الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ:
إذا ذهبنا نتعقب الشعر العربي الحديث وجدنا نهضة واسعة تأخذ به من جميع أطرافه، وقد بدأ هذه النهضة شعراء مصر الحديثة يقودهم فيه البارودي. وهي نهضة لا تعد في صورتها العامة ثورة على القديم، بل هي تتصل به اتصالا شديدًا، إذ نرى الشعراء يعودون بالشعر العربي إلى رونقه الذي نعرفه في العصر العباسي. فقد تركوا هذا الشعر الركيك الذي نعرفه للمصريين في العصر العثماني كما تركوا شعر الخشاب والساعاتي ومن إليهما ممن كانوا ينظمون في مفتتح العصر الحديث، إذ كان شعرهم أيضًا غثًّا مسفًّا، وأخذوا يرتفعون بشعرهم إلى آفاق عليا.
غير أنه ينبغي ألا نبالغ في ذلك، فإن حركة التجديد والنهضة عندنا وخاصة في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن لم تكن واسعة، بل كانت ضيقة تعتمد أكثر ما تعتمد على إحياء القديم وبعثه، فهي حركة بعث وإيقاظ، ورجوع بالشعر إلى تعبيره القديم، ولعله من أجل ذلك لم تختلف صورة الشعر عند البارودي وتلامذته كثيرًا عن الصور القديمة، فقد استمدوا أفكارهم وأخيلتهم ومعانيهم من القدماء، إذ ذهبوا يستَنُّون بمناهجهم ويحتذون على أمثلتهم. ومن يرجع إلى ديوان البارودي يجده يقلد جميع الشعراء العباسيين والجاهليين والإسلاميين، فهو يعارض النابغة وأبا نواس والبحتري والشريف الرضي والمتنبي وأبا العلاء؛ ولكن مع هذا نراه يخرج بالشعر من نطاق صفوت الساعاتي والخشاب،
هذا النطاق الذي هو أشبه ما يكون بكراريس التطبيق، إلى نطاق جديد فيه حقًّا تقليد، ولكن فيه أيضًا جدة وبراعة، وإذا تركنا البارودي إلى شوقي زعيم الشعر المصري الحديث وجدناه مثل أستاذه البارودي ينحو نحو تقليد القدماء، ولذلك كانت تكثر عنده معارضة الشعراء السابقين من مثل أبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن زيدون، ولعل في هذا ما يدل على أن النهضة الفنية في الشعر المصري كانت نهضة بعث وإحياء، حقًّا قد يقول حافظ:
آنَ يا شعرُ أن نفُكَّ قيودًا
…
قيَّدَتنا بها دعاةُ المحالِ
ولكن حافظًا وإخوانه لم يفكوا عن فنهم أفعى التقليد. والذي لا ريب فيه أن شوقي أكثرهم تجديدًا، فقد حاول أن يحدث ضربًا من الشعر التمثيلي على نحو ما نعرف في روايات مصرع كليوباترا ومجنون ليلى وقمبيز، إلا أن هذه المحاولة لم تبلغ الذورة عنده لأسباب كثيرة، أهمها أنه لم يدرس تاريخ المسرح الأوربي، فلم يتجه بشعره التمثيلي إلى أوزان جديدة ولا أحكم إخراجه لأبطال رواياته، وبدا الضعف في جوانب من عمله المسرحي، ووجد بجانب ذلك ضرب من الشعر في السياسة والآثار والحياة الحديثة، كأن ينظم الشعراء في الخلافات الحزبية أو في الفرعونيات أو في الطيارات والغواصات ولكن الشعر لم يتحرر بذلك تمامًا من القديم؛ لأن هذا التجديد لا يقوم على مذهب موضوع ومنهج مرسوم، بل إننا نرى الشاعر يجمع ديوانه ويقدمه للمطبعة فلا يعرف كيف يقدم له، ولذلك نراه يستعين ببعض الكتاب يكشفون له عن خصائصه التي لا يحسها هو في نفسه ولا في فنه، إذ هو في الواقع لم يكتب ديوانه ليعبر عن فلسفة في الحياة، أو حب للطبيعة، أو إيمان بعقيدة خاصة، إنما هي قصائد قيلت في مناسبات مختلفة، ثم جمعت في شكل ديوان، وقد يجدد الشاعر فيأتي بقصيدة في السياسة أو في الاختراعات الحديثة، وهو تجديد لا يقوم على نشر مذهب حديث في الأدب ولا إحداث ثورة في موضوعاته ومعانيه.
وهذا الجانب عند شعرائنا يجعلنا نذكر الشعراء الغربيين، إذ نرى
الشعر عندهم عقيدة ومذهبًا من المذاهب يدافعون عنه حياتهم، كم نرى عند أصحاب النزعة الرومانسية وكما نرى عند البرناسيين والرمزيين حيث نجد الشاعر يكتب ديوانه ليقرر هذه العقيدة الجديدة، وذلك المذهب الحديث، ولذلك كان يقدم له بنفسه؛ لأنه يقرر منهجًا خاصًّا هو الذي يرفع قواعده ويقيم بنيانه. أما عندنا وخاصة في أول هذا القرن فلا يزال الشعر غالبًا على حالته التقليدية القديمة، لم تغيَّر أصوله ولا رسومه؛ ومن أجل ذلك كان الديوان عند كثير من شعرائنا حينئذ كالديوان عند القدماء، إنما هو قصائد تجمع من ظروف ومناسبات مختلفة، فيتكون منها مجموعة من الشعر تسمى ديوانًا، وليس بين أشعارها وحدة معينة أو غاية مشتركة، إنما كل ما بينها من اتفاق أنها تشترك في وحدات وغايات موسيقية، وأنها شعر نظم على أوزان وقوافٍ، وليس بعد ذلك ما يدل على اتفاقها في غرض معين، ومن ثَمَّ كان من العسير أن يكتب شاعر من هؤلاء الشعراء مقدمة لديوانه؛ لأن المقدمة تعني المنهج المرسوم والمذهب الموضوع وهم لا مذهب لهم ولا منهج إنما يكتبون بوحي الساعة، أو وحي الأحداث والمناسبات المختلفة.
الشُّعَرَاءُ يحاولونَ التَّجْدِيدَ:
ونحن لا ننسى ما حاوله بعض الشعراء من التجديد، غير أن جمهورهم في الحق لم يستطيعوا أن ينهضوا بكل ما كنا نصبوا إليه؛ فقد أهملوا -في كثير من جوانب شعرهم- الصياغة الفنية للشعر العربي، وراحوا يستعيرون معارض تفكيرهم وشعورهم من الشعراء الغربيين، وخاصة شعراء النزعة الرومانسية، وبالغوا في ذلك حتى أصبحت نماذج كثيرة من أشعارهم، وكأنها ضروب من الترجمة للأساليب الغربية. ولعل من الغريب أن نفرًا منهم ذهبوا ينادون بهجر الأساليب العربية القديمة، ويقولون إنها أصبحت لا تلائمنا في العصر الحديث، ونسوا أن صياغة التفكير الفني لأمة من الأمم لا يمكن أن تهجر مرة واحدة إلى صياغة أمم أخرى. يمكن أن يزاوج الشعراء بين صياغة أمتهم القديمة