الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ:
لم يكن ابن الرومي يذهب مذهب البحتري في أن الشعر لا يحتاج إلى فلسفة ومنطق؛ بل كان يرى أنهما أصلان مهمان في حرفته؛ فهو يعتمد عليهما في تفكيره، وهو يستخدمها في صياغته، حتى لتتخذ أبياته في كثير من نماذجه شكل أقيسة دقيقة؛ فهو يقدم لها بمقدمات ويخرج منها بنتائج، وكأنه رجل من رجال المنطق، بل هو رجل من رجال الفكر الحديث، وهو لذلك يأبى إلا أن يخرج نماذجه إخراجًا حديثًا، فيه فكر، وفيه فلسفة، وفيه منطق، وفيه تلك الصفات العقلية الجديدة التي يمتاز بها شعراء العصر العباسي من أسلافهم القدماء، واقرأ له هذه الأبيات.
لما تؤذنُ الدنيا به من صُرُوفها
…
يكون بكاءُ الطفلِ ساعةَ يولدُ
وإلا فما يُبْكيه منها وإنها
…
لأفسحُ مما كان فيه وأرغدُ
إذا أبصرَ الدنيا استهلَّ كأنَّه
…
بما سوف يلقى من أذاها مهدَّدُ
وللنفس أحوالٌ تظل كأنها
…
تشاهدُ فيها كل غيب سيشهدُ
فإنك تحس فيها أثر المنطق واضحًا، وهذا أهم ما يفرق بينه وبين البحتري في صناعته إذا كان للمنطق تأثير واضح في صياغة شعره وتنسيق أفكاره. ويمكننا أن نخلص ذلك في جانبين: الجانب الأول ما يمتاز به شعر ابن الرومي من الوضوح الذي جعله يستقصي أطراف الفكرة حتى تتضح من جميع جوانبها؛ فهو رجل منطق، ورجال المنطق يعشقون البيان الواضح، ولعله من أجل ذلك كان شعره يمتاز بالطول فهو يستقصي ويتعمق في عرض أفكاره، حتى تبرز بروزًا دقيقًا. أما الجانب الثاني فهو ما يمتاز به شعره من التنسيق الشديد والربط الوثيق بين أفكاره. يقول عباس العقاد: "العلامات البارزة في قصائد ابن الرومي هي طول نفسه وشدة استقصائه للمعنى واسترساله فيه، وبهذا الاسترسال خرج.
عن سنة النَّظَّامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم، وجعلوا القصيدة أبياتًا متفرقة يضمها سمط واحد قلَّ أن يطَّرد فيه المعنى إلى عدة أبيات، وقل أن يتوالى فيه النَّسق تواليًا يستعصي على التقديم والتأخير والتبديل والتحوير؛ فخالف ابن الرومي هذه السُّنَّة وجعل القصيدة كلامًا واحدًا لا يتم إلا بتمام المعنى الذي أراده على النحو الذي نحاه؛ فقصائده موضوعات كاملة تقبل العناوين، وتنحصر فيها الأغراض ولا تنتهي حتى ينتهي مؤدَّاها، وتفرغ جميع جوانبها وأطرافها، ولو فسد في سبيل ذلك اللفظ والفصاحة، ولا ريب أن هذا الاستقصاء كان سببًا من أسباب الإطالة؛ ولكنه لم يكن كل السبب؛ لأن ابن الرومي كان يطيل القصائد حفاوة بالممدوحين وإكبارًا لشأنهم وإظهارًا لعنايته بإرضائهم"1
ونحن إذا سلمنا للعقاد بأن المديح كان سببًا من أسباب الإطالة عند ابن الرومي؛ فإننا نتردد في أن نسلِّم بأن الاستقصاء هو الآخر كان سببًا فيها؛ لأنه ليس شيئًا خارجًا عنها، بل هو نفس ظاهرة الإطالة، فابن الرومي يطيل، وبعبارة أخرى يستقصي المعاني والأفكار؛ على أن السبب الآخر الذي ذكره العقاد وهو المديح لا يطرد في جميع قصائد ابن الرومي؛ لأنها لم تُبْنَ كلها على المديح. وأكبر الظن أن السبب الأهم هو ما قلناه من أن ابن الرومي كان يستخدم الصياغة المنطقية، في قصائده، فشغف بهذا الطول الذي هو من أخص صفات من يريدون التعبير المنطقي الواضح. ومهما يكن فإن ثقافة ابن الرومي قد أحدثت في شعره هذا النوع الغريب من الطول في نماذجه؛ فإن الشعر عنده لم يعد تعبير العاطفة فقط، بل أصبح تعبير العقل قبل أن يكون تعبير العاطفة، وبذلك عمَّه غير قليل من التحليل والتفصيل، والبحث والتحقيق.
لم يعد الشعر عملًا عاطفيًّا خالصًا، بل أصحب عملًا عقليًّا، له خصائص الأعمال العقلية وصفاتها، وبذلك أصبح في كثير من جوانبه -كما تصوِّره قصائد ابن الرومي- يشبه الأعمال النثرية في وضوحه من جهة، وفي عدم اهتمام الشاعر بالعبارة في سبيل الوضوح من جهة أخرى؛ وبذلك أصبحت القصائد تشبه إلى
1ابن الرومي: لعباس العقاد، ص308.