الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9-
تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ:
كان ابنُ المعتز يعنى بزخرف التصوير في شعره عناية شديدة، ولكن أي تصوير؟ إنه ليس هذا التصوير الفلسفي الذي يمزج بنوافر الأضداد، وهو أيضًا ليس التصوير الحسي الذي يحلله أبو تمام إلى أصباغه التي تحدثنا عنها من تجسيم وتدبيج وتشخيص؛ إنما هو تصوير من نوع آخر لا يحتاج تأملًا عميقًا، أو هو بعبارة أدق صبغ آخر من أصباغ التصوير؛ ولكنه ليس صبغًا معقدًا ولا مركبًا، ونقصد: صبغ التشبيه، فقد شغف به شغفًا شديدًا كاد لا يبقى فيه بقية لزخرف آخر من زخارف المدرسة. وكان لذلك الزخرف عنده طرافة خاصة، فإنه استطاع أن يحول هذا الصبغ المحدود إلى صبغ له طاقة واسعة، بل لقد خرج عن نطاقه القديم وأصبح صبغًا مستقلًا له أوضاعه التي لا تحصى، وفي هذا الوعاء من أوعية التصوير يظهر تصنيعه ويظهر أيضًا تفوقه على شعراء عصره؛ فقد اختص بصبغ واحد من أصباغ لون واحد من ألوان التصنيع، ولكن عرف كيف يحوله إلى صبغ واسع ويستخرج منه ما لا يحصى من صور وأوضاع. وكان النقاد القدماء يعرفون له هذا الجانب. يقول ابن رشيق:"إن ابن المعتز يغلب عليه التشبيه"1، ويقول صاحب معاهد التنصيص:"هو أشعر الناس في الأوصاف والتشبيهات"1، وامتلأت كتب النقد والبلاغة بأوصافه، وأشاد به عبد القاهر الجرجاني في غير موضع من كتاباته.
1 العمدة: لابن رشيق 1/ 194.
2 معاهد التنصيص 1/ 146.
وطبيعي أن يعدل ابن المعتز بتصنيعه إلى التشبيه؛ لأنه لا يحتاج بعدًا في الخيال ولا عمقًا في التصوير، وكأني به قال: دَعْني أبدِّل قيثارتي بلوحة الألوان، ولكنه حين انتقل هذه النقلة لم يحسن استخدام جميع الألوان التي تركها أبو تمام، بل لم يحسن استخدام لون التصوير نفسه؛ فقد انحاز إلى صبغ واحد من أصباغه وهو صبغ التشبيه، وترك الأصباغ الأخرى من تدبيج وتجسيم وتشخيص؛ غير أن من الحق أن نحمد لابن المعتز صنيعه بهذا الصبغ، فقد حوَّله إلى صبغ واسع وراح يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى يزيِّن بها شعره ويجمله وهنا يأتي تصنيعه، فصبغ التشبيه أصبح عنده صبغًا ثريًّا بأوضاعه المتضاربة.
وليس من شك في أن هذه مقدرة ممتازة، تلك التي استطاع بها ابن المعتز أن يحول صبغ التشبيه إلى ما يشبه اللون الأخضر مثلًا في الطبيعة؛ فإذا هو على ضروب وأوضاع مختلفة، وإذا لكل ضرب ووضع روعة فاتنة. وإنها لمهارة تلك التي يستطيع صاحبها أن يؤلف لوحة من لون واحد فإذا هو زاهٍ أو باهت في بعض الجوانب، وإذ هو يتراوح بين هذين الصبغين إلى ما لا يحصى من أصباغ في الجوانب الأخرى. وحقًا أن ابن المعتز أظهر مهارة واسعة في هذا الصبغ من أصباغ التصوير؛ إذ عرف كيف يحول صبغًا محدودًا إلى صبغ واسع، ثم أخذ يستخرج منه أوضاعًا مختلفة حتى لا يحس قارئه بتكرار في المنظر؛ فهو لون واحد، بل هو صبغ واحد، ولكن الشاعر المصنِّع بارع؛ إذ يجعلنا نخطئ في الحس والتقدير، ونظن أننا نرى لونًا واسعًا له أوضاعه الكثيرة التي تنقلنا من عالمنا الحسي إلى عالم خيالي واهم. واقرأ هذه الأبيات إذ يقول في النرجس:
كأن أحداقَهَا في حسنِ صورتِهَا
…
مداهنُ التبرِ في أوراقِ كافورِ
أو يقول فيه:
كأن عيونَ النرجسِ الغضِّ حولها
…
مداهنُ درٍّ حشوهن عقيقُ
أو يقول في النارنج:
وأشجارُ نارنج كأن ثمارَهَا
…
حقاقُ عقيقٍ قد مُلئن من الدرِّ
أو يقول في الآذريون:
كأنَّ آذريونها
…
والشمسُ فيه كاليه
مداهنٌ من ذهبٍ
…
فيها بقايا غاليه
أو يقول في الهلال:
انظرْ إليه كزورقٍ من فضَّة
…
قد أثقلته حمولةٌ من عنبرِ
ويقول فيه:
انظرْ إلى حسنِ هلالٍ بدا
…
يهتكُ من أنوارِه الحِندِسا
كمنجلٍ قد صيغَ من فضةٍ
…
يحصدُ من زهر الدجى نرجِسا
أو يقول في قمر مشرق نصفه: "كأنه مجرفة العطر"؛ فقد استطاع ابن المعتز بهذه الأوضاع من التشبيه ونظائرها أن يطوف بنا في قصور من الوهم والخيال تحكي قصور ألف ليلة وليلة. وفي هذه القصور الخيالية يعيش من يقرأ في ديوان ابن المعتز؛ فإذا هو يرى مداهن من تبر، كما يرى كثيرًا من أواني الذهب والفضة المرصَّعة بأنواع الجواهر واللآلئ. إن التشبيه صبغ واحد ولكن ابن المعتز عرف كيف يحلِّله وكيف يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى. وهذا هو سبب ما نزعمه من أنه شاعر مصنِّع؛ بل هو شاعر يعقد في التصنيع، فقد أخذ صبغًا واحدًا من أصباغه وذهب يعقده ويستنبط منه ما لا يحصى من أوضاع رائعة، وهل هناك أروع من هذا الهلال الذي يشبه منجلًا من فضة؟ لقد وصف فيكتور هيجو الهلال بأنه منجل ذهب"UNE FAUCILLE D;OR" فراعَ أصحاب الأدب الفرنسي؛ ولكن ابن المعتز لا يقف عند هذه الصورة العامة بل هو يضيف إليها بقية غريبة فإذا السماء حقل من نرجس لا من نجوم، وإذا هذا المنجل يحصد نرجسها بأضوائه وأنواره، وارجع إلى الصورة الأخرى التي صوَّر فيها ابن المعتز الهلال بزورق من فضة؛ فقد أضاف إلى الصورة البصرية التي نتخيلها في الزورق صورة عطرية، إن الصبغ واحد هو التشبيه ولكن ابن المعتز عرف كيف يستخرج منه أوضاعًا وأشكالًا كثيرة، فإذا لكل وضع بهجته ولكل شكل مسرته.