الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7-
اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ:
هذه اللوازم الدائمة في اللزوميات كانت ترافقها لوازم عارضة تظهر من حين إلى حين، نقصد بهذه اللوازم العارضة ما كان يجنح إليه أبو العلاء من تصنعه لألفاظ الثقافات المختلفة من عروض ونحو وفقه، ولعله أول من وسع استعارة الشعراء لاصطلاحات العلوم والفنون، ومن قبله كان المتنبي يتصنع لذلك، ولكنه لم يسرف فيه إسراف المعري الذي ذهب يطرز شعره بألفاظ العلوم والفنون؛ بل إننا لنراه يدخل مسائلها في آرائه، وكأنه يريد منها الحجة والدليل على ما يذهب إليه من فكرة أو رأي، وانظر إليه يستخدم العروض في التدليل على أفكاره فيقول:
إذا ابنا أبٍ واحدٍ أُلْفيا
…
جوادًا وعَيرًا فلا تعجبِ1
فإن الطويلَ نجيبُ القَريضِ
…
أخوهُ المديدُ ولَمْ يُنْجِبِ2
فإنك تراه يصف أحوال الناس بأوصاف الطويل والمديد ويتصورهم على هذا النحو من التصور العروضي؛ فالنجيب طويل وغير النجيب مديد، أرأيت إلى هذا التجديد؟ لقد جمد الشعر العربي ولم يبقَ فيه إلا هذه الانحرافات التي يأتي بها الشعراء من أوعية الثقافة؛ فإذا أبو العلاء يقول:
بقائي الطويلُ وغيِّي البسيطُ
…
وأصبحتُ مضطربًا كالرَّجزِ
أرأيت إلى حياة أبي العلاء كيف تتحول إلى أوزان العروض؟ ولم يكن أبو العلاء يلجأ إلى ذلك ليقرر فكرة الفيثاغوريين عن الكون وائتلافه الموسيقي؛ إنما هو يلجأ إليه ليثبت معرفته بالعروض ومصطلحاته، وكأنه المرآة المستقيمة التي يستطيع الفيلسوف أن يرى فيها أحوال الناس مقيسة مقدرة على خير ما يكون القياس والتقدير، ولست أشك في أن أبا العلاء كان يعجب إعجابًا شديدًا بهذه الآلة الحديثة التي عثر عليها والتي يقيس بها أحوال الناس والحياة، ويظن
1 العير: الحمار.
2 يقصد بالنجابة هنا كثرة الاستعمال.
أنها تفسِّرها! وأكبر الظن أنه كان يعرف عجزها وأنها لا تستطيع ذلك؛ ولكنه يلجأ إليه ليحرز انتصارًا جديدًا في تعقيد الفن وتصعيبه.
وليست اصطلاحات العروض فقط هي التي يمكن أن تفسر مشاكل الحياة، بل تشركها اصطلاحات أخرى من النحو والصرف، وانظر كيف يفسر الصلة بين الأصول والفروع تفسيرًا صرفيًّا فيقول:
وفي الأصلِ غشٌّ والفروعُ توابعٌ
…
وكيف وفاءُ النَّجل والأبُ غادرُ
إذا اعتلَّت الأفعالُ جاءت عليلةً
…
كحالاتها أسماؤها والمصادرُ
فالأصول والفروعُ وما بينهما من وراثات، كل ذلك نستطيع أن نجد له تفسيرًا لا في الفلسفة، بل في الصرف؛ فالأفعال إذا كانت عليلة تبعتها مشتقاتها لا تستطيع حولًا عنها ولا خلاصًا منها، وعلى هذا النحو تتبع الفروع الأصول، إن كانت سليمة سلمت، وإن كانت معتلة اعتلت، أرأيت إلى الصرف كيف يمكن أن نستخرج منه تفسيرًا وتصويرًا لمشاكلنا؟ إنه أحد المفاتيح الصغيرة التي عثر عليها أبو العلاء وجاء يستخرج منها وصف أحوالنا، وليس الصرف فقط هو الذي نجد فيه هذه المفاتيح؛ بل إننا نجدها كما رأينا في العروض، ونجدها أيضًا في النحو، وانظر إليه؛ إذ يقول:
سِرٌّ سيعلنُ والحياةُ معارةٌ
…
ولتقضينَّ بها ديونُ المعسِرِ
كخبيء نعم وبئس يخبأُ فيهما
…
ويكونُ ذاك على اشتراطِ مفسِّرِ
أرأيت إلى حقائقنا؟ إننا لا نتشابه فيها فقط، بل إننا نتشابه فيها مع مسائل النحو والعروض والصرف، وليس من شك في أن هذا الصنيع لا يضيف طرافة للشعر إلا عند أصحاب هذه الفنون، وهل حقًّا يمكن أن تفسر هذه الفنون ومصطلحاتها مشاكلنا، إنها مملؤءة بكثير من المشاكل التي تحتاج هي الأخرى إلى ما يفسرها!
ومهما يكن فإن أبا العلاء غلا غلوًّا شديدًا حين جعل هذه المعارف لوازم في شعره وإن تكن لوازم عارضة تأتي من حين إلى حين. قد نفهم أن يبالغ
في التشديد على نفسه فيصطنع منهجًا جديدًا في قوافيه يعقد به موسيقاه؛ ولكن لا نستطيع أن نفهم هذا التصنع لاصطلاحات النحو والصرف والعروض، وكان يلح في طلبه إلحاحًا شديدًا. أليس يدل ذلك على أن التفكير الفني لم يعد يدخل فيه شيء طريف وأن الشعراء قد أحسوا إحساسًا ما بإجدابهم؛ فانطلقوا يتكلفون في شعرهم هذه الكلف التي لا تفصح عن جمال فني سوى هذا التعقيد الذي يدخله الشعراء من ممرات وأبواب كثيرة، تارة من ممرات موسيقية معقدة وتارة من أبواب بديعية ملفقة، وأخيرًا من هذه المسالك العلمية التي لا تضيف طرافة إلى الشعر أكثر من ذكر بعض الألفاظ وبعض المسائل والمصطلحات، ومع ذلك فقد كانت هذه المسالك تعدُّ بدعًا طريفًا في القرن الرابع وما تلاه من قرون، وأخذ أبو العلاء يوسع استخدامها؛ فهو لا يقتصر بها على ما مضى من فنون، بل هو يطلبها أيضًا في الفقه والدراسات الدينية، فإذا هو يقول:
حيرانُ أنت فأيُّ النَّاسِ تتَّبعُ
…
تجري الحظوظُ وكلٌّ جاهلٌ طبعُ1
والأمُّ بالسُّدس عادتْ وهي أرأفُ من
…
بنتٍ لها النصفُ أو عرسٍ لها الرُّبُعُ
فإنك تراه يخلط مسائل الدين الخاصة بتشاؤمه وما يرى في الحياة من مشاكل تؤديه إلى الشك والحيرة. وعلى هذا النمط ما يزال أبو العلاء يتعرض في اللزوميات لمسائل العلوم والفنون المختلفة يتخذ منها الحجج والأدلة على ما يزعمه من أفكار وآراء، وإنه ليكثر من ذلك كثرة مفرطة؛ حتى ليحس من يقرأ في لزومياته بأنه يقرأ في كتاب ثقافة لا في ديوان شعر. ولقد كان حريًّا به أن ينحِّي عن شعره هذه القيود الثقافية العارضة، ويكتفي بقيوده الدائمة السابقة، ولكنه يريد أن يصعب عمله وأن يسلك إليه أضيق الممرات والأبواب؛ فإذا هو يلتزم ما يلزم مرارا، مرة في حروف قوافيه وحركاتها، ومرة في ألفاظه الغريبة، ومرة في جناساته المعقدة، وأخيرًا في هذه اللوازم العارضة، حتى ليصبح الشعر لوازم خالصة.
1 الطبع: اللئيم.
وعبث أن نبحث بعد ذلك عن جديد في الشعر؛ فقد اندفع الشعراء بعد أبي العلاء في هذه الممرات الضيقة، كما نجد عند الحريري وعند غيره من الشعراء ممن وقف عندهم صاحب معاهد التنصيص يروي لهم مقطوعات تقرأ طردًا وعكسًا، أو يلتزم الشاعر فيها الحروف المهملة أو الحروف المعجمة إلى غير ذلك من عبث لا يفيد الشعر شيئًا1. وكأني بالشعر العربي ارتفع به العباسيون إلى القمة ثم أخذ يسقط رويدًا رويدًا؛ فإذا هو قصائد تلفق تلفيقًا، وقلما احتوت جمالًا من زخرف أو فكر. وحتى ألوان التصنيع القديمة أصابها ما أصاب لون الجناس عند المعري، إذا تحولت إلى صور هندسية، قلما يجد الإنسان فيها طرافة إلا تعقيدًا يقضي على كل ما يبعثه الشعر من لذة شعرية أو متعة فنية.
1 معاهد التنصيص 2/ 102 وما بعدها.