومر بقلبي خاطرًا فجرحته
…
ولم خلقًا قط يجرحه الفكر
يمر فمن لينٍ وحسن تعطف
…
يقال به سكر وليس به سكر
1 أخبار أبي نواس ص64.
2 خزانة الأدب للحموي "طبع المطبعة الخيرية" ص183.
3 خزانة الأدب ص184.
4 الديوان ص324.
5 طبقات الشعراء لابن المعتز ص272.
6 أمالي المرتضي "طبعة الحلبي" 1/ 188.
7 العقر: الجرح.
وعلى هذا النحو لم يكن المتكلمون يؤثرون في الشعراء بما يفتقون من معانيهم الخاصة؛ بل كانوا يرددون على أسماعهم مثل هذه الأبيات التي يبدعون فيها ويغربون ويأتون بالنادر المستطرف من المعاني والصور. ولا نشك في أن الحسين ابن الضحاك كان يتأثر نزعتهم من الإغراق في الوهم والتجريد حين قال في بعض غزله1.
إنَّ من لا أرى وليس يراني
…
نصب عيني ممثل بالأماني
بأبي مَنْ ضميره وضميري
…
أبدًا بالمغيب ينتجيان
نحن شخصان إن نظرتَ وروحا
…
ن إذا ما اختبرت يمتزجان
فإذا ما هممت بالأمر أوهَـ
…
ـمَّ بشيء بدأته وبداني
كان وفْقًا ما كان منه ومني
…
فكأني حكيته وحكاني
خطراتُ الجفون منا سواءٌ
…
وسواءٌ تَحَرُّكُ الأبدان
وهذا غزل جديد، لا يقوم على الحِسِّ؛ وإنما يقوم على الوهم والإغراق في الخيال.
وليس هذا كل ما بعثه المتكلمون في الشعر والشعراء من جديد بفضل ما أذاعوا من دقائق الفكر والفلسفة، فإن جماعة منهم صنفت قصائد في مخالفيهم كقصيدة معدان الأعمى الشُّمَيْطي التي صنف فيها الرافضة والغالية من الشيعة2. ويلمع هنا اسم بشر بن المعتمر؛ إذ يقول المرتضى: إن له أشعارًا كثيرة يحتج فيها على أهل المقالات3، وروى له الجاحط في حيوانه شعرًا مزاوجًا في فضل على بن أبي طالب وتقدمه هو وأهل بيته على الخوارج يمضي على هذا النحو4:
ما كان في أسلافهم أبو الحسن
…
ولا ابن عَبَّاس ولا أهل السنن
غُرُّ مصابيح الدُّجى مناجِبُ
…
أولئك الأعلامُ لا الأعارب
1 أغاني "طبعة دار الكتب" 7/ 187.
2 الحيوان 2/ 268.
3 أمالي المرتضي 1/ 187.
4 الحيوان 6/ 455.
وروى له أيضًا قصيدتين طويلتين في أصناف الحيوان وعجائب صنع الله في خلقه وما أودع هذا الخلق من حكمته1. ونجد الجاحظ يروي لكثيرين أشعارًا في هذا الباب مثل الحكم بن عمرو البهراني وقصيدته في غراب الخلق2، ومثل هارون مولى الأزد وشعره في الفيل3، وكان هنديًّا من أهل المولتان.
وبذلك أعد المتكلمون -وعلي رأسهم المعتزلة من أمثال بشر- لشيوع الشعر التعليمي "Poesie Didactique" منذ أوائل العصر العباسي، ويظهر أن الشعراء كانوا يؤثرون فيه قالب المزدوج الذي نظم فيه بشر بعض أشعاره، وقد نظمت فيه مزدوجة طويلة في الفلك لمحمد بن إبراهيم الفزاري، ويقول ياقوت: "إنها تدخل مع تفسيرها في عشرة أجلاد، أولها:
الحمد لله العلي الأعظم
…
ذي الفضل والمجد الكبير الأكرم
الواحد الفرد الجواد المنعم
الخالق السبع العُلَى طباقًا
…
والشمس يجلو ضوؤها الإغساقا
والبدر يملا نوره الآفاقا
وهي هكذا ثلاثة أقفال، ثلاثة أقفال4". ومر بنا أن أبان بن عبد الحميد صاغ للبرامكة كليلة ودمنة شعرًا، واختار لشعره هذا القالب؛ إلا أنه لم يجعله في ثلاثة أقفال، إنما جعله في قفلين قفلين على نمط المزدوج عند بشر، ويقول الجاحظ: إن بشرًا كان أبرع في ذلك وأقدر من أبان، وإنه لم يرد أحدًا يبلغ قوته على المخمس والمزدوج5. وعلى هذا الغرار نفسه نظم أبو العتاهية أرجوزته "ذات الأمثال" وقد بلغت أربعة آلاف بيت كلها أمثال وحكم على شاكلة قوله:
حسبك مما تبتغيه القوت
…
وما أكثر القوت لمن يموت
لكل ما يؤذي وإن قل ألم
…
ما أطول الليل على من لم يَنَمْ
ما انتفع المرء بمثل عقله
…
وخير ذخر المرء حسن فعله
1 الحيوان: 6/ 283 وما بعدها.
2 الحيوان 6/ 80.
3 الحيوان 7/ 75، 115.
4 معجم ياقوت "طبعة مصر" 17/ 118.
5 أمالي المرتضى 1/ 187.