المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها - الفن ومذاهبه في الشعر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع

- ‌الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم

- ‌الشعر صناعة

- ‌ صناعة الشعر الجاهلي:

- ‌ الصناعة الجاهلية مقيدة:

- ‌ الطبع والصنعة:

- ‌ الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:

- ‌ زهير ومذهب الصنعة:

- ‌ نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي:

- ‌ الشعر التقليدي والغنائي:

- ‌الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة

- ‌الشعر العربي نشأ نشأة غنائية

- ‌ تعقد الغناء الجاهلي:

- ‌ مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي:

- ‌ موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي:

- ‌ تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌ انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام:

- ‌ انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي:

- ‌ نمو مقطوعات الشعر الغنائي:

- ‌ تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي

- ‌الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع

- ‌الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة

- ‌ العلاقات اللغوية:

- ‌ العلاقات الثقافية:

- ‌ ازدهار مذهب الصنعة:

- ‌ بشار وصنعته في شعره:

- ‌ صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ:

- ‌ صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ:

- ‌ ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ:

- ‌ التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة

- ‌البحتري: نشأته وحياته وصنعته

- ‌ الخلافُ بينَ البحتريِّ وأصحابِ التَّصنيعِ:

- ‌ البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ:

- ‌ ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:

- ‌ الهجاءُ السَّاخِرُ:

- ‌جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي

- ‌الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع

- ‌أبو تمام أصله وحياته وثقافته

- ‌ ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ التصنيعِ القديمةِ:

- ‌ التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ تصنيعٍ جديدةٍ:

- ‌ المزجُ بين ألوانِ التصنيعِ القديمةِ والجديدةِ:

- ‌ قَصِيدةُ عموريةَ:

- ‌ ابنُ الْمُعْتَزِ، نشأَتُهُ وحَيَاتُهُ وتصنيعُهُ:

- ‌ تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ:

- ‌ الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنع

- ‌التصنع في الحضارة العربية

- ‌ التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ:

- ‌ التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ:

- ‌ ألوانُ التصنيعِ العقليةِ لا تستوعَبُ ولا تتحولُ إلى فنٍ:

- ‌ جمودُ الشِّعرِ العَرَبي:

- ‌ التَّحْوِيرُ:

- ‌الفصل الثاني: الثقافة والتصنع

- ‌المتنبي نشأته وحياته وثقافته

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ:

- ‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ:

- ‌ المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ:

- ‌ تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ:

- ‌ حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ:

- ‌ شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتلفيق

- ‌ميهار أصله وتشيعه ومزاجه

- ‌ تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ:

- ‌ تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ:

- ‌ الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:

- ‌ غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ:

- ‌ الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار وتحوُّلُه إلى شعرِ مناسباتٍ:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في التصنع

- ‌أبو العلا نشأته وحياته وثقافته

- ‌ ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:

- ‌ اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ:

- ‌ اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ:

- ‌ صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌ اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ:

- ‌ اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصيَّةُ الأَنْدَلُسِ:

- ‌ الشِّعْرُ في الأَنْدَلُسِ:

- ‌ نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي:

- ‌ الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شَخْصِيَّةُ مِصْرَ:

- ‌ الشِّعْرُ في مِصْرَ:

- ‌ الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ:

- ‌ الأيوبيونَ ونهضةُ الشِّعرِ في عهدِهِمْ:

- ‌ المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ:

- ‌ العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ:

- ‌خَاتِمَةٌ:

- ‌ الصُّورةُ العامَّةُ لِلْبَحْثِ:

- ‌ الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ:

- ‌ الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ:

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار:

الفصل: ‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

أمِنَ ازديارَكِ في الدُّجى الرُّقباءُ

إذ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ

فإنك تراه ينأى بجانبه عن ذكر الأطلال والديار إلى مخاطبة صاحبته مباشرة، كما قد يفعل الصوفية في غزلهم، ولعله من أجل ذلك لم يسمِّ صاحبته على طريقتهم واكتفى بأن جعلها ضياء لا يحل في ظلام إلا وينيره. ونحن نجد الشعراء يشبهون صواحبهم بالشمس والقمر ويجعلونهن نورًا وضياءً؛ ولكن العبارة في البيت ونظامها وما فيها من الجمع بين الظرفين "إذ حيث" تدل على تكلف الشاعر وأنه يريد أن يعبر عن معنى غير طبيعي، معنى يأتي به من بيئة الصوفيين ليستولي به على عقل ممدوحه وكان صوفيًّا، وانظر إلى ما يعقب به على هذا البيت؛ إذ يقول:

قلقُ المليحةِ -وهي مسكٌ- هتكها

ومسيرُها في الليلِ وهي ذُكاءُ1

أسفي على أسفى الذي دَلَّهتني

عن علمِه فبه عليّ خفاءُ

وشكيَّتي فقدُ السَّقامِ لأنَّهُ

قد كان لَمَّا كان لي أعضاءُ

فإنك تلاحظ كأن شاعرًا من شعراء الصوفية هو الذي يؤلف هذه الأبيات؛ فقد تغلغلت فيها الأفكار الصوفية إذ بدأ فعبر بالقلق عن السير، وهو تعبير وجداني، ثم استمر يظهر تدلهه وحيرته في حبه وما أصابه من نحول وهزال على نحو ما يظهر العشاق من الصوفيين المدلهين.

وكثيرًا ما يعمد إلى ذلك المتنبي حتى في أشعاره الأخرى التي لم يمدح بها أحدًا من المتصوفة، وهل تدلهه في حبه ودعواه السقم والنحول في شعره إلا أثر من آثار هذه الصوفية المصطنعة، وأنه يستطيع أن يجاري المتصوفة وغيرهم من البيئات في أفكارهم وأساليبهم الخاصة.

1 هتكها: هتك لها. وذكاء: الشمس. وخبر مسيرها محذوف، تقديره: هتك لها.

ص: 317

‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

4-

تصنُّعُ المتنبي للعبارةِ الصوفيةِ وشاراتِهَا:

وهذه الصوفية يمكن أن يُلحظ تأثيرها في شعر المتنبي من جهة أخرى غير جهة الرمزية والأفكار والمعاني؛ إذ نرى في شعره تأثرًا آخر لا يأتي من أنه يستعير

ص: 317

أفكار المتصوفة ومعانيهم؛ إنما يأتي من استعارته لطريقتهم في التعبير وما يتصل بها من ظروفها وأحوالها الخاصة، فإن المتنبي حين عدل بشعره إلى العبارة الصوفية كان قد أسلم هذا الشعر إلى صعوبات في التركيب، وهي صعوبات كانت تميز أساليب المتصوفة في هذه العصور؛ لأن اللغة لم تكن قد اتسعت بعد لأداء أفكارهم ومعانيهم.

ومن أجل ذلك كنا نجد عند المتنبي كل ما يميز تعبير المتصوفة من انحرافات والتواءات كأن يكثر من الضمائر أو من أسماء الإشارة أو من حروف النداء أو من التصغير فيبعث في التعبير حالًا غريبة من التعقيد. وقد يكون من الغريب أن نربط بين هذه الأشياء والتصوف؛ ولكنها الحقيقة الواقعة، وقد لاحظها القدماء في بعض الأبيات: لاحظها صاحب اليتيمة1 في قوله يصف فرسًا:

وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ

سبوحٌ لها منها عليها شواهدُ2

وقوله:

ولولا أنني في غير نومٍ

لبِتُّ أظنني منِّي خيالا

وقوله:

ولكنك الدُّنيا إليَّ حبيبةً

فما عنك لي إلا إليك ذهابُ

وواضح ما في هذه الأبيات من كثرة الضمائر، وهي كثرة تأتي في أساليب المتصوفة لاعتمادهم في أشعارهم على فكرة الحلول وما يتفرع عنها من الملابسة والتجريد، حتى يستطيع الشاعر أن يستخرج من الفرس شواهد تشهد لها عليها، وحتى يستطيع أن يتصور من نفسه خيالًا لحقيقته، وحتى يملأ صاحبه عليه الدنيا، فما له ذهاب ولا منصرف إلا إليه. وهذه الضمائر التي نلاحظها في تلك الأبيات نلاحظ مثلها أسماء للإشارة كثيرة في أبيات أخرى، كقوله في قصيدة الأوراجي السابقة:

1 اليتيمة 1/ 145.

2 الغمرة: الشدة. السبوح: الفرس شديدة الجري.

ص: 318

لو لم تكنْ من ذا الوَرَى اللَّذْ منك هُوْ

عقمتْ بمولد نسلها حواءُ

فقد جاء في البيت: بذا واللذ، كما جاء: بهو، وأخرج التعبير على هذا النحو الملتف؛ لأنه يريد أن يعبر عن فكرة صوفية، هي فكرة الحلول؛ فهو يريد أن يقول: إن ممدوحه من الورى والورى منه، كما يقول أصحاب الحلول في الذات العليَّة، ومن ذلك قوله في ممدوح آخر:

وبه يُضَنُّ على البريةِ لا بها

وعليهِ منها لا عليها يُوسَى1

فهو يقارن بين ممدوحه وبين الورى ويتصوره تصور الصوفية لله، وهو لذلك يقع في الضمائر الكثيرة، كما يقع في أسماء الإشارة هي الأخرى على نحو ما نرى في مثل قوله:

يا أيها الملكُ المصفَّى جوهرًا

من ذاتِ ذي الملكوت أسْمَى من سما

فليس من شك أن "ذات ذي" هنا غريبة، ولكننا ننسى؛ فالمتنبي يتصنع لتعبيرات صوفية. ولعل القارئ لاحظ هذا النداء الذي بدأ به البيت وقد أكثر منه في شعره كثرة مفرطة كقوله:

هذى برزت لنا فهجت رَسِيسًا

ثم انثنيتِ وما شفيتِ نَسِيسًا2

وهو بيت يشعر الإنسان إزاءه كأنه صوفي لهذا البروز، ثم هذا الانثناء؛ ولكن الغريب فيه هو هذا النداء باسم الإشارة، ثم ما أغرب به على قارئه من حذف حرف النداء، واقرأ هذا البيت:

إِذا عَذَلوا فيها أَجَبتُ بِأَنَّةٍ

حُبَيِّبَتا قَلبًا فُؤادا هَيا جُمْلُ

فإنك ترى اختلاطًا في الشطر الثاني، وليس لهذا الاختلاط من مصدر سوى أن المتنبي أكثر من النداء إذ أصل التعبير: يا حبيبتي يا قلبي يا فؤادي يا جمل. وهو إكثار أوقعه فيه تصنعه لأساليب المتصوفة التي تعتمد على ألفاظ الكشف والمشاهدة، وبذلك تقترب من الأساليب الشفوية، ولعلنا بذلك نستطيع أن نعلل لكثرة

1 يوسي: من أسى عليه إذا حزن.

2 الرسيس: مس الحمى، أراد ما ثبت من الهوى. النسيس: بقية النفس

ص: 319

أسماء الإشارة في ديوان المتنبي؛ فقد ذكر صاحب الوساطة أن ما بشعره من هذه الأسماء يربي على ما يوجد في مجموعة من الدواوين القديمة1 وكان الأقرب أن يكثر ذلك في القديم ويقلّ في الحديث لانفصال الشعر عن الأسلوب الشفوي، ولأنه أصبح يكتب كما يكتب النثر، والمتنبي نفسه يقول في بعض أشعاره:

وأخلاقُ كافورٍ -إذا شئت مدحَهُ

وإن لم أشأ- تملى علي وأكتُبُ

فهو يسمي النَّظم كتابة، ولذلك كان من المحتم أن تكون به سمات الأسلوب الكتابي فكيف جاءت هذه الكثرة من أسماء الإشارة؟ جاءته -كما قلنا- من هذا التصنع لعبارات المتصوفة التي تعتمد على الكشف والمخاطبة في الحضرة، كما جاءته لنفس السبب هذه الكثرة من حروف النداء، وكما جاءته هذه الضمائر الكثيرة من حروف النداء، وكما جاءته هذه الضمائر الكثيرة في شعره؛ إذ كان يحاول أن يعبر تعبيرات صوفية تصور الحلول والتجريد والملابسة وما يتبع ذلك من الكشف والمشاهدة، وكان التعبير عن هذه الأفكار لا يزال -كما أسلفنا- حديثًا في اللغة لم تلن له ولم تمرن عليه؛ فكانت تظهر هذه الانحرافات والصعوبات في الأسلوب.

ولكن إذا أمكن أن نعلل لهذه الجوانب المختلفة في أسلوبه باصطناع عبارات المتصوفة؛ فكيف يمكن أن نعلل بنفس العلة لاستعماله التصغير في أشعاره وإكثاره منه على نحو ما رأينا في بيت النداء السابق.

إِذا عَذَلوا فيها أَجَبتُ بِأَنَّةٍ

حُبَيِّبَتا قَلبًا فُؤادًا هَيا جُملُ

فنحن نراه يصغر: حبيبته، تصغير تعظيم، ومن ذلك قوله الآنف الذكر:

أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ

لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَّنادِ

فقد صغر ليلة أيضًا تصغير تعظيم، ويكاد الإنسان لا يجد شاذة من شواذ التصغير إلا ولها أمثلة في شعره؛ فهو يصغر فعل التعجب كقوله:

أَيا ما أُحَيسِنَها مُقلَةً

وَلَولا المَلاحَةُ لَم أَعجَبِ

ويصغر اسم الإشارة في قوله:

1 الوساطة ص97.

ص: 320

أَذا الغُصنُ أَم ذا الدعصِ أَم أَنتِ فِتنَةٌ

وَذَيّا الَّذي قَبَّلتُهُ البَرقُ أَم ثَغْرُ

وعلى هذا النمط ما يزال يكثر من التصغير في ديوانه؛ ولكن كيف نربط بين التصغير وأسلوب المتصوفة؟ إن الربط بينهما يكاد يكون غير واضح، وقد يكون أقرب من ذلك ما علل به العقاد هذه الظاهرة، إذا ذهب إلى أنها نتيجة غرور المتنبي وازدرائه للأشياء أو هي متصلة بمبالغته فهو يبالغ للتحقير1؛ غير أن هذا التعليل لا يثبت في نفس الظاهرة؛ إذ نرى المتنبي لا يقف بتصغيره عند التحقير؛ بل يذهب به إلى التعظيم كما يذهب به إلى التحقير، على نحو ما رأينا في تصغيره لحبيبته ولليلته في البيتين الأولين.

والحق أن تعليل العقاد لا يطَّرِد في أمثلة الظاهرة، ولذلك كان لا يَصْلُح تفسيرًا لها، وكنا نرى أن من الأقرب أن نعلل لها بتصنع المتنبي لأساليب المتصوفة؛ إذ نراها تقترن بظواهر أخرى من شارات عباراتهم التي اقترضها منهم: كظاهرة أسماء الإشارة في البيت الأخير. ونحن نجد شاعرًا صوفيًّا متأخرًا يصطنع هذا الأسلوب من التصغير في شعره وهو ابن الفارض، وكان يكثر منه كثرة مفرطة كما نرى في قصيدته اليائية2 التي يقول فيها:

يا أُهَيْلَ الوُدِّ أنّى تُنْكِرُو

نيَ كَهْلًا بعدَ عِرفاني فُتَيّ

واستمر يصغر على هذا النحو الذي نراه في كلمة: فتي، وقد يبدو أن هذه مقدمة لا تسوّغ نتيجتها؛ إذ المعقول أن يكون ابن الفارض تأثر أسلوب المتنبي؛ لأنهم متأخر عنه، على أن ذلك هو ما نريد أن نثبته؛ فقد اعتبر أسلوب المتنبي أسلوبًا صوفيًّا وأخذ يقلده المتصوفة وكأنهم أحسوا أن التصغير إحدى شارات هذا الأسلوب ومميزاته.

ولعل القارئ يعجب إذا قررنا أن المتنبي هو خير شاعر يصور لنا أساليب المتصوفة في القرن الرابع، وأنه يبلغ من ذلك ما لا يبلغه الحلّاج والشِّبلي والْجُنَيد

1 مطالعات في الكتب والحياة ص124.

2 انظر: ديوان ابن الفارض "طبع المطبعة الخيرية" ص24.

ص: 321

وغيرهم من متصوفة هذا القرن، وقد يكون من الغريب أن نذهب هذا المذهب؛ بينما نعترف بأن المتنبي لم يكن متصوفًا ولكنها الحقيقة الواقعة، فإن من يحاكون شيئًايبلغون في محاكاته ما قد يقصر عنه أصحاب هذا الشيء أنفسهم، ولذلك كان الممثل يضيف طعمًا جديدًا إلى "الدراما" التي يمثلها، ويعطينا متعة غير المتعة التي نحسها حين قراءتها منفردين؛ لأنه يصور كل ما يمكن من حركات تصحب العبارات تصويرًا يؤثر في نفوسنا تأثيرًا بعيدًا.

والمتنبي لم يكن متصوفًا؛ إنما كان ممثلًا للتصوف يقترح عباراته في الشعر، وما يزال يطلب جميع شاراتها وحركاتها، وما يمكن أن تخرج فيه من ظروف مختلفة تكثر فيها الضمائر أو تكثر فيها أدوات النداء أو تكثر أسماء الإشارة، وربما التقط في أثناء ذلك تعبيرًا فيه تصغير، فأحس أن هذه سمة صوفية، وأخذ يقلدها ويعممها في تراكيبه وعباراته، وبذلك جمع في أساليبه كل ما يمكن من خصائص التعبير الصوفي وهيئاته، وبلغ من تمثيله ما لم يبلغه أصحابه الأصليون.

يقول الجاحظ: "إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم لا يغادر من ذلك شيئًا، وكذلك تكون حكايته للخرساني والأهوازي والزنجي والسندي والحبشي وغير ذلك، نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم؛ فأما إذا حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جُمعت كل طُرْفة في كل فأفاء في الأرض في لسان واحد. ولقد كان أبو دَبّوبة الزنجي مولى آل زياد يقف بباب الكرخ بحضرة المكارين فينهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بَهير إلا نهق، وقبل ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة فلا تنبعث لذلك ولا يتحرك منها متحرك، حتى كان أبو دَبُّوبة يحركه، وكأنه قد جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق واحد، وكذلك في نباح الكلاب"1.

وعلى هذا النحو الذي نراه عند أبي دبوبة كان المتنبي يحكي أساليب المتصوفة فيجمع كل الطرف والصور التي تمثل هذه الأساليب، وكان يبلغ من ذلك ما لا يبلغه المتصوفة من أنفسهم؛ بحيث لا نرانا نبعد إذا قلنا إن أهم شاعر يمثل

1 البيان والتبيين 1/ 69 وما بعدها.

ص: 322

عبارات المتصوفة ويصور أساليبهم -في أثناء القرن الرابع- هو المتنبي؛ لأنه كان يحكي بعباراته كل صيغهم، ويصور في أساليبه كل صورهم وشاراتهم، حتى ليحار الباحث ويظن أن المتنبي كان صوفيًّا، وهو ظن واهم؛ فلو أنه كان صوفيًّا ما بلغ هذا المبلغ من التقليد والمحاكاة والتمثيل، إنما كان متصنعًا لهذا التصوف، وكان لا يترك مظهرًا من مظاهره ولا إيماءة من إيماءاته إلا ويسلكها في عباراته ويجمعها في أساليبه.

على أن هذا الالتجاء لأساليب المتصوفة وما سبقه من التجائه لأساليب المتشيعة بعث فيها حالًا من الغلو والمبالغة في مدح أصحابه؛ حتى ليخيل إلى الإنسان -في كثير من الأحيان- أنه يقرأ مدحًا لإمام من أئمة المتشيعة أو المتصوفة؛ إذ كان يذهب مذهبهم في المبالغة، فيخرج إلى ضروب غريبة من الغلو والإفراط، واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في بعض ممدوحيه:

لَو كانَ ذو القَرنَينِ أَعمَلَ رَأيَهُ

لَمّا أَتى الظُّلُماتِ صِرنَ شُموسا

أَو كانَ صادَفَ رَأسَ عازَرَ سَيفُهُ

في يَومِ مَعرَكَةٍ لَأَعيا عيسى

أَو كانَ لُجُّ البَحرِ مِثلَ يَمينِهِ

ما انشَقَّ حَتّى جازَ فيهِ موسى

أَو كانَ لِلنيرانِ ضَوءُ جَبينِهِ

عُبِدَت فَصارَ العالَمونَ مَجُوسا

فإننا إن لم نعرف من قيلت فيه هذه الأبيات رجحنا أنه بديل من أبدال الصوفية أو نقيب من نقباء الشيعة. وحقًا أن هذه المبالغة أخذت تقل مضاعفاتها كلما تقدم به الزمن؛ ولكنها استمرت معه حتى نراه يقول لعضد الدولة:

النَّاسُ كالعابدين آلهةً

وعبدُهُ كالموحِّدِ الله

وهذه المبالغة الغريبة التي نجدها عند المتنبي يمكن أن يعلل لها من جانب آخر، هو ما شاع في بيئة الأدباء والنقاد من الدعوة للمبالغة والغلو كما نرى عند قدامة1 غير أنه يلاحظ أن شاعرًا لم يبلغ من ذلك ما بلغه المتنبي؛ إذ كانت تُذْكي هذه الروح عنده بواعث من التشيع والتصوف. وعمم المتنبي هذه

1 نقد الشعر "طبع القاهرة" ص35.

ص: 323

المبالغة في شعره ولم يقف بها عند موضوع خاص، فنحن نراها تتسرب من المدح إلى الموضوعات الأخرى من غزل وغير غزل، وكأنها لون جديد يريد أن يوشِّي به شعره، وأن يطرز به قصائده؛ بل إنه ليبدي إزاء استعماله نوعًا من الإصرار الحماسي، حتى ليحس الإنسان عنده في كثير من الأحيان بضرب من السقوط؛ فإن الشعر إذا أفرط فيه الشاعر إفراطًا شديدًا إلى درجة الغلو والمغالاة سقط إلى مستوى دون مستوى طبيعته الحقيقية، وانظر إلى قوله:

لَو كانَ عِلمُكَ بِالإِلَهِ مُقَسَّمًا

في الناسِ ما بَعَثَ الإِلَهُ رَسولا

أو كان لفظُك فيهمُ ما أنزل الـ

ـتوارةَ والفرقانَ والإنجيلا

فإن الإنسان يحس كأن المعاني أعيته فذهب إلى استصغار أمور الأنبياء، وكان يستطيع أن يبلغ من وصف ممدوحه ما يريد، دون أن يكلف نفسه هذا العناء من المقارنة والمفاضلة بينه وبين الأنبياء، وليس من شك في أن الشعر حين يخرج عن حدود الاعتدال والقصد في التفكير لا يكون فيه وجدان إلا وجدانًا صناعيًّا ما يزال المتنبي يتعب في إخراجه وتصويره، وحقًا ما يقوله ابن الرومي.

وإذا امرئٍ مدحَ امرأً لنوالِهِ

وأطالَ فيهِ فقد أرادَ هِجَاءَهُ

لو لم يقدِّر فيه بُعْدَ المُسْتقَى

عند الورودِ لَمَا أطال رِشَاءَهُ

والمتنبي لم يكن يطيل قصائده؛ ولكنه كان يطيل أفكاره طولًا من نوع آخر، هو هذه المبالغة التي تستقر دائمًا في صياغة شعره وتستوعب مجهودًا واسعًا في التفكير والتصوير، وهو مجهود شاق؛ غير أنه لا يرضي النقاد؛ إذ يكشف لهم سر صاحبه، وأنه يرْكَبُ طرقًا ملتوية من التصنع في فنه، ولكننا ننسى فنحن في القرن الرابع قرن التصنع، ومن الخطأ أن نطلب إلى شاعر في هذا القرن أن يخرج على ذوق معاصريه وما كان يعجبهم من الإغراب في التعبير والأفكار، وكأنما لم يبقَ لهم إلا أن يتصنعوا هذه الوجوه من التصنع لمبالغات شاذة، أو عبارات مذهبية أو ثقافية منحرفة، وهي حال يمكن أن تعد تفسيرًا لما أصاب الشعر -في هذه العصور- من جمود، أي يحس الشعراء بأنهم يبدئون ويعيدون في

ص: 324