الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10-
الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ:
ذهب ابن المعتز يكثر من أوضاع هذه الصور والتشبيهات في شعره، ويفرط فيها إفراطًا شديدًا، حتى لتظهر في قصائده على هيئة صفوف متلاحقة؛ ففي كل جانب منها صورة أوتشبيه، وهي صور وتشبيهات ما يزال ابن المعتز يحاول أن يحدث بها طرافة في شعره؛ فهي كل ما يقدمه للفن من زينة وجمال. لم يضع ابن المعتز همَّه في إحداث تنويع واسع في زخرف شعره؛ فقد رفض الزخرف العقلي أو بعبارة أدق لم يستطع أن يستخدمه، وهو كذلك لم يستطع أن يستخدم جميع أوعية الزخرف الحسي؛ فقد انحاز إلى التشبيه، وذهب يطرز به قصائده، ويوشي به أبياته. وأظهر في براعة لم تُتَحْ لشاعر من قبله، وهل هناك أبرع من هذا التشبيه؛ إذ يقول:
ريمٌ يتيهُ بحسنِ صورتِهِ
…
عبثَ الفؤادِ بلحظ مقلتِهِ
وكأنَّ عقرب صُدغه وقفت
…
لما دنت من نارِ وجنتهِ
فهذه صورة رائعة روعة شديدة لما أشاعه فيها جمال وبعث من نار، هي نار الوجنات أو هي نار الفن، وما أشبهها بهذه القطع من الشمس التي كان يلقيها الساقي في أقداح جماعته؛ إذ يقول:
وكأن كفيه تقسم في
…
أقداحنا قطعًا من الشمسِ
كان ابن المعتز بارعًا في صنع الصور والتشبيهات، وهي براعة نرى آثارها في كل مكان من ديوانه، ومن الصعب أن نجمعها في حيز محدود في صحيفة أو صحف، ومع ذلك فمن المحقق أنه كلما جمع ناقد منها طائفة خرجت إليه أصباغ تحكي أصباغ الطيف أصباغ للون واحد؛ ولكنه لون معقد يعقده ابن المعتز، ويستخرج منه أوضاعًا متضاربة يشيع فيها النور والجمال والحياة، وانظر إلى قوله:
وزوبعةٍ من بناتِ الرياحِ
…
تريك على الأرض شيئًا عجب
تضمُّ الطريد إلى نحرها
…
كضمّ المحبة من لا يحبّ
أرأيت إلى هذه الصورة؟ إنها صورة خيالية رائعة لا بد لها من خيال فنان حتى يعرضها على أنظارنا؛ فإذا هذا العناق الغريب. وانظر إلى قوله:
ودنا إليَّ الفرقدان كما دنت
…
زرقاءُ تنظر في نقابٍ أسود
فإنك ترى ابن المعتز يعرف كيف يطرف قارئه بالصور الغريبة وإنها لصور نادرة. هي ليست صورًا جامدة من تلك التي تواضع عليها الشعراء وأصبحت متحجرة في اللغة، إذا فقدت نضرتها وبهجتها؛ بل هي حية ناضرة وكأنما نقشت رسومها بالأمس، نقشها شاعر كان صبًّا ببعث الحياة والحركة في صوره حتى ليحس من يقرأ في ديوانه كأنه يعيش في دار من دور الصور المتحركة، فما يزال يرى مناظر وأشكالًا من شخوص ووجوه. وهي وجوه مستعارة، ولكنها تعبر عن روعة الفن بأجمل مما تعبر عنه الوجوه الحقيقية. وانظر إلى صورة الليل وهذا الوجه الحبشي.
قد أغتدي والليلُ في إهابه
…
كالحبشي مالَ عن أصحابِهِ
والصبحُ قد كشَّف عن أنيابِهِ
…
كأنه يضحك من ذهابِه
فإنك ما تلبث أن تستغرق في الضحك من هذا الحبشي أو هذا الوجه المستعار؛ بل إنه لوجه حقيقي يعبر عن حقيقة مظلمة وراءه، ولكن سرعان ما يخلفه وجه آخر ضاحك، وهو وجه الصباح الجميل.
وعلى هذا النمط ما نزال نرى في شعر ابن المعتز صورًا متحركة قد أعطاها أوضاعًا تؤكد حقيقتها وتجعلنا كأننا نلمسها ونشاهدها، وهل هناك صورة تثبت في الذهن كهذه الصورة التي أخرج فيها الصبح بعد المشتري:
والصبح يتلو المشتري فكأنه
…
عريانُ يمشي في الدجى بسراج
إنها صورة عارية، وقد يؤذينا هذا العري؛ ولكنا لا نرتاب في أنه يثبت الصورة في عقولنا، ومن ينسى هذا الصبح الذي ذكره ابن المعتز؟ من ينسى هذا العريان وسراجه الذي كان يحمله في الدجى فيكشف عن نيته ويفصح عن
عزيمته؟ وانظر إليه يعود إلى تصوير الصبح فيقول:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى
…
نُطير غرابًا ذا قوادم جونِ
فقد جسم اختلاط الظلام بالضياء في ذلك الغراب صاحب القوادم البيضاء وليس من شك في أنها صورة طريفة، وكأني به أراد أن يحكمها أحكامًا، فقال:
وكابدنا السُّرى حتى رأينا
…
غراب الليل مقصوصَ الجناحِ
فأنت تراه يجنح في هذا البيت إلى التفصيل في صورة الغراب بأكثر مما صنع في البيت السابق؛ إذ عبر عن القِصَر الذي يصيب أطراف الليل بهذا القصِّ الغريب لجناح الغراب، وكل ذلك ليضبط الصورة ضبطًا دقيقًا.
ومهما يكن فإن ابن المعتز كان يحسن استخدام صبغ التشبيه إحسانًا شديدًا؛ فإذا هو يستخرج منه تلك الصور والأوضاع الكثيرة التي تروعنا روعة هذه المياه التي رآها في ربع صاحبته، فحكى صورتها في قوله:
وماءٍ دارسِ الآثار خالٍ
…
كدمعٍ حارَ في جفنٍ كحيلِ
وحقًّا إن الإنسان ليذهب إزاء هذه الروعة في التصوير؛ حتى ليتمنى أن لو صار إليه شيء من إحساس ابن المعتز حين تمثل هذه الصور، وانظر إليه يصف الرياض في منظومته "ذم الصّبوح"؛ إذ يقول:
ألا ترى البستان كيف نوَّرا
…
ونشر المنثورَ زهرًا أصفرا
وضحك الوردُ إلى الشقائق
…
واعتنق القطرَ اعتناقَ وامقٍ
في روضة كحلل العروس
…
وخرَّم كهامة الطاوس
وياسمين في ذرى الأغصان
…
منتظم كقطع العِقْيَانِ
والسَّرو مثل قضب الزبرجدِ
…
قد استمد العيش من ترب ند
على رياض وثرى ثري
…
وجدول كالمبردِ المجلي
وأخرج الخشخاش جيبًا وفتقْ
…
كأنه مصاحفٌ بيضُ الورق
أو مثل أقداحٍ من البلور
…
تخالها تجسَّمت من نور
وبعضها عُريانُ من أثوابه
…
قد خجل البائس من أصحابِه
تبصِرُه بعد انتشار الوردِ
…
مثل الدبابيس بأيدي الْجُندِ
والسوسنُ الأبيضُ منشور الحلل
…
كقطنٍ قد مسه بعض البلل
وقد بدت منه ثمار الكَنْكَرِ
…
كأنه جماجمٌ من عنبرِ
وحلق البهارِ بين الآسِ
…
جمجمةٌ كهامةِ الشَّمَّاس
وجلَّنارٌ كاحمرارِ الخدِّ
…
أو مثل أعرافِ ديوكِ الهندِ
فإنك تعجب من تلك الأوضاع الكثيرة التي استخرجها من صبغ التشبيه وراح يطرز بها هذا الوصف البديع للرياض، وما يجري فيها من تلك الصور المختلفة التي يغرق فيها البصر؛ فهنا صفرة عسجدية، وهناك خضرة زبرجدية، وثَمَّ حمرة وردية. وليس من شك في أن قارئ ابن المعتز إذا كان مرهف الحس إرهافه، علاه ذهول وحيرة إزاء تلك الصور والأوضاع لصبغ التشبيه التي يعرضها علينا في تلك الأشكال والطرائف النادرة.
وإن الإنسان ليفكر حقًّا في هذه القدرة على التصوير، هي لا تقف عند وصف الطبيعة والرياض، بل تتعداها إلى كل شيء يلتقطه خيال ابن المعتز، وانظر إليه يصف سباق الخيل:
خرجن وبعضهن قريبُ بعضٍ
…
سوى فوت العذارِ أو العنانِ
ترى ذا السَّبق والمسبوقَ منها
…
كما بسطت أناملها اليدان
فإنك تراه يحكم الصورة إحكامًا طريفًا. وانظر إليه يقول في مقلة البازي:
ومقلةٍ تصدقُهُ إذا رمقْ
…
كأنها نرجسةٌ بلا ورقْ
فليس من شك في أنك تعجب بهذه الصورة النادرة التي عمد فيها ابن المعتز إلى التفصيل، وانظر إليه يقول في أذن كلب الصيد:
وأذنٍ ساقطةِ الأرجاءِ
…
كوردة السوسنةِ الشَّهلاءِ
وعلى هذا النمط ما يزال ابن المعتز يستخرج من صبغ التشبيه صورًا وأشكالًا لا تحصى؛ حتى ليشعر من يقرأ ديوانه أنه يعيش في تلك الرياض من البنفسج التي وصفها في قوله:
كنّ سماءنا لما تجلَّت
…
خلال نجومها عند الصباحِ
رياضُ بنفسج خَضِلٍ نداهُ
…
تفتَّح نورُه بين الأقاحي
وهي رياض ذات صبغ واحد؛ ولكن كأنما هذا الصبغ قد جمع من كل ربيع، ففيه تنوع واسع لا يمكن شيء أن يحكيه إلا أن يعود الإنسان إلى ديوان ابن المعتز، ويرى كيف استخدم صبغ التشبيه، واستطاع أن يخالف بين أشكاله وأوضاعه، كما يخالف أصحاب فن التجميل بين صور الشعر الأسود مثلا ورسومه، فإذا هم يستخرجون منه أشكالًا وأوضاعًا كثيرة، بما يسدلونه على الجبهة، أو بما يرفعونه إلى الرأس، أو بتقسيمه أقسامًا متساوية، أو غير متساوية.
والحق أن أصحاب التصنيع، في القرن الثالث استطاعوا أن يرتفعوا إلى مراقي القمة في الزخرف والتنميق. وهل نسينا ذلك الزخرف العقلي الذي أحدثه أبو تمام وما استطاع أن يشفعه به من تنويع في الزخرف الحسي؟ وهذا ابن المعتز يأخذ زخرف التشبيه وينوع فيه تنويعًا واسعًا يقصر التعبير عن تصويره.
إن التشبيه لون مفرد بل هو صبغ من أصباغ لون مفرد، هو لون التصوير، وهو صبغ حسي لم يشفع بثقافة عميقة ولا بفلسفة، ومع ذلك استطاع ابن المعتز أن يستخرج منه أوضاعًا وأشكالًا كثيرة؛ بحيث لا نجمع طائفة منها حتى تخرج لنا هذه اللوحات الفنية المحيِّرة، وكأن الإنسان يعيش في متحف للصور والرسوم، ولكن أي صور ورسوم؟ إنها صور ورسوم ما تزال تعزف عزفًا غريبًا!
وارجع إلى أبي تمام فسترى هذه الصور والرسوم تعي الموسيقى، كما تعي الفلسفة والثقافة، وكل ذلك يتنقل فيه الفكر كما يتنقل بين قطع الرياض في الطبيعة. على أن هذه الروعة في التصنيع وما صحبها من بهجة في التلوين والتصوير سرعان ما تنحسر ظلالها عن الشعر العربي في القرون التالية.