الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشاهد في البيت الثالث. قال الباخرزي في دمية القصر: هذا والله المعنى البديع والربيع المريع، والتشبيه اللائق، والغرض الموافق، وقد كان يملكني الإعجاب بقول ابن المعتز، فزاد التهامي عليه، وفي المثل: من زاد ركب.
وقال النابغة:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم
…
فكيف بحصن والجبال جنوح.
وأحسن ابن بسام أتباعه فقال:
قد استوى الناس ومات الكمال
…
وصاح صرف الدهر أين الرجال.
هذا أبو القاسم في نعشه
…
قوموا انظروا كيف تزول الجبال.
وقال عمر بن كلثومك
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
…
وأبنا بالملوك مصفدينا.
فأحسن أبو تمام أتباعه فقال:
إن الأسود إسود الغاب همتها
…
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب.
وقال منصور النمري: فكأنما وقع الحسام بهامه=خدر الأسنة أو نعاس الهاجع.
فأحسن أبو الطيب أتباعه فقال:
كأن الهام في الهيجا عيون
…
وقد طبعت سيوفك من رقاد.
وقال بكر بن النطاح:
يتلقى الندى بوجه حيي
…
وصدور القنا بوجه وقاح.
فأحسن السري الرفاء أتباعه فقال:
يلقى الندى برقيق وجه مسفر
…
فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا.
وما أحسن ما قال بعده:
رحب المنازل ما أقام فإن سرى
…
في جحفل ترك الفضاء مضيقا.
وقال الأول:
خلقنا لهم في كل عين وحاجب
…
بسمر القنا والبيض عينا وحاجبا.
فأحسن ابن نباتة السعدي أتباعه فقال: خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم=عيونا لها وقع السيوف حواجب.
وماى أحسن قوله بعده:
لقوا نبلنا مرد العوارض وانثنوا
…
بأوجههم منها لحي وشوارب.
وشواهد هذا النوع أكثر من أن يحيط بها نطاق الحصر، فلنكتف منها بهذا القدر والله أعلم.
وبيت بديعية الصفي قوله:
ينازع السمع فيها الطرف حين جرت
…
فيرجعان إلى الآثار في الأكم.
قال في شرحه: موضع حسن الأتباع منه، إني سمعت بيتا مجهولا قائله، ومعناه يحتمل الزيادة وهو:
وطرف يفوت الطرف في حركاته
…
ولكن للأسماع فيه نصيب.
فلما احتجت أن لا أخلى القصيدة من هذا النوع، زدت فيه استعارة المنازعة بين السمع والطرف والمحاكمة في الرجوع إلى الآثار، وزيادة أن الآثار في الأكم مما يدل على صلابة الحوافر والسنابك، وهو مما يمدح به الخيل، وفيه زيادة الإيغال وتمكين القافية.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
والجذع حن عليه بعد فرقته
…
حسن إتباع لتلك الأربع الحرم.
قال في شرحه: إنه اتبع الفرزدق في قوله يمدح علي بن الحسين عليه السلام:
يكاد يمسكه عرفان راحته
…
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ذكراه تطربهم والسيف ينهل من
…
أجسامهم لم يشن حسن إتباعهم.
قال في شرحه: غنه اتبع فيه قول ابن العارض:
ولي ذكرها يحلو على كل صيغة
…
ولو مزجزه عذلي بملام.
وبيت بديعية المقري قوله:
قد مس راحته من مس راحته
…
فكم من المس أبرى كل ذي لمم.
قال في شرحه أنه اتبع فيه قول صاحب البردة:
كم أبرأت وصبا باللمس راحته
…
وأبرأت أربا من ربقة اللمم.
ولم ينظم السيوطي ولا الطبري هذا النوع.
قل ما أردت سوى الإشراك فهو إذن
…
من فوق ما قلت من عز ومن عظم.
قال في شرحه أنه اتبع فيه قول البوصيري في البردة:
دع ما أدعته النصارى في نبيهم
…
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم.
وبيت بديعيتي قولي:
هم عصمة للورى ترجى النجاة بهم
…
يا فوز من زانه حسن إتباعهم.
هذا البيت أتبعت فيه قول الفرزدق من قصيدته في علي بن الحسين عليه السلام:
من معشر حبهم دين وبغضهم
…
كفر وقربهم منجى ومعتصم.
ووجه حسن الإتباع فيه إني استوفيت معنى البيت كله في الشطر الأول، فإن من كان عصمة للورى وبه ترجى النجاة، كان من المعلوم أن حبه دين وبغضه كفر. وزدت عليه بالحض على حسن إتباعهم والترغيب في موالاتهم في الشطر الثاني صريحا مع حسن البيان وتمكين القافية، والله أعلم.
الطاعة والعصيان
أطعمهم وأحذر العصيان تنج إذا
…
بيض الوجوه غدت في النار كالفحم.
قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته: هذا النوع استخرجه أبو العلاء المعري عند شرحه شعر أبي الطيب المتنبي بالكتاب الذي سماه معجز أحمد، لما وقف على قوله:
يريد يداً عن ثوبها وهو قادر
…
ويعصي الهوا في طيفها وهو راقد.
قال إنما أراد أبو الطيب: يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ، بحيث تطيعه المطابقة في قافية البيت بقوله: راقد، فلما لم يطعه الوزن عدل عن لفظة راقد وهو من صنف التجنيس المقلوب، حيث لم يؤثر إخلاء البيت من إحدى صنا يع البديع، فقد عصته المطابقة، وأطاعه التجنيس. وهذا النوع لم يسمع له مثال بعد أبي العلاء المعري في سائر كتب البديع لقلة وقوعه، وتعذر اتفاقه، وإنما وقع للمتنبي نادرا. انتهى كلام الشيخ صفي الدين، وهو مأخوذ من كتاب تحرير التحبير لأبن أبي الإصبع.
واستشهد الأستاذ أبو بكر الخوارزمي على هذا النوع بقول المتنبي:
أرأيت همة ناقتي في ناقة
…
نقلت يدا سرحا وخفا مجمرا.
قال: أراد أن يقول: خفا خفيفا ليتفق له جناس الاشتقاق، فلما لم يطعه الوزن ولا القافية عدل عن لفظة خفيف، إلى لفظة مجمر، لما فيها من معنى السرعة والخفة، فكان تجنيسا معنويا، فقد عصاه الجناس اللفظي، وأطاعه الجناس المعنوي. والمجمر اسم فاعل من أجمر البعير: إذا أسرع. والسرح بضمتين: السهلة السير.
قال ابن أبي الأصبع: تقريرهم هذا النوع، وجهه أن القوم أضربوا عن النظر فيه، أما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه من العصمة من الخطأ والسهو وإما يكون مر عليهم ما مر عليه في بيت أبي الطيب المذكور أولا، وليس فيه شيء أطاع الشاعر، ولا شيء عصاه، ودليل ذلك قول المعري: إن المتنبي أراد (مستيقظا) ليحصل بينه وبين لفظه (راقد) طباق، فعصته لفظة (مستيقظ) لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، وهذا محال، لأنه لو أراد ذلك لقال: يرد يدا عن ثوبها وهو ساهر، فكان يحصل له غرضه من الطباق ولم يعصه الوزن، وإنما أراد أن يكون في بيته جناس وطباق، فعدل عن لفظه (ساهر) إلى (قادر) لأن القادر (ساهر) وزيادة، وحصل بين (قادر وراقد) الطباق المعنوي، وجناس العكس.
ومذهب المتنبي ترجيح المعاني على الألفاظ، ولاسيما بالعدول عن الطباق اللفظي حصل في البيت الطباق والجناس معا. وما كان فيه الطباق والجناس معا أفضل مما ليس فيه سوى الطباق. ولو عدل المتنبي إلى ما قاله المعري لفاته هذا الفضل. انتهى كلام ابن أبي الأصبع. وتقريره هذا لا يجري في البيت الثاني لأبي الطيب الذي خرجه الخوارزمي على هذا كما لا يخفى.
وبيت بديعية الصفي الحلي قوله:
لهم تهلل وجه بالحياء كما
…
مقصورة مستهل من أكفهم.
قال في شرحه: أراد أن يقول: لهم تهلل وجه بالحياء، وأكفهم مستهلة، ليحصل التجانس بين الحياء والحيا، فلما عصاه التجنيس، ولم يؤثر أخلاء البيت من صنعة البديع عدل إلى لفظة (مقصورة) التي هي ردف (الحيا) فأطاعه الأرداف والتوجيه والجناس المعنوي. انتهى ملخصا.
وتعقبه ابن حجة بأنه لو قال:
لهم تهلل وجه بالحيا كما
…
لنا الحيا مستهل من أكفخم.
لحصل له ما أراد من الجناس. فدعوى العصيان هنا محال. انتهى.
وأنا أقول: يكفي الشاعر في دعوى العصيان أنه حاول ذلك في وقت النظم فلم يطعه، وإن أطاعه وأطاع غيره في وقت آخر. ألا ترى أن الشاعر قد يحاول نظم معنى من المعاني في وقت من الأوقات فلا يتسهل له، ويتسهل له في وقت آخر، وكفاك شاهدا على ذلك قول النابغة: أنه ليمضي علي وقت ولقلع ضرس من أضراسي أسهل علي من نظم بيت واحد.
وبيت بديعية الموصلي قوله:
أطاعه وعصاه المؤمنون ومن
…
ناوى لدى الفرق بين الإنس والنعم.
قال في شرحه: أراد الطباق بين المؤمنين والكافرين، فعصاه الوزن وتعذرت المطابقة، فأتى بلفظ (ناوى) فأطاعته المطابقة وعصاه الوزن.
وتعقبه ابن حجة أيضاً بأنه لو قال:
أطاعه وعصاه المؤمنون وجم
…
ع الكافرين ولم يحفل بجمعهم.
لحصل له ما أراد من المطابقة بين المؤمنين والكافرين. والجواب عنه ما تقدم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم
…
له العلو فجانسه بمدحهم.