المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ورمل كأوراك العذارى قطعته … إذا لبسته المظلمات الحنادس أفلا ترى - أنوار الربيع في أنواع البديع

[ابن معصوم الحسني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌أنوار الربيع في أنواع البديع

- ‌حسن الابتداء وبراعة الاستهلال

- ‌الجناس المركب والمطلق

- ‌الجناس الملفق

- ‌الجناس المذيل واللاحق

- ‌الجناس التام والمطرف

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب

- ‌الجناس المعنوي

- ‌الاستطراد

- ‌الاستعارة

- ‌المقابلة

- ‌وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي

- ‌الافتنان

- ‌اللف والنشر

- ‌الالتفاف

- ‌الاستدراك

- ‌تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني

- ‌ حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر

- ‌ الجزء الثاني

- ‌الإبهام

- ‌الطباق

- ‌إرسال المثل

- ‌الأمثال السائرة

- ‌التخيير

- ‌النزاهة

- ‌الهزل المراد به الجد

- ‌التهكم

- ‌تنبيهان

- ‌القول بالموجب

- ‌التسليم

- ‌الاقتباس

- ‌المواربة

- ‌التفويف

- ‌الكلام الجامع

- ‌المراجعة

- ‌المناقصة

- ‌المغايرة

- ‌الجزء الثالث

- ‌تتمة باب المغايرة

- ‌التوشيح

- ‌التذييل

- ‌تشابه الأطراف

- ‌التتميم

- ‌الهجو في معرض المدح

- ‌الاكتفاء

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌الاستثناء

- ‌مراعاة النظير

- ‌التوجيه

- ‌التمثيل

- ‌عتاب المرء نفسه

- ‌القسم

- ‌حسن التخلص

- ‌الإطراد

- ‌العكس

- ‌الترديد

- ‌المناسبة

- ‌الجمع

- ‌الانسجام

- ‌تناسب الأطراف

- ‌ائتلاف المعنى مع المعنى

- ‌المبالغة

- ‌ الإغراق

- ‌ الغلو

- ‌التفريق

- ‌التلميح

- ‌العنوان

- ‌التسهيم

- ‌التشريع

- ‌المذهب الكلامي

- ‌نفي الشيء بإيجابه

- ‌الرجوع

- ‌تنبيهات

- ‌تجاهل العارف

- ‌الاعتراض

- ‌حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

- ‌التهذيب والتأديب

- ‌الاتفاق

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌المماثلة

- ‌التوشيع

- ‌التكميل

- ‌شجاعة الفصاحة

- ‌التشبيه

- ‌الفصل الأول في الطرفين

- ‌الفصل الثاني في الوجه

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الثالث في الغرض

- ‌الفصل الرابع في الأحوال

- ‌الفصل الخامس في الأداة

- ‌الفرائد

- ‌التصريع

- ‌الاشتقاق

- ‌السلب والإيجاب

- ‌المشاكلة

- ‌ما لا يستحيل بالانعكاس

- ‌التقسيم

- ‌الإشارة

- ‌تشبيه شيئين بشيئين

- ‌الكناية

- ‌الترتيب

- ‌المشاركة

- ‌التوليد

- ‌الإبداع

- ‌الإيغال

- ‌النوادر

- ‌التطريز

- ‌التكرار

- ‌التنكيت

- ‌حسن الإتباع

- ‌الطاعة والعصيان

- ‌البسط

- ‌المدح في معرض الذم

- ‌الإيضاح

- ‌التوهيم

- ‌الألغاز

- ‌الإرداف

- ‌الاتساع

- ‌التعريض

- ‌جمع المؤتلف والمختلف

- ‌الإيداع

- ‌تنبيهات

- ‌المواردة

- ‌الالتزام

- ‌المزاوجة

- ‌المجاز

- ‌التفريع

- ‌التدبيج

- ‌التفسير

- ‌التعديد

- ‌حسن النسق

- ‌حسن التعليل

- ‌التعطف

- ‌الاستتباع

- ‌التمكين

- ‌التجريد

- ‌إيهام التوكيد

- ‌الترصيع

- ‌التفصيل

- ‌الترشيح

- ‌الحذف

- ‌التوزيع

- ‌التسميط

- ‌التجزئة

- ‌سلامة الاختراع

- ‌تضمين المزدوج

- ‌ائتلاف اللفظ مع المعنى

- ‌الموازنة

- ‌ائتلاف اللفظ مع الوزن

- ‌ائتلاف الوزن مع المعنى

- ‌ائتلاف اللفظ مع اللفظ

- ‌الإيجاز

- ‌التسجيع

- ‌تنبيهات

- ‌التسهيل

- ‌الإدماج

- ‌الاحتراس

- ‌حسن البيان

- ‌العقد

- ‌تنبيهات

- ‌التشطير

- ‌المساواة

- ‌براعة الطلب

- ‌حسن الختام

- ‌كلمة الختام للمؤلف

الفصل: ورمل كأوراك العذارى قطعته … إذا لبسته المظلمات الحنادس أفلا ترى

ورمل كأوراك العذارى قطعته

إذا لبسته المظلمات الحنادس

أفلا ترى ذا الرمة كيف جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا؟ وذاك أن العادة والعرف في نحو هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الانقاء، ألا ترى إلى قوله:

ليلى قضيب تحته كثيب

وفي القلاد رشأ ربيب

فقلب ذو الرمة العرف والعادة في هذا، فشبه كثبات الانقاء بإعجاز النساء، وهذا كأنه يخرج مخرج المبالغة، أي قد ثبت هذا الموضع، وهذا المعنى لإعجاز النساء، وصار كأنه الأصل، فشبه به كثبان الانقاء.

مثله للطائي الصغير - يعين أبا عبادة البحتري -:

في طلعة البدر شيء من ملاحتها

وللقضيب نصيب من تثنيها

وآخر من جاء به شاعرنا - يعني أبا الطيب المتنبي - فقال:

نحن ركب ملجن في زي ناس

فوق طير لها شخوص الجمال

فجعل كونهم جنا أصلا، وكونهم ناسا فرعا، وجعل كون مطاياهم طيرا أصلا، وكونها جمالا فرعا. انتهى ملخصا.

فقولي (إلا غصونا شبهت بهم) من هذا الباب، لأن العرف والعادة تشبيه القدود بالغصون فقلبت ذلك، وجعلت الغصون مشبهة بقدودهم مبالغة.

ومنه أيضاً قولي من قطعة تقدم إنشادها في نوع الافتنان وهو:

في ليلة مدت غياهبها

من فرعها كالفاحم الجعد

فإن العرف تشبيه الشعر الفاحم بالظلمة، فقلبت ذلك وشبهت الظلمة به.

إذا عرفت ذلك، فالتكميل في بيت بديعيتي باشتماله على هذين المعنيين أكمل منه في بيت ابن حجة والله أعلم.

وبيت بديعية الشرف المقري قوله:

أهوى حياتي إلا حيث لم أرهم

وأكره الموت إلا في جوارهم

فالمعنى الزائد على معنى الاستثناء في هذا البيت أظهر من أن ينبه عليه.

‌مراعاة النظير

وقد قصدت مراعاة النظير لهم

من جلنار ومن ورد ومن عنم

هذا النوع أعني مراعاة النظير، سماه قوم بالتوفيق، وآخرون بالتناسب وجماعة بالائتلاف، وبعضهم بالمواخاة.

قالوا: وهو عبارة عن أن يجمع المتكلم بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد سواء كانت المناسبة لفظا لمعنى، أو لفظا للفظ، أو معنى لمعنى، إذ القصد جمع شيء وما يناسبه من نوعه، أو ملائمة من إحدى الوجوه. انتهى.

ولا يخفى أن هذا التفسير يدخل فيه ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع اللفظ، وائتلاف المعنى مع المعنى، وكل من هذه الأقسام عده أرباب البديعيات نوعا برأسه، ونظموا له شاهدا مستقلا، وجعلوه مغايرا لهذا النوع، مع أنهم مثلوا لائتلاف اللفظ بما مثلوا به لمراعاة النظير بعينه ولا وجه لذلك، بل كان الصواب تنويع هذا النوع إلى هذه الأنواع الثلاثة كما فعل صاحب التبيان، حيث قال: مراعاة النظير هو أن يجمع بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد، وهو أصناف: الأول - ائتلاف اللفظ والمعنى. والثاني - ائتلاف اللفظ مع اللفظ. والثالث - ائتلاف المعنى مع المعنى. وهذا كتنويعهم اللف والنشر إلى أنواعه المذكورة، والالتفات إلى أنواعه الستة، وغير ذلك من أنواع البديع التي هي تتنوع إلى أنواع. وإذ قد اصطلح أرباب البديعيات على جعل مراعاة النظير نوعا برأسه، وكل من ائتلاف اللفظ والمعنى، وائتلاف اللفظ مع اللفظ، وائتلاف المعنى مع المعنى، نوعا برأسه، فينبغي أن يحد كل منها بحد لا يشمل الآخر.

فيحد مراعاة النظير: بأنه عبارة عن أن يجمع المتكلم بين لفظين أو ألفاظ متناسبة المعاني، أما حقيقة أو ظاهرا. فالأول كقوله تعالى:(الشمس والقمر بحسبان) . فالشمس والقمر متناسبا المعنى حقيقة، من حيث اشتراكهما في وصف مشهور، وهو الإضاءة.

والثاني كقول مهيار الديلمي:

ومدير سيان عنياه والإبريق فتكا ولحظه والمدام

فمعنى الإبريق مناسب لمعنى المدام، إذ الإبريق يطلق على إناء الخمر، لكن هذه المناسبة ظاهرية، إذ ليس مقصوده بالإبريق هذا المعنى، بل مقصوده به السيف، سمي بذلك لبريقه، فخرج عن هذا الحد لمراعاة النظير؛ ائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف المعنى مع المعنى، وسيأتي كل منهما في محله إن شاء الله تعالى.

ص: 194

وأما ائتلاف اللفظ مع اللفظ فيحد بما ذكره العلامة السيوطي في الإتقان، وهو كون الألفاظ تلائم بعضها بعضا، بأن يقرن الغريب بمثله والمتداول بمثله، رعاية لحسن الجوار والمناسبة، وهذه المناسبة غير المناسبة التي في مراعاة النظير - كما هو ظاهر - فاستقل كل نوع من هذه الأنواع برأسه، وكان كل منها مغايرا للآخر.

وتكلف الشيخ صفي الدين للفرق بين مراعاة النظير وائتلاف اللفظ مع اللفظ بما يأتي ذكره هناك، ولم يذكر بين النوعين الآخرين وبين مراعاة النظير فرقا، مع شمول حده مراعاة النظير لهما، وعده كلا منهما قسما برأسه.

ومن بديع أمثلة هذا النوع - أعني مراعاة النظير - قول البحتري يصف إبلا أنحلها السري:

يترقرقن كالسراب وقد خض

ن غمارا من السراب الجاري

كالسقي المعطفات بل الأس

هم مبرية بل الأوتار

فإنه شبه الإبل بالقسي، وأراد أن يكرر التشبيه فكان يمكنه أن يشبهها بالمعراجين والأهلة والأطناب ونحو ذلك، لكنه اختار الأسهم، والأوتار، لمناسبتها للقسي. وترقى في التشبيه، فكأنه قال: إن تلك الإبل المهازيل في شكلها، ودقة أعضائها، شابهت القسي، بل أدق مها وهي الأسهم المنحوتة بل أدق منها وهي الأوتار.

وقد تداول الشعراء هذا المعنى، وتجاذبوا أطرافه، ومن ذلك قول الشريف الرضي رضي الله عنه:

هن القسي من النحول فإن سما

طلب فهن من النجاء الأسهم

أخذه بان قلاقس بأكثر ألفاظه فقال:

خوص كأمثال القسي نواحلا

فإذا سما طلب فهن سهام

وقال أيضاً:

طرحن العجز عن أعجاز عيس

توشحها على الحزم الحزاما

وتدفع بالسرى منها قسيا

فتقذف بلانوى منها سهاما

وقال ابن النبيه:

إن خوص الظلماء أطيب عندي

بمطايا أمست تشكى كلاله

هن مثل القسي شكلا ولكن

هن في السبق أسهم لا محاله

ومن أحسن ما ورد من مراعاة النظير أيضاً قول ابن خفاجة يصف فرسا:

وأشقر تضرم منه الوغى

بشعلة من شعل الباس

من جلنار ناضر جلده

وأذنه من ورق الآس

فناسب بين الجلنار والآس والنضارة ومثله قول أبي نواس:

يا قمرا أبصرت في مأتم

يندب شجوا بين أتراب

يبكي فيذري الدمع من نرجس

ويلطم الورد بعناب

وقول ابن المعتز:

ومهفهف ألحاظه وعذاره

يتعاضدان على قتال الناس

سفك الدماء بصارم من نرجس

كانت حمائل غمده من آس

وقول أبي الحسن السلامي:

أو ما ترى طرز البروق توسطت

أفقا كأن المزن فيه شفوف

واليوم من خجل الشقيق مضرج

خجل ومن مرض النسيم ضعيف

والأرض طرس والرياض سطوره

والزهر شكل بينها وحروف

فناسب بين الطرس والسطور، والشكل والحروف.

ومثل قوله أيضاً من قصيدة أخرى:

أشربا واسقيا فتى يصحب الأي

أم نفسا كثيرة الأوطار

والنفوس الكبار تأنف للسا

دة أن يشربوا بغير الكبار

في جوار الصبا نحل بيوتا

عمرت بالغصون والأقمار

ونصلي على أذان الطنابي

ر ونصغي لنغمة الأوتار

بين قوم إمامهم ساجد لل

كاس أوراكع على المزمار

فناسب بين الصلاة والآذان، والسجود والركوع.

وقوله أيضاً:

والنقع ثوب بالسيوف مطرز

والأرض فرش بالجياد مخمل

وسطور خيلك إنما ألفاتها

سمر تنقط بالدماء وتشكل

فناسب بين الثوب والتطريز، والفرش والتخميل، وبين السطور والألفات والنقط والشكل.

ومثل هذه المناسبة قول الوزير الطغرائي:

لبس شفوف النقع تخمل بالقنا

عليهن إضريج من الدم مخضوب

عليها سطور الضرب يعجمها القنا

صحائف يغشاها من النقع تثريب

فناسب في البيت الأول: بين اللبس والشفوف والخمل، والإضريج - بالضاد المعجمة والراء المهملة والياء المثناة من تحت والجيم - وهو الخز الأحمر. وفي الثاني: بين السطور والإعجام، والصحائف والتثريب.

ومن جيد هذا النوع قول السلامي أيضاً:

الحب كالدهر يعطينا ويرتجع

لا اليأس يصرفنا عنه ولا الطمع

صحبته والصبا يغري الصبابة بي

والوصل طفل غرير والهوى يفع

ص: 195

أيام لا النوم في أجفاننا خلس

ولا الزيارة من أحبابنا لمع

إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي

ورايتي اللهو واللذات لي شيع

وما ألطف قول ابن الساعاتي في مثل هذه المناسبة:

السحب رايات ولمع بروقها

بيض الظبا والأرض طرف أشهب

والند قسطلة وزهر شموعنا

صم القنا والفحم نبل مذهب

وما أبدع قول بعضهم في آل بيت النبي صلوات الله عليهم:

أتنم بنو طه ونون والضحى

وبنو تبارك والكتاب المحكم

وبنو الأباطح والمشاعر والصفا

والركن والبيت العتيق وزمزم

فإنه أحسن في المناسبة في الأول: بين أسماء السور، وفي الثاني: بين الجهات الحجازية.

ومثله قول الآخر في بني هاشم:

بني هاشم عفو عفا الله عنكم

وإن كان ثوبي حشوه اليوم مجرم

لكم حرم الرحمن والبيت والصفا

وجمع وما ضم الحطيم ومزم

فإن قلتموا باديتنا بعظيمة

فأحلامكم فيها أجل وأعظم

وقول ابن رشيق:

أصح وأقوى ما رويناه في الندى

من الخبر المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا

عن البحر عن كف الأمير تميم

فأجاد ما شاء في المناسبة بين الصحة والقوة، والرواية والخبر المأثور، ثم بين السيل والحياء، والبحر وكف تميم، لما شاع بين الشعراء من جعل كف الممدوح سحابا وبحرا ونحوهما، مع ما فيه من حسن الترتيب في الرتقي، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث. فإن السيول أصلها المطر، والمطر أصله البحر (على ما يقال) والبحر أصله كف الممدوح على ادعاء الشاعر، مع رعاية العنعنة المستعملة في الأسانيد.

قال ابن حجة في باب المناسبة - بعد ذكره هذين البيتين - أقول: إنني زاحمت ابن رشيق هنا بالمناكب، وأبطلت موانع التعقيد لما دخلت معه إلى هذه المطالب، وما ذاك إلا أنني امتدحت شيخي علاء الدين القضامي بموشح ببيت مخلصه تحفة في هذا الباب، لأن مناسبته المعنوية رفعت عن وجه محاسنها الحجاب، وهو:

رقم السوالف يروي لي بمسنده

عن رقمتي حيهم يا طيب مورده

وثغرها قد روى لي قبل ما احتجبت

عن برق ذاك النقا أيام معهده

والريق أمسى عن المرد

يروي حديث العذيب مسند

عن الصفا عن مذاق الشهد والعسل

عن ذوق سيدنا قاضي القضاة علي

قال: وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف محاسن هذا البيت، ومناسبته المعوية، فإن برهانه غير محتاج إلى إقامة دليل. انتهى كلامه.

قلت: هيهات، أين الثريا من الثرى، وأين مطلع سهيل من موقع السيل، على أن هذه الرواية المعنعنة التي ذكرها في مخلصه هذا إنما كانت تحسن عن ذوق المحبوب، لا ذوق الممدوح، وهذا من الغلط بوضع الكلام في غير موضعه.

كما قالوا في قول المتنبي:

أغار من الزجاجة وهي تجري

على شفة الأمير أبي الحسين

قالوا: إن هذه الغيرة إنما تكون بين المحب والمحبوب، كما قال كشاجم:

أغار إذا دنت من فيه كأس

على رد يقبله زجاج

فأما الأمراء والملوك فلا معنى للغيرة على شفاهها، اللهم إلا أن يكون بين ابن حجة وبين شيخه الممدوح أمر يقتضي هذه الرواية المعنعة عن ذوقه، فهو أدرى به.

ومن محاسن هذا النوع أيضاً قول ابن الخشاب في المستضيئ:

ورد الورى سلسال جودك فارتووا

ووقفت دون الورد وقفة حائم

ظمآن أطلب خفة من زحمة

والورد لا يزداد غير تزاحم

قال صاحب التبيان: انظر إلى هذين البيتين فإنهما كادا يجريان مع الماء في السلاسة، مع أن قائلهما لم يتجانف فيهما عن حكاية الماء، وما يناسبه، حتى عد فيهما ائتلاف عشر. انتهى. أي ائتلافا بين عشرة أشياء، هي: الورد، والسلسال، والارتواء، والورد، والحائم، والظمأ، والخفة؛ والزحمة، ثم الورد مرة أخرى والتزاحم.

وقال أبو العلاء المعري:

دع اليراع لقوم يفخرون به

وبالطوال الردينيات فافتخر

فهن أقلامك اللاتي إذا كتبت

مجدا أتت بمداد من دم هدر

فناسب بين الأقلام والكتابة والمداد.

ومثله قول أبي العشائر:

أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي

والخيل من تحت الفوارس تنحط

لرأت منها ما تخط يد الوغى

والبيض تشكل والأسنة تنقط

ص: 196

ألفاظ المناسبة في هذا أكثر كما لا يخفى، فإنها هناك ثلاثة، وهنا خمسة.

ومن أعجب ما وقع في هذا النوع قول الشريف الرضي رضي الله عنه:

حيرني روض على خده

ويلي من ذاك وويلي عليه

أي جنى يقطف من حسنه

وكل ما فيه حبيب إليه

نرجستي عينيه أم وردتي

خديه أم ريحانتي عارضيه

هذا هو الشعر الذي قيل فيه: إنه أرق أنفاسا من نسيم السحر، وأدق اختلاسا من النفاث إذا سحر.

وقول ابن زيلاق في مليح محروس بخادم:

ومن عجب أن يحرسوك بخادم

وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر

عذارك ريحان وثغرك جوهر

وخالك ياقوت وخدك عنبر

فناسب بين العذار والثغر، والخال والخد، وبين ريحان وجوهر، وياقوت وعنبر، لوضعها غالبا أسماء للخدام.

وما أحسن قول الزغاري في هذا النوع:

كأن السحاب العز لما تجمعت

وقد فرقت عنا الهموم بجمعها

نياق ووجه الأرض قعب وثلجها

حليب وكف الريح حالب ضرعها

فإنه أتى بالتشبيه الغريب، وحسن المناسبة العديمة النظير في مراعاته مع حلاوة الانسجام، ولطف المعنى.

ومن بديعه قول الشيخ عمر بن الفارض:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة

سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

لها البدر كأس وهي شمس يديرها

هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم

فأبدع في المناسبة بين البدر والشمس والهلال والنجم، وبين الكأس والإدارة والمزج.

ومن الغايات التي حسرت دونها سوابق الأفكار في هذا النوع البديع، قول البديع الهمداني من قصيدة يمدح بها خلف بن أحمد وإلى سجستان مطلعها:

سماء الدجى ما هذه الحدق النجل

أصدر الدجى حال وجيد الضحى عطل

وبعده يصف طول السرى وهو المقصود بالإثبات هنا:

لك الله من عزم أجوب جيوبه

كأني في أجفان عين الردى كحل

كأن الدجى نقع وفي الجو حومة

كواكبه جند طوائرها الرسل

كأن مطايانا سماء كأننا

نجوم على أقتابها برجنا الرحل

كأن السرى ساق كأن الكرى طلا

كأنا له شرب كأن المنى نقل

كأن الفلا ناد به الجن فتية

عليه الثرى فرش حشيته رمل

كأنا جياع والمطي لنا فم

كأن الفلا زاد كأن السرى أكل

كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع

وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل

كأنا على أرجوحة في مسيرنا

بغور بنا يهوي ونجد بنا يعلو

ومنها في وصف براعته، ودواته ويراعته، ولم يخرج عما نحن فيه:

كأن غمي قوس لساني له يد

مديحي له نزع به أملي نبل

كأن دواتي مطفل حبشية

كأني لها بعل ونقشي لها نسل

كأن يدي في الطرس غواص لجة

له كلمي در به قيمي تغلو

تأمل أيها الناظر في هذه العارضة القوية، والملكة التي لا يستطيعها ذو بديهة ولا روية، فإنه ما شاد بيتا إلا وعمره بمحاسن مراعاة النظير، وأسكن فيه ما يلائمه من المناسبات التي يحسدها الروض النضير. وأنا ما زلت معجبا بهذه القصيدة أشد الإعجاب، مشغوفا بمحاسنها التي ما خرق مثلها للسمع حجاب.

وقد عن لي أن أثبت بقية ما حضرني منها هنا، لينتظم شملها بما قبلها ويتملى بها من أراد أن يتأملها - وإن كان بعضها قد سبق ذكره في نوع التفويف - فما أحسن قوله بعد ما تقدم من التشبيه يذكر أباه بهمدان، واستقباله الحجيج للسؤال عن خبره، والبحث عن وطنه ووطره.

ثم تخلص إلى المديح أحسن تخلص، وجاء من المديح بما بهر الألباب، واستفز أولي الآداب، وهو:

يذكرني قرب العراق وديعة

لدى الله لا يسليه مال ولا أهل

حنته النوى بعدي وأضنته غيبتي

وعهدي به كالليث جؤجؤه عبل

إذا ورد الحجاج لاقى رفاقهم

بفوارتي دمع هما النجل والسجل

يسائلهم أين ابنه كيف داره

إلى م انتهى لم لم يعد هل له شغل

أضاقت به حال أطالت له يد

أأخره نقص أقدمه فضل؟

يقولون وافى حضرة الملك الذي

له الكنف المألوف والنائل الجزل

فقيد له طرف وحلت له حبي

وخير له قصر ودر له نزل

يذكرهم بالله ألا صدقتم

لدي أجد ما تقولون أم هزل؟

كأن أبانا أودع الملك الذي

قصدناه كنزا لم يسع رده مطل

ص: 197

ولما بلوناكم تلونا مديحكم

فيا طيب ما نبلو ويا صدق ما نتلو

طوينا لرؤياك الملوك وإنما

بمثلك عن أمثالهم مثلنا يسلو

فدى لك من أبناء دهرك من غدا

ولا قوله علم ولا فعله عدل

فيا ملكا أدنى مناقبه العلى

وأيسر ما فيه السماحة والبذل

هو البدر إلا أنه البحر زاخرا

سوى أنه الضرغام لكنه الوبل

محاسن يبديها العيان كما ترى

فإن نحن حدثنا بها دفع العقل

فقولا لو سام المكارم باسمه

ليهنك إذ لم تبق مكرمة غفل

وجاراك أفراد الملوك إلى مدى

وحقا لقد أعجزتهم ولك الخصل

سما بك من عمرو بن يعقوب محتد

كذا الأصل مفخوراً به وكذا النسل

هذا هو الشعر الذي يخجل الدرر في الأسلاك، بل الدراري في الأفلاك. ولا غرو فهذا البديع هو إمام المقامات الذي صلى الحريري خلفه، وأشار إليه في ديباجة مقاماته بقوله: إن التصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري ذلك المسرى إلا بدلالته ولله القائل:

فلو قبل مبكاها بكيت صبابة

بسعدي شفيت النفس قبل التندم

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا

بكاها فقلت الفضل للمتقدم

فإن البديع هو الذي أبدع المقامات، فأملى أربعين مقامة، عزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وضمنها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، من لفظ أنيق قريب المأخذ بعيد المرام، وسجع رشيق المطلع والمقطع كسجع الحمام، وجد يروق فيملك القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول. فقفى الحريري إثر عيسى بن هشام بالحرث ابن همام، وأثر الإسكندري بأبي زيد السروجي.

وسئل بعض علماء الأدب عن الحريري والبديع في مقاماتهما فقال: لم يبلغ الحريري أن يسمى بديع يوم، فكيف يقارب بديع الزمان.

رجع إلى ما نحن بصدده من حسن المناسبة في مراعاة النظير.

فمن المستحسن منه قول بديع الزمان أيضاً في الاعتذار من النحافة:

هلم إلى نحيف الجسم مني

لتنظر كيف آثار النحاف

ولي جسد كواحدة المثاني

له كبد كثالثة الأثافي

وما أحسن ما ناسب بين ألفاظ الأعداد وترقى فيها من الواحد إلى الثلاثة على ترتيبها، بمعنى يجمعها ويضم أطرافها. قال الباخرزي في الدمية: ولا يكاد ينقضي إعجابي بهذا البيت.

ومنه قول أبي منصور الثعالبي:

طالع يومي غير منحوس

فسقني يا طارد البوس

خمرا كعين الديك في روضة

كأنها حلة طاووس

وما ألطف وأبدع قول ابن مطروح:

لبسنا ثياب العناق

مزررة بالقبل

ومثله قول العماد التلمساني:

شقت عليك يد الأسى

ثوب الدموع إلى الذيول

وأبدع القاضي الفاضل في قوله:

في خده فخ لعطفة صدغه

والخال حبته وقليب الطائر

ومنه قول الأديب أبي القاسم بن العطار:

وسنان ما أن يزال عارضه

يعطف قلبي كعطفة اللام

لحاظه أسهم وحاجبه

قوس وإنسان عينه رام

وقول التهامي:

وعصابة مال الكرى برؤوسهم

ميل الصبا بذوائب الأغصان

ما أحلى ما ناسب بين العصابة والرؤوس والذوائب. قال الصفدي: وهذا المعنى والألفاظ تكاد ترقص لها السطور، وتحلى بدرره الترائب من الغواني والنحور.

وما أعلم مثله في بديع صناعته غير قول أبي الطيب المتنبي:

على سابح موج المنايا ببحره

غداة كأن النبل في صدره وبل

فإنه ناسب فيه بين السابح والموج، والبحر والوبل.

ومنه قول الأديب الفاضل شرف الدين يحيى العصامي من فضلاء العصر:

سفينة أشعار هي البحر درها

نتائج أفكار وشتى معارف

بها اللفظ كأس والمعاني مدامة

وما ذاق منها نشوة غير عارف

وعلى ذلك فما ألطف قوله أيضاً:

رأى سقم الكتاب فمال عنه

سقيم الجفن ذو حسن بديع

فقلت له فدتك النفس هلا

مراعاة النظير من البديع

ومما وقع لي من هذا النوع قولي من قصيدة طويلة مدحت بها الوالد:

كأن المذاكي المقربات يقودها

عرائس تجلى إذ يراد لها زف

وقد أسدلت من ثائر النقع دونها

ستور ولم يرفع لمسد لها سجف

فناسب بين العرائس والزف، والستور والأسدال والسجف.

ص: 198

وقولي في مطلع قصيدة أخرى خمرية:

طاف بدر الدجى بشمس الكؤوس

في نجوم من الندامى جلوس

وقلت بعده:

فكأن المدام في الكأس إذ تج

لى سراج يضيء في فانوس

قهوة عسجدية من كناها

بنت رأس مقرها في الرؤوس

هي لهو لنا إذا حلت الكا

سولاه في دنها للمجوس

لقبت بالعجوز وهي عروس

فاعجب اليوم للعجوز العروس

هذا المعنى ما أظن أني سبقت إليه، ولا زاحمني أحد عليه، وكررته في قصيدة خمرية أخرى.

فقلت:

جليت كالعروس وهي عجوز

من عذيري من العروس العجوز

وقلت بعد البيت السابق وفيه شاهد لما نحن فيه أيضاً:

قام يسعى بها كعين الديك ساق في حلة الطاووس

ذو دالالة يبدي نفيس جمال

فيفدى بغاليات النفوس

راضه السكر فاقتنى الرشأ الوحشي أنسا من خلقه المأنوس

بين حور من الحسان بدور

وحوال من الغواني شموس

ورياض بها الأقاح ثغور

يتبسمن في الزمان العبوس

يا ليالي الهنا إلينا فأنا

في زمان المدام من كل بوس

قد حسونا من السلاف رضابا

ورشفنا الثغور رشف الكؤوس

وجمحنا عن الهموم شماسا

مذ غدونا على الكميت الشموس

هذا أيضاً فيه حسن المناسبة بين الجموح والشماس، والكميت والشموس.

وأما النوع الثاني من مراعاة النظير، وهو ما كانت المناسبة فيه ظاهرية فأعظم شواهده قول أبي العلاء المعري:

وحرف كنون تحت راء ولم يكن

بدال يؤم الرسم غيره النقط

فإنه ناسب بين حروف الهجاء والرسم والنقط، ومقصوده غيرها، لأنه أراد (بالحرف) الناقة و (بالراء) الراكب الذي يضرب رئتها، و (بالدال) الرافق بها، و (بالرسم) رسم المنزل، و (بالنقط) المطر.

ومثله قوله أيضاً:

إذا صدق الجد افترى العم للفتى

مكارم لا تخفى وإن كذب الخال

فناسب في الظاهر بين الجد الذي هو أب الأب، والعم الذي هو أخوه، والخال الذي هو أخو الأم، وليس ذلك مقصوده، بل أراد (بالجد) الحظ و (بالعم) الجماعة من الناس، و (بالخال) الظن. ولا يخفى أن هذا النوع من التورية، وسيأتي الكلام عليه في محله إنشاء الله تعالى.

واعلم أن الشاعر متى أدخل بين الألفاظ المناسبة لفظا غير مناسب عد نقصا وعيبا كما عيب على أبي نواس قوله:

قد حلفت يمينا

مبرورة لا تكذب

برب زمزم والحو

ض والصفا والمحصب

فإن ذكر الحوض هنا غير مناسب للمذكورات، وإنما يناسب الحشر والميزان والسراط.

وكذا يعاب على الشاعر إذا قرن بين لفظين غير متناسبين. كما حكى ابن جني أنه اجتمع الكميت مع نصيب، فأنشد الكميت (هل أنت عن طلب الإيفاع منقلب) .

حتى إذا بلغ إلى قوله:

أم هل ظعائن بالعلياء نافعة

وإن تكامل فيها الدل والشنب

عقد نصيب بيده واحدا، فقال الكميت: ما هذا؟ فقال: أحصي خطأك تباعدت في قولك: الدل والشنب.

ألا قلت كما قال ذو الرمة:

لمياء في شفتيها حوة لعس

وفي اللثات وفي أنيابها شنب

وهذا مما يدلك على أن المحسنات البديعية كانت معتبرة عند العرب وأنهم يهتمون بها ويعدون خلافها خطأ وعيبا في الكلام.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:

تجار لفظ إلى سوق القبول بها

من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم

المناسبة فيه بين التجار والسوق، واللجة والجوهر.

وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:

يروي حديث الندى والبشر عن يده

ووجهه بين منهل ومبتسم

قال رفيق الناظم - أبو جعفر - شارح هذه البديعية: العنعنة في البيت ب (عن) تناسب الرواية في الحديث، والندى والبشر فيهما مناسبة الكرم. انتهى.

قال ابن حجة: هذا لعمري جهد من لا جهد له، وإلا فهذا البيت ما رأيت له وجها تظهر به مراعاة النظير، ولا بينه وبين النسبة البديعية نسب ثابت. انتهى.

وأنا أقول: إن المناسبة في البيت أظهر من أن تخفى، ولا أعلم كيف لم يبينها الشارح بأكثر مما ذكر. فإن بين الرواية والحديث وعن مناسبة - كما قال - وبين البشر والوجه والابتسام مناسبة أخرى ظاهرة لم ينبه عليها الشارح، ولم يرها ابن حجة، مع أن الأعمى إنما هو الناظم.

وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:

ص: 199