الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٌ
…
ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
وهو يشير بذلك -في رأي ماسينيون- إلى الخلاف القديم بين الشيعيين في تفضيل الميم يعني محمدًا على العين يعني عليًّا1؛ ولكن الشراح لم يلتفتوا إلى شيء من هذا كله2.
وفي رأيي أن كل هذه الصلة التي عقدها "ماسينيون" بين المتنبي والقرامطة غير صحيحة في جملتها وتفاصيلها؛ فالمتنبي لم يكن يومًا قرمطيًّا ولا متأثرًا بالقرامطة ومن التكلف الواضح حمل البيتين على ما أرادهما له من معنى.
1 في علم الفلك عند الشيعيين الشمس: محمد، والقمر: على، والزهراء: فاطمة، والفرقدان: الحسن والحسين.
2 MASSIGNON، MUTANABBI DEVANT IE SIECLE ISMAELIEN DE I;ISLAM،
P.7.
3-
تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ:
ليس من شك في أن ماسينيون كان بارعًا في محاولته تصوير أثر القرمطية والتشيع في عبارة المتنبي وأسلوبه وأفكاره، ونحن نظن ظنًّا أن المتنبي لم يكن قرمطيًّا ولا شيعيًّا، وإن تأثر بهما في جوانب مختلفة من شعره وأكبر الظن أنه كان للتصوف أثر في شعره أوسع من أثر التشيع، ومن يقرأ في ديوانه يجده يستوعب حيزًا واسعًا من خواطره وأفكاره. واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في بعض ممدوحيه:
ذا السراجُ المنيرُ هذا النَّقيُّ الـ
…
نجيب هذا بقيةُ الأبدالِ1
فخذ ماءَ رجلِه وانضحا في الـ
…
مُدُنِ تأمنْ بوائقَ الزلزالِ2
وامسحا ثوبَه البقيرَ على دائكما
…
تشفيا من الأعلالِ3
فإنك تحس بأنك إزاء شاعر صوفي يصوغ معانيه صياغة صوفية؛ أليس يمدح صاحبه، كما يمدح الصوفية أقطابهم فيجعله بقية الأبدال؟ يقول ابن خلدون:"إن الصوفية قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد القطب كما قاله الشيعة في النُّقَباء"4 ويقول العكبري: "الأبدال سموا أبدالًا؛ لأنهم أبدال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-
1 النقي الجيب: الطاهر، الأبدال: عباد الصوفية.
2 بوائق: دواهي.
3 البقير: ثوب بدون أكمام من ثياب الصوفية.
4 المقدمة ص332.
في إجابة دعواتهم ونصحهم للخلق، وقيل إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر؛ فهم لا ينقضون حتى تقوم الساعة، ويقال هم أربعون رجلًا في أقطار الأرض"1.
وليس كل ما في الأبيات من أثر التصوف هو أنه استعار لفظة الأبدال من الصوفية؛ بل إننا نراه يتحدث عن ممدوحه كأنه يتحدث عن رجل مبارك من رجالهم، بل إنه يتحدث حديث المشعوذين منهم، وإلا فما هذا الماء الذي يمنع الزلزال ويشفي الأعلال؟! وفي كل مكان من شعره نجد أثر هذه الشعوذة وما يتبعها من أفكار الصوفية ومعانيهم. والحق أن المتنبي كان ينزع بشعره منزعًا صوفيًّا يحاول به أن يجدد في فنه؛ ولكن تجديد غريب؛ إذ ما يزال يتصنع لأفكار المتصوفة من حلول وغير حلول يطرز بها أشعاره وقصائده، واقرأ هذا البيت:
تجلّى لنا فأضأنا بِهِ
…
كأنّا نجومٌ لقينا سُعودا
ألا تراه يتصنع هنا لفكرة التجلي التي يؤمن بها الصوفية؟ ومن يرجع إلى رسالة القشيري ثم يعود إلى ديوان المتنبي يجده يستعمل كثيرًا من اصطلاحات القوم وألفاظهم، وفي كل مكان من ديوانه نراه يلجأ إلى هذا البِدْع الجديد فهو يستعير اصطلاح الحال2 في مثل قوله:
وحالاتُ الزمانِ عليك شتّى
…
وحالُك واحدٌ في كلِّ حالِ
واصطلاح الخواطر في مثل قوله:
عليمٌ بأسرارِ الدياناتِ واللغى
…
له خطراتٌ تفضح الناسَ والكُتُبا
واصطلاح الباطن والظاهر في مثل قوله:
فإذا احتجبتَ فأنت غيرُ محجبٍ
…
وإذا بطنتَ فأنت عينُ الظّاهرِ
واصطلاح الحضور والغيبة في مثل قوله:
فدتك نفوسُ الحاسدين فإنها
…
معذبةٌ في حضرةٍ ومغيبِ
1 التبيان 3/ 196.
2 انظر في هذا الاصطلاح وما بعده الرسالة القشيرية.
واصطلاح الزمان في مثل قوله:
نحن من ضايقَ الزمان له فيـ
…
ـك وخانته قربَكَ الأَيَّامُ
وقال الصاحب بن عباد معلقًا على هذا البيت الأخير: "إنه لو وقع في عبارات الجنيد والشبلي لتنازعته المتصوفة دهرًا بعيدًا"1. ومثله الأبيات التي سبقته وكثير من أبيات أخرى أخرجها المتبني إخراجًا صوفيًّا وهي منتشرة في ديوانه واقرأ له هذا البيت:
كبُرَ العيانُ علي حتى إنه
…
صار اليقينُ من العيانِ توهُّما
فستراه يبالغ حتى يصل إلى مذهب الغلاة من أهل التصوف الذين يذهبون إلى أنه ليس في العالم إلا الله وأن ما عداه خيال لا حقيقة2، وكذلك اليقين في رأي المتنبي.
ولعل أهم قصيدة في ديوانه تصور هذا الجانب قصيدة الأوراجي التي سبقت الإشارة إليها؛ إذ "هي القصيدة الوحيدة التي يعمد فيها الشاعر إلى المذهب الرمزي ليرضي ممدوحه الذي كان يذهب مذهب التصوف، وهي من هذه الجهة قيمة؛ لأنها تُبِين عن علم المتنبي في الخامسة والعشرين من عمره بمذاهب المتصوفة في الكلام ومنهجهم في الرمز والإيماء، ولأنها تظهر لنا الشاعر الفتى وقد ملك ناصية الفن حقًّا، واستطاع أن يصرِّفه كما يشاء ويهوى، دون أن يجد منه مقاومة وامتناعًا ولأنها بعد هذا وذاك تكشف لنا عن براعة المتنبي لا في هذا النحو من التكلف الفني الذي كان مألوفًا في ذلك العصر والذي كان يعتمد قبل كل شيء على أوجه البديع! بل في تكلف آخر لم يكن مألوفًا إلا عند المتصوفة والباطنية الذين يقصدون بالألفاظ والمعاني غير ما يفهم منها أصحاب الظاهر من عامة الناس وخاصتهم"3.
والحق أن هذه القصيدة تجعلنا نطلع على جانب مهم في تعبير المتنبي هو
1 اليتيمة 1/ 145
2 تاريخ الفلسفة في الإسلام ص73.
3 مع المتنبي ص209.
الجانب الرمزي الذي كان يستعيره من بيئة المتصوفة، واقرأ له هذين البيتين في القصيدة؛ إذ يقول:
لا تكثُرُ الأَمواتُ كثرةَ قلّةٍ
…
إلا إذا شقيت بك الأحياءُ
والقلبُ ينشقُّ عمَّا تحتَهُ
…
حتى تحُلَّ به لك الشَّحْنَاءُ
فستراهما يحملان في أيديهما دليل هذه الرمزية، وإلا فماذا يريد المتنبي بكثرة القلة؟ وكيف تشقى بصاحبه الأحياء؟ وما هذا الانشقاق الذي يصيب به القلوب؟ وما هذه الشحناء التي تحل بها؟ لقد اضطرب شراح المتنبي في تفسير البيتين اضطرابًا واسعًا1، والمسألة أقرب مما تصوروا، ومفتاحها أنه كان يعمد في هذه القصيدة إلى المذهب الرمزي ليرضي ممدوحه الصوفي فهو هنا يرمز على طريقة الصوفية في عباراتهم التي لا تفهم، وواضح أن المتنبي يرمز إلى الحلول في كثرة القلة. ولعل مما يصور هذه الرمزية أيضًا ما لاحظه "ماسينيون" في بيت الشمس والهلال السابق وما لاحظه أيضًا في قوله:
أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ
…
لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَّنادِ
فقد فسر هذا البيت بالبيت الذي يليه:
كأن بناتِ نعشٍ في دجاها
…
خرائدُ سافراتٌ في حِدَادِ
إذ جعل العدد رمزًا لبنات نعش في البيت الثاني3.
ومهما يكن فقد كان المتنبي يستعين بالأسلوب الرمزي في شعره وكان يستعيره من المتصوفة والمتشيعة جميعًا، وإن الإنسان لا يكاد يقرأ في هذه القصيدة التي نحن بصددها حتى يحس إحساسًا واضحًا بأنه يقرأ لشاعر من طراز مخالف للمألوف من الشعراء، وانظر كيف بدأ القصيدة:
1 التبيان 1/ 27.
2 المنوطة: المعلقة. يوم التناد: يوم القيامة. ويفصل شراح المتنبي بين البيتين، ويقولون: أحاد أراد آحاد، ومعنى الشطر الأول أواحدة أم ست في واحدة وأراد ليالي الأسبوع، وجعلها اسْمًا لليالي الدهر كلها؛ لأن كل أسبوع بعده أسبوع آخر إلى آخر الدهر؛ فكأنه يقول: هذه الليلة واحدة أم ليالي الدهر جميعها جمعت في هذه الليلة الواحدة حتى طالت فامتدت إلى يوم القيامة.
3 "مع المتنبي" ص145.