الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثاني: مذهب التصنع
الفصل الأول: التصنع
التصنع في الحضارة العربية
…
الكتاب الثاني: مذهب التصنع
الفصل الأول: التَّصَنُّعُ
"نظرنا في الشعر القديم والحديث فوجدنا المعاني تقلب، ويؤخذ بعضها من بعض".
الجاحظ
1-
التَّصنعُ في الحضارةِ العربيةِ:
لا يمضي من يدرس الشعر العربي بعد القرن الثالث حتى يحس بظاهرة واضحة تمتد في هذا الشعر وتسيطر عليه، وهي ظاهرة التصنع والتكلف الشديد، والشعر العربي لا يحيل بهذه الظاهرة، بل هو يرينا تطور الفن مع تطور الحضارات وما يصيب الناس من ترف عقلي يؤدي بهم إلى ألوان من التعقيد في صنع النماذج الفنية. نرى ذلك في القديم والحديث، نراه عند اليونان في الإسكندرية في أثناء القرنين الرابع والخامس الميلادي؛ إذ أصبح الشعر مجموعة من التعقيدات والشكليات مستجيبًا لما أصاب الحضارة اليونانية من هرم وشيخوخة، ونراه عند الغربيين المحدثين؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر تتعقد الحضارة الغربية، ويترف العقل الغربي، ويظهر المذهب الرمزي وما يطوى فيه من فنون تكلف وتعقيد.
وهذا نفسه هو ما نحسه إزاء الشعر العربي والحضارة العربية بعد القرن الثالث للهجرة، إذ نرى هذه الحضارة تعقم ولا تأتي بجديد إلا اهتمامًا بالشكليات وتعقيدًا في شئون الحياة؛ فالدولة تضعف ولكن تكثر الألقاب، ألقاب الملوك والأمراء وكبار أصحاب المناصب1، وهي كثرة لا تدل على نمو سياسي؛ إنما تدل على أن الناس أصبحوا يعنون بالشكل أكثر مما يعنون بالحقيقة نفسها. وأنت
1 الحضارة الإسلامية في القرن الرابع: لآدم ميتز 1/ 231.
مهما بحثت في هذه العصور فلن تجد إلا تصنعًا شديدًا في جميع شئون الحياة؛ إذ يعيش الناس معيشة كلها تكلف وتصنع وتحذلق على ضروب وفنون مختلفة، فقد أترفت الحضارة العربية وأترف الفكر العربي، ولم يعد هناك إلا التصنع والتكلف في شئون الحياة، حتى لنجد لعضد الدولة بشيراز قصرًا مؤلفًا من ثلاثمائة وستين حجرة ليجلس كل يوم في واحدة إلى الحول1. أرأيت إلى هذا الترف وهذا التعقيد في الحياة؟ بل إنا لنراهم يعقدون الموت نفسه؛ فقد كفِّن تميم بن المعز عام 375هـ في ستين ثوبًا2. وكأنما الحضارة العربية لم تعد تجد الوسائل الطبيعية لتعبيرها فأخذت تبحث عن الوسائل الجديدة من التكلف، وهي وسائل لا تضيف جمالًا، إنما تضيف تعقيدًا إن كان التعقيد شيئًا يطلب لذاته.
ولعل مما يصور هذا التعقيد بصورة أوضح ما يروى عن الوزير ابن الفرات في مآدبه من أنه "كان يدعو إليها في كل يوم تسعة من الكتَّاب الذي اختص بهم، وكان منهم أربعة نصارى؛ فكانوا يقعدون من جانبيه، وبين يديه، ويقدم إلى كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء، ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف، وكل طبق فيه سكين يقطع بها صاحبها ما يحتاج إلى قطعه من سفرجل وخوخ وكمثرى، ومعه طست زجاج يرمى فيه بالثُّفل، فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم رفعت الأطباق وقدمت الطسوت والأباريق؛ فغسلوا أيديهم وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيازر، ومن تحتها سفرة أدم فاضلة عليها، وحواليها مناديل. فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية وأخذ القوم في الأكل، وأبو الحسن بن الفرت يحدثهم ويؤانسهم ويباسطهم فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين، ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه، ويغسلون أيديهم، والفرَّاشون يصبون الماء عليهم، والخدم وقوفٌ على أيديهم المناديل الدبيقية ورطليَّات ماء الورد لمسح أيديهم وصبِّه على وجوههم"3.
1 الحضارة الإسلامية 2/ 178.
2 وفَيَات الأعيان: لابن خلكان 1/ 195.
3 الحضارة الإسلامية 2/ 195.
وهذه صورة بالغة في التكلف، وهي خير من يصور الحضارة العربية في هذه العصور وكيف أنها أخذت تصعِّب في طرق أدائها، فألوان الطعام لا توضع دفعة واحدة، بل ما يزال يوضع اللون بعد اللون، وإلا ففيم تقدم الزمن ورقي الحضارة؟! ونحن نعرف أن الطريقة الأولى هي التي كانت شائعة في فرنسا في أثناء القرن الثامن عشر، ثم حلت محلها الطريقة الروسية التي تشبه طريقة ابن الفرات وعمت في أوربا جميعها1:
وليس من شك في أن هذا يدل -من بعض الوجوه- على ما أصاب العقل العربي من تصنع في الأداء ينحاز به عن الطرق الطبيعية في التعبير، سواء تعبير المعيشة أم تعبير التفكير. ولعل من الطُّرف التي تصور لك تصويرًا أوسع من طريقة ابن الفرات في مآدبه ما انتهى إليه المهلَّبي الوزير المعروف من تصنعه في تناول طعامه فهم يذكرون أنه "كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجًا مجرودًا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها في ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية"2
وهذا الصنيع المعقد يدل على ما انتهت إليه الحضارة العربية -في هذه العصور- من تجديد، وهو تجديد لا يتناول موادها والتنويع فيها؛ إنما يتناول وسائلها والتصعيب في طرق أدائها وما قد يكلف به الناس من التعلق بأشياء غريبة؛ فهم يغربون في حياتهم وتفكيرهم إغراب المهلبي بملاعقه، وكانت تكفيه ملعقة واحدة يتناول بها ما يريد؛ ولكنه كان يريد شيئًا آخر؛ غير تناول الطعام، وما الفرق بينه وبين بقية الناس إن أكل على طريقتهم بملعقة واحدة؟! إنه ينبغي أن يختلف عنهم وإلا ففيم وزارته؟ وفيم رقيّه عمن حوله؟ لذلك كنا نراه يشفع طعامه بشيء غريب هو هذه الملاعق التي يعقده بها؛ ولكنه تعقيد لا يضيف طرافة، إنما يضيف تصنعًا إن كان التصنع شيئًا طريفًا في ذاته.
1 الحضارة الإسلامية 2/ 196.
2 معجم الأدباء 5/ 153.