المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أقول: قول أبي الإصبع: إن هذا النوع من مخترعاته، إن - أنوار الربيع في أنواع البديع

[ابن معصوم الحسني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌أنوار الربيع في أنواع البديع

- ‌حسن الابتداء وبراعة الاستهلال

- ‌الجناس المركب والمطلق

- ‌الجناس الملفق

- ‌الجناس المذيل واللاحق

- ‌الجناس التام والمطرف

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب

- ‌الجناس المعنوي

- ‌الاستطراد

- ‌الاستعارة

- ‌المقابلة

- ‌وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي

- ‌الافتنان

- ‌اللف والنشر

- ‌الالتفاف

- ‌الاستدراك

- ‌تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني

- ‌ حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر

- ‌ الجزء الثاني

- ‌الإبهام

- ‌الطباق

- ‌إرسال المثل

- ‌الأمثال السائرة

- ‌التخيير

- ‌النزاهة

- ‌الهزل المراد به الجد

- ‌التهكم

- ‌تنبيهان

- ‌القول بالموجب

- ‌التسليم

- ‌الاقتباس

- ‌المواربة

- ‌التفويف

- ‌الكلام الجامع

- ‌المراجعة

- ‌المناقصة

- ‌المغايرة

- ‌الجزء الثالث

- ‌تتمة باب المغايرة

- ‌التوشيح

- ‌التذييل

- ‌تشابه الأطراف

- ‌التتميم

- ‌الهجو في معرض المدح

- ‌الاكتفاء

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌الاستثناء

- ‌مراعاة النظير

- ‌التوجيه

- ‌التمثيل

- ‌عتاب المرء نفسه

- ‌القسم

- ‌حسن التخلص

- ‌الإطراد

- ‌العكس

- ‌الترديد

- ‌المناسبة

- ‌الجمع

- ‌الانسجام

- ‌تناسب الأطراف

- ‌ائتلاف المعنى مع المعنى

- ‌المبالغة

- ‌ الإغراق

- ‌ الغلو

- ‌التفريق

- ‌التلميح

- ‌العنوان

- ‌التسهيم

- ‌التشريع

- ‌المذهب الكلامي

- ‌نفي الشيء بإيجابه

- ‌الرجوع

- ‌تنبيهات

- ‌تجاهل العارف

- ‌الاعتراض

- ‌حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

- ‌التهذيب والتأديب

- ‌الاتفاق

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌المماثلة

- ‌التوشيع

- ‌التكميل

- ‌شجاعة الفصاحة

- ‌التشبيه

- ‌الفصل الأول في الطرفين

- ‌الفصل الثاني في الوجه

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الثالث في الغرض

- ‌الفصل الرابع في الأحوال

- ‌الفصل الخامس في الأداة

- ‌الفرائد

- ‌التصريع

- ‌الاشتقاق

- ‌السلب والإيجاب

- ‌المشاكلة

- ‌ما لا يستحيل بالانعكاس

- ‌التقسيم

- ‌الإشارة

- ‌تشبيه شيئين بشيئين

- ‌الكناية

- ‌الترتيب

- ‌المشاركة

- ‌التوليد

- ‌الإبداع

- ‌الإيغال

- ‌النوادر

- ‌التطريز

- ‌التكرار

- ‌التنكيت

- ‌حسن الإتباع

- ‌الطاعة والعصيان

- ‌البسط

- ‌المدح في معرض الذم

- ‌الإيضاح

- ‌التوهيم

- ‌الألغاز

- ‌الإرداف

- ‌الاتساع

- ‌التعريض

- ‌جمع المؤتلف والمختلف

- ‌الإيداع

- ‌تنبيهات

- ‌المواردة

- ‌الالتزام

- ‌المزاوجة

- ‌المجاز

- ‌التفريع

- ‌التدبيج

- ‌التفسير

- ‌التعديد

- ‌حسن النسق

- ‌حسن التعليل

- ‌التعطف

- ‌الاستتباع

- ‌التمكين

- ‌التجريد

- ‌إيهام التوكيد

- ‌الترصيع

- ‌التفصيل

- ‌الترشيح

- ‌الحذف

- ‌التوزيع

- ‌التسميط

- ‌التجزئة

- ‌سلامة الاختراع

- ‌تضمين المزدوج

- ‌ائتلاف اللفظ مع المعنى

- ‌الموازنة

- ‌ائتلاف اللفظ مع الوزن

- ‌ائتلاف الوزن مع المعنى

- ‌ائتلاف اللفظ مع اللفظ

- ‌الإيجاز

- ‌التسجيع

- ‌تنبيهات

- ‌التسهيل

- ‌الإدماج

- ‌الاحتراس

- ‌حسن البيان

- ‌العقد

- ‌تنبيهات

- ‌التشطير

- ‌المساواة

- ‌براعة الطلب

- ‌حسن الختام

- ‌كلمة الختام للمؤلف

الفصل: أقول: قول أبي الإصبع: إن هذا النوع من مخترعاته، إن

أقول: قول أبي الإصبع: إن هذا النوع من مخترعاته، إن أراد أول من عده من أنواع البديع وذكره في كتابه فمسلم، وإن أراد أنه أول من اخترعه وسماه بهذا الاسم فليس بصحيح، فإن كتب المتقدمين في علم البيان لا يكاد يخلو كتاب منها من هذا النوع، لكنهم يذكرونه في بحث الاستعارة عند ذكر الاستعارة التهكمية، وهذا جار الله الزمخشري، أقدم من ابن الإصبع بمائة سنت، نص على هذا النوع باسمه في كشافه، فقال في تأويل قوله تعالى:"له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" تهكم، فإن المعقباب هم الحرس من حول السلطان، يحفظونه بزعمه من أمر الله، على سبيل التهكم فإنهم لا يحفظونه إذا جاء، والله أعلم. ولا أظن أن ابن الإصبع أراد بقوله أنه من مخترعاته إلا ما ذكرناه أولا، فإن مثله لا يخفى عليه هذا المقدار وإنما نبهنا على ذلك لئلا يتوهم من كلامه أنه من مخترعاته بالمعنى الثاني والله أعلم. وقول ابن أبي حجة: فكان أبا عذرته، فيه غلط لفظي، فإن العذرة إذا أضيفت حذفت تاؤها إجماعا، فيقال: أبو عذرها، كما يقال: ليت شعري، وأقام الصلاة.

قال بعضهم:

ثلاثة تحذف تاءآتها

مضافة عند جميع النحاة.

منها إذا قيل أبو عذرها

وليت شعري وأقام الصلاة.

ولا يحتمل أن يكون الغلط من الناسخ، لأن السجعة في القرينة الثانية وهي قوله: فارس حلبته، ينتفي معها هذا الاحتمال.

الثاني-الفرق بين هذا النوع، وبين النوع الذي قبله، هو الهزل الذي يراد به الجد، إن هذا ظاهره جد، وباطنه هزل، وذاك بالعكس. والفرق بينه وبين الهجاء في معرض المدح، فإن ظاهره لا يدل إلا على المدح، حتى يقترن به ما يفهم أن المقصود الهجو، وهذا الفرق أحسن من غيره، فإنه أوفى بالمراد.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:

محضت لي النصح إحسانا إلي بلا

غش وقلدتني الأنعام فاحتكم.

قال ابن حجة: لم يظهر لي من هذا البيت غير صريح المدح والشكر، ولم أجد فيه لفظة تدل على الحقارة والاستهزاء، ولا على الوعد في موضع الوعيد، ولم يشر في بيته إلى نوع من هذه الأنواع. انتهى.

أقول: قد عدوا من التهكم قوله تعالى- حكاية عن قوم شعيب مخاطبين له- "إنك لأنت الحليم الرشيد" وظاهره أنه ليس في هذا لفظة تدل على الحقارة، وإنما أفهم التهكم المقام، وكذا بيت الصفي الحلي؛ فإنه خطاب للعاذل؛ والعاشق لا يخاطب عاذله بمثل هذه الألفاظ إلا متهكما مستهزئا به فاعلم.

وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:

لقد تهكمت فيما قد منحتك من

قولي بأنك ذو عز وذو كرم.

وابن جابر الأندلسي لم ينظم هذا النوع في بديعيته.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

ذل العذول بهم وجدا فقلت له

تهكما أنت ذو عز وذو شمم.

قال ناظمه في شرحه: فخاطب العذول هنا بلفظ العز والشمم، بعد قولنا: ذل؛ ووقوف العاذل في موقف المذلة؛ هو التهكم بعينه. انتهى.

أقول: لا يخفى أن التهكم إنما هو الكلام الذي يواجه به المتهكم عليه ويخاطب، والكلام الذي تهكم به ابن حجة على عاذله، وخاطبه به هو قوله:(أنت ذو عز ذو شمم) فقط، وأما سائر البيت، فحكاية حال، وإخبار بأنه إنما خاطبه بذلك حال ذله؛ وليس البيت كله خطابا للعاذل، فالسامع له حال مخاطبته لعاذله: بأنك ذو عز وذو شمم، لا يظهر له غير صريح المدح لكنه يفهم من المقال أن هذا استهزاء به، وليس في اللفظ ما يشير إلى انه تهكم. فقد وقع فيما انتقد به على الصفي بعينه، فتأمله فإنه نقد دقيق.

وبيت الطبري تقدم إنشاده في نوع الإبهام، فإنه جمع بينه وبين التهكم في بيت واحد، على أنه أخذ مصراع التهكم من بيت ابن حجة فقال:

أذقت إبهام ما يرضي الفؤاد فسد

تهكما أنت ذو عز وذو عظم.

وبيت بديعيتي قولي:

تهكما قلت للواشين لي بهم

لقد هديتم لفصل القول والحكم.

فخاطب الواشين هو عين التهكم.

وبيت بديعية شرف الدين إسماعيل المقري قوله:

بالغت في النصح لا شك يداك فزد

فكلما زدت نصحا زدت في التهم.

‌القول بالموجب

.

قالوا وقد زخرفوا قولا بموجبه

فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم.

ص: 123

هذا نوع من البيع غريب المعنى؛ لطيف المبنى؛ راجح الوزن في معيار البلاغة، مفرغ الحسن في قالب الصياغة، وهو الأسلوب الحكيم رضيعا لبان، فرسا رهان؛ حتى زعم بعضهم أن أحدهما عين الأخر، وليس كذلك، بل بينهما فرق كما سنبينه فيما بعد، مع مشيئة الله تعالى.

ولهم في تعريف هذا النوع عبارات مختلفة، فقال ابن أبي الأصبع: انه عبارة أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام أخر، فيعمد المخاطب إلى كلمة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظها ما يوجب عكس معنى المتكلم، وذلك عين القول بالموجب، لأن حقيقته، رد الخصم كلام خصمه من فحوى كلامه. وقال بعضهم: هو أن تخصص الصفة بعد أن كان ظاهرها العموم، أ، تقول بالصفة الموجبة للحكم، ولكت تثبتها لغير من أثبتها المتكلم. انتهى.

قال في عروس الأفراح: وهو قريب من القول بالموجب المذكور في الأصول والجدل، وهو تسليم الليل مع بقاء النزاع. انتهى.

وقسمه الخطيب في التلخيص؛ والإيضاح؛ إلى ضربين؛ أحدهما- أن تقع صفة في كلام الغير؛ كناية عن شيء أثبت له الحكم؛ فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء؛ من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم له وانتفائه عنه، كقوله:(لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن إلا عز منها إلا ذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) . فأنهم كنوا بالأعز عن فريقهم، وبالإذل عن فريق المؤمنين، وأثبتوا للأعز الإخراج، فأثبت الله سبحانه وتعالى في الرد عليهم صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ من غير تعرض لثبوت الإخراج للموصوفين بصفة العزة؛ ولا لنفيه عنهم.

والثاني- حمل كلام وقع في كلام الغير على خلاف مراده؛ مما يتحمله بذكر متعلقه.

كقوله:

قد ثقلت إذا أتيت مرارا

قال ثقلت كاهلي بالأيادي.

قلت طولت قال لا بل تطول

ت وأبرمت قلت حبل ودادي.

والاستشهاد بقوله: (ثقلت) و (أبرمت) دون قوله: (طولت) .

ومنه قول القاضي الأرجاني:

غالطتني إذا كست جسمي الضنا

كسوة أعرت من اللحم العظاما.

ثم قالت أنت عندي في الهوى

مثل عيني صدقت لكن سقاما.

انتهى كلام الخطيب في الإيضاح.

قال الحافظ السيوطي: ولم أرى من أورد لهذا الضرب مثالا من القرآن وقد ظفرت بآية منه، وهي قوله تعالى:(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل إذن خير لكم) . انتهى.

وسبقه إلى ذلك الطيبي في التبيان، فقال بعد تلاوة الآية: كأنه قيل نعم، هو أذن ولكن نعم الأذن، أي هو أذن ما قلتم، إلا أنه أذن خير لا أذن سوء؛ فسلم لهم قولهم فيهم؛ إلا أنه فسره بما هو مدح له، وإن كان قصدوا به المذمة، ولا شيء أبلغ في الرد من هذا الأسلوب، لأن فيه إطماعا في الموافقة، وكرا إلى إجابتهم في الإبطال، وهو كالقول في بالموجب في الأصول. انتهى.

والأذن: الرجل الذي يصدق كل ما سمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كأن جملته أذن سامعة.

قلت: وهذا الضرب الثاني من هذا النوع، هو الذي نظمه أرباب البديعيات وتداوله أهل الأدب؛ وحذاق البديع أخلوا هذا النوع من لفظه (لكن) وخصوا بها نوع الاستدراك، ليحصل الفرق بينهما.

ومن عجيب هذا النوع؛ ما حكاه الشريف المرتضى علم الهدى في الغرر والدرر، قال: روي أنه لما نزل خالد بن الوليد على الحيرة، وتحن منه أهلها، أرسل إليهم أن بعثوا إلي رجلا من عقلائهم، وذوي أنسابكم، فبعثوا إليه عبد المسيح بن بقيلة، فأقبل يمشي حتى دنا من خالد بن الوليد، فقال: أنعم صباحا أيها الملك، قال: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، فمن أين أقصي أثرك أيها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي، فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي، فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل لا عقلت، قال: أي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد، قال خالد: ما رأيت كاليوم قط، إني أسأله عن الشيء وينحو في غيره، قال: ما أنبائك إلا عما سألت فسل عما بدا لك.

ص: 124

هذا موضع الشاهد من الخبر، إن خالد بن الوليد قال له: أرب أنتم أم نبيط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبيط استعربنا، قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: بل سلم، قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها لسفيه نحذر منه، حتى يجيء الحليم ينهاه، قال: كم أتى لك؟ قال: خمسون وثلثمائة سنة، قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرآة من أهل الحيرى تضع مكلتها على رأسها، ولا تزود إلا رغيفا واحدا حتى تأتي الشام، ثم قال أصبحت اليوم خرابا، وذلك دأب الله في العباد والبلاد. قال: ومعه سم ساعة يقلبه في كفه، قال له خالد: ما هذا في كفك؟ قال: هذا السم، قال: وما تصنع به؟ قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته، وإن كانت الأخرى، لم أكن أول من ساق إليهم ذلا، أشربه وأستريح من الحياة، فإن ما بقي من عمري إلا اليسير، قال خالد: هاته، فأخذه وقال: بسم الله وبالله رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء، ثم أكله، فتجللته غشية، ثم ضرب بذقنه في صدره طويلا، ثم عرق وأفاق كأنما نشط من عقال. فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره، صانعوا القوم، وأخرجوهم عنكم، فإن هذا أمر مصنوع لهم. فصالحوهم على مائة ألف درهم. انتهى.

ونحو ذلك ما حكي أن رجلا قال لهشام القرطبي: كم تعد؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، لم أرد هذا، كم تعد من السن؟ قال: اثنين وثلاثين، ستة عشر من أعلى، وستة عشر من أسفل، قال: لم أرد هذا كم لك من السنين؟ قال: عظم، قال: أبن لي ابن كم أنت؟ قال: قال: ابن اثنين رجل وامرأة، قال: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء قتلني، قال: فكيف أقول؟ قال: تقول: كم مضى من عمرك.

ومن هذا النمط، ما حكي: أن المتوكل كان مشرفا من قصره الجعفري فتعرض له أبو العبر؛ وقميصه سراويل، فقال المتوكل: علي بهذا المثلة، فلما مثل بين يديه، قال له أنت شارب؟ قال: لا، بل عنفقة يا أمير المؤمنين، قال: إني واضع في رجلك الأدهم، ونافيك إلى فارس، قال: اجعل في رجلي الأشهب، وانفني إلى راجل؛ قال: أتراني قي قتلك مأثوم؟ قال: لا، بل ماء بصل يا أمير المؤمنين، فضحك منه ووصله.

ولأبي العبر هذا ترجمة في الأغاني، واسمه محمد، من ولد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كان شاعرا متوسطا، يميل إلى الهزل والحماقة، وكان يتباله ويتحامق عمدا، فنفق على الناس، وحصل مالاً عظيماً.

ومن شعره في الجد:

لا أقول الله يظلمني

كيف أشكو غير متهم.

وإذا ما الدهر ضعضعني

لم يجدني كافر النعم.

قنعت نفسي بما رزقت

وتناهت في العلى هممي.

ليس لي مال سوى كرمي

فيه لي أمن من العدم.

قال أبو العيناء: أنشدت أبا العبر قول المأمون:

ما الحب إلا قبلة

وغمز كف وعضد.

أو كتب فيها رقى

أنفذ من نفث العقد.

ما الحب إلا هكذا

إن نكح الحب فسد.

فقال لي كذب المأمون، وأكل من الخرا رطلين بالميزان، ألا قال كما قلت:

وباض الحب في قلبي

فيا ويلي إذا فرخ.

وما ينفعني حبي

إذا لم أكنس البربخ.

وإن لم يطرح الأصل

ع خرجيه على المطبخ.

ثم قال لي: كيف رأيت؟ قلت عجبا من العجب، فقال: ظننت أنك تقول: غير هذا؛ فأبل يدي ثم ارفعها. ثم سكت؛ فبادرت وانصرفت.

وكان يجلس في بيته وتجتمع عنده المجان؛ فيملي عليهم أشعاره ويحدثهم؛ فمن ضحك أمر أن يحبس في الكنيف؛ ولا يخرج حتى يغرم درهمين، ونوادره كثيرة.

رجع- ومن شواهد هذا النوع في النظم قول ابن نباتة:

وملولة في الحب لما أن رأت

أثر السقام بعظمي المنهاض.

قالت تغيرنا فقلت لها نعم

أنا بالسقام وأنت بالأعراض.

ولعله من قول الوراق:

قال صديقي ولم يعدني

وعامل السقم في أثر.

لقد تغيرت يا صديقي

ويعلم الله من تغير.

وبديع قول أبي المحاسن الشواء في هذا النوع:

ولما أتاني العاذلون

عدمتهم

وما فيهم إلا للحمي قارض.

قد بهتوا لما رأوني شاحبا

قالوا به عين فقلت وعارض.

ومنه أخذ ابن النقيب قوله:

وما بي سوى عين نظرت لحسنه

وذاك لجهلي بالعيون وغرتي.

ص: 125

وقالوا به في الحب عين ونظرة

لقد صدقوا عين الحبيب ونظرتي.

وأصله من قول الأول:

وجاءوا إليه بالتعاويذ والرقى

وصبوا عليه الماء من ألم النكس.

وقالوا به من أعين الجن نظرة

ولو صدقوا قالوا به نظرة الإنس.

ولمؤلفه عفا الله عنه:

وقالوا به صفراء يرجى زوالها

لقد صدقوا صفراء من خرد الحبش.

تفوق ضياء البدران في الدجى

وتزري بضوء الصبح أن تبد في الغش.

وما أبدع قول ابن نباتة:

وتاركة بالحزن قلبي مقيدا

ودمعي على الخدين وهو طليق.

يقولون قد أخلقت جفنك بالبكا

نعم إن جفني بالبكاء خليق.

وقول السيد عز الدين المرتضى:

وقالوا سقيم أي ورب محمد

ورب علي إنني لسقيم.

سقيم جفاه الأقربون فقلبه

به من ندوب الحادثات كلوم.

وقالوا لها هلا

وأنت كريمة

وصلت الفتى العذري وهو كريم.

ومالك قد أصبحت لا ترحمينه

وقلبك فيما يزعمون رحيم.

فقالت لهم حي سليم من الهوى

بلى إنني من حية لسليم.

وقول الشهاب محمود:

رأتني وقد نال مني النحول

وفاضت دموعي على الخد فيضا.

فقالت بعيني هذا السقام

فقلت صدقت وبالخصر أيضاً.

ولأبي عامر الجرجاني:

عذيري من شاطر أغضبوه

فجرد لي مرهفا فاتكا.

فقال أنا لك يا ابن الحسين

وهل لي رجاء سوى ذلكا.

ولبعضهم:

قلت للأهيف الذي فضح الغص

ن كلام الوشاة ما ينبغي لك.

قال قول الوشاة عندي ريح

قلت أخشى يا غصن أن يستميلك.

وللسراج الوراق:

متمارض جعل التغاشي

من جنايته سبب.

ويقول ما أنا طيب

صدق الخبيث وما كذب.

وله:

لقنته العذر عن تر

ك حاجتي لو تصور.

فقلت أنسيتها والن

سيان أمر مقدر.

فقال لست بناسٍ

فقلت مولاي أخبر.

وله:

وقائل قال لي لما رأى تلفني

لطول وعد وآمال تمنيا.

عواقب الصبر فيما قال أكثرهم

محمودة قلت أخشى أن تحزينا.

ولشمس الدين محمد التلمساني في شاب اسمه علي يعمل الكوافي:

اسم حبيبي وما يعاني

قد شغلا خاطري ولبي.

قالوا علي فقلت قدرا

قالوا كوافي فقلت قلبي.

وللشيخ صلاح الدين الصفدي:

لقد أتيت لصاحبي وسألته

في قرض دينار لأمر كان.

فأجابني والله داري ما حوت

عينا فقلت له ولا إنسانا.

وله أيضاً:

وصاحب لما أتاه الغنى

تاه ونفس المرء طماحه.

وقل هل أبصرت منه يدا

تشكرها قلت ولا راحه.

وله أيضاً:

صدق قلبي نسمات الصبا

فيما روت عنكم وما شكا.

وقال لا أخبر منها بما

جاءت به قلت ولا أذكى.

وله أيضاً:

بدا في الخد عارضه فأضحى

عليه معنفي باللوم يغري.

وحاول أن يرى مني سلوى

فقال لقد تعذر قلت صبري.

وللسراج الوراق:

شكا رمدا فقيل الآن كلت

لواحظه من الفتكات فيينا.

وقالوا سيف مقلته تصدى

فقلت نعم لقتل العاشقينا.

ولنكتف منه بهذا القدر ففيه للطالب كفاية.

تنبيه: هذا النوع أعني القول بالموجب يشترك هو والأسلوب الحكيم في كون كل منهما من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، ويفترقان باعتبار الغاية، فإن القول بالموجب غايته رد كلام المتكلم وعكس معناه، والأسلوب الحكيم هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم له.

أما الأول فكقول القبعثري الخارجي للحجاج لما قال له متوعدا بالقيد: لأحملنك على الأدهم، فقال: مثل الأمير من حمل على الأدهم والأشهب. فإنه أبرز وعيده في معرض الوعد، وأراه بألطف وجه أن امرأ مثله في مسند الإمرة المطاعة وبسطة اليد خليق بأن يصفد لا أن يصفد، وأن يعد لا أن يوعد، وكذا قوله ثانيا: ويلك إنه حديد: لن يكون حديديا خير من أن يكون بليدا. وعن سلوك هذه الطريقة في جواب المخاطب عبر من قال مفتخرا:

ص: 126

أتت تشتكي عند مزاولة القرى

وقد رأت الضيفان ينحون منزلي.

فقلت كأني ما سمعت كلامها

هم الضيف جدي في قراهم وعجلي.

وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة.

وأما الثاني فكقوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) لما قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يستوي ويمتلي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا؟ فأجيبوا بما ترى تنبيها على أن الذي ينفعكم وه أهم بحالكم أن تعلموا منها أوقات الطاعات. وكقوله تعالى:(يسألونك ماذا تنفقون قل أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصارف، تنبيها على أن المهم السؤال عنها، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها، وكل ما فيه خير فهو صالح للإنفاق، فذكر هذا على سبيل التضمن دون القصد. ومثال ذلك أيضاً قول الطبيب الرفيق لمن غلب عليه السوداء إذا طلب الجبن: عليك بمائه، وعليه سؤال الأهلة، ولمن قهرنه الصفراء إذا اشتهى العسل: كله مع الخل، وإليه ينظر سؤال النفقة. وإذا أنت تأملت مواقع هذا النوع أعني الأسلوب الحكيم ظهر لك كمال الفرق بينه وبين القول بالموجب أتم ظهور، وجزمت بخطأ من جعلهما واحدا كابن حجة، فاعلم ذلك والله أعلم.

وبيت بديعية الصفي في نوع القول بالموجب قوله:

قالوا سلوت لبعد الإلف قلت لهم

سلوت عن صحتي والبرء من سقمي.

قال في شرحه: الشاهد فيه عكس معنى المتكلم من فحوى لفظة سلوت.

ووجدت له أبياتا في ديوانه من هذا النوع وهي:

قالت كحلت الجفون بالوسن

قلت ارتقابا لطيفك الحسن.

قالت تسليت بعد فرقتنا

فقلت عن مسكني وعن سكني.

قالت تشاغلت عن محبتنا

قلت بفرط البكاء والحزن.

قالت تخليت قلت عن جلدي

قالت تغيرت قلت في بدني.

قالت تخصصت دون صحبتنا

فقلت بالغبن منك والغبن.

وبيت بديعية ابن جابر أورده بحرف الاستدراك فقال:

كانوا غيوثا لكن للعفات كما

كانوا ليوثا ولكن في عداتهم.

وبيت عز الدين الموصلي قوله:

قالوا مدام الهوى قولا بموجبه

تسل قلت شبابي من يد الهرم.

أراد المتكلم بقوله: تسل، إنها تحدث داء السل، فعاكسه المخاطب بسل الشباب من يد الهرم. وهي أحسن من (سلوت) في بيت الحلي غير أن قوله (مدام الهوى قولا بموجبه) فيه من العقادة ملا لا يخفى.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

قولي له موجب إذا قال أشفقتهم

تسل قلت بناري يوم فقدهم.

مراد المتكلم من قوله (تسل) أمر بالسلو، فعاكسه بحمله على أنه من الإسلاء بالنار، غير أن الإسلاء بالنار مهموز؛ يقال: سلأ السمن إذا طبخه؛ والسلو واوي؛ لكن مثل هذا يغتفر.

وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

قالوا سلو الهوى قولا بموجبه

يبري فقلت عظامي يوم بينهم.

مراد التكلم بقوله (يبري) من البرء وهو الشفاء من المرض؛ فعاكسه بحمله على البري؛ من برى السهم إذا نحته؛ هذا مراده؛ ولكنه غلط واضح فإن يبري من البرء بمعنى الشفاء مضموم الأول؛ لأنه مضارع أبرأه؛ يقال: برء المريض يبرأ، من باب نفع وتعب، وبرؤ؛ من باب قرب لغة هو في كل ذلك لازم؛ فإذا أريد تعديته قيل: وأبرأه الله ببرئه إبراء؛ بهمزة التعدية مثل أكرمه يكرمه، ولم يسمع براه الله إلا بمعنى خلقه، ويبري من برى السهم مفتوح الأول؛ لأنه متعد بنفسه، يقال: برى السهم والقلم بريا، من باب رمى، فلا يصح فيه القول بالموجب ما لا يخفى. (على أنه) عصب سقف بيت العز الموصلي في مصراعه الأول.

وبيت بديعيتي هو:

قالوا وقد زخرفوا قولا بموجبه

فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم.

زخرف كلامه: حسنه بترقيش الكذب، والهيام بضم أوله: كالجنون من العشق، واللمم: الجنون؛ والشاهد في قوله (فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم) فإن المتكلم أراد به الفهم، فعاكسه المخاطب بحمل قوله (فهمت) بالتورية على أن الفاء ليست من سنخ الكلمة، بل عاطفة على مقدر و (همت) على أنه فعل ماض من الهيام، ولا خفاء فيما ذلك من الدقة واللطافة.

وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري:

قالوا الأحبة شكوا في هواك نعم

شكوا بلا شك أحشائي بلحظهم.

ص: 127