الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي:
أكبر الظن أننا لا نجدد حين نرفض الطبع في الشعر، وأن يقسَّم على أساسه؛ إنما ندعو إلى ذلك حتى يرسخ عندنا هذا المبدأ الذي يجعل الشعر صناعة وفنًّا تحاكَى فيه "المثل الفنية" الممتازة التي يحتوى كل مثال منها على صفات وخصائص تَعِبَ أصحابها في التعبير عنها. أما "المثل الفنية" المطلقة من غير قيود ولا حدود؛ فإنها لا توجد في الشعر ولا في أي ضرب من ضروب الفن. كل نموذج فني هو عمل متعدد الصفات قد شقى صاحبه في إخراجه، وبذل فيه كل ما يستطيعه من جهد. ونحن نصطلح على تسمية هذا الجهد في الشعر -مهما يكن ضعيفًا- باسم الصنعة، وقد وجدت هذه "الصنعة" أو وجد هذا الجهد في نماذج الشاعر الجاهلي؛ بحيث يمكن أن نقول: إن "الصنعة" أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي؛ فهي توجد في جميع نماذجه القديمة، وإن كانت تتخذ شكلًا بسيطًا عند بعض الشعراء؛ بينما تتعقد تعقدًا شديدًا عند آخرين؛ ممن يريدون أن يستوعب فنهم مقدرات واسعة من الحذق والمهارة.
ومن الخطأ أن نظن -كما يظن كثير من الناس- أن الحياة الأدبية في العصر الجاهلي كانت ساذجة بسيطة؛ فقد كانت معقدة ملتوية شديدة الالتواء، ولم تكن على هذا النحو من اليسر والسهولة الذي يجعل الشعراء يصدر عنهم شعرهم صدور الفطرة والسليقة، كما يصدر الضوء عن الشمس والشذى عن الزهرة؛ بل كانوا يتكلفون في شعرهم فنونًا من التكلف، إذا كانوا عُمَّالًا صناعًا يعملون شعرهم عملًا، ويصنعونه صناعة ويتعبون فيه أنفسهم تعبًا شديدًا.
وكان كل شيء في العصر الجاهلي يعدُّ لظهور هذا التكلف في الشعر
أو ظهور "الصنعة"؛ فقد كان الشعراء أنفسهم يلتزمون لوازم كثيرة في صناعة شعرهم، كان الناس من حولهم يراقبونهم ويشجعونهم على التفوق والإجادة؛ وكأنما كان هناك ذوق عام يدعو الشعراء إلى التجويد والتحبير، يقول الجاحظ:"وهم يمدحون الحذق والرفق والتخلص إلى حبَّات القلوب وإلي إصابة عيون المعاني ويقولون: أصاب الهدف؛ إذا أصاب الحق في الجملة، ويقولون قَرْطَسَ فلان وأصاب القرطاس، إذا كان أجود إصابة من الأول، فإذا قالوا: رمى فأصاب الغُرَّةَ وأصاب عين القرطاس؛ فهو الذي ليس فوقه أحد، ومن ذلك قولهم: فلان يَفُلُّ الْحَزَّ ويصيب المفصل ويضع الهِناء مواضع النقب"1
ولعل ما يفسر ذلك أيضًا أنهم كانوا يسمون الشعراء بأسماء تصور مهاراتهم وإجادتهم؛ فربيعة بن عدي كان يسمَّى المهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر وأرقَّه2 وكان طفيل الخيل يسمَّى المحبِّر لتزيينه شعره3، وكان النمر بن تولب يسمَّى في الجاهلية الكيس لحسن شعره4، وكذلك سُمِّيَ النابغة باسمه لنبوغه في شعره5، كما سمي المرقش باسمه لتحسينه شعره وتنميقه6، وسمي علقمة بالفحل7 لجودة أشعاره، وبجانب ذلك نجد أسماء أخرى مثل المثقب والمنخل والمتنخل والأفوه. وقد سموا القصائد بأسماء تصور هي الأخرى مبلغ تفوقهم وإجادتهم فسموها اليتيمة8 وسموها السموط9 وسموها الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات10.
وكل ذلك يدل على أن الشعراء كانوا يمتحنون وسائلهم ويجربونها، وما يزالون يبحثون عن "الأدوات" التي تكفل لشعرهم التفوق والنجاح، حتى
1 البيان والتبيين 1/ 147. وقولهم: فلان يفل الحز ويصيب المفصل أخذوه من صفة الجزار الحاذق فجعلوه مثل للمصيب الموجز، والهناء: القطران، كانوا يضعونه على النقب جمع نقبة وهي أول ما يبدو من الجرب في الإبل.
2 أغاني طبعة دار الكتب 5/ 57.
3 المفضليات "طبعة Lyall"
1/ 410.
4 الشعر والشعراء ص173.
5 العمدة لابن رشيق 1/ 137.
6 المفضليات 1/ 410، 1/ 485.
7 أغاني "طبعة ساسي" 21/ 112.
8 أغاني "طبعة دار الكتب" 13/ 102.
9 أغاني "ساسي" 21/ 112.
10 البيان والتبيين 2/ 9.