المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ زهير ومذهب الصنعة: - الفن ومذاهبه في الشعر العربي

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الطبعة الرابعة

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع

- ‌الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم

- ‌الشعر صناعة

- ‌ صناعة الشعر الجاهلي:

- ‌ الصناعة الجاهلية مقيدة:

- ‌ الطبع والصنعة:

- ‌ الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:

- ‌ زهير ومذهب الصنعة:

- ‌ نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي:

- ‌ الشعر التقليدي والغنائي:

- ‌الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة

- ‌الشعر العربي نشأ نشأة غنائية

- ‌ تعقد الغناء الجاهلي:

- ‌ مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي:

- ‌ موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي:

- ‌ تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌ انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام:

- ‌ انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي:

- ‌ نمو مقطوعات الشعر الغنائي:

- ‌ تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي:

- ‌تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي

- ‌الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع

- ‌الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة

- ‌ العلاقات اللغوية:

- ‌ العلاقات الثقافية:

- ‌ ازدهار مذهب الصنعة:

- ‌ بشار وصنعته في شعره:

- ‌ صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ:

- ‌ صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ:

- ‌ ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ:

- ‌ التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة

- ‌البحتري: نشأته وحياته وصنعته

- ‌ الخلافُ بينَ البحتريِّ وأصحابِ التَّصنيعِ:

- ‌ البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ:

- ‌ ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:

- ‌ التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي:

- ‌ الهجاءُ السَّاخِرُ:

- ‌جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي

- ‌الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع

- ‌أبو تمام أصله وحياته وثقافته

- ‌ ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ التصنيعِ القديمةِ:

- ‌ التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ:

- ‌ استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ تصنيعٍ جديدةٍ:

- ‌ المزجُ بين ألوانِ التصنيعِ القديمةِ والجديدةِ:

- ‌ قَصِيدةُ عموريةَ:

- ‌ ابنُ الْمُعْتَزِ، نشأَتُهُ وحَيَاتُهُ وتصنيعُهُ:

- ‌ تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ:

- ‌ الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ:

- ‌الكتاب الثاني: مذهب التصنع

- ‌الفصل الأول: التصنع

- ‌التصنع في الحضارة العربية

- ‌ التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ:

- ‌ التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ:

- ‌ ألوانُ التصنيعِ العقليةِ لا تستوعَبُ ولا تتحولُ إلى فنٍ:

- ‌ جمودُ الشِّعرِ العَرَبي:

- ‌ التَّحْوِيرُ:

- ‌الفصل الثاني: الثقافة والتصنع

- ‌المتنبي نشأته وحياته وثقافته

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ:

- ‌تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ:

- ‌ المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي:

- ‌ تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ:

- ‌ تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ:

- ‌ حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ:

- ‌ شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم:

- ‌الفصل الثالث: التصنع والتلفيق

- ‌ميهار أصله وتشيعه ومزاجه

- ‌ تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ:

- ‌ تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ:

- ‌ الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار:

- ‌ غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ:

- ‌ الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار وتحوُّلُه إلى شعرِ مناسباتٍ:

- ‌الفصل الرابع: التعقيد في التصنع

- ‌أبو العلا نشأته وحياته وثقافته

- ‌ ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ:

- ‌ اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ:

- ‌ اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ:

- ‌ صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌ اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ:

- ‌ اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ:

- ‌الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في‌‌ الأندلسومصر

- ‌ الأندلس

- ‌الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية

- ‌ شخصيَّةُ الأَنْدَلُسِ:

- ‌ الشِّعْرُ في الأَنْدَلُسِ:

- ‌ نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي:

- ‌ الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ مصروالمذاهب الفنية

- ‌ مصر

- ‌ شَخْصِيَّةُ مِصْرَ:

- ‌ الشِّعْرُ في مِصْرَ:

- ‌ الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ:

- ‌ الأيوبيونَ ونهضةُ الشِّعرِ في عهدِهِمْ:

- ‌ المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ:

- ‌ العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ:

- ‌خَاتِمَةٌ:

- ‌ الصُّورةُ العامَّةُ لِلْبَحْثِ:

- ‌ الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ:

- ‌ الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ:

- ‌فهرس الموضوعات

- ‌كتب للمؤلف مطبوعة بالدار:

الفصل: ‌ زهير ومذهب الصنعة:

لنراهم يفخرون بإجادتهم ومهارتهم، يقول كعب بن زهير يخاطب الشماخ وأخاه مزرِّدًا1:

فمن للقوافي شَانَها من يحوكها

إذا ما ثوى كعب وفوَّز جَرْوَلُ2

كفيتك لا تلقى من الناس واحدًا

تنخل منها مثلما نتنخَّلُ3

نُثقِّفها حتى تلين متونها

فيقصر عنها كل ما يتمثَّلُ4

فكعب وجرول أي الْحُطَيئة ينتخلان شعرهما، ويأخذانه بالثقاف والتنقيح، ويجمعان له كل ما يمكن من وسائل التجويد والتحبير، وكذلك كان يصنع صنيعهما الشماخ ومزرد الذي رد على كعب يقول5:

فإن تَخْشِبَا أخشب وإن تتنخَّلا

وإن كنت أفتى منكما أتنخَّل6

وإن الباحث يشعر كأن هذا التنخل من عمل الشعراء جميعًا؛ فهم مشتركون في الإجادة، بل هم يجدون أي صعوبة في عملهم الفني، ولعل ذلك ما جعل الحطيئة يقول7:

الشعر صعب وطويل سُلَّمه

إذ ارتقى فيه الذي لا يعلمه

زلَّت به إلى الحضيض قدمُه

يريد أن يعربه فيُعْجِمه

وليس من شك في أن الحطيئة والشعراء من حوله كانوا يلقون عنتًا شديدًا في رقي هذا السلم الذي كان يستلزم منهم جهدًا فنيًّا خاص. حتى يستطيعوا أن يبلوا الشأو الذي يريدونه.

1 أغاني "دار الكتب" 2/ 165.

2 ثوى وفوز: مات.

3 تنخل: اختار.

4 نثقفها: نقوّمها كما تقوم السهام.

5 أغاني "دار الكتب" 2/ 166.

6 تخشبًا: تنظمًا بغير تكلف.

7 أغاني "دار الكتب" 2/ 196.

ص: 24

6-

‌ زهير ومذهب الصنعة:

كان التكلف ظاهرة عامة في الشعر القديم، أو بعبارة أخري كانت "الصنعة" مذهبًا عامًّا بين الشعراء، ولعل خير شاعر يمثل هذا المذهب ويفسره

ص: 24

في العصر الجاهلي هو زهير صاحب الحوليات؛ فقد كان يأخذ شعره بالثِّقاف والتنقيح والصقل، وكأنه يفحص ويمتحن ويجرب كل قطعة من قطع نماذجه؛ فهو يعنى بتحضير مواده، وهو يتعب في هذا التحضير تعبًا شديدًا.

ومن يتتبع القدماء في درسهم له يجدهم يلاحظون أنه خرج من بيت شعر، إذا كان زوج أمه أوسن بن حجر شاعرًا، وكذلك كانت أخته شاعرة، وكان ابنه كعب شاعرًا مشهورًا، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة معروفة، ولكعب أخ يسمى بجيرًا كان شاعرًا أيضًا1، وإذا استمررنا وجدنا لكعب أبناء وأحفادًا من الشعراء؛ فزهير شاعر خرج من بيت شعر. وإذا رجعنا إلى ترجمة الحطيئة في الأغاني وجدناه يقول لكعب: إنه لم يسبق من أهل بيتنا إلا أنا وأنت، وتتفق الروايات على أن الحطيئة كان راوية لزهير، وأن هُدْبة كان راوية للحطيئة، وأن جميلًا كان راوية لهدبة، وأن كثيِّرًا كان راوية لجميل2.

وإذن فنحن أمام مدرسة في الشعر أستاذها زهير وتلامذتها جماعة، تارة يكونون من من أهل بيته، وتارة لا يكونون، وهي مدرسة "كانت تعتمد على الأناة والروية، وتقاوم الطبع والاندفاع في قول الشعر مع السجية؛ فكثر عندها التشبيه، والمجاز والاستعارة، واتكأت في وصفها على التصوير المادي، وأن يأخذ الشاعر نفسه بالتجويد والتصفية والتنقيح ثم التأليف"3. قد يقول قائل وأين امرؤ القيس وما موضعه من هذه المدرسة، وقد عرفناه يكثر من التشبيهات، كما نرى في معلقته؛ فهو إذن رأس المدرسة أو هو أحد أفرادها. والقياس منكسر فإن الطريقة البيانية عند امرئ القيس تعتمد -كما رأينا- على تراكم التشبيهات، وأن تخرج الأبيات في صفوف منها متلاحقة، وتلك مرتبة أولى من مراتب الطريقة البيانية، أما حين نتقدم عند زهير؛ فإننا نجد هذه الطريقة تنعقد وكأنها تغاير ما ألفناه عند امرئ القيس مغايرة تامة.

1 أغاني "دار الكتب" 10/ 314.

2 أغاني "دار الكتب" 8/ 91.

3 انظر كتاب "في الأدب الجاهلي" لطه حسين ص286.

ص: 25

ولعل أول ما يسترعى الباحث في عمل زهير، أنه يُعْنَى بتحقيق صوره فهو لا يأتي بها متراكمة، كما كان يصنع امرؤ القيس؛ بل يعمد إلى تفصيلها وتمثيلها بجميع شعبها وتفاريعها، وكأنه يبحثها ويحققها. وانظر إلى قوله في وصف بعض النسوة1:

تنازعها المها شَبَهًا ودُرُّ النـ

ـحور وشاكهت فيها الظباء2

فما ما فُوَيْقَ العقد منها

فمن أدماء مرتعها الخلاء3

وأما المقلتان فمن مَهاةٍ

وللدُّرِّ الملاحة والصفاءُ

فإنك تلاحظ أن زهيرًا لم يكتفِ بأن يشبه صاحبته بالظباء والمها والدر جملة بل رجع إلى تفصيل ذلك وتحقيقه؛ فجعل للظباء ما فويق العقد وجعل للمهاة عينيها وللدر الملاحة والصفاء. وهذا هو معنى ما نقوله من أن زهيرًا كان يحقق صورة، ولم يكن يعتمد في هذا التحقيق على اللغة وحدها؛ بل كان يعتمد قبل كل شيء على أن تكون الصورة واسعة هذه السعة التي تتضمن التفصيل والتفريغ وكأنه يريد أن يحملها أكثر طاقة ممكنة في التعبير والتمثيل. وكان لزهير مهارة خاصة في استخدام الألفاظ والعبارات المثيرة التي تجعل المنظر كأنه يتحرك تحت أعيننا، وانظر إلى قوله في وصف صيد وحكايته للغلام الذي أنبأه به4:

إذا ما غدونا نبتغي الصيد مرةً

متى نرهُ فإننا لا نخاتله5

فبينا نُبغِّي الصيد جاء غلامنا

يدبُّ ويخفى شخصه ويضائله6

فقال: شياهٌ راتعات بقفرةٍ

بمستأسد القُرْيان حُوّ مسايلُهْ7

1 ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص61.

2 المها: بقر الوحش. شاكهت: شابهت.

3 أدماء: ظبية بيضاء. شبهها بالظباء في طول العنق.

4 ديوان زهير ص130.

5 غدونا: بكرنا. نبتغي: نطلب. نختاله: نمكر به ونصيده دون أن نجاهره.

6 نبغي: نبتغي. يدب: بمشي هونًا. يضائله: يصغره.

7 الشياه هنا: الأتن. المستأسد من النبت: الذي طال وتم. القريان: مجاري المياه.

الحو: النبات الضارب إلى السواد.

ص: 26

ثلاثٌ كأقواس السَّرَاء ومِسْحَلٌ

قد اخضرَّ من لَسِّ الغمير جحافله1

فإنك تلاحظ أن زهيرًا يستطيع أن يبث الحياة والحركة في تصويره بنفس صياغته وتعبيره، وارجع إلى البيت الثاني؛ فإنك تراه ينقل به المنظر نقلًا دقيقًا نتأثر به تأثرًا عميقًا، أليس زهير يعرف سر مهنته؟ إنه يعرف كيف يصور الحوادث الماضية؛ فإذا هي تمر أمام أبصارنا وكأننا نشاهدها، وهو لا يبتغي ذلك من تشبيهات متراكمة؛ إنما يبتغيه في طبيعة التعبير نفسه فيعبر بالفعل المضارع حتى يجعلنا نتمثل حوادثه الماضية. وانظر إلى معاني الأفعال وحكايتها للصورة، فغلامه يدبّ دبيبًا، وهو يخفي شخصه كأنه يتوارى عن الأعين، وانظر إلى الفعل الأخير "يضائله" فإنه يفيد معنى التدرج الذي يلازم صورة متحركة، وانظر بعد ذلك إلى البيت الأخير وهذا اللون الأخضر الذي علق بفم الوحش لكثرة ما أكل من النبات فإنك تجد مادة أخرى من مواد التصوير عند زهير إذ تراه لا يكتفي "بالتفصيل" ولا باستعمال "العبارات التي تجعل الأشياء كأنها منظورة" بل هو يضيف "التدبيج" أي لون موصوفاته إلى تصويره حتى يأخذ الشكل ويستتم الوصف.

كان زهير يعنى بتصويره عناية شديدة وكان ما يزال يحتال على إحكامه تارة بتفصيله وتارة بتلوينه وأخرى باستخدام العبارات التي تعطيه قوة المنظور، وكأنه كان يعرف في دقة الكلمة التي تلائم وصفه معرفة الصانع الماهر الذي اطلع على كثير من أسرار فنه والأدوات التي يستخدمها في صناعته. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مطولته فسيراها تصور مهارته في صنع صوره تصويرًا دقيقًا، وانظر إليها يستهلها بقوله:

أمِنْ أمِّ أوفى دمنةٌ لم تكلَّمِ

بِحَوْمَانةِ الدَّرَّاج فالْمُتَثَلَّمِ2

1 السراء: شجر تتخذ منه القسي. شبهها بها في الضمور. المسحل: حمار الوحش. الغمير: نبت. لسه: أخذه بمقدم الفم. الجحافل. بمنزلة الشفاة للحمير والخيل والإبل.

2 أم أوفى: زوجة زهير الأولى وهي غير أم كعب وبجير. والدمنة: ما اسودّ من آثار الديار. والحومانة: الأرض الغليظة. والدراج والمتثلم: موضعان.

ص: 27

ديارٌ لَها بالرَّقمتين كأنها

مراجعُ وَشْمٍ في نَواشر مِعْصَمِ1

بها العِينُ والآرامُ يمشين خِلْفَةً

وأَطلاؤُها ينهضنَ من كل مَجْثمِ2

وقفتُ بها من بعد عشرين حجَّةً

فَلأْيًا عرفت الدار بعد توهم3

أثافِيَّ سُفْعًا فِي معرَّس مِرْجَل

ونُؤيًا كجذم الحوض لم يتثلَّم4

فلما عرفت الدار قلت لِرَبْعِها

ألا انعم صباحًا أيها الرَّبع واسْلم

وواضح في هذا المطلع الذي يصف فيه زهير الطلل أنه يعتمد في تصويره على التفاصيل وأن يعطي كل جزء حقه؛ فهو باحث محقق، وهو يطلب في شعره أن يكون أكثر بيانًا ودقة وتفصيلًا لما يتحدث عنه، ويحاول أن يصوره. فهو من الشعراء المصورين الذين يحاولون عرض المناظر أمامنا بكل أجزائها وتفاصيلها؛ ولذلك نراه يذكر في نموذجه حين يتحدث عن الأطلال الأثافِيّ والنؤى حتى تتم الصورة بجميع دقائقها. على أن مقدرته في "التصوير" تظهر في جانب آخر هو استخدام الألفاظ والعبارات التي تجعل المنظر بارزًا ناطقًا. وانظر في البيت الثالث إلى هذه الوحش التي اتخذت دارًا صاحبته مقامًا؛ فإنك تراها تمشي أمامك خلفه، أي في وجهات متضاده، وقد نهضت أطلاؤها الصغار وانتثرت هنا وهناك؛ فانظر كيف استعان على بث الحركة في المنظر باستخدامه لكلمة "خلفه" ثم انظر إلى تلك الأفعال المضارعة التي وضعتها اللغة للدلالة على الأحوال المنظورة؛ فإنه يأتي بها ليجعلنا نبصر حوادثه الماضية، وكأنها تجري تحت أعيننا. وانظر إلى البيت الرابع وما وضع فيه من تحديد "الزمان" حتى يؤثر في أنفسنا، ثم انظر إلى تلك التحية الهادئة في البيت الأخير، فإنك لا تشك في

1 الرقمتان: موضعان متباعدان، يقول إنها تحل بهذين الموضعين، مراجع وشم: خطوط وشم، والنواشر: عصب الذراع وعروقه الباطنة، المعصم: موضع السوار.

2 العين: البقر، والآرام: الظباء البيض، خلفة: يخلف بعضها بعضًا، الأطلاء: جمع طلا وهو ولد الظبية والبقرة، المجثم: المريض.

3 الحجة: السنة. لأيًا: بعد جهد.

4 الأثافي: ثلاثة حجارة يوضع عليها القدر، سفعًا: سواد. المعرّس هنا: موضع المرجل، وأصل التعريس النزول في وقت السحر، والمرجل: القدر. والنؤى: حاجز في شكل الهلال من تراب يرفع حول البيت لئلا يدخله الماء. جذم الحوض: حرفة وأصله، لم يتثلم: لم يتهدم.

ص: 28

أن زهيرًا كان يعرف بسر مهنته معرفة دقيقة، واستمر في المطولة؛ فستراه يصور رحيل أحبائه تصويرًا رائعًا إذ يقول:

تبصر خليلي هل ترى من ظعائنٍ

تحمّلن بالعلياء من فوق جُرثم1

عَلَوْنَ بأنماط عتاق وكِلَّة

وِرادٍ حواشيها مشاكهةِ الدّم2

وورَّكن في السوبان يعلون مَتْنه

عليهن دَلُّ الناعم المتنعِّم3

وفيهن ملهى للصديق ومنظر

أنيق لعين الناظر المتوسمِ4

بَكَرن بكورًا واستحرن بِسُحْرَةٍ

فهنَّ لوادي الرَّسِّ كاليد للفم5

جَعَلْن القَنانَ عن يمين وحَزْنَهُ

ومن بالقَنان من مُحِلٍّ ومحرمِ6

ظَهَرْنَ من السُّوبان ثم جَزَعنه

على كل قَيْنِيٍّ قشيبٍ مفَأَّمِ7

كأن فُتاتَ العِهن في كل منزل

نزلن به حَبُّ الفَنَا لم يحطم8

فلما وَرَدْنَ الماءَ زُرْقًا جِمامه

وضعن عِصِيَّ الحاضر المتخيِّمِ9

وأنت ترى أن طرافة عرض الحوادث كأنها منظورة استقامت له مع الفعل الماضي؛ لأنه يعرف لغة حرفته معرفة جيدة؛ فهو يستعمل المضارع في تصويره، وإن استعمل الماضي جاء به دالا على الحركة فلا يقل جمالًا عن أخيه، وانظر تر الظعائن ما تزال سائرة من مكان إلى مكان، وهو يتبعها في هذا السير بالأفعال التي تدل عليه، وينتقل معها من العلياء إلى السوبان،

1 الظعائن: النساء المرتحلات في الهوادج، العلياء: أرض مرتفعة في نجد. وجرثم: ماء لبني أسد أحلاف ذبيان.

2 الأنماط: ضرب من الثياب يفرشنه على الهوادج تحتهن. والكلة: الستر الرقيق، وراد: حمراء، مشاكهة: مشابهة.

3 ورك: ثنى رجله على الإبل، والسوبان: واد في ديار بني تميم أحلاف عبس.

4 المتوسم: المتفرس في الوجه.

5 استحرن: خرجن سحرًا.

6 القنان: جبل لبني أسد أحلاف ذبيان. الحزن: الأرض الصلبة. المحل: مستحل الدماء، المحرم: من بينهم وبينه ذمام، يريد العدو والصديق.

7 جزعته: قطعته. القيني: قتب طويل تحت الهودج. قشيب: جديد. مفأم: واسع.

8 العهن: الصوف، حب الفنا: عنب الثعلب الأحمر.

9 الجمام: مجتمع الماء. وضعن العصي: كناية عن الإقامة.

ص: 29

ومن السوبان إلى وادي الرس والقنان. وهو لا ينسى في أثناء ذلك أن يعطي كل مكان صورته بالتفصيل؛ فكم بالقنان ومن محل ومحرم، وها هو ذا الركب يسير عن يمينه، وانظر إليهن فعليهن السدول والأنماط الحمراء حمرة تشبه الدم، ومن ينسى هذه الصورة؟ لقد أعطاها زهير لون الدم وحرارته. وانظر إليهن في السوبان، وقد ظهرن وعليهن دلال الناعم المتنعم، بل انظر إليهن في وادي الرسِّ، وقد وصلن إليه وصول اليد للفم؛ فإنك ترى منظرًا عجبًا؛ إذ يجعلك تتخيل هذه القافلة وهي تسير في الصحراء سيرًا طبيعيًّا فيه أناة وفيه حركة وانتقال من مكان إلى آخر انتقالًا طبيعيًّا أشبه ما يكون بحركة اليد وهي تريد الوصول إلى الفم.

وإذا أنعمت النظر في تلك الأبيات السابقة من المطولة وجدت زهيرًا قد استطاع أن يعطينا "أمكنة الصورة"، كما استطاع أن يعطينا "زمانها":"بعد عشرين حجة، بكرن بكورًا، واستحرن بسحرة"، وماذا ينقص الصورة بعد ذلك؟ لقد وعت "اللون" و"الزمان" و"المكان"؛ غير أن ذلك لا يحقق لزهير كلما يريده؛ فما تزال دقة التصوير تلزمه العناية بمواد أخرى؛ فنراه يلجأ للتفاصيل وذكر الجزئيات، فيقف عند فتات العهن المنثور من الهوادج، ويصوره كحبِّ الفنا أو عنب الثعلب؛ حتي يعطي للصورة "اللون" مرة أخرى، فاللون الأحمر لا يكفي، بلا لا بد من ألوان أخرى، ولا بد أن يتخلل ذلك ذكر التفاصيل التي يحسن أن تشتمل عليها الصور، وما أجمل البيت الأخير، وقد صور صواحبه ينتهين إلى المياه الزرقاء؛ وبذلك يضيف لونًا آخر إلى الصورة حتى تأخذ الشكل، وأخيرًا يذكر أنهن ألقين عصا الترحال في هذا المكان، وهنا نراه يذكر الخيام وأنها نُصبت حتى يعطي المنظر الشكل الأخير.

وعلى هذا النمط ما يزال زهير يعنى بنماذجه عناية شديدة، وهو يوزع هذه العناية على كل جانب فيها، وحقًّا ما لاحظه السابقون من أنه كان يجهد نفسه في عمله حتى ليمكث في عمل القصيدة حولًا كاملًا، وما الحول إزاء العمل الفني الجيد؟ إن زهيرًا لم يكن يطلب أفقًا وسطًا؛ بل كان يريد أن يحلق في الأفق الأعلى؛ ولذلك كان يحقق لنماذجه وصوره كل ما يمكن من مهارة، وهي لا تقف

ص: 30

عند هذا الجانب التي وصفناها؛ بل تتعداها إلى جانب آخر مهم، وهو جانب "الإغراب في التصوير" على نحو ما نراه يصور الحرب في معلقته هذا التصوير الرائع:

ومال الحرب إلا ما علمتم وذُقْتُم

وما هو عنها بالحديث الْمُرَجَّمِ1

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

وتَضْرَ إذا ضرَّيتموها فتضْرَمِ2

فتَعْرُكْكُم عَرْكَ الرَّحى بثِفالها

وتلقحْ كشافًا ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ3

فَتُغْلِلْ لكم مالًا تغلُّ لأَهلها

قرىً بالعراق من قَفِيزٍ ودرهمِ4

فإن الصور تزدحم في تلك الأبيات، وليس هذا ما يلفتنا؛ إنما يلفتنا تلك الصور الغريبة التي صور فيها الحرب تطول حتى تنتج غلمان شؤم، بل هي تُغلّ لهم غلة ليست كغلة أهل العراق ففيها الموت والهلاك. وليس من شك في أنه تعب تعبًا شديدًا قبل أن يصل إلى تأليف هاتين الصورتين. وانظرْ إليه يخرج إلى تصوير آخر لعله أكثر تعقيدًا؛ إذ يقول في حروب القبائل التي لا تخمد نارها.

رَعَوا ما رعوا من ظِمْئِهِمْ ثم أَوردوا

غِمارًا تسيل بالرماح وبالدَّمِ5

فقضَّوا منايا بينهم ثم أَصدَرُوا

إلى كَلَأٍ مُستَوبلٍ متوخَّمِ6

فقد عبر عن سلمهم وحربهم وما يبلون منها بتلك الصور من الإبل التي ترعى مراعي وبيلة؛ فإذا أرادت أن تشرب لم تجد إلا تلك المياه التي تسيل بالرماح والدم، وكل ذلك ليستهوي السامعين بما يذكر من صور غير مألوفة، وربما كان من أروع الأدلة على تكلف زهير، وأنه كان لا يترك جانبًا من

1 المرجم: المظنون.

2 تضرى: تمرن وتعوّد على الفتك بالفريسة. تضرم: تشتعل.

3 تعرككم: تطحنكم. والباء في بثفالها بمعنى مع، أراد أنها طاحنة؛ لأن الثفال جلدة توضح تحت الرحى حين تطحن. تلقح كشافًا: أي على التوالي فهي دائمًا تلقح وتحمل. تتئم: تلد اثنين اثنين.

4 تغلل: تعطي الغلة. القفيز: مكيال.

5 الظمء: ما بين الوردين من زمن ترعى فيه الإبل. غمارًا: مياهًا كثيرة.

6 قضوا: أنفذوا. أصدروا: رجعوا. مستوبل متوخم: كريه غير مريء.

ص: 31