الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فانك لو قلت: كأن المريخ منصرف بالليل عن دعوة، وكأن المشتري شمعة، لم يكن شيئا، إذ المقصود تشبيه الهيئة الحاصلة من المريخ حال كون المشتري أمامه بالهيئة الحاصلة من المنصرف عن الدعوة مسرجا الشمعة قدامه.
وإلى هذا أشار صاحب الكشاف حيث قال: أن العرب تأخذ شيئاً فرادى معزولا بعضها عن بعض وتشبهها بنظائرها، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاءمت وتلاصقت، حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها. وهذا النوع يسميه أرباب البيان: تشبيه المركب بالمركب، وإنما أطلق عليه البديعيون: تشبيه شيئين بشيئين، باعتبار تعدد طرفيه.
حكي عن بشار أنه قال: ما زلت منذ سمعت قول امرئ القيس يصف العقاب:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي
لا يأخذني الهجوع حسدا له، إلى أن نظمت في وصف الحرب قولي:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في نوع التشبيهن ومرت لهذا النوع شواهد كثيرة هناك.
وبيت بديعية الصفي قوله:
تلاعبوا تحت ظل السمر من مرح
…
كما تلاعبت الأشبال في الأجم
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
شيئان تشبيه شيئين أتنبه لهما
…
حلم وجهل هما كالبرء والسقم
الشيخ عز الدين جهل في هذا التشبيه جهلا لا يسعه حلم، فانه وقع في القصيدة من جملة المديح النبوي، وفيه الإيهام القبيح ما لا يخفى. نعوذ بالله من آفة الغفلة.
وبيت بديعية ابن حجة:
شيئان قد أشبها شيئين فيه لنا
…
تبسم وعطا كالبرق في الديم
وبيت بديعية المقري قوله:
تراه في جيشه كالبدر في شهب
…
بالبلق قد جال في الهيجاء بالدهم
وبيت بديعية السيوطي قوله:
شيئان قد أشبها شيئين منه على
…
وجه وشعر كمثل البدر في الظلم
وبيت بديعية العلوي قوله:
فحوصه ولواه شافيان كما
…
قدما شفى كفه والنفث من ألم
وبيت بديعية الطبري قوله:
تشبيه شيئين بالشيئين فيه هما
…
النور والفيض مثل البدر والديم
وبيت بديعيتي قولي:
شيئان شبههما شيئان منه لنا
…
نداه في المحل مثل البرء في السقم
الكناية
سامي الكناية مهزول الفصيل إذا
…
ما جاءه الضيف أبدى بشر مبتسم
الكناية في اللغة: مصدر قولك: كنبت بكذا عن كذا، وكنوت: إذا تركت التصريح. وفي الاصطلاح: ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر لازمه المساوي، لينتقل الذهن منه إلى اللزوم المطوي ذكره، كما يقال: فلان طويل النجاد، أي طويل القامة، فترك التصريح بطول القامة إلى ذكر لازمه المساوي وهو طول النجاد، لينتقل الذهي منه إلى طول القامة. وقولهم: فلان كثير الرماد، كناية عن أنه كثير القرى، لأن القرى إذا كثر كثر الرماد، وهي أبلغ من التصريح أجماعا، لأنك إذا أثبت كثرة القرى مثلا بإثبات شاهدها ودليلها، وما هو علم على وجودها، فهو كالدعوى التي معها شاهد ودليل، وذلك أبلغ من إثباتها بنفسها وأن كان لا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم. ألا ترى أنك تقول: فلان طويل النجاد، وإن لم يكن له نجاد قط، ولكن تجد اطمئنان النفس حينئذ أكثر.
ومن أمثلتها في الشعر قول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل
…
أبوها وإما عبد شمس وهاشم
كني عن طول جيدها ببعد مهوى القرط.
وقول امرئ القيس:
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها
…
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
أي أنها مرفهة مخدومة، غير محتاجة إلى السعي بنفسها في أصلاح المهمات. وذلك أن وقت الضحى وقت سعي نساء العرب في أمر المعاش، وكفاية أسبابه، وتحصيل ما يحتاج أليه من تهيئة المتناولات وتدبير إصلاحها، فلا ينام فيه من نسائهم إلا من يكون لها خدم ينوبون عنها في السعي لذلك.
وإنها في بيتها متفضلة لا تشد نطاقها للخدمة.
وقول ليلى الأخيلية:
ومخرق عنه القميص تخاله
…
بين البيوت من الحيا سقيما
كنت عن الجود بخرق القميص لجذب العفاة له عند ازدحامهم عليه لأخذ العطاء.
وقول الحضرمي:
قد كاد بعجب بعضهن براعتي
…
حتى سمعن تنحنحي وسعالي
كنى عن كبر السن بالتنحنح والسعال.
وقول زهير:
ومن يعص أطراف الزجاج فانه
…
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
أراد أن يقول: من لم يرض بأحكام الصلح، فكنى عنه بقوله: ومن يعص أطراف الزجاج، وذلك أنهم كانوا إذا طلبوا الصلح قلبوا زجاج الرماح وجعلوها قدامها مكان الأسنة، وإذا أرادوا الحرب أشرعوا الأسنة وأخروا الزجاج.
وقد تجمع في البيت كنايتان الغرض منهما واحد، ولكن لا تكون إحداهما كالنظير للأخرى، بل كل واحدة منهما أصل بنفسه كقوله:
وما يك في من عيب فإني
…
جبان الكلب مهزول الفصيل
فقوله: جبان الكلب مهزول الفصيل، كنايتان، الغرض منهما واحد، وهو كونه كثير الأضياف، لأن كثرة ترددهم على داره تجبن الكلب عن الهرير في وجوههم، وكثرتهم لديه تقتضي أن لا يبقى في ضرع المتلية إذا حلبها ما يغتذي به فصيلها.
قال بعضهم: ولا يعدل عن التصريح إلى الكناية إلا لسبب، ولها أسباب: أحدها: قصد المدح، كأكثر الأمثلة المذكورة.
الثاني: قصد الذم، كقولهم كناية عن الأبله: عريض القفا، فإن عرض القفا وعظم الرأس مما يستدل به على بلاهة الرجل.
الثالث: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل كقوله تعالى "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة" فكنى بالنعجة عن المرأة كعادة العرب في ذلك، لأن ترك التصريح بذكر النساء أجمل، ولهذا لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم عليها السلام. قال السهيلي: وإنما ذكرت مريم باسمها على خلاف عادة الفصحاء لنكتة وهي: أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ، ولا يبتذلون أسمائهن، بل يكتفون عن الزوجة بالعرس، والعيال ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسمائهن عن الذكر. فلما قالت النصارى في مريم ما قالوا صرح الله باسمها ولم يكن تأكيدا للعبودية التي هي صفة لها، وتأكيدا لأن عيسى لا أب له وإلا لنسب إليه.
ومن ذلك قول الشاعر:
ألا يا نخلة من ذات عرق
…
عليك ورحمة الله السلام
كنى بالنخلة عن المرآة.
الرابع: أن يكون التصريح مما يستهجن ذكره، كما كنى الله سبحانه عن الجماع بالملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والسر، والدخول، والغشيان. وكنى عنه أو عن المعانقة باللباس في قوله "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن". وكنى عن البول ونحوه بالغائط في قوله "أو جاء أحد منكم من الغائط" وأصله المطمئن من الأرض. وكنى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها "كانا يأكلان الطعام" وكنى عن الاستاه بالأدبار في قوله "يضربون وجوههم وأدبارهم".
أخرج ابن أبي حاتم في هذه الآية عن مجاهد قال: يعني أستاهم، ولكن الله يكني. حكي أن عبد الله بن الزبير قال لامرأة عبد الله بن حازم: أخرجي المال الخفي الذي وضعته تحت أستك، فقالت: ما ظننت أن أحدا يلي شيئا من أمور المسلمين يتكلم بهذا. فقال بعض الحاضرين: أما ترون الخلع الخفي الذي أشارت إليه.
ومن الحجاج أنه لام عبد الرحمن بن الأشعث: عمدت إلى مال الله فوضعته تحت ذيلك. فكنى لئلا يعاب بما عيب به ابن الزبير.
ومنه قول امرئ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
…
ورضت فذلت صعبة أي إذلال
كنى بالذلة عن إسعافها وتمكينها إياه من قضاء وطره.
لخامس: قصد المبالغة كقوله تعالى "ولما سقط في أيديهم" كناية عن اشتداد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها. السادس: قصد الاختصار، كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ فعل نحو "لبئس ما كانوا يفعلون""فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا""فأتوا بسورة من مثله"، إلى غير ذلك من الأسباب التي لا يكاد يضبطها الحصر.
ثم الكناية أن لم يكن الانتقال منها إلى المطلوب بواسطة فقريبة، كقولهم كناية عن طول القامة: طويل النجاد، وإن كان بواسطة فبعيدة، كقولهم كناية عن المضياف: كثير الرماد، فانه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القدر، ومنها إلى كثرة الطبائخ، ومنها إلى كثرة الأكلة، ومنها إلى كثرة الضيفان، ومنها إلى المقصود. وبحسب قلة الوسائط وكثرتها تختلف الدلالة على المقصود وضوحا وخفاء.
وبيت بديعية الصفي قوله:
كل طويل نجاد السيف يطربه
…
وقع الصوارم كالأوتار والنغم
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله: