الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنازع فيك الشبه بحر وديمة
…
ولست إلى ما يزعمان بمائل
إذا قيل بحر فهو ملح مكدر
…
وأنت نمير الجود عذب الشمائل
ولست بغيث فوك للدر معدن
…
ولم تلف دار في الغيوث الهواطل
ومنه قول السيد علي بن محمد الحماني في الغزل: وجه هو البدر إلا أن بينهما=فضلا تحير عن حافاته النور
في وجه ذاك أخاليط مسودة
…
وفي مضاحك هذا الدر منثور
وقول بعضهم:
يا غيوث السماء دمعك يفنى
…
عن قليل وما لدمعي فناء
أنا أبكي طوعا وتبكين كرها
…
ودموعي دم ودمعك ماء
وقول مهيار الديلمي:
أبكي وتبكي غير أن الأسى
…
دموعه غير دموع الدلال
أخذه السيد أحمد الصفوي الدمشقي فقال:
صه يا حمام فلست المشوق
…
ولا بات فيها كحالي
فما من تباكي كما من بكى
…
ودمع الأسى غير دمع الدلال
والشعر في هذا المعنى يضيف عن الإحاطة به نطاق الحصر، وفي هذا النموذج كفاية.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
فجود كفيه لم تقلع سحائبه
…
عن العباد وجود السحب لم يدم
هذا من بيت ابن اللبانة المقدم ذكره وهو:
لنا ديمتا ماء ومال فديمتي
…
تماسك أحيانا وديمته سكب
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي:
لا يستوي الغيث مع كفيه نائل ذا
…
ماء ونائله مال فلا تهم
ثقل تركيب هذا البيت، وتعقيد ألفاظه، وتداعي قافيته، ظاهرة مع سهولة نظم هذا النوع وخفة محمله.
على أنه مأخوذ من قول الأول:
فنوال الأمير بدرة مال
…
ونوال الغمام قطرة ماء
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
قالوا هو البحر والتفريق بينهما
…
إذ ذاك غم وهذا فارج الغمم
قال ابن حجة: ليس في بديعية الموصلي بيت يناظر هذا البيت في علو طباقه، فإنه مشتمل على التورية باسم النوع، ولطف الانسجام والسهولة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي
…
في ذاك نقص وهذا كامل الشيم
أغار ابن حجة على صدر بيت عز الدين الموصلي أغارة قبيحة، لا يرضى بها من له في الأدب خطوة فسيحة، على أنه مأخوذ من قول الأول:
حسبت جماله بدرا منيرا
…
وأين البدر من ذاك الجمال
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
فاق النبيين والتفريق يظهر من
…
دوام معجزة للغير لم تدم
لنظر الأديب في هذا البيت مجال يستغني عن المقال.
وبيت بديعيتي هو قولي:
قاسوه بالبحر والتفريق متضح
…
أين الأجاج من المستعذب الشبم
التفريق في هذا البيت من جهتين: إحداهما أن البحر ملح، وهو مستعذب. والثانية أن البحر حار وهو بارد. والتفريق في أبيات البديعيات المذكورة كلها من جهة واحدة.
ولست أدعي في هذا البيت الاختراع بل هو من قول ابن اللبانة المقدم:
سألت أخاه البحر عنه فقال لي
…
شقيقي إلا أنه البارد العذب
ولكن في بيتي تلميح إلى قوله تعالى (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) .
وبيت بديعية إسماعيل المقري قوله:
أين السحاب وأين البحر منه ندى
…
البحر ملح وجود السحب لم يدم
هذا البيت فيه تفريقان كلاهما مأخوذ مما تقدم.
التلميح
تلميحه كم شفى في الخلق من علل
…
وما لعيسى يد فيها فلا تهم
التلميح - قال العلامة التفتازاني في شرح التلخيص: صح بتقديم اللام على الميم، من لمحه، إذا أبصره ونظر إليه. وكثيرا ما تسمعهم يقولون في تفسير الأبيات: في هذا البيت تلميح إلى قول فلان، وقد لمح هذا البيت فلان إلى غير ذلك من العبارات.
وأما التلميح - بتقديم الميم - فهو مصدر ملح الشاعر: إذا أتى بشيء مليح، وهو ههنا خطأ محض، نشأ من قبل الشارح العلامة، حيث سوى بين التمليح والتلميح، وفسرهما: بأن يشار إلى قصة أو شعر. ثم صار الغلط مستمرا، وأخذ مذهبا لعدم التمييز. انتهى.
فلا عبرة بقول ابن حجة: وسماه قوم التمليح - بتقديم الميم - كأن الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة.
وهو في الاصطلاح، أن يشار في الكلام إلى آي من القرآن، أو حديث مشهور، أو شعر مشهور أو مثل سائر، أو قصة، من ذكر شيء من ذلك صريحا. وأحسنه وأبلغه، ما حصل به زيادة في المعنى المقصود. قال الطيبي في التبيان: ومنه قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا) . وقال جار الله: قوله: وآتينا داود زبورا، دلالة على تفضيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم، لأن ذلك مكتوب في الزبور. قال تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)، وقال: وهو محمد صلى الله عليه وآله وأمته.
ولنرتب شواهد هذا النوع على فصول.
الفصل الأول فيما وقع التلميح فيه إلى آية من القرآن فمنه قول نصر بن أحمد الخبز أرزي رحمه الله:
أستودع الله أحبابا فجعت بهم
…
بانوا وما زودني غير تعذيب
بانوا ولم يقض زيد منهم وطرا
…
ولا انقضت حاجة في نفس يعقوب
لمح في المصراع الأول إلى قوله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) ، وفي الثاني قوله تعالى (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) .
ولمح إلى الآية الأولى البهاء زهير في مطلع قصيدة له فقال:
لم يقض زيدكم من حبكم وطره
…
ولا قضى ليله من حبكم سمره
يا صارفي القلب إلا عن مودتهم
…
وسالبي الطرف إلا عنهم نظره
ولمح في الثانية أيضاً الشريف الرضي رضي الله عنه في قوله:
وحاجة أتقاضاه وتمطلني
…
كأنها حاجة في نفس يعقوب
ومنه قول بعضهم:
ما في الصحاب وقد سارت حمولهم
…
إلا محب له في الركب محبوب
كأنما يوسف في كل راحلة
…
والحي في كل بيت منه يعقوب
يشير إلى ما قصه سبحانه في القرآن العظيم من أمر يوسف. وحرض يعقوب عليهما السلام.
ولهذين البيتين حكاية لطيفة، وهي ما حكي أن الشيخ شهاب الدين السهروردي صاحب عوارف المعارف لما رجع من الشام إلى بغداد، وجلس على عادته للوعظ، أخذ يقلل أحوال الناس، ويهضم جانب الرجال ويقول: أنه ما بقي من يلقى وقد خلت الدنيا.
وأنشد:
ما في الصحاب أخو وجد نطارحه
…
حديث نجد ولا خل نجاريه
وجعل يكرره ويتواجد، فصاح عليه من أطراف المجلس شاب عليه قبا وكلونة: يا شيخ كم تشطح وتتنقص بالقوم، والله إن فيهم من لا يرضى أن يجاريك، وقصاراك أن تفهم ما يقول، هلا أنشدت؟ (ما في الصحاب وقد سارت حمولهم) وأنشد البيتين. فصاح السهروردي ونزل عن كرسيه وقصد الشاب ليعتذر إليه فلم يجده، ووجدت مكانه حفرة فيها دم كثير لشدة ما كان يفحص برجليه عند إنشاد الشيخ البيت. وهو من قصيدة لابن المعلم الوسطى تقدم إنشاد بعضها في نوع الانسجام.
وقلت ملمحا التلميح المذكور لغرض سنح:
لله من واله عان بأسرته
…
ومن محب غدا يبكيه محبوب
كأنه يوسف في السجن مضطهدا
…
وكل ذي خلة في الحي يعقوب
ومن بديع هذا النوع قول أبي نصر محمد الأصبهاني في ذم مملوك له:
بليت بمملوك إذا ما بعثته
…
لأمر أعيرت رجله مشية النمل
بليد كأن الله خالقنا عنى
…
به المثل المضروب في سورة النحل
يشير إلى قوله تعالى (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم ولا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير) الآية.
ومنه قول الباخرزي يمدح جعفر بن داود:
والله لولا حسن نيته لما
…
لقي الشقاء ببأسه مسعود
كان الحديد فلان يوم لقائه
…
حتى تحقق أنه دواد
يشير إلى قوله تعالى في داود (وألنا له الحديد) ومنه ما ذكره ابن الأبار في تحفة القادم: أن أبا بكر الشبلي جلس يوما على الجسر، فتعرض له بعض الجواري للجواز، فلما أبصرته رجعت بوجهها، وسترت ما ظهر له من محاسنها، فقال أبو بكر المذكور:
وعقيلة لاحت بشاطئ نهرها
…
كالشمس طالعة لدى آفاقها
فكأنما بلقيس وافت صرحها
…
لو أنها كشفت لنا عن ساقها
حورية قمرية بدوية
…
ليس الجفا والصد من أخلاقها
قال بعضهم: ويمكن تغيير البيتين الأولين بأن يقال:
وعقيلة لاحت بشاطئ نهرها
…
كالشمس تتلو في المشارق صبحها
لو أنها كشفت لنا عن ساقها
…
لحسبتها بلقيس وافت صرحها
الإشارة في ذلك إلى قوله تعالى في قصة بلقيس مع سليمان عليه السلام (قيل لها أدخلي في الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها) الآية.
وجمع النفيس القطرسي بين التلميح إلى القرآن والشعر في قوله:
يسر بالعيد أقوام لهم سعة
…
من الثراء وأما المقترون فلا
هل سرني وثيابي فيه قوم سبا
…
أو راقني وعلى رأسي به ابن جلا
يشير إلى قوله تعالى عن قوم سبا (ومزقناهم كل ممزق) .
وإلى قول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
ومنه ما حكاه صاحب كتاب التبر المسبوك: أن السلطان محمودا كتب إلى الخليفة القادر بالله كتابا يتهدده فيه بالفيل، وخراب بغداد، وأن يحمل تراب دار الخلافة على ظهور الفيلة إلى غزنة. فكتب إليه القادر بالله كتابا صغيرا فيه بعد البسملة (ألم) لا غير، فلم يدر السلطان ما معناه، وتحيرت علماء حضرته في حل هذا الرمز، وجمعوا كل سورة من القرآن، أولها (ألم) فلم يكن فيها ما يناسب الجواب. وكان في الجماعة شاب فقال: إن أذن لي الملك أعزه الله حللت الرمز، فقال له الملك: قل، فقال: ألست كتب إليه تهدده بالفيلة وأنك تنقل تراب دار الخلافة على ظهورها إلى غزنة؟ قال: بلى، قال: فإنه كتب إليك (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) ، فاستحسن الحاضرون منه ذلك، ثم اصطلح السلطان والخليفة.
ومن خفيه ما حكاه صاحب نزهة العشاق: أن الملك محمود بن صالح ظفر بعدو له فأعتقله، وكان لذلك العدو أخ، فأراد الملك أن يقبض على الأخ كما قبض على أخيه، فأمره أن يكتب إلى أخيه كتابا يدعوه إلى خدمة الملك، ويذكر في الكتاب أن الملك أكرمه وأحسن إليه. فأمتثل ما أمره، وكتب في آخر الكتاب: فعجل القدوم تنل الخير إن شاء الله تعالى، وجعل على رأسه النون تشديدة. فلما وصل الكتاب إلى أخيه فرح وطابت نفسه، فلما انتهى إلى التشديد على رأس النون أنكر ذلك واستراب، وقال: ما شددت هذه النون إلا لخطب شديد. فلم يزل يعمل فكره حتى فطن أن أخاه قصد قوله تعالى (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) . ثم كتب إلى أخيه كتابا، وذكر في آخره: أنا آت عقب كتابي إلى الملك أعزه الله، وشدد النون من (أنا آت) فلما وصل الكتاب إلى أخيه، ورأى ذلك طابت نفسه وفهم أن أخاه أشار إلى قوله تعالى (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها) .
ومنه قول علاء الدين الوداعي فيمن وعده بسمك:
يا مالكا صدق مواعيده
…
خلي لنا في جوده مطعما
لم نعد في السبت فما بالنا
…
لم تأتنا حيتاننا شرعا
يشير إلى قوله تعالى (وأسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا) . وكان بنو إسرائيل في زمن داود عليه السلام في قرية بأيلة على ساحل البحر، بين المدينة والشام، وحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل السبت اجتمعت الحيتان من كل مكان حتى لم يبق حوت إلا اجتمع هناك، يخرجن خراطيمهن من الماء، حتى لا يرى الماء لكثرتها. فإذا مضى السبت تفرقن فلا يرى منها شيء. ثم أن الشيطان وسوس لهم وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فعمد رجال فحفروا حياضا نحو البحر، وشرعوا منه إليها الأنهار، فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تقدر على الخروج لبعد عمقها، وقلة مائها، فيأخذونها يوم الأحد، أو كانوا ينصبون آلات الصيد يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد. وفعلوا ذلك مدة، فلما لم ينزل بهم عقوبة قالوا: ما نرى إلا أنه أحل لنا السبت، فأخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكثر مالهم. فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية - وكانوا نحو سبعين ألفا - ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة. فكان الناهون أثني عشر ألفا. ولما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا: والله لا نساكنكم. فقسموا القرية بجدار وتجبروا كذلك سنتين، فلعنهم داود، وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية. فخرج الناهون ذات يوم من ديارهم، ولم يخرج من المجرمين أحد، ولم يفتحوا لهم بابا، فلما أبطأوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم قردة لها أذناب يتعاوون، صار الشباب قردة، والمشايخ خنازير. فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا، ولم يبق مسخ فوق ثلاثة أيام، ولم يتوالدوا. وقال مجاهد: مسخت قلوبهم دون صورهم، وهذا خلاف الإجماع وما نطق به القرآن العظيم.
وفي الأمثال المولدة: عليه ما على أصحاب السبت. يعنون بذلك اللعنة.
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: فان قيل: لما كان الله تعالى نهاهم عن الاصطياد يوم السبت، فما الحكمة في أن نثر الحيتان يوم السبت دون سائر الأيام، كما قال (تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) وهل هذا إلا إثارة الفتنة واردة الإضلال؟.
قلنا: أما على مذهب أهل السنة، فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى، وأما على مذهب المعتزلة فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب.
الفصل الثاني فيما وقع التلميح فيه إلى حديث مشهور فمن ذلك قول بعضهم مع التورية:
يا بدر أهلك جاروا
…
وعلموك التجري
وقبحوا لك وصلي
…
وحسنوا لك هجري
فيفعلوا ما أرادوا
…
لأنهم أهل بدر
يشير إلى قوله عليه السلام لعمر حين سأله قتل حاطب: لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وما أحسن ما لمح إلى هذا الحديث أيضاً الشيخ عمر بن الفارض بقوله مع التورية:
ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم
…
مسيرهم في صباح منك منبلج
فليصنع الركب ما شاؤا بأنفسهم
…
هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
ونظم ذلك بعضهم في مواليا فقال وأجاد:
يا بدر أهلك يقولوا لك علي جور
…
وعلموك التجافي يا بهي النور
فليصنعوا ما أرادوا يا شقيق الحور
…
لأنهم أهل بدر ذنبهم مغفور
ومنه ما حكي أن ابن الصابوني حضر مجلس أحد الفضلاء فقدم للحاضرين خيارا، فجعل أحد الأدباء يقشره بسكين، فخطف ابن الصابوني السكين من يده، فألح عليه في استرجاعها، فقال له ابن الصابوني: كف عني وإلا جرحتك بها، فقال صاحب المنزل لذلك الأديب: كف عنه لئلا يجرحك، فيكون جرحا جبارا، يلمح إلى قوله عليه السلام: جرح العجماء جبار. فأغتاض ابن الصابوني وخرج من عقله، وهجر بلسانه، وما كف إلا بعد الرغبة والتضرع إليه، وخرج عن ذلك المجلس مغضبا.
ومنه قول الحريري في المقامة السابعة والثلاثين: فلم أزل أتقرب إليه بالإلمام، وأتنفق عليه بالاجمام، حتى صرت صدى صوته، وسلمان بيته. يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سلمان الفارسي: سلمان منا أهل البيت.
الفصل الثالث في ما وقع فيه التلميح إلى شعر مشهور.
فمنه ما حكاه ابن قتيبة قال: تمازح معاوية والأحنف - فما رئي مازحان أوقر منهما - قال معاوية: يا أبا بحر ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين.
وإنما أشار معاوية إلى ما رمي به بنو تميم من النهم وحب الأكل في قول القائل:
إذا ما مات ميت من تميم
…
وسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن
…
أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف بالآفاق حرصا
…
ليأكل رأس لقمان بن عاد
وأراد الشاعر بالشيء الملفف في البجاد: وطب اللبن، والبجاد ككتاب: كساء مخطط. وأشار الأحنف إلى ما كانت تعير به قريش من أكل السخينة قبل الإسلام، لأن أكثر زمانها كان زمان قحط ومحل، والسخينة: ماء يسخن بالنار ويذر عليه دقيق، وغلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة.
قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها
…
وليغلبن مغلب الغلاب
ومثل ذلك ما روي أن عبد الله بن ثعلبة المحاربي دخل على عبد الملك أبن يزيد الهلالي - وهو يومئذ والي أرمينية - فقال له: ماذا لقينا البارحة من شيوخ محارب؟ منعونا النوم بضوضاتهم ولغطهم. فقال عبد الله بن ثعلبة: أنهم - أصلح الله الأمير - أضلوا البارحة برقعا فكانوا يطلبونه.
أراد عبد الملك قول الشاعر:
تكش بلا شيء شيوخ محارب
…
وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت
…
فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد عبد الله قول القائل:
لكل هلالي من اللؤم برقع
…
ولابن يزيد برقع وجلال
وكان سنان بن أحمر النميري يساير الأمير عمر بن هبيرة الفزاري وهو على بغلة له، فتقدمت البغلة على فرس الأمير فقال: أغضض بغلتك يا سنان، فقال: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير، فضحك الأمير وقال: قاتلك الله، ما أردت ذلك، قال: ولا أنا.
وإنما أراد ابن هبيرة قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وأراد سنان قول الأخطل:
لا تأمنن فزاريا خلوت به
…
على قلوصك واكتبها بأسيار
وكانت فزارة تعير بإتيان الإبل، ولذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا ويخاطب يزيد بن عبد الملك حين ولاه العراق:
أمير المؤمنين وأنت بر
…
تقي لست بالجشع الحريص
أأطعمت العراق ورافديه
…
فزاريا أحذ يد القميص
ولم يك قبلها راعي مخاض
…
ليأمنه على وركي قلوص
الرافدان: دجلة والفرات. وأخذ يد القميص: كناية عن السرقة والخيانة. وتفنق: تنعم وسمن، يقال: جارية فنق، أي سمينة. والبيت الآخر تلميح إلى إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به.
وعلى هذه الأبيات روى أبو عبيدة عن عبد الله بن عبد الأعلى قال: كنا نتغدى مع الأمير عمر بن هبيرة فاحضر طباخه جام خبيص، فكرهه للبيت السابق في هذه الأبيات، إلا أن جلده أدكه فقال: ضعه يا غلام، قاتل الله الفرزدق، لقد جعلني أرى الخبيص فاستحي منه.
قال المبرد: وقد يسير البيت في الواحد فيرى أثره عليه أبدا، كقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
فما تصنع بالسيف
…
إذا لم تك قتالا
فكسر حلية السيف
…
وصغها لك خلخالا
فكان عبد الله إذا تقلد السيف فرأى من يرمقه بأن أثره عليه وظهر الخجل منه.
ومثل ذلك ما يحكى أن جريرا قال: والله لقد قلت في بني تغلب بيتا لو طعنوا بعده الرماح في أستأهم ما حكوها وهو:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى
…
حك استه وتمثل الأمثالا
وحكى أبو عبيدة عن يونس قال: قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده رجال: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودوا أنهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال أسماء بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين، قال: وما هو؟ قال: قول الحارث بن ظالم المري:
وما قومي بثعلبة بن سعد
…
ولا بفزارة الشعر الرقابا
فو الله أني لا لبس العمامة الصيفية فيخيل لي أن شعر فقاي قد بدا منها.
وقال هاني بن قبيصة النميري: نحن يا أمير المؤمنين، قال: وما هو؟ قال: قول جرير:
فعض الطرف أنك من نمير
…
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
كان النميري إذا قيل ممن أنت، يقول: من نمير، فصار يقول بعد هذا البيت من عامر بن صعصعة.
وكان عبد الملك بن عمير القاضي يقول: والله أن التنحنح والسعال ليأخذاني وأنا في الخلا فأردهما حياء من قول القائل:
إذا ذات دل كلمته لحاجة
…
وهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
رجع إلى أمثلة التلميح إلى الشعر.
ومنه ما حكي أن تميميا قال لشريك النميري: ما أحب إلي من البازي، فقال شريك: خاصة إذا كان يصيد القطا.
أشار التميمي إلى قول جرير:
أنا البازي المطل على نمير
…
أتيح من السماء له أنصبابا
وأشار شريك إلى قول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
…
لو سلكت طرق المكارم ضلت
ومثله ما حكي أن تميميا نزل بفزاري فقال له: قلوصك يا أخا تميم لا تنفر القطا، فقال: أنها مكتوبة، أشار الفزاري إلى بيت الطرماح المذكور، وأشار التميمي إلى قول الأخطل المقدم ذكره.
(ومثله) ما يحكى أن محمد بن عقال المجاشعي دخل على يزيد بن مزيد الشيباني وعنده سيوف تعرض عليه، فرفع سيفا منها إلى يد محمد فقال: كيف ترى هذا السيف؟ فقال: نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف.
أراد يزيد قول جرير في الفرزدق:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع
…
ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت
…
يداك وقالوا محدث غير صارم
وأراد محمد قول مروان بن أبي حفصة:
لقد أفسدت شيبان بكر بن وائل
…
من التمر ما لو أصلحته لمارها
ولبيتي جرير المذكورين قصة يأتي ذكرها في نوع المواردة إنشاء الله تعالى.
وقد غلط السكاكس على جلالة قدره في تفسير قوله (ولم تضرب بسيف ابن ظالم) فقال: أن الفرزدق كان عرض عليه سيف غير صالح للضرب فقال: بل أضرب بسيف أبي رغوان مجاشع، يعني سيفه، وكأنه قال: لا يستعمل ذلك السيف إلا ظالم وابن ظالم، فلما نبا سيفه وبلغ جرير ذلك قال البيتين، وأشار بقوله: ابن ظالم إلى ذلك.
وتبعه على هذا جماعة من أهل الفضل. ولم يرد جرير ذلك قط، مع أن معنى البيت لا يستقيم على هذا التفسير كما لا يخفى. وإنما أراد جرير بابن ظالم، الحارث بن ظالم المري وكان فاتكاً، فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وهو إذ ذاك نازل على النعمان بن المنذر، وإنما قال جرير ذلك لان ابن ظالم المذكور من قومه، وهو مشهور بالفتك فيهم، فقال: ضربت بسيف جدك فينا ولم يقطع، ولو ضربت بسيف ابن ظالم الذي هو من قومي لم ينب، ولكنك لم تضرب به. هذا معنى البيت المقصود لا ما ذكره السكاكي وغيره فأعلم.
ومن لطيف التلميح أيضاً ما روي، أن الفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر، فلما لقيه سأله عنها فقال: كانت قليلة الدم، فضحك الفضل وقال: مهلا يا أبا فلان.
أراد الشاعر قول القائل:
إذا ذبح الضبي بالسيف لم تجد
…
من اللؤم للضبي لحما ولا دما
وروى ابن الأعرابي في الآمالي قال: رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي على أصبع بن عياش وضحا فقال: ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح؟ قال سلح النعامة يابن أخي.
أراد قول جرير:
فضح العشيرة يوم يسلح إنما
…
سلح النعامة شبه بن عقال
وكان شبة قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من الروم، فحمل عليه الرومي فنكص وأحدث. فبلغ ذلك جريرا باليمامة فقال فيه ذلك.
ورأى الفرزدق مخنثا يحمل قماشة كأنه متحول من دار إلى دار فقال: إلى أين راحت عمتنا؟ فقال: قد نفاها الأغر يا أبا فراس.
يريد قول جرير في الفرزدق:
نفاك الأغر ابن عبد العزيز
…
بحقك تنفى عن المسجد
وإنما قال جرير ذلك لأن الفرزدق ورد المدينة والأمير عليها عمر بن عبد العزيز، فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير وأعطاه، وقعد عنه عبد الله بن عمرو بن عثمان وقصر به، فمدح الفرزدق حمزة.
وهجا عبد الله فقال:
ما أنتم من هاشم في سرها
…
فأذهب إليك ولا بني العوام
قوم لهم شرف البطاح وأنتم
…
وضر البلاط وموطئ الأقدام
فلما تناشد الناس ذلك بعث إليه عمر بن عبد العزيز فأمره أن يخرج من المدينة، وقال له: إن وجدتك بها بعد ثلاث عاقبتك. فقال الفرزدق: ما أراني إلا كثمود حين قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
وأنشد:
توعدني وأمهلني ثلاثاً
…
كما وعدت لمهلكها ثمود
فبلغ ذلك جريرا فقال يهجوه:
نفاك الأغر ابن عبد العزيز
…
بحقك تنفى عن المسجد
وسميت نفسك أشقى ثمود
…
فقالوا ضللت ولم تهتد
وقد أجلوا حين حل العذاب
…
ثلاث ليال إلى الموعد
وجدنا الفرزدق بالموسمين
…
خبيث المداخل والمشهد
وروى أبو بكر بن دريد في كتاب الأمالي عن أبي حاتم عن العيبي عن أبيه: أنه عرض على معاوية فرس وعنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص فقال: كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف؟ فقال: أراه أجش هزيما، قال معاوية: أجل، لكنه لا يطلع على الكنائن. فقال: يا أمير المؤمنين ما استوجبت منك هذا الكلام كله، قال: لقد عوضك عنه عشرين ألفا.
قال ابن دريد: أراد عبد الرحمن التعريض لمعاوية بما قاله النجاشي في أيام صفين:
ونجى ابن حرب سابح ذو غلالة
…
أجش هزيم والرماح دواني
إذا قلت أطراف الرماح تنوشه
…
مرته به الساقان والقدمان
فلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح وقال: لكنه لا يطلع على الكنائن، لأن عبد الرحمن كان يتهم بنساء أخوته.
قال: وروى صاحب الأغاني هذا الخبر على وجه آخر فقال: عرض معاوية على عبد الرحمن بن الحكم خيله، فمر به فرس فقال له: كيف تراه؟ فقال: هذا سابح، ثم عرض عليه آخر فقال: هذا ذو غلالة، ثم مر به آخر فقال: وهذا أجش هزيم، فقال له معاوية: أبي تعرض؟ قد علمت ما أردت.
إنما أردت قول النجاشي في:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة
…
أجش هزيم والرماح دواني
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا
…
كسيد الغضا ماض على النسلان
أخرج عني فلا تساكنني في بلد. فذهب إلى أخيه مروان وشكى إليه معاوية فقال له مروان: هذا عملك لنفسك؟ فانشأ يقول:
أتقطر آفاق السماء لها دما
…
إذا قلت هذا الطرف أجرد سابح
فحتى متى لا نرفع الطرف ذلة
…
وحتى متى تعيا علينا المنادح
فدخل مروان على معاوية فقال: حتى متى هذا الاستخفاف بآل أبي العاص؟ أما والله لتعلم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينا. ولقلَّ ما بقي من الأمد، فضحك معاوية وقال: قد عفوت لك عنه يا أبا عبد الملك.
ورواه أيضاً على وجه غير هذا فقال: قدم عبد الرحمن بن الحكم (على معاوية) وكان قد عزل أخاه مروان وجهه قبله وقال له: ألق معاوية وعاتبه لي واستصلحه.
فلما دخل عليه وهو يعشي الناس فأنشأ يقول:
أتتك العيس تنفخ في براها
…
تكشف عن مناكبها القطوع
بأبيض من أمية مضر حي
…
كأن جبينه سيف صنيع
فقال له معاوية: أزائرا جئت أم مفاخرا أم مكاثراً؟ فقال: أي ذلك شئت، فقال: ما أشاء من ذلك شيئا. وأراد معاوية أن يقطعه من كلامه الذي عن له فقال: أي الظهر أتيتنا عليه؟ قال له على فرس، قال: وما صفته؟ قال: أجش هزيم.
يعرض له بقول النجاشي له:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة
…
أجش هزيم والرماح دواني
فغضب معاوية وقال: أما أنه لم يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب، ولا هو ممن يتسور على جاراته، ولا يتوثب على كنائنه بعد هجعة الناس - وكان عبد الرحمن يتهم في امرأة أخيه - فخجل عبد الرحمن وقال: يا أمير المؤمنين ما حملك على عزلك ابن عمك؟ ألجناية أوجبت سخطا أم لرأي رأيته وتدبير استصلحته؟ فقال: بل لرأي رأيته وتدبير استصوبته، قال: فلا بأس بذلك، وخرج من عنده فلقي أخاه مروان فأخبره بما جرى بينه وبين معاوية فاستشاط غيظا وقال لعبد الرحمن: قبحك الله ما أضعفك عرضت للرجل بما أغضبته، حتى إذا انتصر منك أحجمت عنه. ثم لبس حلته وركب فرسه وتقلد سيفه ودخل على معاوية، فقال له معاوية حين رآه والغضب يتبين في وجهه: مرحبا بأبي عبد الملك، لقد زرتنا عند اشتياق إليك منا، قال: لا والله ما زرتك لذلك، ولا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقا قاطعا والله ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزاء، لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص، والصهر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم، والخلافة فيهم، فوصلوكم يا بني حرب، وشرفوكم، وولوكم فما عزلوكم، حتى إذا وليتم أبيتم إلا سوء صنيعة، وقبح قطيعة، فرويدا رويدا، قد بلغ بنو الحكم وبنو أبيه نيفا وعشرين، وإنما هي أيام قلائل حتى يكملوا أربعين ويعلم امرؤ أين يكون حينئذ منهم، ثم هم للجزاء بالحسنى والسوأى بالمرصاد. فقال له معاوية: عزلتك لثلاث، لو لم يكن إلا واحدة منهن لأوجبت عزلك: إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تشتفي منه.
والثانية، كراهيتك لأمر زياد.
والثالثة، أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها. فقال مروان: أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني، ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه.
وأما كراهتي لأمر زياد، فإن سائر بني أمية كرهوه، وجعل الله لنا في ذلك الكره خيرا.
وأما استعداء رملة على عمرو، فو الله أنه ليأتي علي سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا - يعرض له بأن رملة إنما تستعدي عليه بطلب النكاح - فقال له معاوية: يا بن الوزغ، لست هناك، فقال مروان: هو ذاك. ألآن والله إني أبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة، وقد كاد ولدي يكملون العدة، ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني.
فانخزل معاوية ثم قال:
فإن أك في شراركم قليلا
…
فإني في خياركم كثير.
بغاث الطير أكثرها فراخا
…
وأم الصقر مقلاة نزور
فلما فرغ مروان من كلامه خضع له معاوية وقال: لك العتبى وأنا رادك إلى عملك، فوثب مروان وقال له: كلا وعيشك، لا رأيتني عائدا إليه أبدا، وخرج.
فقال الأحنف بن قيس لمعاوية - وكان حاضرا -: ما رأيت قد لك سقطة مثلها، ما هذا الخضوع لمروان؟ وأي شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ وأي شيء تخشاه منهم؟. فقال أدن مني حتى أخبرك بذلك. فدنا منه فقال له: أن الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة لما زفت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو تولى نقلها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحد النظر إليه، فلما خرج من عنده قيل له: يا رسول الله لقد أحددت النظر إلى الحكم؟ فقال: ابن المخزومية ذلك الرجل إذا بلغ ولده ثلاثين، أو قال: أربعين، ملكوا الأمر بعدي، فوالله لقد تلقاها مروان من عين صافية. فقال له الأحنف: لا يسمعن هذا منك أحد، فإنك تضع من قدرك وقدر ولدك، وأن يقض الله أمرا يكن، فقال معاوية: فاكتمها علي يا أبا عمرو إذن، فقد لعمري صدقت ونصحت.
ومن لطيف التلميح المذكور أيضاً، ما حكي أنه دخل عبد الحميد بن سعيد بن مسلم الباهلي ومعه ابنه الأفوه - وكان مبغما - فتخلى الناس حتى بلغ إلى عمر بن فرح المذحجي، فلما قرب منه قال له: من هذا؟ قال: ابني أصلحك الله، وهل يخفى القمر؟ فقال: إن كان كذلك فرفع عنه حاشية الأزرار.
أراد قول بشار بن برد:
إذا أعيتك نسبة باهلي
…
فرفع عنه حاشية الأزرار
على أستاه سادتهم كتاب
…
موالي عامر وسما بنار
ومنه حمزة بن بيض الحنفي الشاعر قدم على بلال بن بردة، وكان كثير المزاح معه، فقال لحاجبه: استأذن لحمزة بن بيض الحنفي، فدخل الحاجب فأخبره به، فقال: أخرج فقل له: حمزة بن بيض ابن من؟ فقال له: أدخل فقل له: الذي جئت إليه وأنت أمرد، فسألته أن يهب لك طائرا، فأدخلك وناكك ووهب لك الطائر، فشتمه الحاجب، فقال له: ما أنت ذا؟ بعثتك برسالة فأخبره الجواب، فدخل الحاجب وهو مغضب، فلما رأه بلال ضحك وقال: ما قال لك قبحه الله؟ فقال: ما كنت لأخبر الأمير بما قال. فضحك حتى فحص برجله الأرض وقال له: قد عرفنا العلامة فأدخله، فدخل وأكرمه، وسمع مديحه، وأحسن وصلته.
وأراد بلال: ابن بيض ابن من؟ قول القائل فيه:
أنت ابن أبيض لعمري لست أنكره
…
فقد صدقت ولكن من أبو بيض
ومن التلميح الدقيق ما حكي أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج وبين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك وهو يقرأه ولا يعلم معناه وهو مفكر، فقال: ما الذي أحزن الأمير؟ قال كتاب ورد من أمير المؤمنين لا أعلم معناه، فقال: إن رأى الأمير أعلامي به، فناوله إياه وفيه: أما بعد فأنك سالم والسلام. فقال قتيبة: مالي أن استخرجت لك ما أراد؟ قال: ولاية خرسان، قال: إنه ما يسرك أيها الأمير ويقر عينك.
إنما أراد قول الشاعر:
يديرونني عم سالم وأديرهم
…
وجلدة بين العين والأنف سالم
أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر. فولاه خرسان.
ويشبه هذه الحكاية: أن الحجاج كتب إلى عبد الملك كتابا يغلظ فيه أمر الخوارج، ويذكر فيه حال قطري وغيره وشدة شوكتهم، فكتب إليه عبد الملك: أوصيك بما أوصى به البكري زيدا والسلام.
فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك، فاستعلم ذلك من كثير من العلماء بأخبار العرب فلم يعلم أحد منهم ما أراد. فقال: من جاءني بتفسيره فله عشرة آلاف درهم. وورد رجل من أهل الحجاز متظلم من بعض العمال، فقال له قائل: أتعلم ما أوصى به البكري زيدا؟ قال: نعم أعلمه، فقيل له: فأت باب الأمير فأخبره ولك عشرة آلاف درهم.
فدخل عليه وسأله فقال: نعم أيها الأمير أنه يعني قوله:
أقول لزيد لا تترتز فإنهم
…
يون المنايا دون قتلك أن قتلي
فإن وضعوا حربا فضعها وان أبوا
…
فعرضه نار الحرب مثلك أو مثلي
وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى
…
فشب وقود النار بالحطب الجزل
فقال الحجاج: أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني، وأصاب البكري فيما أوصى به زيدا، وأصبت أيها الأعرابي، ودفع إليه الدراهم.
وكتب الحجاج إلى المهلب، إن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيدا، وأنا أوصيك بذلك، وبما أوصى به الحارث بن كعب بنيه. فنظر وصية الحارث بن كعب فإذا فيها: يا بني كونوا جميعا ولا تكونوا شيعا فتفرقوا، وترووا قبل أن تنزوا، فموت في قوة وعز، خير من حياة في ذل وعجز. فقال المهلب: صدق البكري، وصدق الحارث وأصاب.
ومن لطائف التلميح قصة المنصور مع الهذلي. فقد روي أنه وعده بجائزة ثم نسي، فحجا معا ثم مرا في المدينة الشريفة ببيت عاتكة، فقال الهذلي: يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص:
يا دار عاتكة التي أتغزل
…
حذر العدى وبه الفؤاد موكل
فأنكر عليه المنصور ابتداءه بالخبر من غير سؤال، ثم أمر المنصور القصيدة على خاطره ليعلم ما أراد، فإذا فيها:
أراك تفعل ما تقول وبعضهم
…
مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فعلم أنه أراد هذا البيت، فتذكر ما وعده به فأنجزه.
ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي، وشرح ديوانه وسماه معجز أحمد، وكان يقول: إن المتنبي نظر إلي بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صمم
فاتفق أنه حضر يوما مجلس الشريف المرتضى فجرى فيه ذكر أبي الطيب المتنبي، فأخذ المرتضى في هضم جانبه، فقال المعري: يا مولانا لو لم يكن للمتنبي من شعر إلا قوله (لك يا منازل في القلوب منازل) لكفاه. فغضب الشريف وأمر الغلمان بسحبه وإخراجه، فأخرج مسحوبا. فلامه الحاضرون على ذلك، فقال لهم: أنكم لا تدرون ما عنى بذكر هذا البيت.
إنما عنى به قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
فعجبوا من ذكاء الشريف فهمه لما عناه.
ومن لطيف التلميح بهذا البيت أيضاً ما حكاه صاحب الحدائق: أن الفتح بن خاقان ذكر ابن الصائغ في كتابه - قلائد العقيان - فقال فيه: رمد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين، أشتهر سخفا وجنونا، وهجر مفروضا ومسنونا، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا شجى فؤاده مواراة في حدث، ولا قر بباريه ومصوره، ولا فر عن تباريه في ميدان تهوره. الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة لديه أهدى من الإنسان، إلى غير ذلك. فبلغ ابن الصائغ انتقاصه له، فمر يوما على الفتح وهو جالس في جماعة فسلم على القوم، وضرب على كتف الفتح وقال له: شهادة يا فتح، ومضى، فلم يدر أحد من القوم ما أراد بذلك إلا الفتح، فأنه تغير لونه، فقيل له: ما قال لك؟ فقال: إني وصفته بكتابي بما تعملون، فما بلغت بذلك عشر ما بلغ هو مني بهذه الكلمة.
فإنه يشير إلى قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
ويقرب من هذا التلميح الدقيق ما حكاه أبو الوليد إسماعيل الشقندي - نسبة إلى شقندة، بالشين المعجمة، قرية مطلة على نهر قرطبة، مجاورة لها من جهة الجنوب - قال: كنت يوما بين يدي الفقيه الرئيس أبي بكر بن زهر، فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خرسان - وكان ابن زهر يكرمه - فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم؟ فقال: كبرت، فلم أفهم مقصده، واستبردت ما أتى به، وفهم عني أبو بكر بن زهر أني نظرته نظرة المستبرد المنكر فقال لي: أقرأت شعر المتنبي؟ قلت: نعم وحفظت جميعه، قال: فعلى نفسك إذن فلتنكر، وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم.
فذكرني بقول المتنبي:
كبرت حول ديارهم لما بدت
…
منها الشموس وليس فيها المشرق
فاعتذرت إلى الخرساني وقلت له: والله قد كبرت في عيني بعدما صغرت نفسي عندي حين لم أفهم نيل مقصدك.
ومن ذلك أيضاً قصة السري الرفاء مع سيف الدولة بن حمدان بسبب المتنبي، فإنهما كانا من شعرائه ومداحه فجرى ذكر المتنبي يوما بحضرة سيف الدولة، فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه وعلى شعره، فقال له السري: أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لا عارضها، ويتحقق بذلك أنه أركب في غير سرجه. فقال له سيف الدولة على الفور عارض لنا قصيدة القافية التي مطلعها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي
…
وللحب ما لم يبق منه وما بقي
قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها فلم أجدها من مختارات أبي الطيب، ولكني رأيته يقول فيها:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق
…
أراه غباري ثم قال له الحق
فعلمت أن سيف الدولة إنما أشار إلى هذا البيت فأعرضت عن معارضته.
ومن ذلك أيضاً ما حكاه الشيخ الفاضل الأديب عبد علي بن ناصر الشهير بابن رحمة الحويزي في كتابه - المعول في شرح شواهد المطول -: أنه جرى بين السيّد علي بن بركات الحسني والشريف زيد بن محسن أمير مكة المشرفة عتاب طال به الخطاب، وكان السيّد علي بن بركات شيخا عالي السن، والشريف زيد شابا.
فأنشد السيّد علي قول الطفرائي:
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا
…
من قبله فتمنى فسحة الأجل
فغضب الشريف زيد وقال: لم ترد هذا، وإنما أردت ما قبله وهو:
ما كنت أحسب أن يمتد بي زمني
…
حتى أرى دولة الأوغاد السفل
انتهى بالمعنى.
ومن الطريف التلميح أيضاً ما يحكى أن رجلا قعد على جسر بغداد، فأقبلت امرأة بارعة الجمال من ناحية الرصافة إلى جانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم، فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري، وما وقفا بل سارا مشرقا ومغربا. قال الرجل: فتبعت المرأة وقلت لها: لئن لم تخبريني بما أراد بابن الجهم، وما أردت بأبي العلاء المعري فضحكت.
فقالت: أراد بابن الجهم قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر
…
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت أنا بأبي العلاء قوله:
فيا دارها بالخيف أن مزارها
…
قريب ولكن دون ذلك أهوال
ومثل ذلك بعينه ما حكاه الشيخ فتح الدين بن السيّد الياس: أن الشيخ بهاء الدين النحاس دخل إلى الجامع الأزهر يوما، فوجد أبا الحسين الجزار جالسا إلى جانبه وإلى جانبه مليح، ففرق بينهما وصلى ركعتين، ولما فرغ قال لأبي الحسين الجزار: ما أردت إلا قول ابن سناء الملك، فقال أبو الحسين: وأنا تفاءلت بقول صاحبنا السراج الوراق.
أراد ابن النحاس قول ابن سناء الملك:
أنا في مقعد صدق
…
بين قواد وعلق
وأراد الجزار قول السراج الوراق:
ومهفهف راض الأبي فقاده سلس القياد
لما توسط بيننا
…
جرت الأمور على السداد
ومن لطيفه أيضاً ما روي: أن أحمد بن يوسف الوزير دخل على المأمون، وعريب جاريته تغمز رجله، فخالسها النظر وأومى إليها بقبلة فقالت: كحاشية البرد، فلم يدر ما أرادت، فحدث بذلك محمد بن بشير فقال له: أنت تدعي الفطنة ويذهب عليك مثل هذا؟ أرادت طعنة وعنت قول الشاعر:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة
…
كحاشية البرد اليماني المسهم
ومنه قول الحريري: وإني والله لطالما تلقيت الشتاء بكافاته، وأعددت له الأهب قبل موافاته.
يريد قول ابن سكرة:
جاء الشتاء وعندي من حوائجه
…
سبع إذا الغيث عن حاجاتنا حبسا
كن وكيس وكانون وكأس طلا
…
مع الكباب وكس ناعم وكسا
وقال الآخر وفيه تلميحان:
يقولون كافات الشتاء كثيرة
…
وما هن إلا واحد غير مفترى
إذا صح كاف الكيس فالكل حاصل
…
لديك وكل الصيد في باطن الفرى
لمح بكافات الشتاء إلى بيتي ابن سكرة، ولمح بقوله (وكل الصيد في باطن الفرى) إلى المثل المشهور (كل الصيد في جوف الفرى) وأصله: أن قوما خرجوا للصيد، فصاد أحدهم ظبيا، والآخر أرنبا، وأخر فرى، أي حمارا وحشيا، فقال لأصحابه في جوف القرى، يعني أن ما صاده كلكم يسير بالنسبة إلى ما صدته. ومن أظرف ما وقع من التلميح إلى بيتي ابن سكرة ما حكي: أن امرأة بارعة الجمال والأدب مرت بقوم وهي ملتفة بكساء، فقال لها بعضهم: من أنت؟ فقالت: أنا السادس في السابع. تشير إلى قوله (وكس ناعم وكسا) فكأنها قالت: أنا الكس الناعم في الكساء ونظم بعضهم هذا المعنى فقال:
رأيتها ملفوفة في كسا
…
خوفا من الكاشح والطامع
قلت لها من أنت يا هذه
…
قالت أنا السادس في السابع
وما ألطف قول أبي الحسين الجزار ملمحا إلى بيتي ابن سكرة أيضا:
وكافات الشتاء تعد سبعا
…
ومالي طاقة بلقاء سبع
إذا ظفرت بكاف الكيس كفي
…
ظفرت بمفرد يأتي بجمع
فائدة - قال في القاموس: الكس بالضم للحر ليس من كلامهم وإنما هو مولد. وقال الأنباري في شرح المقامات الكس والسرم لغتان مولدتان وليستا بعربيتين، وإنما يقال: دبر وفرج. وقال الحافظ السيوطي في المزهر: في لفظة الكس ثلاثة مذاهب لأئمة العربية، أحدها هذا، والثاني أنه عربي ورجحه أبو حيان في تذكرته، ونقله عنه الأسنوي في المهمات، وكذا الصغاني في كتاب خلق الإنسان ونقله عنه الزركشي في تتمات المهمات.
قلت: وحكى أبو حيان عن النحاس أنه سمع من كلام العرب:
وا عجبا للساحقات الورس
…
الواضعات الكس فوق الكس
الثالث أنه فارسي معرب، وهو رأي الجمهور ومنهم المطرزي في شرح المقامات.
ومنه أيضاً قول بعضهم:
لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي
…
أرق وأحنى منك في ساعة الهجر
ولمح فيه إلى قول الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته
…
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقول ابن حجاج وفيه تلميحان:
نبهت منه لحاجتي عمرا
…
ولم أعول فيها على عمرو
لمح في الصراع الأول إلى قول القائل:
إذا أيقضتك حروب العدى
…
فنبه لها عمرا ثم نم
وفي المصراع الثاني إلى البيت المذكور.
الفصل الرابع فيما وقع فيه التلميح إلى مثل. فمنه قول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا
…
وما مواعيدها إلا الأباطيل
يشير إلى المثل المشهور (أخلف من عرقوب) وهو رجل من العمالقة، وهو عرقوب بن زهي، أحد بني شمس بن ثعلبة، أو عرقوب بن صخر، على خلاف في ذلك. وكان من خبره أنه وعد أخا له ثمرة نخلة، وقال له: ائتني إذا طلع النخل، فلما أطلع قال: إذا أبلح قال: إذا أزهى (فلما أزهى) قال: إذا رطب قال: إذا أتمر، فلما أتمر جذه ليلا ولم يعطه شيئا.
وقال (
…
) أو علقمة الأشجعي:
وعدت وكان الخلف منك سجية
…
مواعيد عرقوب أخاه بيترب
قال التبريزي: والناس يروون (يثرب) في هذا البيت، بالثاء المثلثة والراء المكسورة، وإنما هو بالمثناة وبالراء المفتوحة: موضع بقرب مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن الكلبي. قال ابن هشام: وقاله أبو عبيدة، وقد خولفا في ذلك.
قال ابن دريد: اختلفوا في عرقوب فقيل: هو من الأوس فيصح على هذا أن يكون بالمثلثة المكسورة. وقيل: من العماليق فيكون بالمثناة وبالمفتوحة، لأن العماليق كانت من اليمامة إلى وبار، ويترب هناك. قال: وكانت العماليق أيضاً في المدينة، انتهى.
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: سميت المدينة يثرب باسم الذي نزلها من العماليق، وهو يثرب بن عبيد، وبنو عبيدهم الذين سكنوا الحجفة، فأحجفت بهم السيول فسميت الحجفة.
ولا يجوز الآن أن تسمى المدينة يثرب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يقولون: يثرب هي المدينة. وكأنه كره هذا الاسم، لأنه من مادة التثريب، وأما قوله تعالى (يا أهل يثرب) فحكاية عمن قاله من المنافقين.
ومنه قول المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تفرع العصا
…
وما علم الإنسان إلا ليعلما
يشير إلى المثل (إن العصا قرعت لذي الحلم) يضرب لمن إذا تنبه انتبه.
وذو الحلم هو عامر بن الظرب العدواني كان من حكماء العرب لا تعدل بفهمه فهما، ولا بحكمه حكما. فلما طعن في السن أنكر من عقله شيئاً فقال لبنيه: أنه قد كبرت سني، وعرض لي سهو فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المحجن بالعصا. يقال: أنه عاش ثلاثمائة سنة.
وهو الذي يقول:
تقول ابنتي لما رأتني كأنني
…
سليم أفاع ليله غير مودع
وما الموت أغناني ولكن تتابعت
…
علي سنون من مصيف مربع
ثلاث مئين قد مررن كواملا
…
ها أنا هذا ارتجي مر أربع
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه
…
إذا رام تطيارا يقال له قع
أخبر أخبار القرون التي مضت
…
ولابد يوما أن يطار بمصرعي
قال ابن الإعرابي: أول من قرعت له العصا عامر بن الظرب العدواني، وربيعة تقول: بل هو قيس بن خالد بن ذي الجدين، وتميم تقول: بل هو ربيعة بن مخاشن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم، واليمن تقول: بل هو عمرو بن حممه الدوسي.
قال: وكانت حكام تميم في الجاهلية: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة. غير أن ضمرة حكم فأخذ رشوة فعذر.
وحكام قيس: عامر بن الظرب، وغيلان بن سلمة الثقفي. وكانت له ثلاثة أيام: يوم يحكم بين الناس، ويوم ينشد فيه شعره، ويوم ينظر فيه إلى جماله. وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة، فخيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأختار أربعا فصار سنة.
وحكام قريش: عبد المطلب، وأبو طالب، والعاص بن وائل.
وحكيمات العرب: صخر بنت لقمان، وهند بنت الحسن، وجمعة بنت حابس، وابنة عامر بن الظرب الذي يقال له: ذو الحلم.
ومنه قول أبي العلاء المعري:
إذا وصف الطائي بالبخل مادرٌ
…
وعير قسا بالفهاهة باقل
وقال السها للشمس أنت خفية
…
وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة
…
وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر أن الحياة ذميمة
…
ويا نفس جدي أن دهرك هازل
فلمح في البيت الأول إلى أربعة أمثال. فإن الطائي وهو حاتم ويضرب به المثل في الجود، فيقال: أجود من حاتم. وقسا يضرب به المثل في البلاغة فيقال: أبلغ من قس. ومادرا يضرب به المثل في البخل، فيقال: أبخل من مادر. وباقلا يضرب به المثل في العي، فيقال: أعيا من باقل.
فأما حاتم، فهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج. كان جوادا شجاعا شاعرا مظفرا، إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا ضرب بالقداح سبق؛ وإذا أسر أطلق، وإذا أثرى أنفق. وكان أقسم بالله لا يقتل واحد أمه.
ومن حديثه، أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة، فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم، يا أبا سفانة، أكلني الأسار والقمل، فقال: ويحك ما أنا في بلاد قومي، وما معي شيء، وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي ومالك مترك. ثم ساوم به العنزيين واشتراه منهم فخلاه وأقام مكانه في قده حتى أتي بفدائه فأداه إليهم.
ومن حديثه. أن ماوية امرأة حاتم حدثت: أن الناس أصابتهم سنة فأذهبت الخف والظلف فبتنا ذات ليلة بأشد الجوع، فأخذ حاتم عديا، وأخذت سفانة، فعللناهما حتى ناما. ثم أخذ يعللني بالحديث لأنام، فرفقت به لما به من الجهد فأمسكت عن كلامه لينام ويظن أني نائمة. فقال لي: أنت؟ مرارا فلم أجبه، فسكت: ونظر من وراء الخباء فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه فإذا امرأة تقول: يا أبا سفانة أتيتك من عند صبية جياع، فقال: أحضريني صبيانك. فو الله لأشبعنهم. قالت: قمت سريعا فقلت: بماذا يا حاتم؟ فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل. فقام إلى فرسه فذبحه ثم أجج نارا. ودفع إليها شفرة وقال: أشوي وكلي وأطعمي ولدك. وقال لي: أيقظي صبييك، فأيقضتهما. ثم قال: والله (أن) هذا للؤم أن تأكلوا وأهل الصرم حالهم كحالكم، فجعل يأتي الصرم بيتا بيتا ويقول: عليكم بالنار، فاجتمعوا وأكلوا. وتقنع بكسائه، وقعد ناحية، حتى لم يوجد من الفرس على الأرض قليل ولا كثير، ولم يذق منه شيئا.
وزعم الطائيون أن حاتما أخذ الجود عن أمه غنية بنت عفيف الطائية، وكانت لا تليق شيئاً سخاء وجودا.
وأما مادر، فهو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة، وبلغ من بخله أنه سقى أبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلخ فيه ومد الحوض به فسمي مادرا لذلك، واسمه مخارق.
وفي بني هلال يقول الشاعر:
لقد جللت خزيا هلال بن عامر
…
بني طرأ بسلحة مادر
فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها
…
بني عامر أنتم شرار المعاشر
قال حمزة: وحدثني أبو بكر بن دريد قال: حدثني أبو حاتم، عن أبى عبيدة، أنه قرأ عليه حديث مادر فضحك. قال: فقلت له: ما الذي أضحك؟ فقال: تعجبي من تسيير العرب من أمثال لها، ولو سيروا ما هو أهم منها لكان أبلغ لها، قلت: مثل ماذا؟ قال: مثل مادر هذا جعلوه في البخل مثلا بفعلة صدرت منه تحتمل التأويل. وتركوا مثل ابن الزبير مع ما يؤثر على لفظه وفعله من دقائق البخل فتركوه كالغفل.
فمن ذلك أنه نظر إلى رجل من أصحابه - وهو يومئذ خليفة يقاتل الحجاج بن يوسف على دولته، وقد دق الرجل في صدور أهل الشام ثلاثة أرماح - فقال له: يا هذا اعتزل حربنا، فإن بيت المال لا يقوى على هذا. وقال في تلك الحرب لجماعة من جنده: أكلتم تمري وعصيتم أمري.
وسمع أن مالك بن أشعر الرزامي من بني مازن أكل من بعير وحده وحمل ما بقي على ظهره. فقال: دلوني على قبره أنبشه.
وقال لرجل أتاه مجتدياً - وقد أبدع به فشكى إليه حفى ناقته -: أخصفها بهلب، وأرقعها بسبت وأنجد بها يبرد خفها. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين جئتك مستوصلا لا مستوصفا، فلا بقيت ناقة حملتني إليك. فقال: إن وصاحبها.
قال أبو عبيدة: فلو تكلف الحارث بن كلدة طبيب العرب، أو مالك بن زيد مناة، وحنفيف الحاتم أطباء العرب من وصف علاج ناقة الإعرابي ما تكلفه هذا الخليفة لما كانوا يعشرونه، وكان مع هذا يأكل في كل أسبوع أكلة ويقول في خطبته: إنما بطني شبر في شبر، وعندي ما عسى يكفيني.
فقال فيه الشاعر:
لو كان بطنك شبرا وقد شبعت وقد
…
أفضلت فضلا كثيرا للمساكين
فإن تصبك من الأيام جانحة
…
لا نبك منك على دنيا ولا دين
وأما قس، فهو قس بن ساعدة بن حذاقة بن زهير بن أياد بن نزار الإيادي وكان من حكماء العرب، وأعقل من سمع به منهم، وهو أول من كتب من فلان إلى فلان، وأول من أقر بالبعث من غير علم، وأول من قال: أما بعد وأول من قال: البينة على من أدعى واليمين على من أنكر. وقد عمر مائة وثمانين سنة.
قال الأعشى:
وأبلغ من قس وأجرى من الذي
…
بذي الغسيل من خفان أصبح خادرا
وأخبر عامر بن شراحيل الشعبي عن عبد الله بن عباس: أن وفد بكر بن وائل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما فرغ من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا كلنا نعرفه، قال: فما فعل؟ قالوا: هلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كأني به على جبل أحمر بعكاظ قائما يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت. أن في السماء لخبرا، وأن في الأرض لعبرا. مهاد موضوع، وسقف مرفوع، وبحار تموج، وتجارة لن تبور. ليل داج، وسماء ذات أبراج. أقسم قس حقا لئن كان في الأمر رضى ليكونن بعده سخط. مالي أرى الناس يموتون فلا يرجعون؟ أرضوا؟ أم تركوا فناموا؟..
ثم أنشد أبو بكر رضي الله تعالى عنه شعرا حفظه له وهو قوله:
في الذاهبين الأولين
…
من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
…
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
…
يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي
…
ولا نم الباقي غابر
أيقنت أني لا محا
…
لة حيث صار القوم صائر
وأما باقل، فهو رجل من ربيع، وقيل من أياد. يقال: أنه أشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فمر بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي. فلم يقدر على الكلام، فمد يديه ونشر أصابعهما، ودلع لسانه مشيرا يردي أحد عشر، وخلى الظبي فشرد.
ومنه قول بعضهم:
عشن بجد ولا يضرك نوك
…
إنما عيش من ترى بالجدود
عش بجد وكن هبنقة القي
…
سي نوكا أو شيبة بن الوليد
يشير إلى حمق هبنقة المضرب به المثل واسمه يزيد بن ثروان، ويلقب بذي الودعات، أحد بني قيس بني ثعلبة، وبلغ من حمقه أنه ضل له بعير فجعل ينادي: من وجد بعيري فهو له، فقيل له: فلم تنشده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان؟.
ومن حمقه أنه اختصمت الطفاوة وبنو راسب إلى عرباض في رجل ادعاه هؤلاء وهؤلاء، فقال الطفاوة: هذا من عرافتنا، وقال بنو راسب: بل هو من عرافتنا، ثم قالوا: رضينا بأول من يطلع علينا؟ فلما دنا قصوا عليه قصتهم فقال هبنقة: الحكم عندي، أن يذهب به إلى نهر البصرة فيلقى فيه، فإن كان راسبيا رسب فيه، وإن كان طفاوياً طفا. فقال الرجل: لا أريد أن أكون واحد من هذين الحيين، ولا حاجة لي بالديوان.
ومن حمقه أنه جعل في عنقه قلادة من ودعة وعظام وخزف، وهو ذو لحية طويلة، فسئل عن ذلك فقال: لا عرف بها نفسي، ولئلا أضل. فبات ذات ليلة وأخذ أخوه قلادته فتقلدها، فلما أصبح ورأى القلادة في عنق أخيه قال: يا أخي أنت أنا فمن أنا؟.
ومن حمقه أنه كان يرعى غنم أهله، فيرعى السمان في العشب، وينحي المهازيل، فقيل له: ويحك ما تصنع؟ قال: لا أفسد ما أصلح الله، ولا أصلح ما أفسده.
ولنكتف من شواهد التلميح بهذا المقدار فإنه باب لا ينتهي حتى ينتهي عنه، ونورد الآن أبيات البديعيات.
فبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
إن ألقها تتلقف كلما صنعوا
…
إذا أتيت بسحر من كلامهم
التلميح فيه هو الإشارة إلى قصة موسى عليه السلام مع السحرة لما ألقى العصا.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
وتقرع السمع عن حق زواجره
…
قرع الرماح ببدر ظهر منهزم
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
وبان في كتب التاريخ من قدم
…
تلميح قصة موسى مع معدهم
قال ابن حجة: لم ألمح من خلال بيت الشيخ عز الدين غفر الله له لمحة تلدني على نور التلميح، لكنه ساق حكاية مضمونها: أن كتب التاريخ القديمة بان فيها تلميح قصة موسى عليه السلام مع معد، والله أعلم. انتهى، وهو في محلة.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ورد شمس الضحى للقوم خاضعة
…
وما ليوشع تلميح بركبهم
قد تقدم أن هذا التلميح استعملته الشعراء كثيرا في أقوالهم، أعني التلميح برد الشمس ليوشع، فما زاد ابن حجة عليهم بشيء يعلم، إلا بإعجابه بنظمه له، وتزكيته لنفسه بما تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع.
وبيت بديعة الطبري قوله:
بمعجزات أتت كم أبهرت خصما
…
كشاة خيبر تلميحا بعجزهم
التلميح فيه إلى قصة الشاة التي أهدتها اليهودية إليه صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، وكانت قد صلتها وسمتها، فأكل منها وأكل القوم، فقال: أرفعوا أيديكم فأنها أخبرتني أنها مسمومة، والقصة مشهورة.
وبيت بديعيتي هو قولي:
تلميحه كم شفى في الخلق من علل
…
وما لعيسى يد فيها فلا تهم
التلميح فيه هو الإشارة إلى إبراء عيسى عليه السلام للمرضى. قال البغوي في تفسيره: قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق مشى إليه عيسى. وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان.
وأما إبراء نبينا صلى الله عليه وآله وسلم للمرضى فقد وردت به روايات كثيرة.
روي أن عين قتادة بن النعمان أصيبت يوم أحد حتى وقعت على وجنته، فردها صلى الله عليه وآله، فكانت أحسن من عينه. وبصق على أثر سهم في وجه أبي قتادة في يوم ذي قرد، قال: فما ضرب علي ولا قاح.
وروى النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله، أدع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلق فتوضأ، ثم صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة. يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري. اللهم شفعه في. قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره.
وروي أن ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ بيده جثوة من الأرض، فتفل عليها ثم أعطاها رسوله. فأخذها متعجبا يرى أن قد هزئ به، فأتاه بها - وهو على شفا - فشربها فشفاه الله.
وذكر العقيلي عن حبيب بن فديك - يقال: فويك - أن أباه ابيضت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينه فأبصر، فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين.
ورمي كلثوم بن الحصين يوم أحد في نحره، فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه فبرأ. وتفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تمد. وتفل في عيني علي يوم خيبر وكان رمدا فأصبح بارئا. ونفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خيبر فبرئت. وفي رجل زيد بن معاذ حين أصابها السيف إلى الكعب (حين قتل ابن الأشرف) فبرئت. وعلى ساق علي بن الحكم يوم الخندق إذ انكسرت فبرأ مكانه وما نزل عن فرسه.
واشتكى عليه بن أبي طالب عليه السلام فجعل يدعو، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اشفه (أو عافه) ، ثم ضربه برجله فما اشتكى ذلك الوجع بعد.
وقطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء. فجاء يحمل يده، فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وآله، وألصقها فلصقت. رواه ابن وهب. ومن روايته أيضاً، أن حبيب بن يساف أصيب يوم بدر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضربة على عاتقه، حتى مال شقه، فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفث عليه حتى صح.
وأتته امرأة من خثعم معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتي بما فمضمض فاه، وغسل يديهن ثم أعطاها إياه وأمره بسقيه، ومسه به، فبريء الغلام وعقل عقلا يفضل عقول الناس.
وعن ابن عباس، جاءت امرأة بابن لها به جنون، فسمح صدره فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود وشفي.
وانكفأ القدر على ذراع محمد بن حاطب وهو طفل، فسمح عليه ودعا له، وتفل فيه فبريء لحينه.
وكانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه من القبض على السيف وعنان الدابة، فشكاها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها ولم يبق لها أثر.
وسألته جارية طعاما وهو يأكل، فناولها من بين يديه - وكانت قليلة الحياء - فقالت: إنما أريد من الذي في فيك، فناولها ما في فيه - ولم يكن يسأل شيئاً فيمنعه - فلما استقر في جوفها ألقى عليها من الحياء ما لم يكن امرأة بالمدينة أشد حياء منها.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
أهل الفضائل سيماهم تبين ولا
…
سيماهم وهي نور في وجوههم