الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وامرؤ القيس لا يكتفي بهذه الأوصاف فنحن نراه يعود إلى تشبيه خاصرة الفرس بخاصرة الظبي، وساقه بساق النعامة، ثم لا ينسى أن يتحدث عن عَدْوِهِ وسرعة انطلاقه مرة أخرى؛ فهو كالذئب أو كالثعلب في الوثب السريع. ثم ينتقل فيقول: إنه مكتنز أملس كالحجر يُسْحَقُ عليه الطيب أو كالحنظلة في ملاستها وبريقها، وقد امتزجت دماء الصيد على صدره كأنها الحناء تمتزج بالشيب.
ألا ترى إلى هذه الكثرة الغامرة من الصور والخيالات التي أحكمها امرؤ القيس في تصويره، وهي كثرة تجعلنا نؤمن بقول النقاد إنه قَرَّبَ مأخذ الكلام فقَيَّد الأوابد وأجاد الاستعارة والتشبيه1. وفي هذه المطولة وغيرها من شعر امرئ القيس أمثلة مختلفة للطباق والجناس، وهي -وإن كانت قليلة- تدل على أن الشاعر الجاهلي كان يستخدم من حين إلى حين بعض المحسنات المعنوية واللفظية التي عرفت في العصر العباسي، وأكْثَرَ الشعراء من استخدامها. وفي المفضليات قصيدة لعبد الله بن سلمة الغامدي يكثر فيها من زخرف الجناس كثرة مفرطة. ولعل في ذلك ما يدل على أن الفكرة التي تعودنا أن نفهم بها الشعر القديم والتي تذهب إلى أنه خال من الصنعة فكرة غير صحيحة؛ فإن هذا الشعر ينزع به صاحبه إلى ضرب من الجمال في التعبير؛ إذ يملؤه بالصور والتشبيهات، ويطلب أن يعجب به الناس من حوله وأن يقع منهم موقعًا حسنًا، موقع الثياب الملونة، أو الثياب اليمنية المنمَّقة.
على أننا لا نصل إلى أواخر العصر الجاهلي، عند زهير وأضرابه، حتى نجدهم، -على نحو ما سنرى بعد قليل- يعقِّدون في هذا الجانب الفني من التصوير بما يودعون فيه من ضروب مهارة كثيرة.
1العمدة لابن رشيق "طبعة أمين هندية" 1/ 60.
3-
الصناعة الجاهلية مقيدة:
كان الشاعر الجاهلي يحاول أن يوفر في شعره كثيرًا من "القيم الصوتية
والتصويرية" وكان يلقى عناءً شديدًا في هذا التوفير؛ إذ نراه يتقيد بقيود كثيرة، لا تقف عند الموسيقى والتصوير؛ بل تتعدى ذلك إلى الموضوعات والألفاظ والمعاني، وقد عبَّر عن هذا الجانب في أشعاره يقول امرؤ القيس1:
عُوجَا على الطلل الْمُحِيلِ لعلنا
…
نبكي الديار كما بكى ابن خِذام2
ويقول زهير:
ما أرانا نقول إلا مُعارا
…
أو مُعادًا من لفظنا مَكْرورا
ويقول عنترة:
هل غادر الشعراء من مُتَرَنَّم
…
أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ3
وما يقوله امرؤ القيس من أنه يريد أن يبكي كما بكى ابن خذام، وما يقوله زهير من أن الشعراء يبدئون ويعيدون في ألفاظهم، وما يقوله عنترة من أن نهج الشعراء في قصائدهم مطرد على وتيرة واحدة، كل ذلك دليل على أن الشاعر القديم كان يأخذ فنه بقيود ورسوم كثيرة في اللفظ والموضوع والنهج العام. ومن يرجع إلى طوال النماذج الجاهلية ويترك المقطعات القصيرة يلاحظ في وضوح أنها تأخذ نمطًا معينًا في التعبير والأداء، وكأنما العصر الجاهلي نفسه هو الذي أعدَّ "للقصيدة التقليدية" عند العرب قصيدة المدح والهجاء؛ فإن الشعراء كانوا يحرصون في كثير من مطولاتهم منذ العصر الجاهلي على أسلوب موروث فيها؛ إذ نراها تبتدئ عادة بوصف الأطلال وبكاء الدِّمَن، ثم تنتقل إلى وصف رحلات الشاعر في الصحراء، وحينئذ يصف ناقته التي تملأ حسه ونفسه وصفًا دقيقًا فيه حذق ومهارة، ثم يخرج من ذلك إلى الموضوع المعين من مدح أو هجاء أو غيرهما، واستقرت تلك "الطريقة التقليدية" في الشعر العربي، وثبتت أصولها في مطولاته الكبرى على مر العصور.
1 العمدة لابن رشيق 1/ 54، وديوان امرئ القيس "طبع دار المعارف" ص114.
2 عوجا: اعطفا. المحيل: الذي أتى عليه حول. ابن خذام: شاعر قديم يقال إنه بكى الديار قبل امرئ القيس.
3 انظر مطلع معلقته. المترنم: الشيء يترنم به، يريد أن الشعراء لم يتركوا شيئًا إلا ترنموا به.