المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ غزل مهيار والعناصر البدوية: - الفن ومذاهبه في الشعر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع

- ‌الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم

- ‌الشعر صناعة

- ‌ صناعة الشعر الجاهلي:

- ‌ الصناعة الجاهلية مقيدة:

- ‌ الطبع والصنعة:

- ‌ الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:

- ‌ زهير ومذهب الصنعة:

- ‌ نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي:

- ‌ الشعر التقليدي والغنائي:

- ‌الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة

- ‌الشعر العربي نشأ نشأة غنائية

- ‌ تعقد الغناء الجاهلي:

- ‌ مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي:

- ‌ موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي:

- ‌ تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌ انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام:

- ‌ انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي:

- ‌ نمو مقطوعات الشعر الغنائي:

- ‌ تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي

- ‌الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع

- ‌الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة

- ‌ العلاقات اللغوية:

- ‌ العلاقات الثقافية:

- ‌ ازدهار مذهب الصنعة:

- ‌ بشار وصنعته في شعره:

- ‌ صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ:

- ‌ صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ:

- ‌ ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ:

- ‌ التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة

- ‌البحتري: نشأته وحياته وصنعته

- ‌ الخلافُ بينَ البحتريِّ وأصحابِ التَّصنيعِ:

- ‌ البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ:

- ‌ ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:

- ‌ الهجاءُ السَّاخِرُ:

- ‌جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي

- ‌الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع

- ‌أبو تمام أصله وحياته وثقافته

- ‌ ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ التصنيعِ القديمةِ:

- ‌ التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ تصنيعٍ جديدةٍ:

- ‌ المزجُ بين ألوانِ التصنيعِ القديمةِ والجديدةِ:

- ‌ قَصِيدةُ عموريةَ:

- ‌ ابنُ الْمُعْتَزِ، نشأَتُهُ وحَيَاتُهُ وتصنيعُهُ:

- ‌ تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ:

- ‌ الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنع

- ‌التصنع في الحضارة العربية

- ‌ التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ:

- ‌ التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ:

- ‌ ألوانُ التصنيعِ العقليةِ لا تستوعَبُ ولا تتحولُ إلى فنٍ:

- ‌ جمودُ الشِّعرِ العَرَبي:

- ‌ التَّحْوِيرُ:

- ‌الفصل الثاني: الثقافة والتصنع

- ‌المتنبي نشأته وحياته وثقافته

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ:

- ‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ:

- ‌ المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ:

- ‌ تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ:

- ‌ حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ:

- ‌ شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتلفيق

- ‌ميهار أصله وتشيعه ومزاجه

- ‌ تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ:

- ‌ تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ:

- ‌ الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:

- ‌ غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ:

- ‌ الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار وتحوُّلُه إلى شعرِ مناسباتٍ:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في التصنع

- ‌أبو العلا نشأته وحياته وثقافته

- ‌ ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:

- ‌ اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ:

- ‌ اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ:

- ‌ صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌ اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ:

- ‌ اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصيَّةُ الأَنْدَلُسِ:

- ‌ الشِّعْرُ في الأَنْدَلُسِ:

- ‌ نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي:

- ‌ الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شَخْصِيَّةُ مِصْرَ:

- ‌ الشِّعْرُ في مِصْرَ:

- ‌ الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ:

- ‌ الأيوبيونَ ونهضةُ الشِّعرِ في عهدِهِمْ:

- ‌ المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ:

- ‌ العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ:

- ‌خَاتِمَةٌ:

- ‌ الصُّورةُ العامَّةُ لِلْبَحْثِ:

- ‌ الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ:

- ‌ الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ:

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار:

الفصل: ‌ غزل مهيار والعناصر البدوية:

يظهر الإفراط في الحس والشعور؛ بل هو طراز مائع ليِّن ليونة شديدة، وقد انتشر هذا الطراز بعد مهيار واستمر إلى عصرنا الحديث، وهو طراز ظهر في الشعر العربي حين أترفت الحضارة، وأترف الحس والشعور على هذا النمط الذي نرى فيه مهيار يقول:

غار المحبونَ من أبصارِ غيرهِمُ

ضداً وغِرْتُ على لمياءَ من بصري

وإنها لغيرة غير مألوفة، فعهدنا بالمحبين أن يغاروا حقًّا، ولكنا لم نعهد أحدًا يغار من نفسه بل يغار من بصره. لقد كان خليقًا به أن يحمد هذا البصر، وإن كان يريد أن يُبْعِد في التعبير والتفكير فليسلك إلى ذلك طريقًا آخر، فيه قرب، ليقل لها: إنه يريد أن يظل له بصره حتى يراها به، ولكن مهيار كان يريد شيئًا آخر غير إظهار الدقة في الشعور، كان يريد أن يعبر عن ليونة وميوعة فإذا هو لا يغار قط من غيره؛ بل هو يغار من بصره حتى يعلن إلى صاحبته ما اشتمل عليه من رهافة حسه، بل من مرض حسه وما أصابه من هذه الميوعة الشديدة، وانظر إليه يقول:

وحبّي لذكركِ حتى لَثَمْـ

ـتُ مسلَكَه من فمِ العَاذِلِ

فإنك ترى صورة أخرى لا تقل غرابة عن سابقتها، فها هو ذا مهيار يلثم فم العاذل حين يذكر له صاحبته، أرأيت إلى هذا التصنع لإظهار الإفراط في الشعور، بل لإظهار تلك الميوعة التي أخذت ترسخ أصولها وتستقر في هذا الديوان الضخم عند مهيار، واقرأ فيه ما استطعت أن تقرأ فإنك ستشرف دائمًا على هذه الميوعة الشديدة.

ص: 368

5-

‌ غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ:

على أن هناك جانبًا آخر مهمًّا في غزل مهيار، هو ما نراه عنده من تشبثه بالعناصر البدوية وحشدها في قصائده، بحيث لا يمر غزل في قصيدة دون أن

ص: 368

نحس بأنه لشاعر يقيم في نجد أوفي الحجاز؛ فدائمًا صاحبته أمامه أو الرَّباب أو لمياء أو سعدى، ودائمًا هي من سكان: مِنَى أو الخِيف أو قباء أو سَلْع، وهو لذلك يكثر من ذكر الأماكن الحجازية والنجدية من مثل: أُحد وجُمَع وسَلَم ونُعمان والألال والمحصَّب وإضم وزمزم، إلى جَمٍّ من هذه الأمكنة التي تُنْشَر في مطالع قصائده، وهو إلى ذلك ما يزال يعنى بالحديث عن الأطلال عناية شديدة. وقد يعجب الإنسان لمزاوجة مهيار بين ميوعته في غزله وبين ارتفاعه بهذا الغزل عن حياته المتحضرة إلى الحياة المبتدية وما فيها من شظف العيش وخشونة الحياة، وحقًّا إن ذلك يشعر بشيء من التناقض عنده؛ غير أنها حالة عامة انتشرت في الشعر العربي لهذه العصور وعرفت عند مهيار وغيره كالمتنبي، وكان يعنى في نسيبه مثله بالبدويات على نحو ما مر بنا في الفصل السابق.

وأكبر الظن أن هذه الحال من التبدي في الغزل تسربت للشعراء من تأثرهم بأساليب المتشيعة والمتصوفة في شعرهم الخاص، إذا كان هؤلاء ينحون بغزلهم منحى بدويًّا، يعبرون فيه بالأماكن النجدية والحجازية، وكأنهم يريدون أن يعطوه بذلك ضربًا من العبادة والقداسة، وهم لذلك يتشبثون خاصة بالأماكن المقدسة في الحجاز. وقد ربطنا سابقًا بين المتنبي وأساليب المتصوفة؛ أما مهيار فقد رأينا في أول هذا الفصل أنه كان متشيعًا بل كان من غلاة الرافضة، وقد نحا بغزله هذا المنحى الذي يعبر فيه هذا التعبير الواسع عن حبه، على الرغم مما قد يظن بأن هذه العناصر البدوية تقيد في خواطره وأفكاره. والحق أنها أعطت للغزل عند مهيار وعند غيره من الشعراء ضربًا من الاتساع في التعبير عن الوجدان والعاطفة، وماذا نطلب في الغزل؟ ألسنا نطلب التعبير عن الحب والعواطف؟ وهو تعبير ليس من الضروري له أن يرتبط بحياة الشعراء الحاضرة؛ إنما هي العاطفة ينوِّع الشعراء في التعبير عنها، هم قد يعبرون بعناصر حاضرة، وقد يرجعون إلى عناصر قديمة تشع منها ضروب مختلفة من المشاعر والأحاسيس.

ولعل من الغريب أن نجد جماعة من النقاد المعاصرين يتلومون من يذهب

ص: 369

هذا المذهب من استخدام العناصر البدوية القديمة في الشعر، كأنما التعبير عن العاطفة تعبير يقيده الحاضر، وما الحاضر؟ إن العاطفة أوسع من أن تقيد بمكان خاص أو زمان خاص، وربما كان التعبير بالعناصر الماضية يعطيها من الاتساع في التعبير ما لا يعطيها التعبير بالعناصر الحاضرة، وما لنا نذهب بعيدًا؟! إن التعبير العاطفي إنما هو ضرب من الرمز عما في نفوسنا، ومن حق الشعراء أن يرمزوا إليه بالعناصر الماضية أو العناصر الحاضرة، وربما وجدوا في العناصر الماضية ما يسعفهم بالتعبير عما في نفوسهم تعبيرًا أدق وأعمق عمق هذه العناصر في الماضي والقديم. وأكبر الظن أن ذلك ما دعا أصحاب التصوف والتشيع إلى أن يرتبطوا في شعرهم بتلك العناصر؛ فقد اتخذوها للتعبير عن عواطفهم العميقة، واستطاعوا أن يحدثوا بها ضربًا من الشعر الرمزي في اللغة العربية.

على كل حال كان مهيار يكثر من العناصر البدوية في شعره، سواء منها ما يتصل بأسماء صواحبه أو أماكنهن أو ما في هذه الأماكن من النباتات والأشجار والأودية والرياح، كأن يقول في مطلع إحدى قصائده:

بَكَرَ العارِضُ تحدُوه النُّعامَى

فسقاكِ الرَّيَّ يا دارَ أُماما1

وتمشَّتْ فيك أرواحُ الصَّبا

يتأرَّجنَ بأنفاسِ الخُزامَى2

فإنك تراه يتشبث منذ المطلع بهذه العناصر القديمة، وهي لا شك تعطي غزله ضربًا من الاتساع في التعبير، وانظر إليه يقول في قصيدة أخرى تلك القطعة الجيدة المعروفة:

سَل طريقَ العيسِ من وادي الغضا

كيف أغسقتَ لنا رَأْدَ الضُّحى3

ألشيءٍ غير ما جيراننا

نفضوا نجدًا وحَلّوا الأَبطحا

يا نسيمَ الصُّبحِ من كاظمةٍ

شدَّ ما هِجتَ الجوَى والبُرَحا

الصَّبا إن كان لا بدَّ الصَّبا

إنها كانتْ لِقَلْبي أرْوَحا

1 العارض: السحاب.

النعامى: ريح الجنوب.

2 الخزامى: نبات طيب الرائحة.

3 العيس: الإبل. رأد: ارتفاع.

ص: 370

يا نداماي بسلْعٍ هل أرى

ذلك الْمَغْبَقَ والمصْطَبَحا1

اذْكُرونا قد ذكرَنا عهدَكُم

ربَّ ذكَرى قرَّبتْ مَن نَزَحا

واذكروا صبًّا إذا غنى بكم

شرب الدَّمعَ وعافَ القَدَحَا

ولا يروعك الآن ما تجد في هذه القطعة من موسيقى جيدة؛ فهي لا تطَّرد له في بقية قصيدته فضلًا عن قصائده الأخرى؛ إنما هي أبيات وقطع تأتي نادرة في ديوانه تستقيم له الموسيقى فيها ويستقيم له التعبير على أن جمال هذه القطعة في الواقع يأتي قبل كل شيء مما فيها من تواجد وحنين، وهو لا ينقلب إلى تلك الميوعة التي نعرفها في مهيار، ولذلك يقع منا موقعًا طريفًا. وحقًّا إننا لا ننكر الوجد في الغزل ولكننا ننكر الميوعة وما يطوى فيها من ليونه وتخنث. ولعل أهم شيء جعل مهيار لا يسقط في غزله سقوطًا تامًّا هذه العناصر البدوية التي كان يستعين بها في شعره والتي كانت تطوى في داخلها جانبًا من الشعور بالألم والحزن. وهو شعور جاء مهيار من تشيعه؛ فالشيعة دائمًا محزونون، وهم لذلك دائمًا يشعرون بالألم، وقد تسرب هذا الألم وتسرب هذا الحزن إلى غزل مهيار فشع منه حنين وتواجد بل إغراق في الحنين والتواجد، وكأنما نقرأ في ديوان مهيار لشاعر متشيع، بل نحن نقرأ حقًّا لشاعر متشيع يحز الألم في صدره، وهو ألم يفضي به إلى هذا التواجد في الحب، ولعل ذلك ما جعل المتصوفة يغنون بغزله، فهم يذكرون أن من سماعهم قوله2:

مَنْ ناظرٌ لي بين سَلعٍ وقُبَا

كيف أضاءَ البرقُ أم كيف خَبَا3

نبَّهَني وميضُه ولم تَنمْ

عيني ولكن رَدَّ عقلًا عَزَبا

برقٌ لهُ قد صار قلبي خافقًا

واستبردتْه أضلعي مُلْتهبا

يا لَبعيدٍ من مِنىً دَنَا به

يوهمني الصدقَ بُرَيْقٌ كَذَبا

1المغبق: مكان الغبوق وهو الشرب في المساء، والمصطبح: مكان الصبوح، وهو الشرب في الصباح. وقد ذكرهما على التشبيه.

2 محاضرات الأبرار: لابن العربي 1/ 214.

3 قباء: موضع قرب المدينة.

ص: 371