الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتبين بهذه الأمثلة المذكور سقوط ابن حجة: إن الإغراق لا يعد من المحاسن إلا إذا أقترن بما يقربه إلى القبول، كقد: للاحتمال، ولولا: للامتناع، وكاد: للمقاربة، ونحو ذلك. انتهى. فإن الأمثلة المذكورة ما خلي عن ذلك، وهو في غاية الحسن، فلا عبرة بقوله.
وبيت البديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
في معرك لا تثير الخيل عثيره
…
مما تروي المواضي تربه بدم
هذا البيت عامر بالمحاسن، والإغراق فيه ظاهر لإمكان معناه عقلا، واستحالة عادة.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لو قابل الشهب ليلا في مطالعها
…
خرت حياء وأبدت بر محترم
هذا البيت لكونه في مدح سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين كأن معناه ممكنا عقلا، ولو كان معناه ممكنا عقلا، ولو كان في مدح غيره لكان من باب
الغلو
.
وبيت البديعية عز الدين الموصلي قوله:
لو شاء إغراق وجه الأرض أجمعه
…
ندى يديه لأحياها ولم يضم
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
لو شاء إغراق من في الحق كذبه
…
لفاض إصبعه بالزاخر العمم
وبيت بديعيتي هو قولي:
لو أنه رام إغراق العداة له
…
لأصبح البر بحرا غير مقتحم
الإغراق في هذا البيت ظاهر، وهو أبلغ منه في بيت ابن حجة، لأنه قال (لو شاء إغراق من ناواه مد له في البر بحرا) وأنا قلت (لا نقلب البر بحرا) وبينهما بون بائن.
وبيت البديعية المقري قوله:
لولا غليل شفته الأرض من دمهم
…
شربا لما جت ببحر منه ملتطم
قال في شرحه معناه: لولا أن الأرض كان بها على قتلاه من الكفار غيظ وخنق فشفت غليلها منهم بشرب دمائهم كما يفعله المبالغون في العداوة لكانت الدماء من كثرتها تموج من فوقها بحرا. انتهى.
الغلو
ولا غلو إذا ما قلت عزمته
…
تكاد تثني عهود الأعصر القدم
الغلو هو أن تدعي لشيء وصفا بالغا حد الاستحالة عقلا وعادة. فتبين بهذا أن المبالغة دون الإغراق، والإغراق دون الغلو، لما مر من أن المدعي في المبالغة ممكن عقلا وعادة، وفي الإغراق ممكن عقلا ولا عادة، وفي الغلو مستحيل عقلا وعادة. والغلو أن أفضى إلى الكفر كان قبيحا مردودا، وإلا كان مقبولا، والمقبول يتفاوت في الحسن، وأحسنه ما دخل عليه ما يقر به إلى الصحة، ككاد، ولو، ولولا وحرف التشبيه كقوله تعالى (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) فإن إضاءة الزيت مع عدم مسيس النار مستحيلة عقلا وعادة، وبدخول (يكاد) خرج عن الامتناع، لأنها دلت على مقاربة الإضاءة لا وقوعها الذي هو المستحيل.
ومثله قول الفرزدق في علي بن الحسين عليه السلام:
يكاد يمسكه عرفان راحته
…
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه والغلو فيه مجازي:
أشكو ليالي غير معتبة
…
أما من طول أو من القصر
تطول في هجركم وتقصر في الوصل فما تلتقي على قدر
يا ليلة كاد من تقاصرها
…
يعثر فيه العشاء بالسحر
قيل أول ما بالغ في الشعر وكذب فيه المهلهل بقول:
ولولا الريح أسمع من بحجر
…
صليل البيض تقرع بالذكور
وهذا من الغلو، فإنه ممتنع عقلا وعادة، لأنه كان بين حجر وبين موضع الوقع عشرة أيام، ولهذا قيل فيه: أنه كذب بيت قالته العرب.
ومنه قول أبي العلاء المعري في شدة الحنين عند لمع البرق:
شجا ركبا وأفراسا وإبلا
…
وزاد فكاد أن يشجو الرحالا
وقوله أيضاً من هذه القصيدة:
تكاد قسيه من غير رام
…
تمكن في قلوبهم النبالا
تكاد سيوفه من غير سل
…
تجد إلى رقابهم انسلالا
وما أبدع قوله منها وهو مما نحن فيه:
يذيب الرعب منه كل عضب
…
فلولا الغمد يمسكه انسلالا
وفي معناه قول ابن المعتز:
يكاد يجري من القميص من ال
…
نعمة لولا القميص يمسكه
وقول أبي الشيص:
لولا التمنطق والسوار معا
…
والحجل والدملوج في العضد
لتزايلت من كل ناحية
…
لكن جعلن لها على عمد
ومنه أخذ ابن النبيه قوله:
لها معصم لولا السوار يصده
…
إذا حسرت أكمامها لجرى نهرا
ومثله قول بعضهم:
لها من الليل البهيم طرة
…
على جبين واضح نهاره
ومعصم يكاد يجري رقة
…
وإنما يعصمه سواره
وقال عبد العزيز بن عبد الرزاق في معناه:
قالت وقد صرت كطيف الخيال
…
كيف ترى فعل الدمى بالرجال
وسددت سهما إلى مقتلي
…
تقول هل فيك لدفع النصال
رقيقة الجسم فلولا الذي
…
يمسكه من قسوة القلب سال
وما ألطف قول شرف الدين الحلاوي يصف قدحا من أبيات:
رق فلولا الأكف تمسكه
…
سال مع الخمر حين ترشفه
وأبدع من ذلك كله وألطف قول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:
شرقت معاطفه بأمواه الصبا
…
وجرى عليه بضاضة ونعيم
قد كاد تشربه العيون لطافة
…
لكن سيف لحاظه مسموم
وقوله أيضاً في معناه:
رقت شمائله ورق أديمه
…
فيكاد تشربه عيون الناظر
ويعجبني جدا قول بعضهم في الخمر:
كادت تطير وقد طرنا بها
…
لولا الشباك التي صيغت من الحبب
وما أعجب قول بعضهم في الخمر:
أما الصبوح فإنه فرض
…
فإلى من يكحل جفنك الغمض
هذا الصباح بدت بشائره
…
ولخيله في ليله ركض
والليل قد شابت ذوائبه
…
وعذراه بالفجر مبيض
فانهض إلى حمراء صافية
…
قد كاد يشرب بعضها بعض
يستقيكها من كفه رشأ
…
لدن القوام مهفهف بض
سيان خمرته وريقته
…
كلتاهما عنبية محض
تدمي اللواحظ خده نظرا
…
للحظ في وجناته عض
من ضمه فتح السرور له
…
بابا وكان لعيشه الخفض
باهت وقد أبدى محاسنه
…
قمر السماء بحسنه الأرض
يسعى بها كالشمس مشرقة
…
للعين عن إشراقها غض
والكأس إذ تهوي بها يده
…
نجم بجنح الليل منقض
بات الندامى لا حراك بهم
…
إلا كما يتحرك النبض
في روضة يهدي لنا شقها
…
أرج الحبائب زهرها الغض
ختم الحيا أزهارها فغدا
…
بيد النسيم لختمها فض
فاشرب على حافتها طربا
…
وأنهض لها ما أمكن النهض
لا تنكرن لهوى على كبري
…
فعلي من عصر الصبا قرض
أعرى العذول بلومه شغفي
…
فكأنما إبرامه نقض
خالفته والرأي مختلف
…
شأني الوداد وشأنه البغض
مهلا فليس على الفتى دنس
…
في الحب ما لم يدنس العرض
وبديع قول ابن حمديس القلي في وصف فرس:
يجري ولمع البرق في آثاره
…
من كثرة الكبوات غير مفيق
ويكاد يخرج سرعة من ظله
…
لو كان يرغب في فراق رفيق
ومثله قول شمس الدولة عبدان:
أبت الحوافر أن يمس بها الثرى
…
فكأنه في جريه متعلق
فكأن أربعة تراهن طرفه
…
فتكاد تسبقه إلى ما يرمق
ولمؤيد الدين الطفرائي يصف خيلا:
سبقت حوافرها النواظر فاستوى
…
سبق إلى غاياتها وشفون
لولا ترائي الغايتين لأقسم ال
…
راؤن أن حراكها تسكين
وتكاد تشبهها البروق لو أنها
…
لم تعتلقها أأعين وظنون
وقال معاوية بن مرداس:
يكاد في شأوه لولا أسكنه
…
لو طار ذو حافر من قبله طارا
ومثله قول الآخر:
لو طار ذو حافر قبلها
…
لطارت ولكنه لم يطر
ومنه قول البحتري:
لو أن مشتاقا تكلف فوق ما
…
في وسعه لسعى إليك المنبر
ومنه أخذ المتنبي قوله:
لولا تعقل الشجر التي قابلتها
…
مدت محيية إليك الأغصنا
إلا أن بيت البحتري أحسن وأمكن.
حدث أحمد البلاذري المؤرخ قال: كنت من جلساء المستعين، فقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلا ممن قال: مثل قول البحتري في المتوكل (لو أن مشتاقا - البيت) فرجعت إلى داري، وأتيته وقلت: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري، فقال: هاته، فأنشدته:
ولو أن برد المصطفى إذ لبسته
…
يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال وقد أعطيته ولبسته
…
نعم هذه أعطافه ومناكبه
فقال ارجع إلى منزلك وأفعل ما آمرك به. فرجعت، فبعث إلي بسبعة آلاف دينار وقال: أدخر هذه للحوادث بعدي، ولك على الجراية والكفاية ما دمت حيا. انتهى.
قلت: ولعمري لقد أساء الأدب هذا الشاعر مع المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وسيجازيه الله تعالى على قلة أدبه. وهذا من الغلو القبيح المردود.
ومنه قول التمار الواسطي وقيل غيره:
قد كان لي فيما مضى خاتم
…
واليوم لو شئت تمنطقت به
وذبت من شوق فلو زج بي
…
في مقلة النائم لم ينتبه
وقول المظفر بن كيغلغ:
عبدك أمرضته فعده
…
أتلفه إن لم تكن ترده
ذاب فلو فتشت عليه
…
كفك في الفرش لم تجده
وقول ابن دانيال:
محب غدا جسمه ناحلا
…
يكاد لفرط الضنى أن يذوبا
ورق فلو حركته الصبا
…
لصار نسيما وعادت قضيبا
وقول بعضهم:
ولو شئت في طي الكتاب لزرتكم
…
ولم تدر عني أحرف وسطور
وقول الوزير ابن العميد:
لو أن ما أبقيت من جسمي قذى
…
في العين لم يمنع من الإغفاء
ومن هنا أخذ الشيخ جعفر الخطي من شعراء هذا القرن فقال:
لقد تضائل حتى لو قذفت به
…
في مقلة ما أحسته مآقيها
وأكثر من ذلك غلوا قول أبي عثمان الخالدي:
بنفسي حبيب بأن صبري ببينه
…
وأودعني الأحزان ليلا ودعا
وأنحلني بالهجر حتى لو أنني
…
قذى بين جفني أرمد ما توجعا
وتجاوز المتنبي أبعد من ذلك فقال:
أراك ظننت السلك جسمي فعقته
…
عليك بدر عن لقاء الترائب
ولو قلم ألقيت في شق رأسه
…
من السقم ما غيرت من خط كاتب
ومنه قول الشيخ جعفر الخطي رحمه الله:
وعبرة لو دعي نوح ليسلكها
…
بفلكه قال بسم الله مجريها
ومقلة ألفت فرط السهاد فلو
…
رد الرقاد عليها كاد يؤذيها
وقولي من أبيات خمرية:
رقت فلولا الكأس لم تبصر لها
…
جسما ولم تلمس براحة لامس
فكأنها عند المزاج لطافة
…
وهمٌ يخيله توهم هاجس
وقول الشريف الرضي رضي الله عنه:
لو أن قومك نصلوا أرماحهم
…
بعيون سربك ما أبل طعين
ومن أحسن أنواع الغلو أيضاً ما تضمن نوعا حسنا من التخييل، وإن لم يأت فيه بأداة التقريب، ومثل له الخطيب في الإيضاح والتلخيص بقول أبي الطيب:
عقدت سنابكها عليها عثيرا
…
لو تبتغي عنقا عليه لا مكنا
وتبعه على ذلك ابن حجة فقال: ومن الغلو المقبول بغير أداة التقريب قول أبي الطيب - وأنشد البيت - وأعترض ذلك بعض المتأخرين فقال: قد عدوا من أدوات التقريب (لو) وصرح بذلك ابن حجة في الإغراق فقال: ولم يقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز، ولا في الكلام الفصيح إلا مقرونا بما يخرجه من باب الاستحالة، ويدخله في باب الإمكان مثل (كاد) و (لو) وما يجري مجرهما، ثم قال: ومن شواهد تقريب نوع الإغراق (بلو) قول زهير:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
…
قوم لأولهم أو مجدهم قعدوا
قال (لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا) وهو محل الشاهد، فإن صدره لا غلو فيه البتة، فكيف يقال أنه من الغلو بغير أداة التقريب؟.
وقد جمع القاضي الأرجاني بين حسن التخييل وأداة التقريب في قوله:
يخيل لي أن سمر الشهب في الدجى
…
وشدت بأهدابي إليهن أجفاني
فقوله (يخيل) هي أداة التقريب، فإنه جعل المدعى توهما لا حقيقة وأما حسن التخييل فهو ما أدعاه من أنه لطول ليلة وشدة سهره يوقع في خياله أن الشهب محكمة بالمسامير لا تزول عن مكانها. وشدت أجفانه إليها بأهدابه لعدم انطباقها والتقائها، فجعل الأهداب بمنزلة الحبال. ولا خفاء بما في هذا التخييل من الحسن.
وإلى هذا المعنى لمح ابن نباتة في قوله - وإن لم يستوفه -:
كم ليلة بت أشكو من تطاولها
…
علي والليل داجي القلب كافره
وأرقب الشهب فيه وهي ثابتة
…
كأنما سمرت منها مسامره
ومن الغلو المقبول، ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة كقول أبي الشكر محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي المعروف بابن المحتسب من قصيدة:
أمر بالكرم خلف حائطه
…
تأخذني نشوة من الطرب
أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا إن ذا من العجب
فإن السكر في الأمس للعزم على الشرب في الغد محال، لكنه مقبول لإخراجه مخرج الهزل والخلاعة، وذلك مما تميل إليه الطباع.
وقول ابن الحجة أنه من الغلو الذي هو غير مقبول، فقد نص على ما ذكرناه الخطيب في كتابه، وغيره من المحققين، فلا عبرة بقوله.
ومنه قول أبي الحسن أحمد بن المؤمل:
وقائلة ما بالك بالدهر طافحا
…
وأنت مسن لا يليق به السكر
فقلت لها أفكرت في الخمر مرة
…
فاسكرني ذاك التوهم والفكر
ومن الغلو بغير أداة التقريب قول أبي نواس في الخمر:
فلما شربناها ودب دبيبها
…
إلى موضع الأسرار قلت لها قفي
مخافة أن يسطو على شعاعها
…
فيطلع ندماني على سري الخفي
قوله أيضاً:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه
…
لتخافك النطف التي لم تخلق
روي أن العتابي الشاعر لقي أبا نواس فقال: ما استحييت من الله بقولك (وأخفت أهل الشرك - البيت) فقال له أبو نواس: وأنت ما استحييت من الله بقولك:
ما زلت في غمرات الموت مطرحاً
…
يضيق عني وسيع الرأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي
…
حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
فقال العتابي: قد علم الله، وعلمت أن مثل هذا ليس قول مثلك، ولكنك قد أعددت لكل ناصح جوابا.
وقد استعمل أبو نواس معنى البيت ثانيا فقال:
حتى الذي في الرحم لم يك صورة
…
لفؤاده من خوفه خفقان
ومنه قوله أيضاً:
لا ينزل الليل حيث حلت
…
فدهر شرابها نهار
وقول الآخر:
منعت مهابتك القلوب كلامها
…
بالأمر تكرهه وإن لم تعلم
وقول النظام:
نظرت إليه نظرة فتحيرت
…
دقائق وهمي في جليل صفاته
فأومى إليه الوهم أني أحبه
…
فأثر ذاك الوهم في وجناته
وقوله أيضا:
حركات الضمير تؤثر في الخد
…
ويدميه وهم لحظ العيون
رق حتى لو لامسته أذابت
…
هـ بإيمائها يد المكنون
وقول أبي العتاهية في فرس للرشيد. حدث ابن الأعرابي قال: أجرى هارون الرشيد الخيل فجاء فرس يقال له المشمر سابقا، وكان الرشيد معجبا بذلك الفرس، فأمر الشعراء أن يقولوا فيه فبدرهم أبو العتاهية فقال:
جاء المشمر والأفراس يقدمها
…
عفوا على رسله منها وما انبهرا
وخلف الريح حسرى وهي جامدة
…
ومر يختطف الأبصار والنظرا
قال: فأجزل وصلته، وما جسر أحد بعد أبي العتاهية أن يقول شيئا.
وقول الآخر في فرس أيضا:
كم سابح أعددته فوجدته
…
عند الكريهة وهو نسر طائر
لم يرم قط بطرفه في غاية
…
إلا وسابقه إليها الحافر
وقول ابن حجاج في مرثية فرس له:
قال له البرق وقالت له الريح
…
جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال لا
…
إن شئت أضحكتكما منكما
هذا ارتداد الطرف قد فته
…
إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقول ابن خفاجة الأندلسي:
وأبلق خوار العنان مطهم
…
طويل الشوى والساق أقود أتلعا
جرى وجرى البرق اليماني عشية
…
فأبطأ عنه البرق عجزا وأسرعا
وحسب الأعادي أن يزجروا به
…
مغيرا غربا صبح القوم أبقعا
ومعنى البيت الأخير في غاية الحسن.
وقول الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله:
وأغر تبري الإهاب مورد
…
سبط الأديم محجل ببياض
وأخشى عليه أن يصاب بأسهمي
…
لما يسابها إلى الأغراض
وقوله أيضا:
وأدهم يقق التحجيل ذي مرح
…
يميس من عجبه كالشارب الثمل
مضمر مشرف الأذنين تحسبه
…
موكلا باستراق السمع عن زحل
ركبت منه مطاليلٍ تسير به
…
كواكب تلحق المحمول بالحمل
إذا رميت سهامي فوق صهوته
…
مرت بهاديه وانحطت عن الكفل
وقول الشيخ صلاح الدين الصفدي:
يا حسنه من أشقر قصرت
…
عنه بروق الجو في الركض
لا تستطيع الشمس من جريه
…
ترسمه ظلا على الأرض
فهذه الأمثلة كلها من نوع الغلو الذي لم يؤت فيه بأداة التقريب، ومنها البديع المستحسن، والمقبول غير المستهجن كما ترى، فظهر لك أن حسن الغلو غير مقصور على ما قرب من الإمكان بأداة التقريب كما زعم ابن حجة في شرح بديعيته.
ومن الغريب أن ابن حجة عد من أدوات التقريب (لو) كما مر ببيانه، ثم قال: ومن الغلو بغير أداة التقريب قول بعضهم:
قد كان لي فيما مضى خاتم
…
واليوم لو شئت تمنطقت به
وذبت حتى صرت لو زج بي
…
في مقلة النائم لم ينتبه
قال: ومثل هذا لا يقبله العقل، ولا عليه رونق القبول. انتهى. وقد ترى أن الغلو في هذين البيتين كليهما مقرون (بلو) فهل هذا إلا تناقض؟.
وأما الغلو المردود القبيح الذي يجب اجتنابه، ويهجر جنابه، فهو ما آل بصاحبه إلى الكفر والاستخفاف بقدرة الله تعالى، والمدح الذي لا يليق إلا بجنابه عز وجل، سواء قرن بشيء من أدوات التقريب أم لا.
كقول ابن دريد في مقصورته يخاطب الدهر:
ما رست من لو هوت الأفلاك من
…
جوانب الجو عليه ما شكا
يقال: أنه أصابه فالج بطل له من محزمه إلى قدمه، فكان إذا دخل عليه الداخل صاح وتألم لدخوله وإن لم يصل إليه. قال تلميذه أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: فكنت أقول في نفسي أن الله عز وجل عاقبه لقوله المذكور، فكان يصيح لذلك صياح من يمشي عليه، أو يشك بالمسال؛ أعاذنا الله من ذلك.
ويقرب من ذلك ما حكي أن الشيخ عمر بن الفارض لما نظم قوله:
وبما شئت في هواك اختبرني
…
فاختباري ما كان فيه رضاكا
ابتلي بحصر البول، حتى أنه صار يأتي للصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.
ومن غلو ابن دريد القبيح في مقصورته هذه قوله أيضاً في ممدوحه:
ولو حمى المقدار عنه مهجة
…
لرامها أو يستبيح ما حمى
تغدو المنايا طائعات أمره
…
ترضى الذي يرضى وتأبى ما أبى
وقول أبي العتاهية:
فإذا أضرم حربا كان في
…
مهج القوم شريكا للقدر
وقول علي بن جبلة المعروف بالعكوك:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها
…
وتنقل الدهر في حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد
…
إلا قضيت بأرزاق وآجال
وبهذين البيتين استحل المأمون دم الشاعر المذكور.
ذكروا أن المأمون لما بلغه قول علي بن جبلة في أبي دلف:
كل من في الأرض من عرب
…
بين باديه ومحتضره
مستعير منك مكرمة
…
يكتسيها يوم مفتخره
استشاط من ذلك وغضب غضباً شديداً وقال: ويلي على ابن الفاعلة، يزعم أنا لا نعرف مكرمة إلا مستعارة من أبي دلف وقال: اطلبوه حيث ما كان، وأتوني به. فطلبوه ولم يقدروا عليه، لأنه كان مقيما بالجبل. فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة الفراتية، حتى توسط الشامات فظفروا به وأخذوه، وحمل مقيدا إلى المأمون. فلما صار بين يديه قال: يابن اللخناء أنت القائل في قصيدتك للقاسم بن عيسى - وهو أبو دلف - (كل من في الأرض من عرب) وأنشد البيتين، جعلتنا ممن يستعير المكارم منه يوم الافتخار؟ قال: يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاس بكم، لأن الله اختصكم لنفسه على عباده، وآتاكم الكتاب والحكم وآتاكم ملكا عظيما. وإنما ذهبت في قولي إلى أقران وأشكال القاسم بن عيس من الناس. فقال: والله ما أبقيت أحدا، ولقد أدخلتنا في الكل، وما استحل دمك بكلمتك هذه، ولكن استحله بكفرك في شعرك، حيث قلت في عبد ذليل مهين فأشركت بالله وجعلت معه ملكاً قادراً، وهو (أنت الذي تنزل الأيام منزلها) وأنشد البيتين.
ثم قال: أخرجوا لسانه من قفاه، فمات، وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد.
والشعراء المشهورون بالاستكثار من الغلو المردود والقبيح: أبو نواس وأبو الطيب المتنبي، وابن هاني الأندلسي وهو أشهرهم بذلك، وأبو العلاء المعري، والمتأخرين ابن النبيه.
فمن غلو أبي نواس القبيح قوله يمدح الفضل بن العباس:
يداه في الأرض والسماء فما
…
تجوز قطريه كف مخلوق
وقوله في الرشيد:
فلا يتعذرن عليك عفو
…
وسعت به جميع العالمينا
وهذا إنما هو عفو الله سبحانه لا عفو الرشيد.
وقوله فيه أيضاً:
يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكا
…
تقبيل راحته والركن سيان
وقوله في الغزل:
متتايه بجماله صلف
…
لا يستطاع كلامه تيها
للحسن في وجناته بدع
…
ما إن ميل الدرس قاريها
لو كانت الأشياء تعقله
…
أجللته إجلال باريها
وقال أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر عند ذكره ما نعي على أبي الطيب المتنبي من معائب شعره ومقابحه: منها الإفصاح عن ضعف العقيدة، ورقة الدين. على أن الديانة ليست عيارا على الشعر، ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشعر، ولكن الإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به، قولا وفعلا ونظما ونثرا، ومن استهان بأمره، ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى، وتعرض لمقته في وقته.
وكثيرا ما قرع المتنبي هذا الباب بمثل قوله:
يترشفن من فمي رشفات
…
هن فيه أحلى من التوحيد
قلت: وقال أبو الفتح بن جني: أنه أنشده حلاوة التوحيد، أي هي عندي مثل حلاوة التوحيد. وأبعد وأغرب بعض الشراح حيث جعل التوحيدي بياء النسبة، وقال: أنه نوع من التمر.
وقوله:
تتقاصر الإفهام عن إدراكه
…
مثل الذي الأفلاك فيه والدنى
وقد أفرط جداً، لأن الذي الأفلاك فيه والدنى هو علم الله تعالى.
وقوله:
الناس كالعابدين آلهة
…
وعبده كالموحد اللاها
وقوله:
لو كان علمك بالإله مقسما
…
في الناس ما بعث الإله رسولا
أو كان لفظك فيهم ما أنزل ال
…
توراة والفرقان والإنجيلا
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه
…
لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان صادف رأس عازر سيفه
…
في يوم معركة لاعيا عيسى
عازر: اسم الرجل الذي أحياه المسيح عليه السلام:
أو كان لج البحر مثل يمينه
…
ما أنشق حتى جاز فيه موسى
وكأن المعاني أعيته حتى التجأ إلى استصغار أمور الأنبياء عليهم السلام وفي هذه القصيدة:
يا من نلوذ من الزمان بظله
…
أبدا ونطرد باسمه إبليسا
وقوله وقد جاوز حد الإساءة:
أي محل أرتقى
…
أي عظيم اتقى
وكل ما قد خلق ال
…
له وما لم يخلق
محتقر في همتي
…
كشعرة في مفرقي
وقبيح بمن أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بينهما محمل العذرة، أن يقول مثل هذا الكلام.
ومن غلو ابن هاني الشنيع قوله في المعز لدين الله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
…
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد
…
وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا به
…
في كتبها الأحبار والأخبار
ومنها:
جلت صفاتك أن تحد بمقول
…
ما يصنع المصداق والمكثار
وقوله فيه من أخرى:
هذا ضمير النشأة الأولى التي
…
بدأ الإله وغيبها المكنون
من أجل هذا قدر التقدير في
…
أم الكتاب وكون التكوين
وبذا تلقى آدم من ربه
…
عفوا وفاء ليونس اليقطين
لو يلتقي الطوفان قبل وجوده
…
لم ينج نوحا فلكه المشحون
ومنها يخاطبه:
والنور أنت وكل نور ظلمة
…
والفوق أنت وكل قدر دون
لو كان رأيك شائعا في أمة
…
علموا بما سيكون قبل يكون
وقوله من أخرى فيه أيضا:
وعلمت من مكنون علم الله ما
…
لم يؤت جبريلا وميكائيلا
لو كنت آونة نبيا مرسلا
…
نشرت بمبعثك القرون الأولى
أو كنت نوحا منذرا في قومه
…
ما زادهم بدعائه تضليلا
لله فيك سريرة لو أظهرت
…
أحيا بذكرك قاتل مقتولا
لو كان آتى الخلق ما أوتيته
…
لم يخلق التشبيه والتمثيلا
لولا حجاب دون علمك حاجز
…
وجدوا على علم الغيوب سبيلا
وقال وأساء في المقال:
وجد العيان سناك تحقيقا ولم
…
تحط الظنون بكنهه تصريحا
أخشاك تنسي الشمس مطلعها كما
…
أنسى الملائك ذكرك التسبيحا
أقسمت لولا أن دعيت خليفة
…
لدعيت من بعد المسيح مسيحا
شهدت بمعجزك السماوات العلى
…
وتنزل القرآن فيك مديحا
وقوله وقد تجاوز الحد:
أتبعته فكري حتى إذا بلغت
…
غاياتها بين تصويب وتصعيد
رأيت موضع برهان يبين وما
…
رأيت موضع تكييف وتحديد
وهذا مدح يليق بالخالق سبحانه لا بالمخلوق، وهو في شعره كثير جدا حتى قال القاضي ابن خلكان في ترجمته: ولولا ما في ديوانه من الغلو في المدح والإفراط المؤدي إلى الكفر لكان من أحسن الدواوين. وليس من المغاربة من هو في طبقته، لا من متقدميهم ولا متأخريهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق. وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين والله أعلم.
ومن غلو أبي العلاء المعري قوله في قصيدة:
ولولا قولك الخلاق ربي
…
لكان لنا بطلعتك افتتان
وقوله أيضاً من أخرى:
خاضعات لك الكواكب تختص
…
مواليك بالمحل الأثير
لا يؤثرن في الولي ولا الحاسد حتى تشير بالتأثير
ومنها في تهنئة ممدوحه بالزواج:
كنت موسى وافتك بنت شعيب
…
غير أن ليس فيكما من فقير
وقوله:
وقد علمت هذي البسيطة أنها
…
تراثك فلتشرف بذاك وتزدد
وإن شئت فأرغم من فوق ظهرها
…
عبيدك واستشهد إلهك يشهد
نعوذ بالله من هذا الغلو القبيح، فإن فوق الأرض من عباد الله الأخيار والصلحاء الأبرار، والأقطاب والإبدال، ما لا يعلمهم إلا الله تعالى، فما له يقول هذا القول الشنيع الذي تصم منه الأسماع، وتنفر منه الطباع.
ومنه قوله أيضاً:
فلو زار أهل الخلد عتبك زورة
…
لأوهمهم أن الجنان جحيم
وقوله في رثاء فقيه:
واكسواه الأكفان من ورق المص
…
حف كبرا عن أنفس الأبراد
ومن غلو ابن النبيه قوله يمدح الخليفة الناصر لدين الله:
بغداد مكننا وأحمد أحمد
…
حجوا إلى تلك المناسك واسجدوا
يا مذنبين ضعوا بها أوزاركم
…
وتطهروا بترابها وتهجدوا
فهناك من جسد النبوة بضعة
…
بالوحي جبري لها يتردد
باب النجاة مدينة العلم التي
…
ما زال كوكب هديها يتوقد
هذا هو الستر الذي بهر الورى
…
في ظهر آدم والملائك سجد
هذا الذي يسقي العطاش بكفه
…
والحوض ممتنع الحمى لا يورد
هذا الصراط المستقيم حقيقة
…
من زل عنه ففي جهنم يخلد
ومنها وقد جاوز الحد:
يا من لمبغضه الجحيم قراراة
…
ولمن يواليه النعيم السرمد
لولا التقية كنت أول معشر
…
غالوا فقالوا أنت رب تعبد
وقوله من أخرى فيه:
له على سرِّ سرِّ الغيب مطلع
…
فما موارده إلا مصادره
يقضي بتفضيله سادة عترته
…
لو كان صادقه حيا وباقره
كل الصلاة خداج لا تمام لها
…
إذا تقضت ولم يذكره ذاكره
كل الكلام قصير عن مناقبه
…
إلا إذا نظم القرآن شاعره
وقوله من أخرى فيه:
فيك سر لوه ما قسم الل
…
هـ على الناس جنة وسعيرا
قد هدانا بك السبيل فإما
…
مؤمنا شاكراً وإما كفورا
وقوله في الملك الأشرف:
ملك له الفضل على آدم
…
والفضل لا يكسب بالمولد
لو لم تر الأملاك في صلبه
…
غرته الغراء لم تسجد
ومن هذا النمط في شعره كثير وهو مشهور بذلك، فلا حاجة إلى الإكثار منه.
ومن الغلو القبيح، قول عضد الدولة:
ليس شرب الراح إلا في المطر
…
وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى
…
ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها
…
ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها
…
ملك الأملاك غلاب القدر
يقال أنه ما عاش بعد هذه الأبيات إلا قليلا، ولما احتضر لم يكن لسانه ينطق إلا بتأوه (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) ومنه أيضاً قول الشيخ جعفر الخطي من شعراء هذا القرن:
وزفرة لو ثوى يوم الخليل بها
…
أودى ولم يغن عنه برده فيها
ومنها:
ماذا على الطير إذ أبلى الضنا جسدي
…
فخف لو حملتني في خوافيها
أن تقعد الطير عن حملي لكم وسرت
…
ريح الصبا فاطلبوني في مساريها
تلقي لكم جسدا لو أن علته
…
يدعى المسيح لها ما كان يبريها
وأنا استغفر الله تعالى من إثبات هذه الأشياء، فليحذر الأديب الأريب الوقوع في مثل ذلك، وليتجنب هذه المسالك، فأن عن ذلك للشاعر مندوحة، ولا يعود عليه إلا منه إلا المقت من رحمة الله وخلقه. (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) .
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
عزيز جار لو الليل استجار به
…
من الصباح لعاش الناس في الظلم
هذا الغلو في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم بديع مقبول، لائحة عليه إشارات القبول، لا كقوله في ممدوحه:
ولو أتاه الليل مستجيرا
…
آمنه من سطوات الفجر
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
تكاد تشهد أن الله أرسله
…
إلى الورى نطف الأبناء في الرحم
هذا الغلو في مديحه عليه وآله الصلاة والسلام أيضاً حسن مقبول، لو لم يشنه بذكر الرحم والنطف الذي لا يليق بالمديح النبوي.
وبيت بديعية عز الدين الموصلي قوله:
في مدحه نفحات لا غلو بها
…
يكاد يحيي شذاها بالي الرمم