الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأنه يريد بالجد الحظ، وبالعم: الجماعة من الناس وبالخال المخيلة، وقد ألغز بذلك عن العم والجد والخال من النسب"1.
وليس من شك في أن مثل هذه الألغاز لا تضيف طرافة إلى الشعر؛ إلا أن يقصد به إلى التعقيد وأن يتخذ هذا التعقيد إحدى غاياته. وكأني بالحضارة العربية ضلت طريقها الطبيعي في التعبير، فذهبت تستعين بألوان الطعام يوضع بعضها وراء بعض، أو بالملاعق تتعدد في أثناء تناول الطعام، أو بهذه الوسائل الملتوية في التعبير الفني، وكأنها تبحث عن طريق جديد تعبر به؛ غير أنها لم تقع إلا على هذه الضروب من التكلف والتصنع فتشبثت بها، وقد خيل إليها أنها تستطيع أن تطرف بها حياة الناس وأفكارهم، ومن المهم أن نعرف أن الناس كانوا يطلبون هذه الضروب من الشعراء لأن حياتهم هم أنفسهم تعقدت وأصبحوا لا يعجبون إلا بما يتمشى مع حياتهم. واستجاب لهم الشعراء؛ فكل يحاول بدوره أن يعقِّد الفن وأن يقع في هذا التعقيد على طرفة جديدة يطرفهم بها حتى ينال إعجابهم واستحسانهم.
1 سر الفصاحة ص215.
3-
التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ:
سرت هذه الظاهرة من التصنع في جميع جوانب الفن حتى في ألوان التصنيع الحسية نفسها التي رأيناها عند جماعة المصنعين؛ فقد استخدمها الشعراء ولكن في هذا التعقيد الذي يعدُّ سمة القرن الرابع وما جاء بعده من قرون، ففقدت جمالها وتنوعها، ولم نعد نجد لها هذه الألوان والأصباغ الثرية التي كنا نراها عند أبي تمام، ولا هذه الأوضاع المنوعة التي مرت بنا عند ابن المعتز لصبغ التشبيه، تلك الأوضاع التي أحالها خياله إلى أشعة فضية غريبة.
وليس معنى ذلك أن الشعراء هجروا وسائل التصنيع التي رأيناها في القرن
الثالث، والتي تعد نوعًا من الرومانسية في الشعر العربي؛ وإنما معناه أن الشعراء لم يعودوا يحسنون استخدامها كما كان الشأن عند أبي تمام وابن المعتز؛ هم يستخدمونها ولكن استخدامهم لها معقد تعقيد هذه الحضارة التي عاشوا فيها، وهو تعقيد لا يضيف إلى الألوان جمالًا كهذا الجمال الذي رأيناه عند أبي تمام إنما هو تعقيد يأتي لذاته؛ فلا يضيف طرافة للون بل قد يزيل منه بعض أصباغه ويحيله لونًا باهتًا لا دفء فيه ولا حرارة. واقرأ هذا الطباق للمتنبي.
لمن تطلبُ الدُّنيا إذا لم ترِدْ بها
…
سرورَ محبٍّ أو إساءة مجرمِ
فإنك تحس كأنك لا ترى هذا الطباق الذي أقامه بين السرور والإساءة والحب والإجرام؛ لأن الكلمات لا تتقابل؛ فليست كلمة الإساءة عكس كلمة السرور، ولا كلمة الإجرام عكس كلمة الحب، إنما عكس السرور الحزن كما أن عكس الحب البغض. ولكننا ننسى؛ فقد تركنا القرن الثالث ودخلنا في القرن الرابع، وهو قرن لا يستطيع أن يجاري النهضة العربية التي رأيناها في القرن الثالث، بل هو يتخلف كما تتخلف هذه المقابلات عند المتنبي أو هذه الطباقات التي يحسن أن نعطيها وصفًا جديدًا يميزها، نسميها طباقات غير دقيقة بل نسميها: طباقات باهتة، فالكلمات لا تتطابق ويحس الإنسان كأن اللون غائب منه لا يراه، فهو لون باهت لي كلون الطباق الزاهي الذي رأيناه عند أبي تمام، بل إن الإنسان يخيَّل إليه أنه لون آخر، فقد انحسرت عنه بعض أصباغه، وغدا لا يتَّشح بهذه الأصباغ الثرية التي كنا نراها في القرن الثالث.
لم يعد القرن الرابع يحسن استخدام وسائل التصنيع إلا أن يتولاها بشيء من التكلف يحيلها عن أصباغها كما نرى في هذا الطباق، ويتولاها بشيء من التعقيد في الأداء كهذا الجناس لبعض شعراء اليتيمة:
إن أسيافنا القصار الدوامي
…
صيّرت ملكنا طويلَ الدوامِ
نحن قومٌ لنا سدادُ أمورٍ
…
واصطلامُ الأعداء من وسطِ لامِ2
1 التبيان "العكبري على المتنبي""طبعة الحلبي" 4/ 141.
2 اصطلام: اجتثاث. لام: مخفف لَأم جمع لَأْمَةٍ، وهي الدرع.
واقتسام الأموال من وقت سامٍ
…
واقتحامُ الأهوالِ من وقت حامِ
فإنك تراه يجانس بين الدوامي والدوام، وهو جناس طبيعي يشبه ما كنا نجده في القرن الثالث، ولكن انظر إلى تجديده في هذا اللون بعد ذلك؛ إذ تراه يجانس بين: اصطلام، وكلمتي: وسط لام، كما يجانس بين: واقتسام، وكلمتي: وقت سام، وكذلك بين: واقتحام، وكلمتي: وقت حام. أرأيت إلى هذا التجديد في الجناس؟ إنه كملاعق المهلَّبي لا يضيف طرافة إنما يضيف تعقيدًا وتلفيقًا غريبًا يخرج به الجناس عن صورته الأصلية الموسيقية إلى نوع من العبث واللعب بالألفاظ والكلمات.
وليس لنا أن نزري على عمل الشعراء وطريقة استخدامهم لهذه الألوان؛ فذلك أسلوب العصر، إذ كان يعجب بالتعقيد في كل شيء، وتبعه الشعراء يعقدون في وسائلهم وطرق استخدامها، ولكنهم حينما عدلوا إلى ذلك التعقيد لم يستطيعوا أن يستخرجوا منه صورًا وأشكالًا طريفة؛ إنما هي صور وأشكال غريبة، فإذا اللون يتعقد تعقدًا داخليًّا لا يضيف إليه حسنًا أو جمالًا، وإنما يضيف إليه إغرابًا، إن كان الإغراب يعتبر بدعًا في ذاته، يطلبه الشعراء في نماذجهم وآثارهم.
وإذا تركنا الطباق والجناس إلى أصباغ التصوير التي كان يستخدمها شعراء القرن الثالث وجدناها يصيبها من التحول ما أصاب هذين اللونين؛ فقد عزف الشعراء عن التشخيص والتجسيم إلا في القليل النادر، أما التشبيهات والاستعارات فقد أكثروا منها، ولكنه إكثار من جنس إكثارهم من الطباق والجناس، إكثار نزع بهذه الأصباغ إلى صور جديدة، وكأنها فارقت أصباغها، واقرأ هذا البيت للوأواء الدمشقي إذ يقول1:
فأمطرتْ لؤلؤًا من نرجسٍ وسقتْ
…
وردًا وعضَّت على العنَّابِ بالبردِ
فإنك تراه يملأ بيته بالاستعارات؛ إذ استعار اللؤلؤ للدمع والنرجس للعين
1 معاهد التنصيص 1/ 168.
والورد للخد والعنَّاب للأصابع، والبَرَد للأسنان، ولكن كأن هذه الاستعارات لا تثير فينا شيئًا من اللذة الفنية التي كنا نشعر بها في أثناء القرنين الثاني والثالث، وانظر إلى أصل هذا البيت عند أبي نواس1.
يا قمرًا أبرزَهُ مأتمٌ
…
يندبُ شجوًا بين أترابِ
يبكي فيُذرى الدرّ من نرجس
…
ويلطمُ الوردُ بعنَّابِ
فإنك ترى الوأواء يأخذ ناحية التشبيه من أبي نواس دون أن يأخذ معها ما فيها من حياة وحركة، وبذلك غدا التشبيه كأنه جامد؛ فالشاعر لا يشيع فيه شيئًامن الحركة، إنما شيء واحد هو الذي يهتم به، وهو هذا الركام من الصور التي لا نحس فيها شعورًا، فقد تحجَّرت في التاريخ وأصبحت تراثًا محفوظًا في الفن. ولا بد للشاعر إذا كان يريد أن يستخدمها من أن يعيد لها حياتها وشعورها، أما أن يأتي بها على هذا النظام فإننا نحس بثقل التعبير وأنه لا يكاد ينهض بما يحمله، وكأني بهذه الصورة المحفوظة من اللؤلؤ والنرجس والعناب والبرد والورد إذا وضعناها متلاصقة على هذا النحو تعبر تعبيرًا أوسع من المعنى الذي أراده الشاعر، وماذا يريد أن يقول؟ إنه يقول: إن صاحبته بكت وعضت أناملها. ولكنه أبى إلا أن يشق على نفسه في تعبيره حتى يرضي ذوق عصره من تصنعه وتكلفه فجعل البكاء أمطارًا والدموع لؤلؤًا والعين نرجسًا والخد وردًا والبنان عنابًا والأسنان بردًا، وما فائدة الزمن؟ وما الرقي الذي أصابه الشعر في القرن الرابع إن لم يجنح الشاعر إلى مثل هذا التعقيد في صوره؟ وإنه لرقي معكوس أن يشق الشاعر على نفسه في التعبير على هذا النمط؛ فإذا بالبيت لا يعبر إلا عن تعقيد في التصوير والخيال، ولكنا لا نجد فيه حواشي من الفكر تزخرف صوره إلا كما نرى في قول المتنبي2:
بدت قمرًا ومالت خوطَ بانٍ
…
وفاحت عنبرًا ورنتْ غزالا
1 أخبار أبي نواس، ص190. يذري: ينثر.
2 التبيان 3/ 224. والخوط: القضيب، والبان: شجر يشبِّه الشعراء قدودَ النساءِ بقضبانه.
فإنك تحس كأن الشاعر لا يريد أن يعبر عن صوره فقط؛ وإنما يريد قبل كل شيء أن يعقِّد في هذه الصور، فتراه يأتي بالقمر وخوط البان والعنبر والغزال، أما حبه وأما أفكاره نحو صاحبته فكأني بها لا تعنيه، ولقد كان حريًّا بالمتنبي أن يصف لنا اللذة والرغبة والحيرة والانفعالات التي يسببها الحب، ثم يتركنا نرسم الجمال نحن لأنفسنا رسمًا خياليًّا، لا هذا الرسم الذي يتحكم فيه، والذي لا يعطينا حسه إلا عن طريق هذا التركيب والتعقيد في جلب صوره ووضعها متعاقبة بهذا الشكل الذي قد يحوي شعورًا، ولكنه شعور بغير لذة.
وهذا هو معنى ما نذهب إليه من أن ألوان التصنيع تستخدم في هذا القرن، ولكن يحس الإنسان كأنها لم تعد تعبر عن أصباغها، بل كأنها أصبحت شيئًاقديمًا مألوفًا؛ فقد فقدت جمالها وزينتها، وتحولت عن ألوانها وأصباغها إلى ألوان وأصباغ باهتة، فليس هناك تصنيع ولا بديع رائع. بل إن كلمة البديع ومعناها الحديث تفقد معناها في هذه العصور فلا تعود تدل على الطريف المبتكر بل نراها تدل على غير الطريف من المكرر، يقول ابن رشيق: "والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستطرف والذي لم تَجْرِ العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع، وإن كثر وتكرّر1.
ونحن لا ننفي اهتمام الشعراء المتأخرين بالبديع سواء منهم من كان في المشرق أو في المغرب أو في مصر أوفي الأندلس فقد قصر الشعراء -في هذه العصور- عنايتهم على هذا البديع حتى لنرى صفي الدين الحلي يذكر في بديعيته أنها ثمرة سبعين كتابًا في هذا الفن2، وقد تلتها بديعيات كثيرة، ولكن هذا لا ينقض كلامنا؛ فقد تحوّلت ألوان التصنيع عن أصباغها، ولم يعد لها هذه الطرافة التي كنا نجدها عند الشعراء المصنعين في القرن الثالث. وكل ما يمكن أن يضاف إلى هؤلاء الشعراء المتأخرين من ابتكار هو لون التورية الذي استحدثوه؛ ولكن ألوانهم جميعًا لم تكن زاهية ولم يكن بها هذا التنويع والثراء في الأصباغ كما
1 العمدة: لابن رشيق 1/ 177.
2 خزانة الأدب للحموي ص27.