الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طواك بشير البقاء
…
وحلَّ بشير الأجل
وقوله:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله
…
ويعديهم داء الفساد إذ فسد
يعظَّم في الدنيا بفضل صلاحِه
…
ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
ومعنى هذا كله أن ألحان الزهد لم تكن تقل عن ألحان المجون إن لم تزد عليها، وغاية ما في الأمر أن الألحان الأخيرة هي التي كانت تذيع على ألسنة الجواري والمغنين، وقد نشروها في كل مكان.
2-
العلاقات اللغوية:
إذا رجعنا إلى عصر بني أمية وجدنا الكوفة والبصرة أهم مصرين عربيين تصطدم فيهما اللغة العربية باللغات الأجنبية؛ فقد كان سكانها أخلاطًا من العرب والموالي فرسًا وغير فرس. وحقًّا كان هؤلاء الموالي يتعربون، ولكنهم كانوا يجدون عناءً شديدًا من نظام الإعراب والتصريف في العربية، ولعل ذلك ما جعل هاتين المدينتين تبادران إلى وضع قواعدهما، حتى لا يضل الموالي في شعابهما الوعثة. ولم يكن هذا كل ما عانوه؛ فقد كانوا يعانون أيضًا من لكناتهم وما يضطرون إليه من تكيف عضوي لمخارج الحروف ينجحون فيه أحيانًا، وأحيانًا يفشلون، فكان من الصعب عليهم مثلًا أن ينطقوا بحروف الإطباق التي لا يعرفونها في لغاتهم أو ينطقوا بالعين أو بالحاء، وكان ذلك يصيب ألسنتهم بضروب مختلفة من اللثغات. وكان ينزلق إلى العربية على ألسنتهم كثير من الألفاظ الدخيلة التي أخذت تعرّب، تارة عن النبطية التي كان يتحدث بها سكان السواد في العراق وتارة عن الفارسية التي كانت منتشرة بين سكان الكوفة والبصرة، ويعرض علينا الجاحظ في بيانه مدى تأثيرهما في عربية البلدتين.
ولغتهما اليومية1، ويقول: إن هذا التأثير نفذ إلى سكان المدينة في الحجاز2 ونحن لا ننسى الأجيال العربية الأخيرة في عصر بني أمية؛ فقد كان كثير منهم من أبناء الجواري الأجنبيات، وكانوا يتأثرون بأمهاتهم في نطقهم لبعض الحروف3 وأيضًا فإنه بمضي الزمن أخذ كثير من العرب ينشأ في المدن، منبتّ الصلة بالبادية، فضعفت السلائق اللغوية وأخذ يظهر اللحن بين فصحائهم؛ بل إننا نجد بعض من نشئوا في البادية يلحنون مع ما عرفوا به من فصاحة مثل الحجاج4، ولعل ذلك ما جعل خلفاء بني أمية يحرصون على تأديب أبنائهم، حتى لا يلحنوا في خطابتهم5.
وإذا أخذنا ننظر في الشعراء الذين اشتهروا في البصرة والكوفة لعهد بني أمية وجدنا كل هذه الظواهر التي قدمناها بارزة في أخبارهم؛ فهذا يزيد بن مفرِّغ الذي عاصر زياد بن أبيه وابنه عبيد الله يحشو شعره بالألفاظ الفارسية6، وكان ينسب نفسه في حمير؛ غير أننا نظن ظنًّا أنه كان فارسيًّا، وظهر من بعده شاعر فارسي لا شك في فارسيته هو زياد الأعجم، كان جزل الشعر فصيح الألفاظ7، ومع ذلك كان يجد صعوبة في تكييف مخارج الحروف التي تخالف حروف لغته، فكان يبدل العين همزة والحاء هاء ويجعل السين شينًا والطاء تاء8 وينشد في قوله في المهلب بن أبي صفرة أو ابنه يزيد9:
فتى زاده السلطان في الودِّ رفعةً
…
إذا غيَّر السلطانُ كلَّ خليل
1 البيان والتبيين 1/ 20 وما بعدها.
2 نفس المصدر 1/ 18 وما بعدها.
3 انظر البيان والتبيين 1/ 72، 2/ 210، وما بعدها حيث يروى أن عبيد الله بن زياد ابن أبيه كان يبدل الحاء هاء والقاف كافًا، ويعلل لذلك بأنه نشأ في حجر بعض العجم.
4 طبقات فحول الشعراء لابن سلام "طبعة دار المعارف" ص13، والبيان والتبيين 2/ 218.
5 عيون الأخبار 2/ 158، 167، وانظر البيان والتبيين وما يرويه من لحن الوليد بن عبد الملك 2/ 204 وما بعدها.
6 البيان والتبيين 1/ 143.
7 أغاني "طبعة الساسي" 14/ 99.
8 أغاني 14/ 99، والبيان والتبيين 1/ 71، والكامل للمبرد "طبعة رايت" ص366.
9 في الحيوان 7/ 151: أن البيت من قصيدة في يزيد، وفي الكامل ص366 أنه في المهلب أبيه.
فيقول: "زاده الشُّلتان"1. ولما تردد منه ذلك على سَمْع المهلب أهدى إليه غلامًا فصيحًا يكفيه مئونة إنشاده شعره.
وهذا فيما يختص بالموالي، ما العرب فإننا نلتقي في أواخر العصر الأموي بشاعرين عربيين حضريين، لم ينشآ في البادية، وهما الطِّرِمّاح والكميت. ما الطرماح فيروون أنه كان يكتب ألفاظ النبط الآراميين ويدخلها في شعره2، وكان معلمًا يؤدب الصبيان فتعلق بأن يقدم لهم شعرًا مملوءًا بالألفاظ الغريبة؛ ولكن أنَّى له وهو ليس بدويًّا؟ لقد لجأ إلى طريقة سهلة: أن يسأل البدو ومن نشئوا في البادية عن بعض الألفاظ الآبدة ويسلكها في نظمه3، وكان يوفق أحيانًا في استخدامها وأحيانًا لا يوفق، ومن أجل ذلك رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره4. ولم يكن الكميت يشرك الطرماح في الظاهرة الأولى ظاهرة استعارة الألفاظ النبطية في شعره؛ ولكنه كان يشركه في الظاهرة الثانية؛ إذ كان يرجع إلى رؤبة الراجز البدوي، فيسأله عن الغريب من الكلم فيخبره به ويكتبه، ثم ينظمه في شعره5، وكذلك كان يرجع إلى جدَّتين له أدركتا الجاهلية؛ فكانتا تصفان له البادية وشئونها، وينقل وصفهما إلى أشعاره6. وبذلك كان مثلَ صاحبه لم يتغذ بلبان البادية مباشرة، فأخطأته الفطرة اللغوية في كثير من ألفاظه وأوصافه، وصوَّر ذلك ذو الرمة تصويرًا طريفًا حيت أنشده بعض قصائده وسأل رأيه، فقال له:"إنك لتقول قولًا ما يقدر إنسان أن يقول لك فيه أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشييء فلا تجيء به ولا تقع بعيدًا منه، بل تقع قريبًا" واعترف له الكميت بأن مرجع ذلك أنه لا يصف شيئًا رآه بعينه
1 البيان والتبيين 1/ 71.
2 الموشح للمرزباني ص208.
3 الأغاني "طبعة دار الكتب" 12/ 36، والموشح209.
4 الموشح ص208، 209.
5 الأغاني 12/ 36، والموشح 192.
6 الأغاني "طبعة الساسي" 15/ 120.
وإنما يصف شيئًا وصف له1. وكذلك كان شأنه في استخدامه للغريب، ومن ثم رفض اللغويون الاستشهاد بأقواله وأشعاره2.
ومعنى ما قدمنا أن عصر بني أمية يمدنا بأمثلة فردية لشعراء عاشوا في البصرة والكوفة وأخذت العربية على ألسنتهم تتأثر باللغات الأجنبية، وكان يتسع هذا التأثر عند الشعراء الموالي بسبب ما كانوا يرتضخون من لكنات لغاتهم وما كانوا يستعيرونه أحيانًا من ألفاظ تلك اللغات. وكان بعض الشعراء من العرب مثل الطرماح لا يرى بأسًا في أن يعرب بعض ألفاظ النبط الآراميين أو بعض الألفاظ الفارسية وأخذ هو وغيره من العرب المتحضرين يبتعدون عن السليقة العربية بحكم نشأتهم في الحاضرة وبعدهم عن ينابيع اللغة الحقيقية.
وندخل في العصر العباسي؛ فإذا الشعراء جميعًا يتحضرون على شاكلة الطرماح والكميت، ولقد كانا هما وأضرابهما في العصر الأموى شذوذًا بين جرير والفرزدق والأخطل وذي الرمة وأمثالهم ممن ملئوا العراق بأشعارهم، صادرين فيها عن سليقة عربية سليمة وفطرة بدوية صحيحة. أما في العصر العباسي فقد تبدل الحال؛ إذ أصبحت الكثرة الكثيرة من الشعراء تنشأ في المدن لا في البادية كما كان الشأن في زمن الأمويين، وليس هذا فحسب فإن كفَّة الفرس رجحت على كفة العرب لا في شئون الدولة والسياسة فقط بل أيضًا في الشئون الأدبية والعقلية، وبُنيت بغداد على حدود بلادهم وزخرت بسيولهم، وأصبحنا في عصر جديد ليس للعرب فيه من سلطان ولا سيادة إلا سيادة الأسرة الحاكمة، أما بعد ذلك فكل شيء للفرس.
غير أن هذا الانقلاب العنيف في الشئون السياسية لم يصب اللغة العربية بسوء؛ فإن الفرس لم يحاولوا استخدام لغتهم في شئون الدولة الرسمية وكان كثير منهم قد تعرَّب، بل قد تكن من العربية حتى اتخذها لسانه في التعبير عن مشاعره وأفكاره، وعدَّها مثله الأعلى في البيان والبلاغة. وظلت الأجيال التالية تشعر هذا الشعور بقوة، وكان من أهم ما دعمه أن العربية كانت لغة القرآن
1 الأغاني 15/ 120.
2 الموشح 191، 192، 208، 209.
الكريم؛ فكان الخروج عليها يعد مروقًا من الإسلام ومحاولة لنقضه، وبذلك ظلت العربية شامخة في هذا المحيط الأعجمي حتى بين الزنادقة وأنصار الشعوبية؛ فإنهم لم يستطيعوا غضًّا منها، بل ظلوا يتخذونها هم ومن حَسُن إسلامهم مَثَلَهم اللغوي والأدبي الرفيع.
وليس معنى هذا أن ما لاحظناه في العصر الأموي من دخول الكلمات الأجنبية إلى الشعر العربي انحسرت ظلاله، أو أن ضعف السليقة اللغوية انتهت آفاته، أو أن اللكنات الأجنبية انحازت لثغاتها عن الألسنة؛ فقد استمر ذلك كله بصورة أوسع من الصورة الأموية، لسبب بسيط، وهو أن أغلب الشعراء كانوا أجانب؛ فكان فيهم النبطي مثل أبي العتاهية والسِّندي مثل هارون مولى الأزد وأبي عطاء. أما الفرس فلا نستطيع إحصاءهم، وكان منهم بشار بن برد وأبان بن عبد الحميد وسلم الخاسر ومروان بن أبي حفصة وأبو يعقوب الخريمي ومسلم بن الوليد وغيرهم كثير.
ولعل شيئًا لم يسترع الجاحظ في عصره كما استرعته اللكنات وما كانت تسبّبه من لثغات، وقد أفاض في وصف هذه اللثغات أوائلَ كتابه البيان والتبيين؛ فقال إنه كان هناك من يبدل الراء غينًا واللام ياء والزاي والثاء والشين سينًا والعين همزة والقاف كافًا والذل دالًا والجيم زايًا أو ذالًا. ويقول إن ذلك كله مصدره أن يدخل الرجل بعض حروف العجم في حروف العرب ويقول: إن واصل بن عطاء كان لا يستطيع أن ينطق الراء؛ فأخلى كلامه منه. ويزعم أن من أصوات اللغات الأجنبية ما لا يستطيع الخط العربي تصويره كلهجة خوزستان، ويقول:"قد يتكلم المغلاق الذي نشأ في سواد الكوفة العربية المعروفة ويكون لفظه متخيَّرًا فاخرًا ومعناه شريف كريمًا ويعلم مع ذلك السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطيّ، وكذلك إذ تكلم الخراساني على هذه الصفة فإنك تعلم -مع إعرابه وتخير ألفاظه في مخرج كلامه- أنه خراساني، وكذلك إن كان من كتَّاب الأهواز1" ولا بد أن أشياء من ذلك تؤثر في لهجات بعض
1 البيان والتبيين 1/ 69.
الشعراء على نحو ما روي ذلك عن أبي عطاء السندي؛ إذ كان لا يكاد يفصح لارتضاخه لُكْنَةَ قومه من السند؛ حتى كان كلامه إذا نطق به لا يكاد يفهم وذلك أنه كان ينطق الحاء هاء والعين همزة والصاد سينًا والجيم زايًا ويرقق الظاء حتى تشبه الزاي1؛ مما اضطره إلى اتخاذ غلام ينشد شعره2:
وأهم من ذلك أنهم أدخلوا في أشعارهم بعض ألفاظ من لغاتهم الأصلية، وحقًّا لم يتسع هذا الصنيع؛ ولكنا نجد عندهم أمثلة كثيرة لكلمات نبطية وفارسية كانوا يدخلونها في بعض ما ينظمون، من ذلك قول إبراهيم الموصلي يصف وداعه لخمَّار نبطي:
فقال: إزْل بِشين حين ودعني
…
وَقَدْ لعَمْرُكَ زُلْنَا عنه بالشِّيْنِ
وإزل بشين: كلمة سريانية معناها امض بسلام3. ويقول إسحاق الموصلي في قصيدة له يذكر مجالس لهوه مع إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وقد فرقت بينهما الأيام:
فيا ليت شعري هل أروحنَّ مرة
…
إليه فيلقاني كما كان يلقاني
وهل أسمعنْ ذاك المزاح الذي به
…
إذا جئته سلَّيْتُ همي وأحزاني
إذا قال لي: "يا مردمي خر" وكرها
…
عليّ وكناني مزاحًا بصفوان
و"مردي خر" كلمة فارسية تفسيرها: يا رجل اشرب النبيذ4. ويقول والبة بن الحباب5:
قد قابلتنا الكئوس
…
ودابرتنا النحوس
واليوم هرمزد روزٍ
…
قد عظَّمتْه المجوس
وهرمزد تعريب لأهورامزد إله النور عند الفرس، وروز معناها بالفارسية يوم، يقول: إن اليوم يوم هذا الإله وعيده، فلنطرب ونشرب. ولعل شاعرًا لم يكثر في شعره من الألفاظ الفارسية كما أكثر أبو نواس، وخاصة حين يتعابث مع
1 أغاني "طبعة الساسي" 16/ 80، 84، والشعر والشعراء ص482.
2 أغاني 16/ 79، 83.
3 أغاني "طبعة دار الكتب" 5/ 176.
4 أغاني 5/ 337.
5 طبقات الشعراء لابن المعتز ص88.
بعض الغلمان من المجوس؛ فيقسم عليه بآلهته وكهنة النار وبكل ما يقدس من كواكب وبما يتلو من كتب زرادشت، وفي رواية حمزة الأصفهاني لديوانه كثير من ذلك مثل قوله:
حماني وَصْلَ أبناء القسوسِ
…
نجيبُ الفُرْس بهروز المجوسي
من المتزمزمين لدى التغذّي
…
يعذِّب مهجتي بين النفوس
فقلت ونحن في وَجَلٍ شديد
…
رضينا من وصالك بالخسيس
بإسْفِهْر وناهيد وتير
…
وحَقِّ الماهِ والمهر الرئيس
وحرمة بَرْسمِ التقديس مما
…
يُزَمْزِمُه هرابذ أسطنوسِ
بما تتلون في البِستاق رمزًا
…
كتاب زرذُّشٍ داعي المجوس
لما كلَّمتني ورددت نفسي
…
فإني من جفائك في رَسِيس
والمتزمزمون: أصحاب الزمزمة، وهي الأدعية التي يتلوها المجوس على الطعام والشراب، وإسفهر: الفلك بالفارسية، وناهيد: الزهرة، وتير: عطارد، وماه: القمر، والمهر: الشمس، وبرسم: أعواد يتلون عليه سوارًا من كتبهم ويقدسونها، والهرابذ: كهنتهم، وأسطنوس: معبد نار من معابدهم. والبستاق هو كتاب زرذش أو زرادشت معرب عن اسمه الفارسي أفستا. ومن ذلك قوله:
يا غاسل الطَّرْجهارِ
…
للخندريس العُقارِ
يا نرجسي وبَهارى
…
بدِه مَرَايَكْ بارى
والطرجهار: قدح شراب، ومعنى الشطر الأخير: أعطني مرة واحدة.
ومما لا شك فيه أن الفارسية كانت منتشرة في أحاديث اللغة اليومية، وكان بين العرب كثيرون يتقنونها مثل العَتَّابي التغلبي، وكان منهم من يدخل بعض ألفاظها في شعره على جهة التظرف، يقول الجاحظ: "وقد يتملحّ الأعرابي بأن يدخل في شعره شيئًا من كلام الفارسية كقول العُمَّاني للرشيد في قصيدته التي مدحه فيها:
من يَلْقَه من بطل مُسْرَنْدِ
…
في زَعْفَةٍ محكمةٍ بالسَّرْدِ1
تجول بين رأسه والكرد
والكرد: العنق بالفارسية. ومنها يقول أيضًا:
لما هوى بين غياض الأسد
…
وصار في كف الهِزَبْرِ الوَرْدِ2
آلى يذوق الدهر آب سرد
وآب سرد: الماء البارد بالفارسية. يقول الجاحظ: ومثل هذا موجود في شعر أبي العذافر الكندي وغيره.. وأسود بن أبي كريمة، ويسوق له قوله:
لزم الغُرَّامُ ثوبي
…
بُكْرَةً في يوم سَبْتِ
فتمَايلتُ عليهم
…
مثل زنجي بمَسْتِ
قد حسا الدَّاذيّ صرفًا
…
أو عقارًا با يِخَسْتِ3
والمست: السكر وإدمان الشراب، والداذي: ضرب من الشراب، والعقار: الخمر، وبا يخست: موطوءة بالأقدام. وتستمر المقطوعة على هذا النحو تختلط فيها الألفاظ العربية بالفارسية.
ومن غير شك كان دخول هذه الكلمات الأعجمية في الشعر العباسي أوسع منه في الشعر الأموي؛ غير أن ذلك ظل في حدود ضيقة، وظل الشعراء يصنعونه على سبيل التظرف والتملح. وإذا كنّا لاحظنا قبلًا أن الكميت والطّرمّاح نقصتهما السليقة اللغوية فمن المحقق أن جمهور الشعراء في هذا العصر كانت تنقصه تلك السليقه مما هَيَّأ لظهور اللحن والخروج أحيانًا على القياس الصرفي. وكان علماء اللغة لهم بالمرصاد؛ فكلما انحرفوا دلوه على انحرافهم، ويفيض كتاب الموشح للمرزباني فيأخذ هؤلاء العلماء عليهم، وكانوا يرهبونهم رهبة شديدة، حتى كان فريق منهم يعرض عليهم أشعاره قبل إذاعتها4. وكان
1 مسرند: يظفر بعدوه ويعلو عليه، زعفة: درع سابغة، السرد: سمر الزرد.
2 الهزبر: الأسد، والورد: القوي الجريء.
3 البيان والتبيين 1/ 141 وما بعدها.
4 الأغاني "طبعة دار الكتب" 10/ 81، 82 وانظر "طبعة الساسي" 13/ 22، 17/ 16.
فريق آخر يعتد بسلامة ذوقه، ويحمل عليهم ويهجوهم هجاء مرًّا1.
والحق أن هؤلاء العلماء كا نوا حرَّاسًا أمناء على العربية، وضعوا قواعدها ودقائقها، وجمعوا شعرها الدقيق، واتخذوه مثلًا أعلى للفصاحة والبيان، وظلوا يذودون عنها ذيادًا قويًّا متعصبين للجاهليين تعصبًا شديدًا؛ فهم الشعراء حقًّا وغيرهم عالة عليهم، بل لقد أهدروا شاعرية معاصريهم ولم يجعلوا لشعرهم حرمة ولا فضلًا، إن قالوا حسنًا فقد سُبقوا إليه وإن قالوا قبيحًا فمن عندهم2، ومنعوا الاحتجاج بشعرهم فهم لا يحتجون في مسائلهم النحوية واللغوية إلا بعرب البادية. وارجع إلى كتاب سيبويه، عمدة النحو والنحاة، فستجده دائمًا ينقل عن فصحاء العرب ومن تُرْضَى عربيتهم ولا يسوق شاهدًا لشاعر محدث. وقد ظلوا يرحلون إليهم، ويأخذون عنهم شفاهًا شواهدَهم وأمثلتهم، وفي الوقت نفسه أخذ كثير من عرب البادية يرحلون إلى الكوفة والبصرة وبغداد ليعرضوا تجارتهم اللغوية التي كانوا يروجها العلماء، كما كان يروجها الخلفاء وكبار رجال الدولة.
وبذلك ظلت النماذج البدوي حية في تلك الحقب التي تطور فيها الشعر في مدن العراق بتأثير العلاقات الاجتماعية والحضارية النامية؛ فقد نصب اللغويون تلك النماذج مثلًا أعلى للشعر الفصيح، وروَّجوا لها في البلاد ومجالس الوزراء. وبذلك أصبح هناك ضربان واضحان من الشعر: ضرب بدوي يتمسك بالتقاليد القديمة، وضرب حضاري ينفك قليلًا أو كثيرًا عن تلك التقاليد حتى يساير العصر.
وأخذ أصحاب الضرب الأول يكثرون في شعرهم من الغريب؛ حتى يجد فيه اللغويون ما يسد حاجتهم في البحث والدراسة من الشواهد والأمثال، وكانوا يؤلفونه غالبًا من الرجز، على نحو ما هو معروف عن أبي نخيلة والعماني ورؤبة وابنه عقبة. وكانوا يُدِلُّون بنماذجهم تلك على شعراء المدن، فبعثوا فيهم
1 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 210، وديوان أبي نواس 175، 176.
2 أغاني "طبعة الساسي" 16/ 109.
نزعة إلى تقليدهم في ذلك الميدان حتى يثبتوا لهم وللغويين أنهم يتفقون عليهم، حتى في تلك الصناعة البدوية المسرفة في البداوة. روى صاحب الأغاني:"أن بشارًا دخل على عقبة بن سَلْم "والي البصرة" فأنشده بعض مدائحه فيه، وعنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزًا يمدحه به؛ فسمعه بشار، وجعل يستحسن ما قاله إلى أن فرغ. فأقبل على بشار، فقال: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ، فقال له بشار: أليّ يقال هذا؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك "يقصد العجاج" فقال له عقبة: أنا والله وأبي فتحنا للناس باب الغريب وباب الرجز، والله إني لخليق أن أسده عليهم، فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، فقال عقبة: أتستخف بي يا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ فقال له بشار: فأنت إذن من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، ثم خرج من عند عقبة "بن سلم" مغضبًا؛ فلما كان من غَدٍ غَدَا على عقبة، وعنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزته التي يمدحه فيها:
يا طللَ الحيّ بذات الصّمْدِ
…
بالله خَبِّرْ كيف كنت بعدي
ومضى يرجز ويتكلف للغريب يمزجه بشيء من الحاضرة ودقة الحس والفكر وجمال الصياغة. فطرب عقبة بن سلم وأجزل صلته وانكسر عقبة بن رؤبة انكسارًا شديدًا1، وليس بشار وحده الذي أثبت أنه يستطيع التفوق على شعراء البادية في أرجازهم الملوءة بالغريب؛ فقد تبعه أبو نواس يحاول أن يهزمهم هزيمة ساحقة في هذا الميدان، وكان أبو نخيلة قد سبقه إلى صنع أراجيز كثيرة في الطرد والقنص2، يصف فيها الصيد والكلاب والوحش وحيوان الصحراء على طريقة القدماء فصنع على مثال طردياته طرديات جديدة أظهر فيها براعة وتفوقًا منقطع النظير، حتى ليقول الجاحظ في تقديمه لطائفه منها: "وأنا كتبت لك رجز أبي نواس في هذا الباب لأنه كان عالِمًا راوية.. وصفات الكلاب مستقصاه في أراجيزه، هذا مع
1 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 174، وانظر طبقات الشعراء لابن المعتز ص25 وما بعدها.
2 طبقات الشعراء لابن المعتز ص66.
جودة الطبع وجودة السبك والحذق بالصنعة، وإن تأملت شعره فضلته؛ إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبدًا أشعر وأن المولَّدين لا يقاربونهم في شيء، فإن اعترض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبًا1"
وعلى هذا النحو زَحَم شعراءُ البصرة والكوفة وبغداد شعراءَ البادية في نماذجهم من الأراجيز المحشوة بالألفاظ الغريبة وأثبتوا أنهم يبزونهم، حتى في تلك النماذج الخاصة. ولعل في هذا ما يدل -من بعض الوجوه- على مدى ما كان يأخذ به الشاعر الحضري في تلك الأزمان نفسه من التثقف ثقافة عميقة بالشعر العربي الموروث واللغة العربية الصحيحة، يأخذها عن أهلها بالْمَرْبَى فيهم، والرحلة إلى بواديهم، فهم يروون أن بشارًا كان يقول:"من أين يأتيني الخطأ، ولدت ههنا "في البصرة" ونشأت في حجور ثمانين شيخًا من فصحاء بني عُقَيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت على نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت "دخلت البادية" إلى أن أدركت؛ فمن أين يأتيني الخطأ2" أما أبو نواس فقد خرج إلى البادية وأقام فيها حولًا كاملًا ليثقف اللغة من منابعها الحقيقية3. ويقول الجاحظ عنه: "ما رأيت أحدًا كان أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة لا استكراه"4، ويقولون: إنه "كان يحفظ دواوين ستين امرأة من العرب فضلًا عن الرجال5" وإنه حفظ سبعمائة أرجوزة غير ما حفظه من قصائد الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين وأوائل المحدثين6، وقال أبو عمرو الشيباني: "لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لاحتججنا بشعره؛ لأنه محكم القول7".
وأكبر الظن أن فيما قدمنا ما يدل على مبلغ ما كان يأخذ به بعض الشعراء.
1 الحيوان 2/ 27 وما بعدها.
2 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 149 وما بعدها.
3 أخبار أبي نواس لابن منظور "طبع مصر" ص12.
4 أخبار أبي نواس ص6.
5 طبقات الشعراء لابن المعتز ص194.
6 نفس المصدر ص201.
7 نفس المصدر ص202.
الحضريين العباسيين أنفسهم من التثقف باللغة والشعر القديم، حتى استحالت إليهم السليقة العربية ووقفوا على طريقة القوم في التعبير والصياغة وقوفًا دقيقًا. روى صاحب الأغاني أن بشارًا أنشد خلفًا الأحمر قصيدته.
بَكِّرا صاحبيَّ قبل الْهَجِيرِ
…
إن ذاك النجاحَ في التَّبْكير
حتى فرغ منها؛ فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح في التبكير "بَكِّرا فالنجاح في التبكير" كان أحسن، فقال له بشار: بَنَيْتُهَا أعرابيَّة وحشيَّة فقلت: إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت:"بَكِّرا فالنجاح في التبكير" كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، فقام خلف فقبَّل بين عينيه1".
ولكن هل معنى ذلك حقًّا أن المولدين لم يتطوروا بأسلوبهم؟ الحق أنهم تطوروا به تطورًا واسعًا، حتى أصبح هناك في وضوح أسلوبان: أسلوب للقدماء، وأسلوب للمولَّدين العباسيين، ولسنا نقصد أن هؤلاء المولدين كان يجري على ألسنتهم شيء من اللحن في التصريف أو في الإعراب مما سجله المرزباني في الموشح نقلًا عن علماء اللغة من معاصريهم2 ومما جعل السيد الحميري يقول عن شعره:3
أحوك ولا أقْوِي ولست بلاحن
…
وكم قائل للشعر يُقوِي ويَلْحَنُ
وأيضًا لسنا نقصد ما كان يجري على ألسنتهم من تملح وتظرف بحشد بعض الألفاظ الفارسية في أشعارهم، وخاصة عند شعراء الجيل العباسي الثاني من مثل أبي نواس؛ وإنما نقصد أنهم على الرغم من تقيدهم بكثير من تقاليد القدماء ولا سيما في شعر المديح الرسمي وصناعة الأراجيز استطاعوا أن ينفذوا إلى لغة شفافة مبسَّطة تقف بين الإغراب والابتذال فهي لا ترتفع إلى عشر أمثال رؤبة وابنه عقبة وأبي نخيلة، وهي لا تسقط إلى كلام العامة، يدعمها ذوق سليم يعرف كيف يختار من العبارات أجملها صياغة وسبكًا، وكيف ينوع في معانيه، فلا يقف
1 أغاني 3/ 190.
2 انظر على سبيل المثال ما كتبه عن أبي نواس.
3 الموشح ص14.