المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفاطميون ونهضة الشعر المصري: - الفن ومذاهبه في الشعر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع

- ‌الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم

- ‌الشعر صناعة

- ‌ صناعة الشعر الجاهلي:

- ‌ الصناعة الجاهلية مقيدة:

- ‌ الطبع والصنعة:

- ‌ الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:

- ‌ زهير ومذهب الصنعة:

- ‌ نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي:

- ‌ الشعر التقليدي والغنائي:

- ‌الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة

- ‌الشعر العربي نشأ نشأة غنائية

- ‌ تعقد الغناء الجاهلي:

- ‌ مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي:

- ‌ موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي:

- ‌ تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌ انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام:

- ‌ انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي:

- ‌ نمو مقطوعات الشعر الغنائي:

- ‌ تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي

- ‌الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع

- ‌الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة

- ‌ العلاقات اللغوية:

- ‌ العلاقات الثقافية:

- ‌ ازدهار مذهب الصنعة:

- ‌ بشار وصنعته في شعره:

- ‌ صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ:

- ‌ صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ:

- ‌ ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ:

- ‌ التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة

- ‌البحتري: نشأته وحياته وصنعته

- ‌ الخلافُ بينَ البحتريِّ وأصحابِ التَّصنيعِ:

- ‌ البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ:

- ‌ ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:

- ‌ الهجاءُ السَّاخِرُ:

- ‌جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي

- ‌الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع

- ‌أبو تمام أصله وحياته وثقافته

- ‌ ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ التصنيعِ القديمةِ:

- ‌ التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ تصنيعٍ جديدةٍ:

- ‌ المزجُ بين ألوانِ التصنيعِ القديمةِ والجديدةِ:

- ‌ قَصِيدةُ عموريةَ:

- ‌ ابنُ الْمُعْتَزِ، نشأَتُهُ وحَيَاتُهُ وتصنيعُهُ:

- ‌ تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ:

- ‌ الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنع

- ‌التصنع في الحضارة العربية

- ‌ التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ:

- ‌ التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ:

- ‌ ألوانُ التصنيعِ العقليةِ لا تستوعَبُ ولا تتحولُ إلى فنٍ:

- ‌ جمودُ الشِّعرِ العَرَبي:

- ‌ التَّحْوِيرُ:

- ‌الفصل الثاني: الثقافة والتصنع

- ‌المتنبي نشأته وحياته وثقافته

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ:

- ‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ:

- ‌ المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ:

- ‌ تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ:

- ‌ حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ:

- ‌ شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتلفيق

- ‌ميهار أصله وتشيعه ومزاجه

- ‌ تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ:

- ‌ تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ:

- ‌ الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:

- ‌ غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ:

- ‌ الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار وتحوُّلُه إلى شعرِ مناسباتٍ:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في التصنع

- ‌أبو العلا نشأته وحياته وثقافته

- ‌ ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:

- ‌ اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ:

- ‌ اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ:

- ‌ صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌ اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ:

- ‌ اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصيَّةُ الأَنْدَلُسِ:

- ‌ الشِّعْرُ في الأَنْدَلُسِ:

- ‌ نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي:

- ‌ الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شَخْصِيَّةُ مِصْرَ:

- ‌ الشِّعْرُ في مِصْرَ:

- ‌ الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ:

- ‌ الأيوبيونَ ونهضةُ الشِّعرِ في عهدِهِمْ:

- ‌ المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ:

- ‌ العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ:

- ‌خَاتِمَةٌ:

- ‌ الصُّورةُ العامَّةُ لِلْبَحْثِ:

- ‌ الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ:

- ‌ الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ:

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار:

الفصل: ‌ الفاطميون ونهضة الشعر المصري:

سُجَّدٌ للكئوسِ من دون تسبيـ

ح سوى نغمةٍ لعودٍ وزمْرِ"1

وروى له صاحب اليتيمة أبياتًا أخرى ذكر فيها دير القصير ومجونه2 به، ولكنا لا نستطيع أن نحكم حكمًا واضحًا منها على شاعريته. واشتهر مع هذين الشاعرين في نفس الحقبة ابن طباطبا نقيب الطالبين بمصر، ونجد في شعره الذي رواه صاحب اليتيمة وصاحب المغرب نفس النغمة السابقة من اللهو والمجون كقوله3.

أأتركُ الشربَ والأَنواءُ دائمةٌ

والطَّلُّ منها على الأشجارِ منثورُ

والغصن يهتز كالنشوانِ من طربٍ

والوردُ في العودِ مطويٌّ ومنشورُ

وكان له إلى جانب ذلك شعر في الزهد4. ومهما يكن فإن مصر حتى الآن لم تستطع أن تقدم لنا شاعرًا ممتازًا من طراز الشعراء العباسيين ولا من طراز مقارب لهم، فكل ما هناك أنها أخذت -في هذه العصور- تستعد للنهضة الفنية المنشودة التي سنراها في عصر الفاطميين.

1 المغرب ص273.

2 يتيمة 1/ 361.

3 المغرب ص203. والأنواء: الأمطار.

4 ابن خلِّكَان 1/ 39.

ص: 466

4-

‌ الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ:

إذا تركنا هذه العصور إلى العصر الفاطمي خيِّل إلينا كأنما طلعت الشمس من مغربها، كما يقول المعز نفسه أول خلفائهم بمصر في كتاب له1، فقد اتخذ الفاطميون من القاهرة عاصمة لهم، وأقاموا فيها دولة عظيمة أشبه ما تكون بإمبراطورية ضخمة، إذ كان سلطانهم يمتد من شواطئ إفريقية الشمالية

1 الاتعاظ: للمقريزي "طبعة بونتز" ص141.

ص: 466

إلى نهر الفرات؛ وبذلك أعادوا لمصر مجدها القديم في عصر الفراعنة، إذ استردت ما كان لها في الشرق من سلطان وهيبة وثروة. وإن الإنسان ليخيَّل إليه حين يقرأ في تاريخ الفاطميين وما كانوا عليه من بذخ وترف وثراء أن مصر ألقت في حجورهم كل ما تملك من كنوز وزروع، وأي كنوز وزروع؟ لقد ساق المؤرخون ذلك علينا في صور تشبه أن تكون أقاصيص، ولذلك شك فيها بعض الباحثين1 غير أن هذا الشك لا يغني أمام الوثائق التاريخية الصحيحة، فإن المؤرخين يجمعون على ضخامة ثروة هذه الدولة، ويكفي للدلالة على ذلك أن نعرف أن يعقوب بن كلس وزيرها في القرن الرابع كان يأخذ من الخليفة مائة ألف دينار في العام، ولما توفي ترك من الجواهر ما قيمته أربعمائة ألف دينار ومن المصوغات ما قيمته خمسمائة ألف دينار2، ويقولون إنه أُنفق في كفنه من العطور التي استخدمت في تجهيزه عشرة آلاف دينار3، وكذلك نجد في أوائل القرن السادس الهجري وزيرهم الأفضل الجمالي يخلِّف ثروة ضخمة، إذ ترك ستمائة ألف ألف دينار عينًا، ومائتين وخمسين أردبًّا دراهم نقد مصر، وخمسة وسبعين ألف ثوب أطلس، إلى غير ذلك من طُرَف وتحف وصفها ابن ميسِّر وابن خلكان4، وإذا كان هذا حال وزرائهم فما حال خلفائهم وأمرائهم؟ ولعلنا لا نعجب بعد ذلك إذ نرى القاضي الفاضل يصف كنوزهم التي استولى عليها صلاح الدين فيقول: "وفي ثالث عشرين -يعني ربيعًا الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة- كُشِفَ حاصل الخزائن الخاصة بالقصر

ومقدار ما يحدس أنه خرج من القصر ما بين دينار ودرهم ومصاغ وجوهر ونحاس وملبوس وأثاث وقماش وسلاح ما لا يفي به ملك الأكاسرة، ولا تتصوره الخواطر الحاضرة ولا يشتمل عليه مثله الممالك العامرة، ولا يقدر على حسابه إلا من يقدر على

1 STANLEY، LANE-POOLE، THE STORY OF CAIRO،P. 133

2 الإشارة إلى من نال الوزارة: لابن منجب ص23.

3 ابن خلِّكان 2/ 336.

4 ابن خلكان 1/ 222 وقد بالغ ابن ميسر في وصف هذه الثروة، انظر: أخبار مصر: لابن ميسر ص57.

ص: 467

حسابات الخلق في الآخرة1.

والحق أن العصر الفاطمي يفتح في تاريخ مصر صفحة جديدة، وهي صفحة زاهية بما تصوره من ألوان الثراء والبذخ وما ينطوي في ذلك من ترف ونعيم، ولذلك لم يكن عجبًا أن يزورها المقدسي في أواخر القرن الرابع الهجري فيقول عنها "هي الإقليم الذي افتخر به فرعون على الورى، أحد جناحي الدنيا، ومفاخره لا تحصى، مصره قبة الإسلام، ونهره أجل الأنهار، وبخيراته تغمر الحجاز، وبأهله يبهج موسم الحاج، وبُرُّهُ يعم الشرق والغرب، قد وضعه الله بين البحرين، وأعلى ذكره في الخافقين، حسبك أن الشام -على جلالتها-رُسْتاقة، والحجاز مع أهلها عياله"2. واستتبع هذا المركز لمصر وما كانت فيه من نعيم وثراء في أثناء هذا العصر أن انبعث فيها نهضة أدبية في الشعر كادت أن تتفوق بها على ما كان بالأندلس وغيرها من الأقاليم، وساعد على ذلك أن الفاطميين بذلوا للشعراء كل ما يستطيعون من جوائز ومكافآت. روى المقريزي في أثناء كلامه على بركة الحبش أنه "كان بها طاقات، وعليها صور الشعراء، كل شاعر واسمه وبلده، وعلى جانب كل من هذه الطاقات قطعة من القماش كتب عليها قطعة من شعر الشاعر في المدح وعلى الجانب الآخر رفٌّ لطيف مذهّب، فلما دخل الخليفة الآمر "495- 524" وقرأ الأشعار أمر أن توضع على كل رفٍّ صرَّة مختومة فيها خمسون دينارًا، وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده"3. ونجد الشعراء في كل مكان وزمان من العصر الفاطمي وقد كثروا كثرة مفرطة، حتى قالوا إنه لما مات يعقوب بن كلس في القرن الرابع رثاه مائة شاعر، ونجد في الخريدة مجموعة من الشعراء تتخصص ببني رزَّيك، كما نجد كثيرين آخرين يمدحون الملوك والخلفاء من مثل طلائع الآمري المنسوب

1 خطط المقريزي 1/ 496.

2 أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم "طبع ليدن" ص139.

3 خطط المقريزي 1/ 486.

ص: 468

إلى الخليفة الآمر"1 ومثل الشريف ابن الأخفش وله مدائح كثيرة في الآمر والحافظ2، ويظهر أن الشعراء الذين يمدحون الخلفاء زادوا عن الحاجة في عهد الحافظ "524- 544" ولذلك نراه يأمرهم بالإيجاز والاختصار في قصائدهم3:

أمرتنَا أن نصوغَ المدحَ مختصرًا

لم لا أمرتَ ندى كفَّيكَ يُخْتَصَرُ

واللهِ لا بد أن نجري سوابقَنا

حتى يبين لها في مدحك الأثرُ

ومن يتصفح الخريدة يلاحظ حقًّا أن الشعراء اتسعوا في مديح الدولة الفاطمية وخاصة في أواخر عصرها اتساعًا شديدًا، واخذوا يبالغون في مدح خلفائها حتى ليرفعونهم إلى مرتبة الآلهة كقول الشريف ابن الأخفش في مديح الحافظ: وقد بدأه بغزل وخمر ثم خرج إلى المديح فقال4:

صرفُ جريالٍ يرى تحريمها

من يرى الحافظ فردًا صمدا

بَشَرٌ في العين إلا أنهُ

من طريقِ العقلِ نورٌ وهدى

جل أن تدرِكُهُ أعينُنا

وتعالى أن نراه جسدا

فهو في التسبيحِ زلفى راكع

سمع اللهُ به من حَمَدا

تُدْرك الأفكارُ فيه نبأ

كاد من إجلالِه أن يُعْبَدا

وواضح أن الشاعر يسبغ على الخليفة صفات ربه، فهو يخاطبه وكأنه يخاطب رب العالمين، وعلق على هذه الأبيات صاحب الخريدة بقوله:"اقتصرت على هذه أنموذجًا لشركه، وأخَّرت الباقي من سلكه". وكنا نأمل من العماد أن لا يقتصر وأن لا يؤخر حتى نطلع بصورة واضحة على مدائح الشعراء للفاطميين وما اتخذوا فيها من صنوف الغلو، غير أنه كان كاتبًا لصلاح الدين الذي قامت دولته السنية للقضاء على دولة الفاطميين الشيعية، ولذلك رأيناه ينبذ مثل هذا الشعر الذي يتطرف في مديح الفاطميين، وصرح بذلك مرارًا في

1 انظر خريدة القصر وجريدة العصر "قسم شعراء مصر" للعماد الأصفهاني "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" 2/ 166.

2 انظر الخريدة 1/ 238.

3 الخريدة 2/ 64.

4 الخريدة 1/ 241. والجريال: الخمر.

ص: 469

خريدته، يقول في ترجمة شاعر يسمى ابن الضيف:"كان من دعاة الأدعياء والغلاة لهم في الولاء، وكان في حدود سنة خمسمائة في عهد آمرهم، وله فيه مدائح كثيرة، لدواعي المنائح مثيرة، وقع إلىّ ديوانه بخطه، وكنت عازمًا لفرط غلوه على حطه؛ لأنه أساء شرعًا، وإن أحسن شعرًا، بل أظهر كفرًا، لكنني لم أترك كتابي منه صفرًا "1. وساق له قطعة صغيرة من شعره، ولم يقف صاحب الخريدة بإهماله لهذا الجانب عند الشعراء المفرطين في تشيعهم، بل تعداهم إلى غيرهم من مثل ظافر الحداد المتوفى عام 529 للهجرة، يقول في ترجمته: "ظافر بحظه من الفضل ظافر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر، وما أكمله لولا أنه من مدَّاح المصري والله له غافر"2. ومع ذلك ساق العماد بعض قطع لهؤلاء الشعراء وغيرهم، تصوِّر غلوهم في المديح على نحو ما رأينا عند الشريف ابن الأخفش كما ساق طرفًا من القصائد التي قيلت في معارك الصليبيين في أثناء العصر الفاطمي.

والحق أن الخريدة تمثل لنا شخصية مصر تمام التمثيل إذا نحن أغضينا النظر عن مدائح الفاطميين، بل إن هذه المدائح نفسها صورت في الخريدة إلى حد ما. ونحن في الواقع نغفل مصر لا بإغفالنا للخريدة ونحوها من الكتب المخطوطة وعدم عنايتنا بقراءتها فضلا عن نشرها، بل نحن نغفلها ولا نقرؤها حتى في الكتب المطبوعة، وكذلك الشأن في دواوين شعرائها لا نقرؤها ولا ننشرها نشرة علمية صحيحة. وإن أي شخص يعنى بمصر ويقرؤها في مراجعها يجدها تملك عليه نفسه، فقد عبَّرت خير تعبير عن شخصيتها، وماذا تريد من شعرائها؟ أتريد تصويرهم لبيئتهم وما فيها من جنات وزروع؟ لقد بلغوا من ذلك كل مبلغ،

1 الخريدة 1/ 285. ويقول العماد: إنه كان يقلد ابن هانئ، ويقول ابن سعيد: "إنه كثير المعارضة لطريقة ابن هانئ الأندلسي في الغلو وصقل الألفاظ وقعقعتها".

2 الخريدة 2/ 3.

ص: 470

وانظر إلى تميم بن المعز يقول في النيل1:

يومٌ لنا بالنيلِ مختصرٌ

ولكل يوم مسرَّة قصرُ

والسُّفنُ تجري كالخيولِ بنا

صعدًا وجيشُ الماءِ منحدرُ

وكأنَّما أمواجُهُ عُكَنٌ

وكأنما داراته سرَرُ2

ويصف ابن قلاقس3 آخر شعراء هذا العصر مغرب الشمس: هذا المنظر الذي تشتهر به مصر، فيقول وقد رآها تغرب في عين النيل:

انظرْ إلى الشمسِ فوق النيلِ غاربةً

واعجب لما بعدها من حُمْرةِ الشَّفقِ

غابت وأبدت شعاعًا منه يخلُفُهَا

كأنها احترقت بالماءِ في الغرقِ

وتعلق الشعراء بوصف الزهور والزروع التي تحف بالنيل، ومن أشهرهم في ذلك ابن وكيع التنيسي4 المتوفى عام 393 للهجرة. كقوله في وصف الأزهار 5:

من نرجسٍ أبيضَ كالثغورِ

كأنه مخانقُ الكافورِ6

وروضةٍ تزهرُ من بنَفسجٍ

كأنها أرضٌ من الفيروزجِ

يضحكُ منها زهر الشقيقِ

كأنَّهُ مداهن العقيقِ

وارم بعينيك إلى البَهَارِ

فإنه من أحسن الأزهارِ

كأنه مداهنٌ من عسْجَدِ

قد سُمِّرت في قضبِ الزَّبرجدِ

وتبعه الشعراء يتغنون بهذه الأزهار والأنوار، وأضافوا إليها نغم

1 انظر ترجمة تميم في: ابن خلكان واليتيمة والحلة السيراء لابن الأبار "طبعة أوربا" ص291. وله ترجمة مستفيضة في مسالك الأبصار "انظر القسم الثاني من نسخة مخطوطة بدار الكتب مأخوذة عن نسخة فوتوغرافية بها ص2180". وقد قال صاحب المسالك أنه يقلد في شعره ابن المعتز على إسفاف وركاكة فيه وقد تشبث مثله بوصف الزهر والخمر والغزل.

2 العكن: جمع عكنة، وهي ما تثنى من طيات البطن سمنًا.

3 آخر شعراء العصر الفاطمي إذ توفي عام 567هـ، وديوانه مطبوع، وشعره يمتلئ بالجناس وضروب التصنع والتكلف.

4 أكبر شعراء مصر في القرن الرابع. ترجم له صاحب اليتيمة وكذلك صاحب المسالك في القسم الثاني عشر من النسخة السابقة، وقد قال: إن له كتابًا اسمه "المنصف" رد فيه شعر المتنبي إلى أصوله ومصادره من الشعر القديم، فهو شاعر ناقد عالم، وشعره كله خمر وزهر وغلمان.

5 يتيمة 1/ 327.

6 مخانق: جمع مخنقة، وهي القلادة.

ص: 471

أخرى من غنائهم بالنواعير، كقول أبي الفرج الموقفي في ناعورةٍ1:

ناعورةٌ تحسبُ في صوتِها

متيمًا يشكو إلى زائرِ

كأنما كيزانُها عصبةٌ

صيبوا بريبِ الزمنِ الواترِ

قد منعوا أن يلتقوا فاغتَدَى

أوَّلهم يبكي على الآخِرِ

ويقول ظافر الحداد2:

وكأنما القُمريُّ ينشد مصرعا

من كل بيتٍ والحمامُ يُجيزُ

وكأنما الدولابُ يزمُرُ كلما

غنَّت وأصوات الضفادع شِيزُ3

وواضح في هذا الشعر ميل الفاطميين إلى جمال التصوير وإدماجه في حسن التعليل، وقد تشبثوا به في شعرهم تشبثًا شديدًا، وهو أحد الألوان المهمة التي تكسب فنهم روعة خاصة، ولعل من الطريف أن الفاطميين كما وصفوا النيل وما على حفافيه من زهور وزروع ونواعير. وصفوا أيضًا ما على ضفتيه من آثار وخاصة الهرمين وأبا الهول، وانظر إلى هذه الصورة التي صورها ظافر الحداد4:

تأمَّل بِنْيَةَ الهرمين وانظرْ

وبينهما أبو الهولِ العجيبُ

كعمَّارِيَّتين على رحيلٍ

لمحبوبين بينهما رقيبُ

وماءُ النيلِ تحتهما دموعٌ

وصوتُ الريحِ عندهما نحيبُ

وهي صورة طريفة تدل على أن صاحبها من أصحاب المخيلات اللاقطة التي تستطيع أن تضم أجزاء المنظر الواسع في الطبيعة بعضها إلى بعض وتؤلف منها صورة مركزة دقيقة، فإذا الهرمان كمحبوبين في عماريتين أو هودجين يبكيان لرحيلهما وفراقهما، وآية هذا البكاء ذلك النيل الذي يجري تحت أقدامهما متجمعًا من دموعهما!

والحق أن الشعر الفاطمي صور بيئة بلاده تصويرًا طريفًا، وهو كما عني بتصوير البيئة التي كان يتنفس فيها عني كذلك بتصوير أهل هذه البيئة

1 الخريدة 2/ 218.

2 الخريدة 2/ 13، وكان أصل ظافر حدادًا، ثم شَدَا الشعر ونبغ، وله أوصاف كثيرة في النيل والنخيل والبلح بأنواعه. انظر: حسن المحاضرة 2/ 229 وما بعدها.

3 الشيز: الآبنوس أو خشب الجوز، يريد صوته.

4 الخريدة 2/ 7.

ص: 472

ونفسياتهم، فقد تعرضت صفحات منه لتصوير موجة المجون التي كانت عامة في هذه العصور، كما تعرضت صفحات أخرى لتمثيل موجة الزهد والتصوف التي سبق أن تحدثنا عنها. ولعل مما يمثلها من بعض الوجوه هذا الشعر الزاهد الذي نجده في الخريدة من مثل قول بعض الشعراء1:

جهادُ النَّفس مفترضٌ فخذْها

بآدابِ القناعةِ والزهادَةْ.

فإن جنحتْ لذلك واستجابتْ

وخالفتِ الهوى فهو الإرادةْ

وإن جمحتْ بها الشهواتُ فاكبحْ

شكيمَتَهَا بمقْمَعَةِ العبادَةْ

عساك تحلُّها درج المعالي

وترفعها إلى رُتَب السَّعادَةْ

وتعلق شاعر يسمى ابن الكيزاني بهذا الجانب يقول صاحب الخريدة عنه: "فقيه واعظ مذكِّر حسن العبارة مليح الإشارة، لكلامه رقة وطلاوة ولنظمه عذوبة وحلاوة، مصري الدار، عالم بالأصول والفروع، عالم بالمعقول والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في علم الأصول، وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث، إلا أنه ابتدع مقالة ضل بها اعتقاده، وزل في مزلقها سداده، وادعى أن أفعال العبادة قديمة، والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة. واعتقد أن التنزيه في التشبيه، عصم الله من ذلك كل أديب أريب ونبيل نبيه، وله ديوان شعر يتهافت الناس على تحصيله وتعظيمه وتبجيله لما أودع فيه من المعنى الدقيق، واللفظ الرشيق، والوزن الموافق، والوعظ اللائق، والتذكير الرائع الرائق، توفي بمصر سنة ستين وخمسمائة، وهو شيخ ذو قبول، وكلام معسول، وشعر خالٍ من التصنع مغسول. والكيزانية بمصر فرقة منسوبة إليه يدَّعون قدم الأفعال، وهم أشباه الكرامية بخراسان"2. ويقول ابن خلكان: "كان زاهدًا ورعًا، وبمصر طائفة ينسبون إليه ويعتقدون مقالته، وله ديوان شعر أكثره في الزهد ولم أقف عليه، وسمعت له بيتًا واحدًا أعجبني وهو:

وإذ لاقَ بالمحبِ غرامٌ

فكذا الوصلُ بالحبيبِ يليقُ

1 الخريدة 2/ 95.

2 الخريدة 2/ 18.

ص: 473

وفي شعره أشياء حسنة"1. ويقول ابن سعيد: "وقفت على ديوانه، وهو مشهور عند الناس قريب من أفهام العامة غير مُرْض عند صدور الشعراء، وديوانه كثيرًا ما يباع في سوق الفسطاط وسوق القاهرة. ولم أََرَ فيه ما يصلح للاختيار"2. ويظهر أن ابن سعيد قسا عليه في الحكم فقد أشاد به صاحب الخريدة، وإن كان لاحظ عليه أن شعره "لم يَخْلُ من وهن اللحن" ولكنه يقول: إن ذلك "مقبول في سبيل الوعظ"3. وروى له قطعة كبيرة من شعره إلا أنها كلها من الغزل الصوفي، وهو غزل كله تواجد، وليس فيه مادية ولا حسية على نحو ما نعرف في غزليات ابن الفارض، وأكبر الظن أنه أراد به إلى معانٍ دينية غير معاني الغزل الحقيقي، فهو من غزل المتصوفة. وعلى كل حال هو غزل سهل سهولة مطلقة، وقد ألِّف أكثره من الأوزان القصيرة. وهو من هذه الناحية أخف وألطف من غزل ابن الفارض؛ لأنه لم يملأه بالتصنع والبديع مثله، ولأننا نحس فيه بجو واسع من الحب الصوفي ومعانيه كقوله4:

اصرفوا عني طبيبي

ودعني وحبيبي

علِّلوا قلبي بذكرا

هـ فقد زادَ لهيبي

طابَ هَتْكي في هواهُ

بين واشٍ ورقيبِ

لا أبالي بفوات النَّفـ

س ما دام نصيبي

ليس من لامَ وإن أطْـ

نبَ فيهِ بمصيبِ

جسدي راضٍ بسُقْمي

وجفوني ونحيبي

وواضح ما في هذا الغزل من روح المتصوفة إذ يتصل مباشرة بمبدأ التوكل عندهم وأنه لا يصح للمريض منهم أن يتعلل بدواء وهذه الموجة من الزهد

1 ابن خلكان 2/ 18.

2 المغرب "القسم الخاص بمصر" ص 261.

3 الخريدة 2/ 40.

4 الخريدة 2/ 20.

ص: 474

والتصوف كان يقترن بها موجة أخرى من الترف، وزكَّاها ما سبق أن عرضنا له من ثراء الفاطميين وما ينطوي في هذا الثراء من دعة. ولعل ذلك ما جعل المقدسي يلاحظ أن أهل مصر أهل ترف وتجمل في ثيابهم1، ونمت هذه الحال على ما يظهر بعد المقدسي، إذ نرى مدينة تنِّيس تخرج -في القرن الخامس- نوعًا جديدًا من نسيج الثياب يسمى: أبا قلمون، وهو نسيج كان يظهر للرائي في ألوان متقلبة2. ولعل مما يدل على هذا الترف من بعض الوجوه ما لاحظه "ناصر خسرو" على أهل مصر من ولعهم بالأزهار واتخاذ أصصٍ لها على سطوح بيوتهم حتى تصير السطوح كأنها حدائق3. ويروي المقريزي أنه:"كان يُصْنَعُ للخليفة بمصر قصر من الورد بقرية من قرى قليوب، كان بها جنان وورود كثيرة، وكان الخليفة يخرج في يوم يسمى يوم قصر الورد إلى تلك القرية متنزهًا"4. وليس من شك في أن هذا كله دليل على أن ذوق مصر أترف في العصر الفاطمي، وساق الناس ترفهم إلى اللهو والقصف، وغرقوا إلى آذانهم في هذه الموجة هم وأمراؤهم، وآية ذلك أن حياة تميم بن المعز كانت لهوًا وخمرًا، وكذلك كان شعره، ولم تكن هذه الموجة من اللهو خاصة بالقصر بل تعدته إلى الناس حتى المشايخ، يقول المقدسي: "إن المشايخ في مصر لا يتورعون عن شرب الخمور"5 ويقول المقريزي: "كانت هناك قاعات مختلفة للخمارين بالفسطاط والقاهرة، وكان الفاطميون يكتفون بمنع الخمر في آخر جمادى في كل سنة"6. وساعد على اتساع هذه الموجة أن الفاطميين اهتموا اهتمامًا بالغًا بأعياد الشعب من إسلامية وقبطية، وينقل المقريزي عن المسبِّحي المتوفى عام 420 للهجرة وصفًا فخمًا لهذه الأعياد نتبين منه أنها كانت "كرنفالات" عظيمة.

1 المقدسي ص205. ويظهر أن هذه النزعة في المصريين كانت أقدم من العصر الفاطمي، انظر الولاة والقضاة: للكندي ص460.

2 الحضارة الإسلامية: لمتز 2/ 298 وورد ذكر أبي قلمون في شعر الشريف للعقيلي وهو من شعراء النصف الأول من القرن الخامس. انظر: المغرب "قسم مصر" ص244.

3 الحضارة الإسلامية 2/ 182.

4 خطط المقريزي 1/ 488.

5 المقدسي ص200.

6 خطط المقريزي 1/ 491.

ص: 475

توقد فيها النار والمشاعل، ويجتمع الناس ومعهم التماثيل والمضاحك والخيال، ويتخذون ما شاءوا من اللهو والفسق والفجور1. ويظهر أن الشعراء اندفعوا في التعبير عن هذه الموجة اندفاعًا، فإن من يقرأ الشعر الفاطمي يجد أكثره زهرًا وخمرًا وغلمانًا كقول ابن وكيع:

غرَّد الطيرُ فنبَّه من نعسْ

وأدرْ كأسَكَ فالعيشُ خُلَسْ

سلَّ سيفُ الفجرِ من غمد الدُّجى

وتعرَّى الصبحُ من ثوبِ الغَلَس2

وإذا كانت موجة الزهد السابقة وجدت من يتخصص فيها كابن الكيزاني، فإن هذه الموجة الماجنة كثر المتخصصون فيها فقد تخصص فيها أول هذا العصر تميم وابن وكيع، ثم جاء شعراء القرنين الخامس والسادس فاتسعوا فيها وزادوا في الطنبور نغمة بل نغمات. واشتهر بغناء هذا اللحن في القرن الخامس الشريف العقيلي في أوله، ثم ابن مكنسة في آخره، ومن شعره في الخمر3:

إبْريقُنا عاكفٌ على قَدَحِ

تخالُهُ الأمَّ ترضعُ الولدا

أو عابدًا من بني المجوسِ إذا

توهَّم الكأسَ شعلةً سَجَدا

ويقول ابن قادوس وهو من شعراء الخريدة الماجنين4:

راحٌ إذا سفك الندمانُ من دَمِها

ظلَّت تقهقِه في الكاسات من جَذَلِ

ويقول أيضًا5:

قم قبل تأذينِ النواقيسِ

واجل علينا بنت قسِّيسِ

عروس دنٍّ لم يدعْ عتقُها

إلا شعاعًا غيرَ ملموسِ

تُجْلى علينا باسمًا ثغرُها

فلا تقابلها بتعبيسِ

مُذْهَبةُ اللون إذا صفِّقَتْ

مُذْهِبةٌ للهمِّ والبوسِ

1 المرقص والمطرب: لابن سعيد ص45.

2 الغلس: الدُّجى.

3 المرقص والمطرب ص64.

4 الخريدة 1/ 228.

5 الخريدة 1/ 227.

ص: 476

لا غَرو ما تأتيهِ من ريبةٍ

لأنها عنصُرُ إبليسِ

ليس لها عيبٌ سوى أنَّها

حسرةُ أقوامٍ مفاليسِ

ولم يقف الشعراء عند ذلك بل نراهم يتطرقون إلى ذكر العورات في صور يعف القلم عن ذكرها. وأظهر الفاطميون رقة شديدة في غزلهم، وهي رقة كانت متفشية في الناس حتى جعلت لغتهم -كما لاحظ المقدسي1- رخوة، فهم يتظرفون ويرقون منتهى ما يكون من تظرف ورقة، وأورثنا ذلك عنهم طائفة واسعة من غزل رقيق كقول ظافر الحداد2.

يا ساكني مصر أما من رحمةٍ

فيكم لمن ذهب الغرامُ بلبِّه

أمِنَ المروءةِ أن يزورَ بلادكم

مثلي ويرجع مُعْدَمًا من قلبِهِ

وكان ينساق مع هذا الجانب من الرقة جانب آخر من الظرف والفكاهة والدعابة، وسبق أن لاحظنا اتصال هذا الجانب بالشعراء المصريين قبل عصر الفاطميين، واستمرت هذه الظاهرة في العصر الفاطمي وكثر الشعر الذي يمثلها من القرن الرابع إلى القرن السادس، إذ نجد ابن وكيع في مفتتح هذا العصر يداعب غلامًا نصرانيًّا في مربعة طويلة3، شكا له فيها من حبة، ثم عرج على صدِّه، وتوعده أن هو لَجَّ في هجره أن يعرض أمره على القساوسة والشمامسة والرهبان، فإن أبى عليه وتمنع عرض أمره على الأسقف فالمطران فالبطرك:

ولا تلُمني إن قصدت الأسقفا

من برَّحَ السُّقمُ به رام الشِّفا

فلا تقل أبديتُ مكنونَ الجفا

أنت الذي أحوجتني أن أكْشِفا

سوف إلى الْمُطرانِ أنهي قصَّتي

إن دام ما تؤثرُهُ من هجرتي

فإن رثى لي طالبًا معونتي

ولم تشفِّعه بكشفِ كربتي

1 المقدسي ص203، 205.

2 الخريدة 2/ 12.

3 يتيمة 1/ 317.

ص: 477

شكوت ما يلقاهُ من فَرْطِ السَّقمِ

قلبي إلى البَطْرَك والحبرِ العلم

وتستمر هذه الروح الفكهة في الأدب الفاطمي حتى عصر الجليس بن الحباب المتوفى عام 561 للهجرة فقد روى له صاحب الخريدة هذه القطعة يشكو فيها من طبيب على سبيل المداعبة1.

وأصلُ بليَّتي من قد غزاني

من السقم الملحِّ بعسكرينِ

طبيبٌ طبُّهُ كغرابِ بينٍ

يفرِّق بين عافيتي وبيني2

أتى الحمَّى وقد شاختْ وباختْ

فردَّ لها الشبابَ بنسختينِ

ودبَّرها بتدبيرٍ لطيفٍ

حكاهُ عن سنانٍ أو حنينِ

وكانت نوبةً في كل يومٍ

فصيَّرها بحذقٍ نوبتينِ

وإذا تركنا الجليس بن الحباب إلى من جاءوا بعقبه وجدنا بينهم كثيرين اشتهروا بهذه الروح مثل قمر الدولة، وكان يعيش في صدر القرن السادس، وكان "طريف الصنعة في مجونه، اجتمعت فيه أسباب المنادمة: يضرب بالعود، ويغني ويلعب بالشطرنج وهو صاحب نوادر ومضاحك"3. ومن شعره في ابن أفلح الكاتب وكان أسود:

هذا ابنُ أفلحَ كاتبٌ

متفرِّدٌ بصفاتِهِ

أقلامُهُ من غيرِهِ

ودواتُهُ من ذاتِهِ

ونستمر فنجد ابن قادوس الشارع المشهور في هذا العصر بنوادره، كما نجد كثيرين غيره وقد نبزوا بألقاب تدل على هذه الروح فيهم، فلقب بعضهم باسم شلعلع وآخر باسم النسناس وثالث باسم الوضيع، ورابع باسم الجهجهان وخامس باسم الكاسات:"وكان خفيف الروح كثير المجون، يضحك بنوادره وسخفه المحزون"4. وما نزال نلقى نوادر هؤلاء الشعراء حتى ننتهي في آخر هذا القسم

1 الخريدة 1/ 192.

2 البين: البعد والفراق.

3 انظر في هذا النص والشعر بعده: الخريدة 2/ 218.

4 الخريدة 2/ 61.

ص: 478

من الخريدة الخاص بمصر بالشاعر الفكة ابن مكنسة.

والحق أن الشعراء المصريين في العصر الفاطمي مثلوا بيئتهم وطبيعتهم وروحهم وشعورهم تمثيلا صادقًا طريفًا. وقد وقفنا طويلا عند هذه الجوانب لأننا لم نجد أحدًا من الباحثين كشف عن هذه النواحي في الشعر المصري. وقد كنا نظن أن مصر ليست ذات خطر في تاريخ الشعر العربي! وأكبر الظن أن القارئ قد لاحظ أن المصريين لم يستحدثوا لأنفسهم صياغة فنية جديدة، فأساليبهم وأخيلتهم في التعبير عن بيئتهم وتصوير ترفهم ومجونهم كل ذلك كانوا يتأثرون فيه المشرق، بل لا نبعد إذا قلنا إنهم كانوا يقلدونه تقليدًا شديدًا، ولولا ما يميزهم من تصوف وفكاهات ودعابات لأحسسنا باتساع حركة التقليد على نحو ما أحسسنا بها في الأندلس. ومع ذلك فنحن نحسها بوضوح إذ نرى شعراء هذا العصر منذ افتتاحه يتشبثون بأوصاف العباسيين في الخمر والطبيعة والغزل، نرى ذلك عند تميم بن المعز وابن وكيع في القرن الرابع، وعند الشريف العقيلي وابن مكنسة في القرن الخامس، ثم بعد ذلك عند ظافر الحداد وابن الصياد وطلائع الآمري والشريف ابن الأخفش وابن قادوس والمهذب بن الزبير. واستعرض اليتيمة والخريدة والمغرب فسترى التفكير الفني عند المصريين يتصف بشارات التفكير الفني عند المشارقة، ويزيد على ذلك حال الاختلاط والاضطراب التي سبق أن وصفناها عند الأندلسيين، فالشاعر يخلط بين جميع المناهج العباسية، وآية ذلك أنك تجد له قطعة من ذوق الصانعين وأخرى من ذوق المصنعين وثالثة من ذوق المتصنعين في غير نسق ولا نظام. وكان شأن المصريين شأن الأندلسيين في أنهم نقلوا مجموعة ألوان التصنيع ونقصد الألوان الحسية من جناس وطباق وتصوير وأخذوا يضيفون إليها تلفيقًا ولفًّا ودورانًا، ويتراءى لنا ذلك بوضوح منذ القرن الخامس عند الشريف العقيلي الذي كان يتصنع كثيًرا للجناس والطباق، كما كان يتصنع في صوره وأخيلته. وكان يضيف إلى تصنعه بعض اصطلاحات من العلوم، واستمر هذا شأن المصريين من بعده، وغاية ما في الأمر أننا نرى بعضهم يتوسع في تلفيقه وتصنعه، وما يقترحه على نفسه من ضروب

ص: 479

مشقة وتكلف من مثل ابن الأخفش إذ يبدأ إحدى قصائده على هذا النمط1.

سقى دِمَنَ السَّفحين لقطْر صيِّبُ

وحيَّا رُبى حيٍّ رَبا فيه ربربُ2

ومالي عن شرعِ الصبابةِ مَشْرَعٌ

ومالي إلا مذهب الحبِّ مذهبُ

وفي الحيّ رُودٌ في عذاب ورودها

عذابٌ يذيبُ العاشقينَ ويعْذُبُ3

فإنك تحس أن الشاعر يفتعل الجناس افتعالا فهو يتصيده بكل وسيلة وحيلة، وإذن فإياك أن تظن أن شخصية المصريين في شعرهم باعدت بينهم وبين صورة الفن في الشعر عند المشارقة، فلا تزال الصورة قائمة، وغاية ما في الأمر أن خفة روح المصريين في شعرهم هي التي تحول بيننا وبين رؤية الحقيقة. واستمع إلى هذه القطعة لشلعلع وكان شاعرًا فكهًا4:

أجللت مدم إيما إجلالِ

عن ظن إخلادٍ إلى إخلالِ

أو ريبةٍ في الودِّ تخرج قاصدًا

من فَرْطِ إدلالٍ إلى إذلالِ

وحساب تسويفٍ ومطل عن غنى

يفضي بإمهالٍ إلى إهمالِ

آليتُ أبرحُ سائلا لك نائلا

يُوسَى ببلِّ نداه بالي البالي

حتى يراجعَ فيَّ عاطفةَ العُلا

كرمٌ يزينُ الفضلَ بالإفضالِ

وأرى بعودِ نداك عودي مورقًا

ومعطَّل التأميل حالي حالي

واستمر شلعلع على هذا النمط يصعِّب على نفسه المرور إلى قافيته، فهو يرصد قبلها كلمة ثم يلتزم الجناس بين هذه الكلمة وبين القافية، وكأنه يتأثر في ذلك تصنع أبي العلاء الذي مر بنا في الكتاب الثاني. وكما نجد هذه الصورة المتكلفة في الجناس نجد مثيلا لها في الطباق وفي التصوير، وانظر إلى قول ابن الأخفش في عذار غلام5:

1 الخريدة 1/ 283.

2 الدمن: آثار الديار. الصيب: السحاب الممطر. الربى: جمع ربوة، ما ارتفع من الأرض، ربا: نمى. الربرب: القطيع من بقر الوحش.

3 رود: نساء جميلات جمع رادة.

4 الخريدة 2/ 130.

5 الخريدة 1/ 240.

ص: 480

وكأن العذارَ في حُمرة الخدِّ

على حسنِ خدِّك المنعوتِ

صولجانٌ من الزُّمردِ معطو

فٌ على أكْرةٍ من الياقوتِ

ألا تحس أن هذه صورة مجتلبة، فقد ربطت مخيلة الشاعر بين شيئين متباعدين، ونحن نجد في الخريدة لمحمد بن هانئ قصيدة كلها صفوف من التشبيهات والصور إذ تمضي على هذا الشكل1:

كأن ثغورَ العامريَّات كلما

تبسَّمنَ نورُ الأقحوانِ الذي رفا

كأن شذا الخيريِّ سرُّ محدِّثٍ

تخوَّف أن تُصغي له الشمسُ فاستخفى

كأن غصون الآسِ تحت اخضرارها

قدودُ مهًا يحملن من سندسٍ لُحْفَا

ومهما يكن فقد كان هذا ذوق العصر الفاطمي إذ نرى الشعراء -فيما سوى ابن الكيزاني- غارقين إلى آذانهم في ضروب من التصنع والتلفيق، وبلغ بهم ذلك مبلغًا كبيرًا بحيث كادوا لا يتركون شيئًا من هذه الضروب للعصور التالية، وماذا تريد؟ هل تريد الاقتباس من القرآن الذي شاع في العصر الأيوبي؟ لقد بدءوا به، وانظر إلى قول الشاعر الفكه شلعلع في ابن الدباغ2:

تعالت قرونُ ابن الدَّباغِ فأصبحتْ

تجلُّ عن التحديدِ في اللفظِ والمعنى

على بعضها ناجى النبي إلهه

وقد كان منه "قاب قوسين أو أدنى"

ويقول شاعر آخر في مغنٍّ يسمى مرتضى3:

لمرتضَى معبدٌ عَبْدٌ إذا صدرتْ

أصواتُهُ عنه في النَّادي بتغريدِ

قد غاضَ طوفانُ همِّي حين أسمعني

ألحانَه فاستوى قلبي على "الجودي"

وأنت ترى الشاعر الأول اقتبس من القرآن كلمة "قاب قوسين أو أدنى" واقتبس الثاني كلمة "استوت على الجودي" بعد تحريف بسيط. واترك لون الاقتباس فإنك ترى عندهم لون التضمين الذي شاع بعد ذلك كقول:

1 الخريدة 1/ 274.

2 الخريدة 2/ 124.

3 الخريدة 2/ 152. والجودي: جبل.

ص: 481

المهذب بن الزبير، وكان من الشعراء الممتازين في أواخر العصر الفاطمي1:

أقْصِرْ -فديتُك- عن لومي وعن عَذْلي

أو لا فخذ لي أمانًا من ظُبا الْمُقَلِ

من كل طرفٍ مريضِ الجفن تنشدنا

ألحاظُهُ "ربَّ رام من بني ثعل"

إن كان فيه لنا وهو السقيمُ شِفًا

"فربما صحَّت الأجسامُ بالعللِ"

فقد ضمن البيت الثاني شطرًا من شعر امرئ القيس، كما ضمن البيت الثالث شطرًا من شعر المتنبي، وكان يتأثره كثيرًا في شعره، واترك لون التضمين فإنك ترى عندهم لونًا آخر شاع عند من جاءوا بعدهم، وهو لون الاكتفاء كقول ابن قادوس2:

مَنْ عاذري من عاذلِ

يلومُ في حبِّ رَشا

إذا نكرت حبَّه

قال كفى بالدمعِ شا

يريد كفى بالدمع شاهدًا. وواضح ما في البيتين من جناس، وكأني بالعصر الفاطمي لم يترك شيئًا للعصور التالية حتى الألغاز نجدها في هذا العصر فقد اختص بها شاعر إسكندري يسمى ابن مجبر3، وكذلك الأوزان الموشحة نجدها في هذا العصر عند شاعر يسمى علي بن عياد وهو أيضًا إسكندري4، وحتى الطرق التي سبق أن رأيناها عند الحريري من صنع قصيدة غير منقوطة نجدها أيضًا عند شعراء هذا العصر5، وماذا حدث بعد ذلك؟ إنه لم يحدث سوى لون التّورية كما يزعم ابن حجة وصلاح الدين الصفدي، فقد ذهبا إلى أن القاضي الفاضل هو الذي أحدث هذا اللون6، غير أن هذا وهمٌ منهما، فقد كانت التورية شائعة في العصر الفاطمي منذ أوائل القرن الخامس، إذ اقترنت بروح الفكاهة التي سبق أن تحدثنا عنها، وسنقف لنتحدث قليلا عن ثلاثة شعراء مهمين: هو الشريف العقيلي وابن مكنسة وابن قادوس، لنتبين حقيقة

1 الخريدة 1/ 206.

2 الخريدة 1/ 230.

3 الخريدة 2/ 230.

4 الخريدة 2/ 44.

5 الخريدة 2/ 163.

6 انظر خزانة الأدب: للحموي ص54، 241، 276.

ص: 482

نشأة التورية، ونتعرف أكثر مما صنعنا -حتى الآن- على حقيقة العصر الفاطمي.

الشَّريفُ الْعُقَيلِي:

الشريف أبو الحسن علي بن حيدرة العقيلي، أهم شاعر ظهر بمصر في النصف الأول من القرن الخامس الهجري. يقول ابن سعيد: سألت عنه جماعة من أهل مصر، فلم أَرَ فيهم من يتحقق أمره، وقال لي أحد الشرفاء المعنيين بأنساب الشرف هو من ولد عقيل بن أبي طالب، كان في المائة الرابعة، وكان له متنزهات بجزيرة الفسطاط، ولم يكن يشتغل بخدمة سلطان ولا مدح أحد، ثم وقفت في الخريدة على ترجمته، فدل على أنه متأخر العصر عن المائة الرابعة، وذكر أنه من ولد عقيل بن أبي طالب، من أهل مصر وأنشد له:

كأن الثُّريا والهلالُ أمامَها

يدٌ مدَّها رامٍ إلى قوسِ عَسْجَدِ

ثم وقع لي ديوان1 شعره فنقلت منه ما يشهد بعلو قدره وهو من أئمة المشبِّهين"2. وحقًّا إن الخريدة لا تعنى غالبًا إلا بمن عاشوا في المائة الأخيرة من العصر الفاطمي، على أننا نجد صاحب اليتيمة المتوفى عام 429 للهجرة يترجم له في يتيمته3، كما نجد المقريزي يروي أنه أنشد المستنصر شعرًا له في العام الذي بدأت فيه سنين المجاعة بمصر4، وهو عام 442 للهجرة ونستطيع أن نستنتج من ذلك كله أنه كان يعيش في النصف الأول من القرن الخامس الهجري.

والشريف العقيلي شخصية طريفة في الشعر الفاطمي، بل في الشعر المصري العام، فقد روى له صاحب المغرب قطعة طويلة من شعره، وهي -مثل ديوانه- تُرينا أنه كان شاعرًا ممتازًا من شعراء الطبيعة، حقًّا سبقه في ذلك الموضوع ابن وكيع فقد

1 طبع هذا الديوان في القاهرة، بتحقيق زكي المحاسني.

2 المغرب "السفر الأول من قسم مصر" ص205.

3 يتيمة 1/ 372.

4 خطط المقريزي 1/ 489.

ص: 483

قَصَرَ نفسه عليه، غير أننا نجد ابن وكيع لا يعيش بشعوره وأحاسيسه في الطبيعة، فهو يعجب بألوانها وأشكالها، ويصورها من خلال ذلك، أما الشريف العقيلي فقد فتن بها -على ما يظهر- فتنة شديدة جعلته يعنى بمتنزهاته على نحو ما يروي ابن سعيد، كما جعلته في شعره يتعمق الطبيعة ويصل نفسه بنفسها، ويعيش مع كل حركة وكل همسة فيها، وأتاح له ثراؤه ورقته وحبه لها أن يقصر نفسه عليها، فذهب يملؤها بمختلف الوجوه والشخوص، وكأني به كان من ذوي العيون الباصرة أو العيون الشاعرة التي تستطيع أن ترد صور الطبيعة إلى كثير من الرؤى والأحلام الغريبة، وساعده على ذلك أنه كان يتصل بالطبيعة روحًا وحسًّا، وزاد في اتصاله بها أنه كان صبًّا بالخمر، فذهب يتغنى بها وبالطبيعة من حوله، وبدت له الأزهار والثمار والأشجار في صورة خيالية مثيرة كأن يقول1:

أمهاتُ الثِّمارِ بين الرَّوابي

تائهاتٌ بلبسِ خضرِ الثيابِ

أو يقول2:

السُّحب تُرْضعُ من بنات الأرضِ ما

جعلَ الربيعُ لها الغصونَ مُهُودا

وواضح أنه يعمد إلى التشخيص، وملء الطبيعة بالشعور والأحاسيس، وكان يضيف إلى هذا التشخيص مقدرة واسعة على التجسيم، ومقدرة أخرى لعلها أوسع منها، ونعني قدرته على حشد المنظر الواسع في لمحة، كقوله3:

قد بُيِّضتْ قبةُ السَّماءِ

وزُرِّقت قاعةُ الفضاءِ

وقوله4:

الغيمُ ممدودُ السُّرادقْ

والزهرُ مفروشُ النَّمارِقْ

ومراودُ الأمطارِ قدْ

كُحلت بها حدقُ الحدائقْ

1 المغرب ص211.

2 المغرب ص225.

3 المغرب ص207.

4 المغرب ص230.

ص: 484

وقوله1:

ستائرُ الأوراقِ منصوبةٌ

قيانُها من خلفها الورقُ

فاشربْ على ألحانِها واسْقني

شمسًا لها من كأسِها شَرقُ

وقوله2:

فهات زواهرَ الكاساتِ مَلْأى

إلى الحافاتِ بالذَّهبِ المذابِ

فكيرُ الجوِّ يوقدُ نارَ بَرْقٍ

إذا خمدتْ تدخنُ بالضَّبابِ

وقوله3:

وبركةٍ قد أثارنا عجبا

ما عاجَ من مائها وما انسَكَبا

يدركها الوردُ كلما ارتعدتْ

منه بجمرٍ يظلُّ ملتهبا

من حولِ فوَّارةٍ مركَّبةٍ

قد انحنى ظهر مائه تعَبَا

وقوله4:

وروضةٍ كالحلة الخضراءِ

محدقةٍ ببركةٍ حسناءِ

قد لبست عقد طيور الماء

لبس السماء أنجم الجوزاء

وعلى هذا النمط تغرق أبصارنا عنده في صور ووجوه وشخوص لا عداد لها، وبجانب ذلك نجد دعابة طريفة في الشريف العقيلي، كما نجد عنده لون التورية المعروف من مثل قوله5:

وشاعرٍ شعرُهُ فنونُ

لكلِّ بيتٍ له طنينُ

تُسْخِنُ عينَ العدوِّ منْهُ

قصائدٌ كلُّها عيونُ

وقوله في يوم النَّحر، وهو الشعر الذي أنشده المستنصر على ما مر في رواية المقريزي6:

1 المغرب ص233. والورق: الحمام.

2 المغرب ص210.

3 نفس المصدر ص209.

4 نفس المصدر ص208.

5 نفس المصدر ص244

6 المغرب ص207. وانظر: خطط المقريزي 1/ 489.

ص: 485

قمْ فانْحرِ الرَّاح يوم النحرِ بالماءِ

ولا تضحِّ ضُحىً إلا بصهباءِ1

وعُجْ على مكَّةَ الروحاء مبتكرًا

فطفْ بها حولَ ركنِ العودِ والناءِ2

وقوله3:

وزامرٍ يكذبُ فيه عائبُهْ

تكثُرُ في صنعتِهِ عجائبُهْ

يحجبُ صبرَ المرءِ عنه حاجبُهْ

فيشكُرُ الشاربَ منه شاربُهْ

كأنما ناياتُهُ ذوائِبُهْ

فأنت ترى أنه ورَّى أولا في العيون ثم ورَّى ثانيًا في الضحى، ثم ورَّى ثالثًا في حاجب وشارب وذوائب، وهناك توريات له أخرى في الخريدة يعف القلم عن ذكرها لما فيها من مجون وفحش، وإذن فليست التورية شيئًا حادثًا أحدثه القاضي الفاضل كما ظن الحموي والصفدي، بل هي قديمة منذ الشريف العقيلي، وأيضًا فإن تصنع الشعراء لألوان البديع قديمٌ منذ هذا الشاعر، فشعره فيه طباق ومشاكلة وجناس كثير، وفيه أيضًا تكلف الصور والتصنع لاصطلاحات العلوم. وكان يستخدم في شعره عامة مراعاة النظير استخدامًا لم نره حتى عند شعراء الخريدة المتأخرين، وكان ذلك يوقعه كثيرًا في صور متكلفة كقوله4:

ولما أقلعت سفنُ المطايا

بريحِ الوجْدِ في لُجَجِ السرابِ

جرى نظري وراءهم إلى أنْ

تكسَّر بين أمواجِ الهضابِ

فقد شبَّه الهوادج بالسفن ثم دفعته مراعاة النظير أن يأتي بالريح واللجج والأمواج. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن عنده شعرًا كثيرًا يخلو من التصنيع والتصنع جملة، وهذا إلى فكاهاته ودعاباته، واستمع إلى هذه الدعابة في بعض من يهواه5:

1 تضحي: تذبح الأضحية. الصهباء: الخمر.

2 الناء هنا: الناي، قلب الياء همزة؛ لضرورة القافية.

3 الخريدة 2/ 63.

4 المغرب ص211.

5 المغرب ص429.

ص: 486

قطَّع قلبي بمديةِ التيهِ

وذرَّ من ملحِ صدِّه فيهِ

ولفَّه في رُقاقِ جفوتِهِ

وقطَّع البقل من تجنِّيهِ

وقال لي: كُلْ، فقلت آكل ما

أمْرِضُ قلبي به وأوذيهِ؟

وهكذا نجد الشريف العقيلي يميل إلى الدعابة والفكاهة والتورية في شعره كما نجده يستخدم أدوات التصنيع والتصنع جميعًا. وتلك هي صورة الشعر الفاطمي كله؛ فدائمًا نجد الشعراء يخلطون بين المذاهب الفنية السابقة، ولكنهم مع ذلك يعبرون عن شخصيتهم ومرحهم وفكاهاتهم كما يعبرون تعبيرًا طريفًا عن جمال الطبيعة في بيئتهم.

ابْنُ مكنَسَةَ:

كان يعيش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس في عصر الأفضل بن بدر الجمالي1، وكان مختصًّا بأبي مليح النصراني جد ابن مماتي، ولما توفي قال فيه:

طويت سماءُ المكرماتِ

وكوِّرت شمسُ المديحْ

وكان يتصنع في شعره للجناس3؛ ولكن شعره على كل حال خفيف، ويبدو فيه جمال التصوير وحسن التعليل كقوله في غلام وعقرب شَعْرِهِ4:

قلت إذ عقربَ الدَّلا

ل على خَدِّه الشَّعرْ

هذه آيةٌ بها

ظهرَ الحسنُ واشتهرْ

ما رُئي قطُّ قبل ذا

عقربٌ حلَّتِ القمرُ

وساق صاحب الخريدة طرائف من فكاهاته ومداعباته كقوله5:

لي بيت كأنه بيت شِعْر

لابن حجَّاج من قصيدٍ سخيفِ

1 الخريدة 2/ 203. وانظر: فوات الوفيات 1/ 26.

2 الخريدة 2/ 205.

3 الخريدة 2/ 209.

4 الخريدة 2/ 207.

5 الخريدة 2/ 211.

ص: 487

أين للعنكبوتِ بيتٌ ضعيفٌ

مثلُهُ، وهو مثلُ عقلي الضعيفِ

بقعةٌ صدَّ مطلعُ الشمسِ عنها

فأنا مذ سكنتُها في الكسوفِ

وواضح ما في كلمة الكسوف من تورية؛ إذ هو يريد به معناها العامي من الخجل لا كسوف الشمس! ويروي له صاحب الخريدة قطعة أخرى من قصيدة يذهب فيها مذهب الهزل، وهي قوله1:

أنا الذي حدثكم

عنه أبو الشَّمَقْمَقِ

وقال عني إنني

كنت نديم المتقي

وكنتُ كنت كنـ

ـت من رماة البندقِ

حتى متى أبقي كذا

تيسًا طويلَ العُنُقِ

بلحيةٍ مُسْبلةٍ

وشاربٍ محلَّقِ

يا ليتها قد حلقت

من وجهِ شيخٍ خَلَقِ

وانظر إلى هذه المقطوعة الفكهة التي ذهب يشكو فيها من كبره وضعفه وشيخوخته وقد ارتعش في أثناء حديثه؛ فكونت رعشته بيتًا من أبياتها، كل ذلك؛ لينال ما يريد من

دعابة وفكاهة، ويقول2:

عشت خمسين بل تزيـ

د رقيعًا كما ترى

أحسب المقلَ بندقًا

وكذا الملْحُ سكَّرا 3

وأظنُّ الطويلَ من

كل شيء مدوَّرا

قد كَبِرْ بِرْ بِبِرْ بِبِرْ

ت وعقلي إلى ورا

عجبًا كيف كلُّ شـ

ـيءٍ أراه تغيَّرا

لا أرى البَيْضَ صار يؤ

كَلُ إلا مُقَشَّرا

وإذا دُقَّ بالحجا

ر زجاجٌ تكسَّرا

فأنت تراه في البيت الرابع يرتعش في كلمة كبرت هذه الرعشة الطريفة،

1 الخريدة 2/ 214.

2 الخريدة 2/ 214.

3 المقل: ثمر الدوم.

ص: 488

ولعل في هذا كله ما يدل على أن الشعر المصري مثَّل في هذا العصر مزاج المصريين وميلهم إلى الدعابة والنكتة.

ابْنُ قادُوسٍ:

يقول صاحب الخريدة في ترجمته: "القاضي أبو الفتح محمود بن إسماعيل كاتب الإنشاء بالحضرة المصرية، قال القاضي الفاضل: توفي سنة إحدى وخمسين، وأنشدني له أشعارًا محكمة النسج كالدر في الدرج"1. ومن يرجع إلى القطعة التي رواها له صاحب الخريدة يلاحظ أنه كان يميل إلى جملة ألوان التصنيع والتصنع في شعره كقوله2:

أثر المشيب بفوده وفؤاده

ألجأه أن يبغي لديها الجاها

وقوله3:

مليكٌ تذل الحادثاتُ لعزِّه

يعيدُ ويبدي والليالي رواغمُ

وكم كربةٍ يوم النِّزالِ تكشَّفت

بحملاته وهي الغواشي الغواشمُ

تشيد بناء الحمد والمجد بيضُهُ

وهن لآساس الهوادي هوادمُ4

رقاقُ الظُّبي تجري بآجالِ ذي الورى

وأرزاقهم فهي القواسي القواسمُ

وابن قادوس في ذلك كان كشعراء عصره جميعًا؛ إذ يميلون إلى توشية شعرهم بهذه الألوان، ولكن ذلك الجانب فيه ليس هو الذي نريد أن نقف عنده؛ إنما نريد أن نقف عند جانب الفكاهة والدعابة في شعره، فقد كان خفيف الروح جدًّا، وانظر إليه يتهكم على شاعر أسودِ5:

إن قلت من نارٍ خُلِقْـ

تَ وفُقْتَ كل الناسِ فَهما

قلنا صدقت فما الذي

أطفاكَ حتى صرتَ فَحْما

وكان يميل ميلًا واضحًا إلى التورية إذ كان الناس يتعلقون بها طوال

1 الخريدة 1/ 226.

2 الخريدة 1/ 226

3 الخريدة 1/ 229

4 البيض: السيوف.

5 الخريدة 1/ 229.

ص: 489