الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في هذه العصور؛ بل لقد كان أول من اقترح -فيما نعلم- وزن المجتث إذا غَنَّى في قوله1:
إني سمعت بليلٍ
…
وَرَا المصلَّى برنَّه
إذا بنات هشامٍ
…
يندبنَ وَالِدَهُنَّه
يندبن قَرْمًا جليلًا
…
قد كان يعضُدهنَّه
ونرى من ذلك أن موجة الغناء والرقص في العصر الإسلامي أهَّلت لشيوع الأوزان القصيرة والبحور المجزوءة في شعر الحجازيين وشاركهم أهل الشام في هذا الصنيع.
1 أغاني "دار الكتب" 7/ 17.
7-
انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي:
إذا تركنا العصر الإسلامي إلى العصر العباسي وجدنا الغناء وما يستتبعه من رقص وموسيقى يتحول من الشام إلى العراق مع الملك العربي والدولة العربية. وأعدَّت لهذا الانتقال أسباب مختلفة يرجع بعضها إلى اتصال أهل العراق بالبلاط الأموي؛ فقد كانوا يذهبون هناك ثم يعودون متأثرين بهذا الذوق الجديد، ويرجع بعضها الآخر إلى أسباب فارسية؛ فإن من المعروف أن الفرس مشغوفون بالملاهي والطرب1، ولكنهم لم يدخلوا في الحياة الإسلامية دخولًا واضحًا إلا في العصر العباسي.
ونفس الكوفة والبصرة كانت المعيشة فيهما في أثناء العصر الإسلامي أقرب إلى البداوة، أما في العصر العباسي فتصبح الحياة فيهما حضرية مبالغة في الحضارة، وتنشأ بجانبهما بغداد ينشئها المنصور على طراز كأنه اشتُقَّ من الفرس؛ فالحياة فيها فارسية أو تكاد: الناس يحتفلون بالنيروز وأعياد الفرس، ويلبسون ملابسهم ويتعودون عاداتهم في مآكلهم ومشاربهم، والخلفاء يعيشون معيشة كسروية،
1 مروج الذهب 2/ 157، وانظر 8/ 93.
يعيشون محجوبين عن العالم يخاطبون الناس من وراء حجاب، وقد أقبلوا على الغناء كما كان يقبل عليه ملوك الفرس1، وكما كان يقبل عليه يزيد وابنه الوليد من خلفاء بني أمية. والمهدي هو أول خليفة عباسي يحتفل بهذا الجانب؛ إذ كان يحب القيان وسماع الغناء2، ثم يأتي هارون الرشيد فيبالغ في ذلك ويجعل المغنين مراتب وطبقات على نحو ما وضعهم أردشير بن بابك3.
وليس معنى ذلك أن العراق لم يكن به غناء في العصر الإسلامي؛ فقد كان به حُنَين الحيريّ4، ولكنه لم يخلف هناك مدرسة كالتي نجدها في مكة أو المدينة إنما يحدث الغناء في العراق حدوثًا أو يكاد في العصر العباسي على نحو ما نرى في كتاب الأغاني؛ إذ تتصل سلسلة المغنين ورُقُمهم الموسيقية بالحجاز مباشرة، وقد كثر المغنون والمغنيات في هذا العصر كثرة مفرطة، نجد من أشهرهم في زمن الرشيد إبراهيم الموصلي، وإسماعيل بن جامع، وفليح بن أبي العوراء، وهؤلاء الثلاثة هم الذين أمرهم الرشيد أن يختاروا له الأصوات المائة التي أدار أبو الفرج كتابه الأغاني عليها، وقد طلب إليهم أن يختاروا من هذه المائة عشرة ثم من تلك العشرة ثلاثة على نحو ما يفصله أبو الفرج في أول كتابه، واشتهر بجانب هؤلاء جماعة منهم زَلْزل، وكان له شهرة في الضرب على الوتر ولم يكن يغني؛ وإنما كان يضرب على ابن جامع وإبراهيم الموصلي أيضًا، ومنهم عَلَوَّية، وكان يقول فيه الواثق غناء علوية مثل نقر الطست يبقى ساعة في السمع بعد سكوته5، ومنهم إسحاق الموصلي وهو الذي هذب صناعة الغناء6. وكان يستطيع الضرب على العود المشوّش الأوتار فيوهم السامع أنه يضرب على عود صحيح7، وعَرف في مجلس المأمون خطأ في وتر بين ثمانين وترًا وعشرون جارية يغنين8. واشتهر
1 مروج الذهب 8/ 95.
2 البيان والتبيين 3/ 370.
3 التاج للجاحظ 37.
4 أغاني "دار الكتب" 2/ 341.
5 أغاني "دار الكتب" 11/ 337.
6 أغاني "دار الكتب" 5/ 269.
7 نفس المصدر 5/ 284.
8 نفس المصدر 5/ 353.
من المغنيات جماعة منهن فريدة وبذل وذات الخال ومتيَّم وعريب ودنانير وغيرهن كثير.
ومن يقرأ في كتاب الأغاني يخيل إليه أنه لم يكن في العصر العباسي إلا الغناء والمغنون والمغنيات، ولعل مما يدل على قيمة الغناء أن الجارية إذا كانت مغنية قُوِّمت تقويمًا ممتازًا؛ فهم يذكرون أن جارية عُرضت بثلاثمائة دينار؛ فلما علمها إبراهيم بن المهدي الغناء عُرض في ثمنها ثلاثة آلاف دينار1، وقد بيعت عريب المغنية بخمسة آلاف دينار2، وعلم دحمان جارية اشتراها بمائتي دينار فباعها بعشرة آلاف دينار3، واشترى الرشيد من إبراهيم الموصلي جارية بستة وثلاثين ألف دينار4، وكان في داره ثمانون جارية يعلمهن فن الغناء5.
وأغدق الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة العطايا على هؤلاء المغنين وأسرفوا في ذلك إسرافًا شديدًا، ويكفي أن نذكر ما يقال من أن إبراهيم صار إليه أربعة وعشرون ألف ألف درهم سوى أرزاقه الجارية وهي عشرة آلاف درهم في كل شهر.
ولعل مما يدل على مبلغ ما وصلت إليه هذه الصناعة من قيمة في هذه العصور أننا نجد طائفة من الخلفاء تترك فيها أصواتًا ممن مثل الواثق والمنتصر والمعتز وابن المعتز، وقد فتح أبو الفرج في كتابه فصلًا يدرس فيه ما تركه أولًا الخلفاء من صنعة في الغناء7، وصنيع إبراهيم بن المهدي -وكان من كبار المغنين- في هذا الباب معروف، واشتهرت أخته عُلَيَّة بالغناء أيضًا، وتركت فيه أصواتًا كثيرة8.
ونحن نجد الغناء في هذا العصر في كل مكان، نجده في قصور الخلفاء ودور الأمراء، كما نجده في الشوارع وعلى الجسور، ونجده في البَرِّ، كما نجده
1 مروج الذهب 2/ 309، وانظر الأغاني "ساسي" 14/ 105.
2 أغاني "ساسي" 14/ 109.
3 أغاني "دار الكتب" 6/ 25.
4 أغاني "دار الكتب" 5/ 164.
5 أغاني "دار الكتب" 5/ 164.
6 نفس المصدر 5/ 163.
7 أغاني "دار الكتب" 9/ 250.
8 انظر ترجمتها في الجزء الخاص بأشعار أولاد الخلفاء من كتاب الأوراق للصولي.
في النَّهر. وأحسن المغنون صناعتهم إحسانًا بالغًا؛ حتى ليذكر الرواة أن مغنيًا هو مخارق غنَّى ذات يوم في متنزه، وقد سنحت ظباء فجاءت إعجابًا بغنائه، وتوسط دجلة يومًا وغنى فلم يبقَ أحد إلا بكى، وكان غناؤه يسر من جماله كل قلب1، ولعل ذلك يفسر انفعال الناس إزاء هذا الفن الذي أحكمه أصحابه؛ فهم يروون أن بعض من كانوا يحضرون المغنين كانوا ينطحون العمد من حسن ما يستمعون2؛ بل لقد كانوا يرمون بأنفسهم في الفرات من شدة الطرب لا يدرون3، وقد يمزقون أثوابهم ويعلقون نعالهم في آذانهم، لا يعرفون ما يصنعون4.
ووُجدت في هذا العصر ضروب الغناء المختلفة التي سبق أن شاهدناها في العصر الإسلامي؛ فكان هناك الغناء العادي كما كان هناك الغناء المصحوب بجوقة والآخر الذي كان يُصْحَب بالرقص. روى صاحب الأغاني أنه اجتمع إبراهيم الموصلي وزلزل وبرصومًا بين يدي الرشيد فضرب زلزل وزمر برصوما وغنى إبراهيم5، كما روي أن أحمد بن صدقة "دخل على المأمون في يوم الشعانين6، وبين يديه عشرون وصيفة روميات مزنَّرات قد تزين بالديباج الرومي وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب وفي أيديهن الخوص والزيتون فقال له المأمون: ويلك يا أحمد! قد قلت في هؤلاء أبياتًا، فغنني بها. فغناه ولم يزل يشرب وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص"7.
وكانت آلات الموسيقى في أغلب الأحيان أربعًا، كأن تكون العود والطنبور والمزمار والْجَنْك. ونما الرقص نموًّا عظيمًا حتى لنرى المسعودي يفرد له فصلًا في مروج الذهب، وفيه نراه يقيسه بمقاييس الغناء من خفيف ورمل وهزج ونحو ذلك8. ومهما يكن فقد ارتقى الغناء في العصر العباسي، وكثرت ملاهيه وتعددت نواديه، ومن النوادي المشهورة في هذا العصر نادى ابن رامين،
1 محاضرات الأدباء 1/ 443.
2 أغاني "ساسي" 15/ 149.
3 العقد الفريد 4/ 124.
4 العقد الفريد 4/ 124.
5 أغاني "دار الكتب" 5/ 241.
6 الشعانين، عيد للنصارى.
7 أغاني "ساسي" 19/ 138.
8 مروج الذهب 8/ 100.