الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ:
بدأ أبو العلاء حياته الفنية في الشعر بتقليد المتنبي إذا كان يتعصب له تعصبًا شديدًا1. وسقط الزَّند هو خير ما يفسر هذا الطور من تقليده؛ إذ نراه ينظم على طريقة المتنبي السابقة، فهو يعتد بالغريب والشاذ في التراكيب، كما يعتد بالتصنع لألفاظ الثقافات المختلفة والتغني بالفيافي والحكم والأمثال والفخر بنفسه وذم الدهر والشكوى منه على نحو ما رأينا عند المتنبي؛ إذ كان يردد جميع النغم الذي سمعناه عنده. وكان لا يضيف إلى ذلك جديدًا إلا عنايته الواسعة بالجناس. وما يزال أبو العلاء على هذه الحال من التقليد حتى يتبين نفسه فيستقل عن المتنبي ويؤلف لزومياته، وهي من طراز جديد إذ نراها تتضمن نقدًا للحياة الاجتماعية مع دعوة واسعة إلى الزهد والتقشف ورفض الدنيا، يسوده في ذلك كله تشاؤم واسع؛ فالحياة كلها آلام ونصب وعذاب، وكان الشعراء قبل أبي العلاء يعنون بهذا الجانب وخاصة أبا العتاهية والمتنبي، أما أبو العتاهية فله مقطوعات كثيرة في ذم الدنيا والدعوة إلى الزهد فيها؛ لأنها دائمًا مشوبة بالأكدار، وأما المتنبي فقد أشاع في ديوانه -وأكثره مديح- ضربًا واسعًا
1 كان أبو العلاء يتعصب للمتنبي ويزعم أنه أشعر المحدثين ويفضله على بشار ومن بعده مثل أبي نواس وأبي تمام، وكان يسمي كل شاعر باسمه فإذا قال "الشاعر" فقط عرف أنه يريد المتنبي، ونحن نعرف قصته في بغداد مع المرتضي فقد تنقص المتنبي يومًا فاعترضه أبو العلاء وقال له: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله "لك يا منازل في القلوب منازل" لكفاه فَضْلًا؛ فغضب المرتضي، وأمر فسحب برجله وأخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته أتدرون أي شيء يريد بهذه القصيدة فلم يجب أحد فقال يريد قول المتنبي فيها:
وإذا أتتك مذمَّتي من ناقصٍ
…
فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ
انظر في ذلك: معجم الأدباء: لياقوت 1/ 169.
من التشاؤم يعمه نقد شديد للحياة الاجتماعية، وبيان لما في الدنيا من آلام وتفكير في حقائق الحياة والموت. وليس من شك في أننا إذا أردنا أن نبحث عن أصول الأفكار في اللزوميات وجدناها جميعًا عند المتنبي على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع.
وإذن فموضوع اللزوميات ليس جديدًا وما نرى فيها من تشاؤم ودعوة إلى الزهد في الحياة وسرد للحكم والعظات، كل ذلك ليس جديدًا خالصًا؛ فقد وجد قبل أبي العلاء؛ غير أن من الحق أن نشهد بأنه كبَّره ووسعه واستطاع أن يخرجه في ديوان خاص به يؤلفه على الحروف الهجائية، ويملؤه بهذا التشاؤم الواسع وما ينطوي فيه من وصف للدنيا بأنها دار آلام وعذاب؛ وقد ذهب يستعرض الحياة فيها من جميع جوانبها وينقدها نقدًا ساخرًا في جرأة وصراحة صريحة كأن يقول في نقد الحياة السياسية:
وأرى ملوكًا لا تحوط رعيةً
…
فعلام تؤخذُ جزيةٌ ومكوسُ
أو يقول في نقد حكام عصره:
يسوسون الأمورَ بغير عقلٍ
…
وينفُذُ أمرُهم فيقالُ ساسَه
فَأُفَّ مِنَ الحَياةِ وَأُفَّ مِنّي
…
وَمِن زَمَنٍ رِئاسَتُهُ خَساسَةْ
أو يقول:
ملَّ المقام فكم أعشارُ أمَّةً
…
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدَها
…
فعدوا مصالحاها وهم أجَرَاؤها
فإذا ترك الحياة السياسية نظر في الحياة العامة للناس وما يسودها من رياء ونفاق وما يعمها من حب للمادة، وما ينطوي فيها من شر؛ فإذا هو ساخط على الدنيا والناس من حوله سخطًا شديدًا، وإذا هو ينقلب عليهم حنقًا مغيظًا يذمهم ويذم الدنيا معهم ذمًّا شنيعًا، كأن يقول:
يَحسُنُ مَرأى لِبَني آدَمٍ
…
وَكُلُّهُم في الذَوقِ لا يَعذبُ
أَفضَلُ مِن أَفضَلِهِم صَخرَةٌ
…
لا تَظلِمُ النَّاسَ وَلا تَكذِبُ
أو يقول:
لَعَمرُكَ ما الدُّنيا بِدارِ إِقامَةٍ
…
وَلا الحَيُّ في حالِ السَلامَةِ آمِنُ
وَإِنَّ وَليدًا حَلَّها لَمُعَذَّبٌ
…
جَرَت لِسِواهُ بِالسُعودِ الأَيامِنُ
أو يقول:
عجبت للأم لما مات واحدها
…
بكت وساعدها ناس يبكونه
هم أسارى مناياهم فما لهم
…
إذا أتاهم أسيرٌ لا يفكَّونه
أو يقول:
نمسي ونضحى في ضلالاتنا
…
وما على الغبراء إلا سفيه
فنسأل الواحد إنقاذنا
…
من عالم السوء الذي نحن فيه
أو يقول:
خسست يا أمُّنا الدُّنيا فأفِّ لنا
…
بني الخسيسة أوباشٌ أخساءُ
وعلى هذا النمط استمر أبو العلاء يهاجم هذا العالم بكل ما فيه؛ فقد كان يتراءى له في صورة حمقاء منكرة، وتمادى به تشاؤمه فهجا آدم وحواء والناس جميعًا:
إن مازت الناسَ أخلاقٌ يعاشُ بها
…
فإنهم عند سوءِ الطبعِ أسواء
أو كان كل بني حواء يشبهني
…
فبئس ما ولدت للناس حواءُ
وكان لحواء وبناتها حظ واسع من هذا الهجاء؛ فهن أصل هذا البلاء في الأرض وأصل هذا النسل الذي يعيش في دار النحس والشقاء:
فليت حواء عقيمًا غدتْ
…
لا تلد النَّاس ولا تحبَلُ
بل ليت الناس يمتنعون عن النسل والزواج حتى يتحطم هذا العالم الذي يسير هذه السيرة العرجاء في توزيع الحظوظ والأرزاق:
لو أن كل نفوس الناس رائية
…
كرأي نفس تناهت عن خطاياها
لعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا
…
ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها
إذن ما قام هذا العالم الفاسد، الذي لا يستطيع أبو العلاء أن يفهم له
نظامًا! إنه شر خالص! وليس لهذا الشر من دواء إلا أن يتحطم فنستريح الراحة الكبرى، فإن لم يتحطم هذا العالم من نفسه فلنحطمه نحن بأيدينا هذا التحطيم السلبي، فنعطل الزواج والتناسل، ولعله من أجل ذلك كان يهاجم المرأة هجومًا عنيفًا، كأن يقول:
ومن صفات النساء قِدمًا
…
أن لسن في الوُدِّ منصفاتِ
وما يبين الوفاءُ إلا
…
في زمنِ الفقدِ والوفاةِ
أو يقول:
ألا إن النساءَ حبالُ غيٍ
…
بهن يضيعُ الشرفُ التليدُ
ويستمر أبو العلاء في ترديد هذا السخط على الحياة والناس الذي يحيون فيها من رجال ونساء. والإنسان لا يتابعه في لزومياته حتى تكثر في سمعه هذه الأنغام التي تدل على أنه مغيظ من الناس جميعًا غيظًا شديدًا؛ فهو حنق عليهم ضيق بهم وبكل شيء فيهم حتى تقواهم ودينهم:
نادتْ على الدينِ في الآفاقِ طائفةٌ
…
يا قوم من يشتري دينًا بدينارِ
جنوا كبائرَ آثامٍ وقد زعموا
…
أن الصغائرَ تجني الخلدَ في النَّارِ
ويقول في بعض الوعاظ والنساك:
بخِيفةِ اللهِ تعبدتنا
…
وأنت عينُ الظالمِ اللَّاهي
تأمرُنا بالزُّهدِ في هذه الدُّنيا
…
وما همُّك إلا هِي
ويقول:
توهمتَ يا مغرورُ أنك ديِّنٌ
…
علي يمين اللهِ ما لك دينُ
تسير إلى البيتِ الحرامِ تنسكًا
…
ويشكوك جارٌ بائسٌ وخَدينُ
ويقول أيضًا:
سبِّح وصلِّ وطفْ بمكةَ زائرًا
…
سبعين لا سبعًا فلست بناسِكِ
وكما يهاجم الوعاظ والنساك وغيرهم من علماء الدين يهاجم المتصوفة أيضًا هجومًا عنيفًا، وكان يسخر خاصة من الرقص الذي شاع بينهم في عصره على