المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والشاهد في البيتين الأولين. وقول الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: أتعبت - أنوار الربيع في أنواع البديع

[ابن معصوم الحسني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌أنوار الربيع في أنواع البديع

- ‌حسن الابتداء وبراعة الاستهلال

- ‌الجناس المركب والمطلق

- ‌الجناس الملفق

- ‌الجناس المذيل واللاحق

- ‌الجناس التام والمطرف

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب

- ‌الجناس المعنوي

- ‌الاستطراد

- ‌الاستعارة

- ‌المقابلة

- ‌وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي

- ‌الافتنان

- ‌اللف والنشر

- ‌الالتفاف

- ‌الاستدراك

- ‌تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني

- ‌ حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر

- ‌ الجزء الثاني

- ‌الإبهام

- ‌الطباق

- ‌إرسال المثل

- ‌الأمثال السائرة

- ‌التخيير

- ‌النزاهة

- ‌الهزل المراد به الجد

- ‌التهكم

- ‌تنبيهان

- ‌القول بالموجب

- ‌التسليم

- ‌الاقتباس

- ‌المواربة

- ‌التفويف

- ‌الكلام الجامع

- ‌المراجعة

- ‌المناقصة

- ‌المغايرة

- ‌الجزء الثالث

- ‌تتمة باب المغايرة

- ‌التوشيح

- ‌التذييل

- ‌تشابه الأطراف

- ‌التتميم

- ‌الهجو في معرض المدح

- ‌الاكتفاء

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌الاستثناء

- ‌مراعاة النظير

- ‌التوجيه

- ‌التمثيل

- ‌عتاب المرء نفسه

- ‌القسم

- ‌حسن التخلص

- ‌الإطراد

- ‌العكس

- ‌الترديد

- ‌المناسبة

- ‌الجمع

- ‌الانسجام

- ‌تناسب الأطراف

- ‌ائتلاف المعنى مع المعنى

- ‌المبالغة

- ‌ الإغراق

- ‌ الغلو

- ‌التفريق

- ‌التلميح

- ‌العنوان

- ‌التسهيم

- ‌التشريع

- ‌المذهب الكلامي

- ‌نفي الشيء بإيجابه

- ‌الرجوع

- ‌تنبيهات

- ‌تجاهل العارف

- ‌الاعتراض

- ‌حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

- ‌التهذيب والتأديب

- ‌الاتفاق

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌المماثلة

- ‌التوشيع

- ‌التكميل

- ‌شجاعة الفصاحة

- ‌التشبيه

- ‌الفصل الأول في الطرفين

- ‌الفصل الثاني في الوجه

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الثالث في الغرض

- ‌الفصل الرابع في الأحوال

- ‌الفصل الخامس في الأداة

- ‌الفرائد

- ‌التصريع

- ‌الاشتقاق

- ‌السلب والإيجاب

- ‌المشاكلة

- ‌ما لا يستحيل بالانعكاس

- ‌التقسيم

- ‌الإشارة

- ‌تشبيه شيئين بشيئين

- ‌الكناية

- ‌الترتيب

- ‌المشاركة

- ‌التوليد

- ‌الإبداع

- ‌الإيغال

- ‌النوادر

- ‌التطريز

- ‌التكرار

- ‌التنكيت

- ‌حسن الإتباع

- ‌الطاعة والعصيان

- ‌البسط

- ‌المدح في معرض الذم

- ‌الإيضاح

- ‌التوهيم

- ‌الألغاز

- ‌الإرداف

- ‌الاتساع

- ‌التعريض

- ‌جمع المؤتلف والمختلف

- ‌الإيداع

- ‌تنبيهات

- ‌المواردة

- ‌الالتزام

- ‌المزاوجة

- ‌المجاز

- ‌التفريع

- ‌التدبيج

- ‌التفسير

- ‌التعديد

- ‌حسن النسق

- ‌حسن التعليل

- ‌التعطف

- ‌الاستتباع

- ‌التمكين

- ‌التجريد

- ‌إيهام التوكيد

- ‌الترصيع

- ‌التفصيل

- ‌الترشيح

- ‌الحذف

- ‌التوزيع

- ‌التسميط

- ‌التجزئة

- ‌سلامة الاختراع

- ‌تضمين المزدوج

- ‌ائتلاف اللفظ مع المعنى

- ‌الموازنة

- ‌ائتلاف اللفظ مع الوزن

- ‌ائتلاف الوزن مع المعنى

- ‌ائتلاف اللفظ مع اللفظ

- ‌الإيجاز

- ‌التسجيع

- ‌تنبيهات

- ‌التسهيل

- ‌الإدماج

- ‌الاحتراس

- ‌حسن البيان

- ‌العقد

- ‌تنبيهات

- ‌التشطير

- ‌المساواة

- ‌براعة الطلب

- ‌حسن الختام

- ‌كلمة الختام للمؤلف

الفصل: والشاهد في البيتين الأولين. وقول الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: أتعبت

والشاهد في البيتين الأولين.

وقول الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:

أتعبت نفسك بين ذلة كادح

طلب الحياة وبين حرص مؤمل

وأضعت عمرك لا خلاعة ماجن

حصلت فيه ولا وقار مبجل

وتركت حظ النفس في الدنيا وفي الأخرى ورحت عن الجميع بمعزل

وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:

قد قلت للنفس الشعاع أضمها

كم ذا القراع لكل باب مصمت

قد آن أن أعصي المطامع طائعا

لليأس جامع شملي المتشتت

وقلت أنا في أوائل نظمي:

أظننت أن الوجد مكتمن

وخفي سرك في الهوى علن

أنى لقلبك أن يقال صحا

وثني جموح ضلاله الرسن

قد طال مكثك حيث لا فرح

يصفو به عيش ولا حزن

وأضر قلبك طول مغترب

لا منية تدنو ولا وطن

فإلى مَ ترضى لا رضيت بأن

ينهى إليك العجز والجبن

أحلى لنفسك أن يقال لها

هذا علي حطه الزمن

حصل الجهول على مآربه

ومضى بغير طلابه القمن

حتى متى قول ولا عمل

وإلى متى قصد ولا سنن

ما شأن شأنك قط منتقص

أنت العلي وذكرك الحسن

فاقطع برجلك حيث لا عتب

واربأ بعرضك حيث لا درن

وافخر بسبقك لا بسبق أبٍ

شرفا فأنت السابق الأرن

أن يبل ثوبك فالنهى جنن

أو تود خيلك فالعلى حصن

لا تبتئس لملمة عرضت

لا فرحة تبقى ولا حزن

ومثل هذا في كلام العرب كثير، وفي هذا المقدار كفاية.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:

أنا المفرط اطلعت العدو على

سري وأودعت نفسي كف مجترم

الشيخ صفي الدين نظم هذا العتاب على أسلوب قول المتنبي الذي استشهد به في شرحه على هذا النوع وهو قوله:

وأنا الذي اجتلب المنية طرفه

فمن المطالب والقتيل القاتل

ولو نظمه على أسلوب قول الحماسي الذي استشهد به ابن أبي الإصبع لكان أحلى. ولعمري إن لتمكن عتابه وتقريعه لنفسه حيث قال:

أقول لنفسي في الخلاء ألومها

لك الويل ما هذا التجلد والصبر

حلاوة في السمع، ووقوعا في القلب، كادا أن يدخلاه في أنواع البديع.

ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.

وبيت بديعية الموصلي قوله:

عتبت نفسي إذ أتعبتها بهوى

مجهول سبل بلا هاد ولا علم

هذا البيت ساقط النظم والمعنى جدا، مع سهولة مأخذ هذا النوع.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

يا نفس ذوقي عتابي قد دنا أجلي

مني ولم تقطعي آمال وصلهم

هذا البيت لا ترضى كل نفس بإنشاده، لما جبلت عليه من الطيرة من نحو هذا الكلام، فإن فيه من قبح الفأل ما تنبو عنه الأسماع.

وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

لم ترعو النفس عتبا ويحك أتته عن

تصدير غيك كيما يكتفى بلم

قلق تركيب هذا البيت وتداعي نظمه ليس لهما نظير في هذا الباب.

وبيت بديعيتي هو قولي:

عاتبت نفسي وقلت الشيب أنذرني

وأنت يا نفس عنه اليوم في صمم

أقول هنا كما قال محمد بن يعقوب الفيروز أبادي في ديباجة القاموس: لو لم أخش ما يلحق المزكي نفسه من المعرة والدمان، لتمثلت بقول أحمد بن سليمان أديب معرة النعمان.

وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:

أطلعته فحكى سري علانيتي

جهلا فيا نفس عضي الكف من ندم

هذا مأخوذ من بيت الشيخ صفي الدين الحلي. قال ناظمه: وفيه زيادة التورية، فإن قوله (علانيتي) يحتمل أنه يريد العلانية بقرينة السر، وإنما يريد: على نيتي من النية. انتهى.

‌القسم

لا بر صدقي وعزمي في العلى قسمي

إن لم أردك رد الخيل باللجم

القسم - قال ابن حجة: هو أيضاً حكاية حال واقعة ليس تحته كبير أمر.

وهذا غلط صريح منه، فإن القسم من أنواع الإنشاء، وحكاية الحال من نوع الإخبار، ولكن ليس هذا بمستنكر من ابن حجة، فإن باعه قصير جدا في المسائل العلمية.

والقسم هو أن يريد المتكلم الحلف على شيء، فيحلف بما يكون فيه تعظيم لشأنه، وفخر له، أو تنويه له أو لغيره، أو دعاء على نفسه، أو هجاء وذم لغيره، أو جاريا مجرى الغزل والتشبيب.

ص: 220

فالأول كقوله تعالى: (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) ، أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة، لا يشاركه فيها غيره، ولا يطمح إليها نظر أحد سواه.

وعن بعض الأعراب، أنه لما سمع هذه الآية، صاح وقال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى الجأه إلى اليمين؟.

ومن الغايات في ذلك قول مالك الأشتر رحمه الله:

بقيت وفري وانحرفت علن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشن على ابن هند غارة

لم تخل يوما من نهاب نفوس

خيلا كأمثال السعالي شزبا

تعدو ببيض في الكريهة شوس

حمي الحديد عليهم فكأنه

ومضان برق أو شعاع شموس

فتضمن هذا الشعر الوعيد بالقسم بما فيه الفخر العظيم من الجود والكرم، والشرف والسؤدد، والبسالة والشجاعة. وهذا الرجل كان من أمراء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، شديد الشوكة على من خالف أمره. ويعني بابن هند: معاوية بن أبي سفيان. ولعمري لقد بر قسمه في صفين، وأبلى بلاء لم يبله غيره.

قال بعضهم: لقد رأيت الأشتر في يوم من أيام صفين مقتحما للحرب وفي يده صفيحة يمانية كأنها البرق الخاطف، إذا هو نكتها كادت تسيل من كفه، وهو يضرب بها قدما كأنه طالب ملك.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: لله أم قامت عن الأشتر؛ لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى لم يخلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه علي بن أبي طالب عليه السلام، لما خشيت عليه الإثم. ولله در القائل وقد سئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وقد هزم موته أهل العراق. وبحق ما قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

واقتفى أثر الأشتر في أبياته المذكورة في القسم، أبو علي البصير يعرض بعلي بن الجهم فقال:

أكذبت أحسن ما يظن مؤملي

وهدمت ما شادته لي أسلافي

وعدمت عاداتي التي عودتها

قدما من الأسلاف والأخلاف

وغضضت من ناري ليخفى ضوءها

وقريت عذرا كاذبا أضيافي

إن لم أشن على علي خلة

تمسي قذى في أعين الأشراف

ومن الغايات هنا أيضاً قول الشريف الرضي رضي الله عنه:

ما أنا للعلياء إن لم يكن

من ولدي ما كان من والدي

ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ

سرير هذا الأغلب الماجد

فإن أنلها فكما رمته

أو لا فقد يكذبني رائدي

والغاية الموت فما فكرتي

أسائقي أصبح أم قائدي

ومنه قول السيّد الفاضل السيّد أحمد بن عبد الصمد الحسيني البحراني رحمه الله:

لا بلغتني إلى العلياء عارفتي

ولا دعتني العلى يوما لها ولدا

إن لم أمر على الأعداء مشربهم

مرارة ليس يحلو بعدها أبدا

والثاني - وهو القسم بما يكون فيه تعظيم وتنويه لغير المتكلم، مثاله قوله تعالى:(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) أقسم سبحانه بحياة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تعظيما لشأنه وتنويها بقدره ليعرف الناس عظمه عنده، ومكانته لديه.

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما خلق الله، ولا ذرأ، ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال:(لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) .

ومنه قوله تعالى: (وطور سينين وهذا البلد الأمين) . وقوله تعالى: (ص والقرآن ذي الذكر) ، فإن في القسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه، والشرف والقدر ما يدل على المقسم عليه، وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى كما يقوله الكافرون. ولهذا قال كثيرون: إن تقدير الجواب: إن القرآن لحق، وهذا يطرد في كل ما شأنه ذلك، كقوله تعالى:(ق والقرآن المجيد) .

ومن هذا الباب أقسام العباد بالله سبحانه وبشعائره، كقول أبي صخر الهذلي:

أما والذي أبكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمره أمر

لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى

أليفين منها لا يروعهما الهجر

فيا حبها زدني جوى كل ليلة

ويا سلوة الأيام موعدك الحشر

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها

فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

وتبعه المولد وجمع بين ثلاث اقتباسات:

ص: 221

أما والذي أبكى وأضحك عبده

وأطعم من جوع وآمن من خوف

لما كان لي قلب سوى ما سلبته

وما جعل الرحمن قلبين في جوف

ومنه قول الآخر وإن كان القسم عليه فيه مدحا:

حلفت بمن سوى السماء وشادها

ومن مرج البحرين يلتقيان

ومن قام في المعقول من غير رؤية

فأثبت من إدراك كل عيان

لما خلقت كفاك إلا لأربع

عقايل لم يعقل لهن ثواني

لتقبيل أفواه وإعطاء نائل

وتقليب هندي وحبس عنان

وذكر لجميل أمر بثينة - وقد احتضر - فقال في آخر ساعة من ساعات دنياه:

لا والذي تسجد الجباه له

ما لي بما دون ثوبها خبر

ولا بفيها ولا هممت به

ما كان إلا الحديث والنظر

ومن الطريف الناصع في هذا قول السلامي:

أما والذي ناجى من الطور عبده

وأنزل فرقانا وأوحى إلى النحل

لقد ولدت حواء منك بلية

تنيخ على قلبي وثقلا على ثقل

ويستحسن قول الجاهلي في مثل هذه الأقسام:

أشوقا على شوق وأنت بخيلة

وقد زعموا أن لا يحب بخيل

بلى والذي حج الملبون بيته

ويشفى الهوى بالنيل وهو قليل

ومن أشعار الشاميين:

زعموا أن من تشاغل باللذ

ات عمن يحبه يتسلى

كذبوا والذي تقاد له البد

ن ومن طاف بالحرام وصلى

إن نار الهوى أحر من الجم

ر على قلب مدنف يتقلى

وقول شيخنا العلامة محمد الشامي:

أما والراقصات على ألالٍ

ومن حملوا على الكوم العتاق

لقد أضللت في ليل التصابي

فؤادا غير مشدود الوثاق

ومن أيمان الفرزدق:

حلفت برب مكة والمصلى

وأعناق المطي مقلدات

لقد قلدت جلف بني كليب

قلائد في السوالف باقيات

(ومن أيمان) جميل بثينة:

حلفت يمينا غير ذي مثنوية

فإن كنت منها كاذبا فعنيت

حلفت لها بالبدن تدمى نحورها

لقد شقيت نفسي بكم وشقيت

ومن حجازيات الشريف الرضي رضي الله عنه:

أحبك ما أقام مني وجع

وما أرسى بمكة أخشباها

وما اندفع الحجيج إلى المصلى

يجرون المطي على وجاها

وما نحروا بخيف منى وكبوا

على الأذقان مشعرة ذراها

نظرتك نظرة بالخيف كانت

جلاء العين بل كانت قذاها

ولم يك غير موقفنا فطارت

بكل قبيلة منا نواها

فواها كيف تجمعنا الليالي

وآها من تفرقنا وآها

وأقسم بالوقوف على ألال

ومن شهد الجمار ومن رماها

وأركان العتيق وبانييها

وزمزم والمقام ومن سقاها

لأنت النفس خالصة فإن لا

تكونيها لأنت إذن مناها

نظرت ببطن مكة أم خشف

تبغم وهي ناشدة طلاها

فاعجبني ملامح منك فيها

فقلت أخا الغريب أما تراها

فلولا أنني رجل حرام

ضممت قرونها ولثمت فاها

ومنه قول جميل بثينة أيضاً:

قالت ويعش أخي وحرمة والدي

لأنبهن القوم إن لم تخرج

فخرجت خيفة أهلها فتبسمت

فعلمت أن يمينها لم تحرج

فلثمت فاها آخذا بقرونها

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

النزيف بالنون والزاي - على فعيل - بمعنى منزوف ماؤه، يريد به المنزوف من الخمر، نزف من إنائه ومزج بالماء البارد، قاله العيني، والصواب أنه بمعنى العطشان الذي يبست عروقه وجف لسانه، والباء في (ببرد) زائدة كما في قوله:(تنبت بالدهن) ، فيكون الشرب مصدرا مضافا إلى فاعله، وبرد ماء الحشرج مفعوله. ومن العجيب أن العيني أعرب هذا الإعراب وفسر النزيف بذلك المعنى. والحشرج - بفتح الحاء المهملة وسكون الشين المعجمة وفتح الراء المهملة وبعدها جيم -: النقرة في الجبل يصفو فيها الماء.

الثالث وهو القسم بما يكون دعاء على نفسه، مثاله قول الشاعر:

أكلت دما إن لم أرعك بضرة

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

قيل: معناه أكلت حراما، وقيل: يريد الدية، وأكلها أقبح الأشياء عند العرب.

وقول العباس بن الأحنف لما اتهمته فوز بجاريتها جمل:

زعم الرسول بأنني جمشته

كذب الرسول وفالق الإصباح

إن كنت جشمت الرسول فصافحت

كفاي كفي قابض الأرواح

وقول الآخر:

ص: 222

سل جزعي مذ نأيت عن حالي

هل خطر الصبر لي على بال

لا غير الله سوء فعلك بي

إن كنت أرضيت فيك عذالي

وقول البحتري في الفتح بن خاقان:

ألنت لي الأيام من بعد قسوة

وعاتبت لي دهري المسيء فأعتبا

فلا فزت من مر الليالي براحة

لئن كنت لم أصبح بشكرك متعبا

ومن كريم إيمان العرب قول حسان بن ثابت:

أوما إلى الكوماء هذا طارق

نحرتني الأعداء إن لم تنحري

وقال الشريف الرضي رضي الله عنه:

لا كنت من ريب الزمان بسالم

إن كنت تسلم من يدي كفافا

بل لا التذذت من الزمان بشربة

إن لم أعضك من الزلال ذعافا

ومنه قول الآخر:

لا فرج الله عن عيني برؤيته

إن كنت أبصرت شيئا غيره حسنا

إلا خيال عسى إن نمت يطرقني

وكيف يطرق من لاي عرف الوسنا

وما أبدع قول الآخر في مثل ذلك:

حرمت الرضا إن كنت خنتك في الهوى

وعوقبت بالهجران إن كنت كاذبا

والرابع وهو القسم بما يكون فيه هجاء وذم، مثاله قول أبي تمام يهجو ابن الأعمش:

بدلت بعد تأنس بتوحش

وأعرت سمعك من يبلغ أو يشي

لا مت إن كان الذي بلغته

حتى أرى في صورة ابن الأعمش

وقوله يهجوه:

إن كنت تطمع أن قلبي هائم

بك أو تؤمل أنني لك ذاكر

فأنا الذي يعطي أسته من حاجة

وأبوك قوادي وأنت الشاعر

وقوله يهجو مقران المباركي:

أما والذي غشى المبارك خزية

يغني على الأيام ركب به ركبا

لقد ظل مقران يحك بعرضه

قوافي شعر لو تأملها جربا

والخامس وهو الحلف بما يجري مجرى الغزل والتشبيب، مثاله قول ابن المعتز:

لا والذي سل من جفنيه سيف ردى

قدت له من عذاريه حمائله

ما صارت مقلتي دمعا ولا وصلت

غمضا ولا سالمت قلبي بلابله

وقوله:

أما وريق بارد وثغر

شيبا بطعمي عسل وخمر

ما الموت إلا الهجر أو كالهجر وقول أبي وائل تغلب بن حمدان:

لا والذي جعل الموالي في الهوى خدم العبيد

وأصار في أيدي الظبا

ء قياد أعناق الأسود

وأقام ألوية المني

ة بين أفناء الصدود

ما الورد أحسن منظرا

من حسن توريد الخدود

وقول العلوي الكوفي:

إني سألتك باختلاس اللحظ من تحت السجوف

وبما جنت تلك العيون

على القلوب من الحتوف

وبسطوة المولى إذا

أزرى على العبد الضعيف

لا تجمعي ضن البخيل

وسطوة المولى العسوف

ومثل هذا يسمى القسم الاستعطافي عند النحاة.

وجمع منصور بن كيغلغ بين هذا النوع من القسم وبين النوع الأول فقال:

خنت الذي أهوى من الناس+ونمت عن جودي وعن بأسي

يوم أرى الدجن فلا أرتوي

من ريق إلفي ومن الكأس

ومن بديع هذا النوع قول الخالديين الشاعرين وقد مدحا أبا الحسن محمد بن عمر الزيدي الحسني فأبطأ عليهما بالجائزة، وأراد الخروج إلى بعض الجهات، فدخلا عليه وأنشداه:

قل للشريف المستجار

به إذا عدم المطر

وابن الأئمة من قري

ش والميامين الغرر

أقسمت بالريحان وال

نغم المضاعف والوتر

لئن الشريف مضى ولم

ينعم لعبديه النظر

لنشاركن بني أمي

ة في الضلال المشتهر

ونقول لم يغصب أبو بكر ولم يظلم عمر

ونرى معاوية إما

ما من يخالفه كفر

ونقول إن يزيد ما

قتل الحسين ولا أمر

ونعد طلحة والزبير من الميامين الغرر

ويكون في عنق الشري

ف دخول عبديه سقر

فضحك من قولهما وأنجز لهما جائزتهما.

قلت: وعلى هذا الأسلوب نظم ابن منير قصيدته المشهورة التي انتهت الإشارة إليها في أسلوبها. وكان سبب نظمه لها أنه كان بينه وبين الشريف الموسوي نقيب الأشراف مودة أكيدة ومراسلات، لأن الشريف كان رئيس مذهب الإمامية، وكان ابن منير من كبار الإمامية وأجلاء طرابلس. فيقال: أنه أرسل إلى الشريف مرة بهدية مع عبد أسود له، فأرسل الشريف يعتبه، وكتب إليه: أما بعد، فلو علمت عددا أقل من الواحد، ولونا شرا من السواد لعثت به إلينا والسلام.

ص: 223

وكان الشريف معروفا بالشهامة وعلو الهمة، وكان ابن منير يهوى مملوكا له يسمى تتر، لا يفارقه في نوم ولا يقظة، حتى أنه متى اشتد غمه أو رمي بمحنة نظر إليه؛ فيزول ما به؛ فحلف أنه لا يرسل إلى الشريف هدية لا مع أعز الناس إليه، فجهز هدايا نفسية مع مملوكه تتر إلى الشريف وأخذ يقاسي مشاق فرقته، ويتجرع غصص بعاده. فلما وصل المملوك إلى الشريف توهم أنه من جملة الهدايا تعويضا من ذنب العبد الأسود فأمسكه. وطال الأمر على ابن منير فلم ير ما ينكي به الشريف، ويبعثه على إرسال مملوكه إلا إظهار النزوع عن التشيع، والدخول في مذهب السنة. وإن ذلك دليل أمر عظيم أخرجه من العقل حتى فارق مذهبه، فكتب إليه هذه القصيدة يذكر فيها وجده، ويقسم بالإيمان المحرجة، أنه إن لم يرد عليه مملوكه خرج عن مذهبه إلى التسنن، وفارق الحق إلى الباطل، ونزع عن الهدى إلى الضلال.

وهذه القصيدة بديعة في بابها، مع رقة ألفاظها وانسجاها، ولا بأس بإيرادها بجملتها هنا، على أننا لم نخرج بها عن نوع القسم من البديع، وهي:

عذبت طرفي السهر

وأذبت قلبي بالفكر

ومزجت صفو مودتي

من بعد بعدك بالكدر

ومنحت جثماني الضنى

وكحلت جفني بالسهر

وجفوت صبا ما له

عن حسن وجهك مصطبر

يا قلب ويحك كم تخا

دع بالغرور وكم تغر

وإلام تكلف بالأغن من الظباء وبالأغر

ريم يفوق إن رما

ك بسهم ناظره النظر

تركتك أعين تركها

من بأسهن على خطر

ورمت فأصمت عن قسي لا يناط بها وتر

جرحتك جرحا لا يخي

ط بالخيوط ولا الإبر

تلهو وتلعب بالعقو

ل عيون أبناء الخزر

فكأنهن صوالج

وكأنهن لها أكر

تخفي الهوى وتسره

وخفي سرك قد ظهر

أفهل لوجدك من مدى

يفضى إليه فينتظر

نفسي الفداء لشادن

أنا من هواه على خطر

عذل العذول وما رآ

هـ وحين عاينه عذر

قمر يزين ضوء صب

ح جبينه ليل الشعر

وترى اللواحظ خده

فيرى لهن به أثر

هو كالهلال ملثما

والبدر حسنا إن سفر

ويلاه ما أحلاه في

قلبي الشجي وما أمر

نومي المحرم بعده

وربيع لذاتي صفر

بالمشعرين وبالصفا

والبيت أقسم والحجر

وبمن سعى فيه وطا

ف به ولبى واعتمر

لئن الشريف الموسوي

ابن الشريف أبي مضر

أبدى الجحود ولم يرد إلي مملوكي تتر

واليت آل أمية الطه

ر الميامين الغرر

وجحدت بيعة حيدر

وعدلت عنه إلى عمر

وإذا جرى ذكر الصحا

بة بين قوم واشتهر

قلت المقدم شيخ تي

م ثم صاحبه عمر

ما سل قط ظبا على

آل النبي ولا شهر

كلا ولا صد البتو

ل عن التراث ولا زجر

وأثابها الحسنى ولا

شق الكتاب ولا بقر

وبكيت عثمان الشهي

د بكاء نسوان الحضر

وشرحت حسن صلاته

جنح الظلام المعتكر

وقرأت من أوراق مص

حفه البراءة والزمر

ورثيت طلحة والزبير بكل شعر مبتكر

وأزور قبرهما وأز

جر من نهاني أو زجر

وأقول أم المؤمنين عقوقها إحدى الكبر

ركبت على جمل لتص

بح من بنيها في زمر

وأتت لتصلح بين جيش المسلمين على غرر

فأتى أبو حسن وسل حسامه وسطا وكر

وأذاق إخوته الردى

وبعير أمهم عقر

ما ضره لو كان كف وعف عنهم إذ قدر

وأقول أن أمامكم

ولى بصفين وفر

وأقول إن أخطأ معا

وية فما أخطأ القدر

هذا ولم يغدر معا

وية ولا عمر مكر

بطل بسوءته يقا

تل لا بصارم الذكر

وجنيت من رطب الخوا

رج ما تتمر واختمر

وأقول ذنب الخارجي

ن على علي مغتفر

لا ثائر بقتالهم

في النهروان ولا أثر

والأشعري بما يؤو

ل إليه أمرهما شعر

قال انصبوا لي منبرا

فأنا البريء من الخطر

فعلا وقالت خلعت صا

حبكم وأوجز واختصر

وأقول أن يزيد ما

شرب الخمور ولا فجر

ص: 224

ولجيشه بالكف عن

أبناء فاطمة أمر

والشمر ما قتل الحسي

ن ولا ابن سعد ما غدر

وحلقت في عشر المحر

م ما استطال من الشعر

ونويت صوم نهاره

وصيام أيام أخر

ولبست فيه أجل ثو

ب للمواسم يدخر

وسهرت في طبخ الحبو

ب من العشاء إلى السحر

وعدوت مكتحلا أصا

فح من لقيت من البشر

ووقفت في وسط الطريق أقص شارب من عبر

وأكلت جرجير البقو

ل بلحم جري الحفر

وجعلتها خير المآ

كل والفواكه والخضر

وغسلت رجلي ضلة

ومسحت خفي في السفر

أمين أجهر في الصلا

ة بها كمن قبلي جهر

وأسن تسنيم القبو

ر لكل قبر يحتفر

وإذا جرى ذكر الغد

ير أقول ما صح الخبر

ولبست فيه من الملا

بس ما اضمحل وما دثر

وسكنت جلق واقتدي

ت بهم وإن كانوا بقر

وأقول مثل مقالهم

بالفاشريا قد فشر

مصطيحتي مكسورة

وفطيرتي فيها قصر

بقر يرى برئيسهم

طيش الظليم إذا نفر

وخفيفهم مستثقل

وصواب قولهم هذر

وطباعهم كجبالهم

جبلت وقدت من حجر

ما يدرك التشبيب تغ

ريد البلابل في السحر

وأقول في يوم تحا

ر له البصيرة والبصر

والصحف ينشر طيها

والنار ترمي بالشرر

هذا الشريف أضلني

بعد الهداية والنظر

فيقال خذ بيد الشر

يف فمستقركما سقر

لواحة تسطو فما

تبقي عليه ولا تذر

والله يغفر للمسي

ء إذا تنصل واعتذر

إلا لمن جحد الوصي

ولاءه ولمن كفر

فاخش أفله بسوء فعلك واحتذر كل الحذر

وإليكها بدوية

رقت لرقتها الحضر

شامية لو شامها

قس الفصاحة لافتخر

ودرى وأيقن أنني

بحر وألفاظي درر

وبديعة كخريدة

عذراء ترفل في الحبر

حبرتها فغدت كزه

ر الروض باكره المطر

وإلى الشريف بعثتها

لما قراها وانبهر

رد الغلام وما استمر على الجحود ولا أصر

وأثابني وجزيته

شكرا وقال لقد صبر.

فلما وصلت القصيدة إلى الشريف ضحك وقال: قد أبطأنا عليه فهو معذور، ثم جهز المملوك مع هدايا حسنة. فمدحه ابن منير فقال:

إلى المرتضى حث المطي فإنه

إمام على كل البرية قد سما

ترى الناس أرضا في الفضائل عنده

ونجل الزكي الهاشمي هو السما

قيل إن ابن منير حين هادى الشريف، كان الشريف ببغداد، وقوله: وأقول مثل مقالهم، يفسره ما بعده من الكلمات المهملة التي يستعملها أهل دمشق في الخلاعة.

والمصطيحة: خشبة، في الأصل تجعل تحت دود القز، وأهل دمشق يسمون الصولجان المنقوش مصطيحة. ولقد تطرف في الخلاعة والمجون حيث قلب اللفظ فنسب القصر إلى الفطيرة، والكسر إلى المطيحة، والمستعمل العكس. فإنهم يضعون الصوالج قائمة، فمن جاء صولجانه قصيرا أخرج من اللعبة، فيقول: مصطيحتي قصيرة. وكذا من لعب الفطيرة يرد من كانت فطيرته مكسورة.

وقوله: إلى الشريف بعثتها إلى آخره. وقد يتوهم أنه ملحق بالقصيدة وأنه قاله بعد رد المملوك، وليس كذلك، وإنما قاله تفاؤلا وحسن ظن بالشريف، واعتمادا على علو همته، وهذا من دهاء ابن منير لعلمه بسجايا الشريف.

قلت: وكثير من الناس يظن أن الشريف المذكور هو أبو القاسم علي بن الطاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين، الشهير بالشريف المرتضى علم الهدى - أخو الشريف الرضي رحمه الله وليس به، فإن ابن منير متأخر عن الشريف المرتضى، ولم يدرك زمانه قطعا، لأن وفاة الشريف المرتضى المذكور يوم الأحد الخامس من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة، فيكون موت الشريف المرتضى قبل أن يخلق ابن منير بنحو من سبع وثلاثين سنة، فيتعين أن يكون الشريف الذي خاطبه ابن منير غير سيدنا الشريف المرتضى علم الهدى رحمهم الله جميعا.

ص: 225

وابن منير هذا هو أبو الحسن أحمد بن منير بن مفلح الطرابلسي الملقب مهذب الملك، عين الزمان، الشاعر المشهور. قال ابن خلكان في الوفيات: من محاسن شعره القصيدة التي أولها - قلت: وفيه مثال النوع الرابع من القسم وهو الواقع في الغزل والتشبيب -:

من ركب البدر في صدر الرديني

وموه السحر في حد اليماني

وأنزل النير الأعلى إلى فلك

مداره في القباء الخسرواني

طرف رنا أم قراب سل صارمه

وأغيد ماس أم أعطاف خطي

أذلني بعد عز والهوى أبدا

يستعبد الليث للظبي الكناسي

أما وذائب مسك من ذوائبه

على أعالي القضيب الخيزراني

وما يجن عقيقي الشفاه من ال

ريق الرحيقي والثغر الجماني

لو قيل للبدر من في الأرض تحسده

إذا تجلى لقال ابن الفلاني

أربى علي بشتى من محاسنه

تألفت بين مسموع ومرئي

إباء فارس في لين الشآم مع ال

ظرف العراقي والطرف الحجازي

وما المدامة في الألباب أفتك من

فصاحة البدو في ألفاظ تركي

وأما الخالديان اللذان حذا ابن منير حذوهما في قصيدته التترية المذكورة، فهما: أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم.

قال الثعالبي في يتيمة الدهر: إن هذان لساحران، يغربان فيما يجلبان ويبدعان فيما يصنعان. وكان ما يجمعهما من أخوة الأدب، مثلما ينظمهما من أخوة النسب؛ فهما في الموافقة والمساعدة يحييان بروح واحدة؛ ويشتركان في قرض الشعر وينفردان، ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان. وكانا في التساوي والتشابك والتشاكل والتشارك.

كما قال أبو تمام:

رضيعي لبان شريكي عنان

عتيقي رهان حليفي صفاء

بل كما قال البحتري:

كالفرقدين إذا تأمل ناظر

لم يعل موع فرقد عن فرقد

بل كما قال أبو إسحاق الصابي فيهما:

أرى الشاعرين الخالديين سيرا

قصائد يفنى الدهر وهي تخلد

جواهر من أبكار لفظ وعونه

يقصر عنها راجز ومقصد

تنازع قوم فيهما وتناقضوا

ومر جدال بينهم يتردد

وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم

وما قلت إلا بالتي هي أرشد

هما في اجتماع الفضل زوج مؤلف

ومعناهما من حيث يثبت مفرد

كذا فرقدا الظلماء لما تشاكلا

علا أشكلا هذاك أم ذاك أمجد

فزوجهما ما مثله في اتفاقه

وفردهما بين الكواكب أوحد

فقاموا على صلح وقال جميعهم

رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد

وما أعدل هذه لحكومة من أبي إسحاق فما منهما إلا محسن يحطب في حبل الإبداع ما أراد، ويكاد بمحاسنه وبدائعه الإفراد.

فمن محاسن شعر أبي بكر وهو الأكبر منهما قوله:

لو أشرقت لك شمس ذاك الهودج

لأرتك سالفتي غزال أدعج

أرعى النجوم كأنها في أفقها

زهر الأقاحي في رياض بنفسج

والمشتري وسط السماء تخاله

وسناه مثل الزئبق المترجرج

مسمار تبر أصر ركبته

في فص خاتم فضة فيروزج

وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى

ميلان شارب قهوة لم تمزج

وتنقبت بخفيف غيم أبيض

هي فيه بين تخفر وتبرج

كتنفس الحسناء في المرآة إذ

كملت محاسنها ولم تتزوج

وقوله:

حور رحلن وقد جعلن وداعنا

بمدامع نطقت ونحن سكوت

فعيونها سبج ونثر دموعها

درر وحمر خدودها ياقوت

وقوله في مرثية الحسين عليه السلام:

إذا تفكرت في مصابهم

أثقب زند الهموم قادحه

بعضهم قربت مصارعه

وبعضهم بعدت مطارحه

أظلم في كربلاء يومهم

ثم تجلى وهم ذبائحه

لا برح الغيث كل شارقة

تهمي غواديه أو روائحه

على ثرى حله غريب رسو

ل الله مجروحة جوارحه

ذل حماه وقل ناصره

ونال أقصى مناه كاشحه

ومنها:

عفرتم بالثرى جبين فتى

جبريل بعد الرسول ماسحه

يطل ما بينكم دم ابن رسو

ل الله وابن السفاح سافحه

سيان عند الأنام كلهم

خاذله منكم وذابحه

ومن محاسن شعر أبي عثمان قوله:

نيل المطالب بالهندية البتر

لا بالأماني والتأميل للقدر

ص: 226

فإن عفا طلل أو بان ساكنه

فلا تقف فيه بين البث والفكر

في شمك المسك شغل عن مذاقته

وفي سنا الشمس ما يغني عن القمر

لو لم أكن مشبها للناس في خلقي

لقلت أني من جيل سوى البشر

ومنها:

تزيدني قسوة الأيام طيب ثنا

كأنني المسك بين الفهر والحجر

ألفت من حادثات الدهر أكبرها

فما أعوج على أطفالها الأخر

لا شيء أعجب عندي في تباينه

إذا تأملته من هذه الصور

أرى ثيابا وفي أثنائها بقر

بلا قرون وذا عيب على البقر

قالت رقدت فقلت الهم أرقدني

والهم يمنع أحيانا من السهر

كم قد وقعت وقوع الطير في شرك

فضعضعت همتي منها قوى المرر

أصفو وأكدر أحيانا لمختبري

وليس مستحسنا صفو بلا كدر

إني لأسير في الآفاق من مثل

فرد وأملأ للآماق من قمر

إذا تشككت فيما أنت مبصره

فلا تقل أنني في الناس ذو بصر

وكيف يفرح إنسان بمقلته

إذا نضاها ولم تصدقه في النظر

لقد فرحت بما عانيت من عدم

خوف القبيحين من كبر ومن بطر

وربما ابتهج الأعمى بحالته

لأنه قد نجا من طيرة العور

ولست أبكي لشيب قد بليت به

يبكي على الشيب من يأسى على العمر

كن من صديقك لا من غيره حذرا

إن كان ينجيك منه شدة الحذر

ما أطمئن إلى خلق فأخبره

إلا تكشف لي عن سوء مختبر

لقد نظرت إلى الدنيا بمقلتها

فاستصغرتها عيوني غاية الصغر

وما شكرت زماني وهو يصعدني

فكيف أشكره في حال منحدري

لا عار يلحقني إني بلا نشب

وأي عار على عين بلا حور

فإن بلغت الذي أهوى فعن قدر

وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر

ولقد طال بنا الشرح بسبب هذا الاستطراد، على أن الاستطراد من البديع، فلم نخرج عما نحن فيه على كل حال، ولنعد إلى تمام الكلام على نوع القسم فنقول: إن من قبيحه قول القاضي عبد الله بن محمد الخليجي:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي

أتاك به الواشون عني كما قالوا

ولكنهم لما رأوك غرية

بهجري تواصوا بالنميمة واحتالوا

فقد صرت أذنا للوشاة سميعة

ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا

وبسبب هذا القسم القبيح عزل القاضي المذكور من منصبه، ومني بنكد العيش ونصبه.

قال الصفدي في شرح رسالة ابن زيدون: كان القاضي الخليجي المذكور ابن أخت علوية المغني، وكان تياها صلفا، تقلد القضاء للأمين، وكان علوية عدوا له، فجرت له قضية في بغداد فاستعفى من القضاء، وسأل أن يولى بعض الكور البعيدة، فولي قضاء دمشق أو حمص. ولما تولى المأمون الخلافة، غناه يوما علوية بشعر الخليجي المذكور، فقال له المأمون: من يقول هذا الشعر؟ قال: قاضي دمشق، فأمر المأمون بإحضاره فأشخص. وجلس المأمون للشرب وأحضر علوية، ودعا بالقاضي، فقال له: أنشدني الأبيات، فقال: يا أمير المؤمنين هذه أبيات قلتها منذ أربعين سنة وأنا صبي. والذي أكرمك بالخلافة، وورثك ميراث النبوة ما قلت شعرا منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد، أو عتاب صديق. فقال له: اجلس، فجلس، فناوله قدح نبيذ كان في يده، فأرعد وبكى وأخذ القدح من يده وقال: والله يا أمير المؤمنين ما غيرت الماء بشيء قط مما يختلف في تحليله فقال: لعلك تريد نبيذ التمر أو الزبيب؟، فقال: والله يا أمير المؤمنين لا أعرف شيئا من ذلك، فأخذ المأمون القدح من يده وقال: والله لو شربت شيئا من هذا لضربت عنقك، ولقد ظننت أنك صادق في قولك كله، ولكن لا يتولى لي القضاء رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام، انصرف إلى منزلك. وأمر علوية فغير هذه الكلمة وجعل مكانها (حرمت منالي منك) .

ص: 227