المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أقول: ابن حجة استطرد خيل أفكاره في هذا البيت ليلحق - أنوار الربيع في أنواع البديع

[ابن معصوم الحسني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌أنوار الربيع في أنواع البديع

- ‌حسن الابتداء وبراعة الاستهلال

- ‌الجناس المركب والمطلق

- ‌الجناس الملفق

- ‌الجناس المذيل واللاحق

- ‌الجناس التام والمطرف

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب

- ‌الجناس المعنوي

- ‌الاستطراد

- ‌الاستعارة

- ‌المقابلة

- ‌وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي

- ‌الافتنان

- ‌اللف والنشر

- ‌الالتفاف

- ‌الاستدراك

- ‌تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني

- ‌ حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر

- ‌ الجزء الثاني

- ‌الإبهام

- ‌الطباق

- ‌إرسال المثل

- ‌الأمثال السائرة

- ‌التخيير

- ‌النزاهة

- ‌الهزل المراد به الجد

- ‌التهكم

- ‌تنبيهان

- ‌القول بالموجب

- ‌التسليم

- ‌الاقتباس

- ‌المواربة

- ‌التفويف

- ‌الكلام الجامع

- ‌المراجعة

- ‌المناقصة

- ‌المغايرة

- ‌الجزء الثالث

- ‌تتمة باب المغايرة

- ‌التوشيح

- ‌التذييل

- ‌تشابه الأطراف

- ‌التتميم

- ‌الهجو في معرض المدح

- ‌الاكتفاء

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌الاستثناء

- ‌مراعاة النظير

- ‌التوجيه

- ‌التمثيل

- ‌عتاب المرء نفسه

- ‌القسم

- ‌حسن التخلص

- ‌الإطراد

- ‌العكس

- ‌الترديد

- ‌المناسبة

- ‌الجمع

- ‌الانسجام

- ‌تناسب الأطراف

- ‌ائتلاف المعنى مع المعنى

- ‌المبالغة

- ‌ الإغراق

- ‌ الغلو

- ‌التفريق

- ‌التلميح

- ‌العنوان

- ‌التسهيم

- ‌التشريع

- ‌المذهب الكلامي

- ‌نفي الشيء بإيجابه

- ‌الرجوع

- ‌تنبيهات

- ‌تجاهل العارف

- ‌الاعتراض

- ‌حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

- ‌التهذيب والتأديب

- ‌الاتفاق

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌المماثلة

- ‌التوشيع

- ‌التكميل

- ‌شجاعة الفصاحة

- ‌التشبيه

- ‌الفصل الأول في الطرفين

- ‌الفصل الثاني في الوجه

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الثالث في الغرض

- ‌الفصل الرابع في الأحوال

- ‌الفصل الخامس في الأداة

- ‌الفرائد

- ‌التصريع

- ‌الاشتقاق

- ‌السلب والإيجاب

- ‌المشاكلة

- ‌ما لا يستحيل بالانعكاس

- ‌التقسيم

- ‌الإشارة

- ‌تشبيه شيئين بشيئين

- ‌الكناية

- ‌الترتيب

- ‌المشاركة

- ‌التوليد

- ‌الإبداع

- ‌الإيغال

- ‌النوادر

- ‌التطريز

- ‌التكرار

- ‌التنكيت

- ‌حسن الإتباع

- ‌الطاعة والعصيان

- ‌البسط

- ‌المدح في معرض الذم

- ‌الإيضاح

- ‌التوهيم

- ‌الألغاز

- ‌الإرداف

- ‌الاتساع

- ‌التعريض

- ‌جمع المؤتلف والمختلف

- ‌الإيداع

- ‌تنبيهات

- ‌المواردة

- ‌الالتزام

- ‌المزاوجة

- ‌المجاز

- ‌التفريع

- ‌التدبيج

- ‌التفسير

- ‌التعديد

- ‌حسن النسق

- ‌حسن التعليل

- ‌التعطف

- ‌الاستتباع

- ‌التمكين

- ‌التجريد

- ‌إيهام التوكيد

- ‌الترصيع

- ‌التفصيل

- ‌الترشيح

- ‌الحذف

- ‌التوزيع

- ‌التسميط

- ‌التجزئة

- ‌سلامة الاختراع

- ‌تضمين المزدوج

- ‌ائتلاف اللفظ مع المعنى

- ‌الموازنة

- ‌ائتلاف اللفظ مع الوزن

- ‌ائتلاف الوزن مع المعنى

- ‌ائتلاف اللفظ مع اللفظ

- ‌الإيجاز

- ‌التسجيع

- ‌تنبيهات

- ‌التسهيل

- ‌الإدماج

- ‌الاحتراس

- ‌حسن البيان

- ‌العقد

- ‌تنبيهات

- ‌التشطير

- ‌المساواة

- ‌براعة الطلب

- ‌حسن الختام

- ‌كلمة الختام للمؤلف

الفصل: أقول: ابن حجة استطرد خيل أفكاره في هذا البيت ليلحق

أقول: ابن حجة استطرد خيل أفكاره في هذا البيت ليلحق الشيخ عز الدين لكنها كبت وقصرت، وما ذاك إلا أنه استعار لصبره خيلا، وهي استعارة مستهجنة جداً، بالنسبة إلى رقة التشبيب، وأين هي من استعارتها للدمع، فإنها كادتا أن تكونا ضدين. وإذا نظرت إلى اشتقاق الخيل وأنه من الخيلاء، زادك ذلك استهجاناً لها، ولم تزل الشعراء تصف أنفسها في تشبيبها وغزلها بقلة الصبر وعدمه. حتى جاء هذا الرجل، فأثبت لنفسه صبراً من أحبابه، ولم يكفه ذلك، حتى استعار له خيلاً، ثم يقول: هذا البيت غريب ولا بد لأهل الأدب من تأهيل غريبه. وأما استطراده فيه، فإنه وإن كان قصد به وصف ليالي وصلهم بالقصر، لكن السامع إذا سمع هذا البيت لا يتبادر إلى فهمه إلا أنه قصد ذمها حيث شبهها بخيل صبره التي كبت وقصرت. اللهم أنا نعوذ بك من سنة الغفلة.

وبيت الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

واستطرد الحب خيل الوصل سابقة

بفضل ود كفضل الملك للخدمِ

هذا البيت ممسوخ الألفاظ من بيت الشيخ عز الدين الموصلي، وأما معناه فهو من البرودة في الغاية القصوى. وفضل الملك للخدم كالسماء فوقنا والأرض تحتنا، فما معنى الاستطراد إليه. وما الغرض من ذلك؟.

وبيت بديعيتي هو:

أجروا سوابق دمعي في محبتهم

واستطردوها كخيلي يوم مزدحمِ

الاستطراد في هذه البيت من الغزل إلى الحماسة، وفي تشبيه سوابق الدمع بالخيل من المناسبة ما لا يخفى.

وبيت الشيخ إسماعيل المقري قوله:

هجرتني هجر عذالي منازلهم

لشغلهم بي فلم أهدأ ولم أنم

هذا الاستطراد من قبيل استطراد الشيخ صفي الدين وابن جابر وهو النوع الثاني منه.

‌الاستعارة

ذوى وريق شبابي في الغرام بهم

من استعارة نار الشوق والألم

اعلم أن الكلام في الاستعارة وأنواعها مما أطلق البيانيون فيه أعنه الأقلام، حتى أفردها بعضهم بالتأليف، وليس الغرض هنا استقصاء ذلك وإنما المقصود تقريبها إلى الإفهام، بتعريف يزيل عنها الإبهام، وذكر أقسامها باختصار، مع إثبات شيء مما وقع منها في محاسن النظم والنثر.

قالوا: زوّج المجاز بالتشبيه فتولد بنيهما الاستعارة، فهي مجاز علاقته المشابهة.

ويقال في تعريفها: اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي، كأسد في قولنا: رأيت أسداً يرمي، فأسد استعارة، لأنه لفظ استعمل في شجاع شبه بالأسد الذي هو الحيوان المفترس. وكثيراً ما تطلق الاستعارة على فعل المتكلم، أعني استعمال اسم المشبه به في المشبه، فيكون بمعنى الصدر ويكون المتكلم مستعيراً، والمعنى المشبه به مستعاراً منه، والمعنى المشبه مستعاراً له، واللفظ المشبه به مستعاراً.

وقال بعضهم: حقيقة الاستعارة، أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك إظهار الخفي، أو إيضاح الظاهر الذي ليس بجلي، أو حصول المبالغة أو المجموع. فمثال إظهار الخفي قوله تعالى:(وإنه في أم الكتاب) فإن حقيقته: وإنه في أصل الكتاب، فاستعر لفظ الأم للأصل، لأن الأولاد تنشأ من الأم، كما تنشأ الفروع من الأصول، وحكمة ذلك تمثل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئياً، فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان، وذلك أبلغ في البيان.

ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جلياً، قوله تعالى:(واخفض لهما جناح الذل) فإن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة. فاستعير للذل أولاً جانب، ثم للجانب جناح. وتقدير الاستعارة القريبة: واخفض لهما جانب الذل، أي اخفض جانبك ذلاً، وحكمة الاستعارة في هذا، جعل ما ليس بمرئي مرئياً، لأجل حسن البيان. ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين، بحيث لا يبقى الولد من الذل لهما والاستكانة ممكناً، احتيج في الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى، فاستعير لفظ الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجانب، لأن من يميل جانبه إلى الجهة السفلى أدنى ميل، صدق عليه أنه خفض جانبه، والمراد خفض يلصق الجنب بالأرض، ولا يحصل ذلك إلا بذكر الجناح كالطائر. ومثال المبالغة (وفجرنا الأرض عيوناً) وحقيقته وفجرنا عيون الأرض، ولو عبر بذلك لم يكن فيه من المبالغة ما في الأول المشعر بأن الأرض كلها صارت عيوناً. انتهى.

ص: 45

واختلف في الاستعارة هل هي مجاز عقلي أو لغوي؟ فقيل: بالأول. بمعنى أن التصرف فيها أمر عقلي لا لغوي، لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد إدعاء دخوله في جنس المشبه به، فكان استعمالها فيما وضعت له فتكون حقيقة لغوية، ليس فيها غير نقل الاسم وحده، وليس نقل الاسم المجرد استعارة، لأنه لا بلاغة فيه، بدليل الإعلام المنقولة فلم يبق إلا أن يكون مجازاً عقلياً. وقيل بالثاني الجمهور، لأنها موضوعة للمشبه به لا للمشبه، ولا لأعم منهما، فاسد في قولك: رأيت أسداً يرمي، موضوع للسبع ولا للشجاع، ولا لمعنى أعم منهما كالحيوان الجريء مثلاً ليكون إطلاقه عليهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما.

وأركان الاستعارة ثلاثة: مستعار منه، ومستعار له، ومستعار، وقد تقدم بيانها.

وأقسامها كثيرة باعتبارات. فتتقسم باعتبار المستعار منه، والمستعار له، والوجه الجامع لهما إلى خمسة أقسام.

أحدها، استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، ومثاله قوله تعالى (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوارٌ) فإن المستعار منه ولد البقرة، والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حلي القبط التي سبكتها نار السامري، عند إلقائه فيها التربة التي أخذتها من موطئ حيزوم فرس جبرئل) عليه السلام (، والوجه الجامع لهما الشكل، والجميع حسي، فشيئاً لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلاً قليلاً بجامع التتابع على طريق التدريج، وكل ذلك محسوس. وقول الشاعر:

وورد جني طالعتنا خدوده

ببشرٍ ونشر يبعثان على السكرِ

فالمستعار منه الوجنات الحمر، والمستعار له ورق الورد، بجامع الحمرة والجميع محسوس.

الثاني، استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي، وهي ألطف من الأولى، ومثاله قوله تعالى:(وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) فإن المستعار منه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسيان، والجامع لهما ما يعقل من ترتب أمر على آخر، وحصوله عقب حصوله كترتب ظهور اللحم على الكشط، وظهور الظلمة على كشف الضوء، والترتب أمر عقلي.

الثالث استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي. قيل: وهي ألطف الاستعارات ومثاله قوله تعالى: (من بعثنا من مرقدنا هذا) فإن المستعار منه الرقاد، والمستعار له الموت، والجامع بينهما عدم ظهور الفعل، والجميع عقلي.

الرابع استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي، ومثاله قوله تعالى:(فاصدع بما تؤمر) فإن المستعار منه صدع الزجاجة، وهو كسرها وهي حسي، والمستعار له تبليغ الرسالة وهو عقلي، والجامع لهما التأثير وهو عقلي أيضاً.

الخامس استعارة معقول لمحسوس بوجه عقلي، ومثاله قوله تعالى:(إنا لما طغى الماء) فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسية والمستعار منه التكبر وهو عقلي، والجامع الاستعلاء المفرط وهو عقلي أيضاً.

وتنقسم باعتبار اللفظ إلى أصلية، وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس، كأسد وقيام وقعود، ومنه آية العجل. وتبعية، وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم الجنس كالفعل والمشتقات، كسائر الآيات السابقة، وكالحروف نحو قوله تعالى:(فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا) شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب علته الغائية عليه، كالمحبة والتبني ونحو ذلك، ثم استعمل في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به.

وتنقسم باعتبار الطرفين إلى وفاقية وعنادية، لأن اجتماع الطرفين في شيء إن كان ممكناً سميت وفاقية نحو وأحيينا، في قوله تعالى:(أو من كان ميتاً فأحييناه) أي ضالاً فهديناه. استعير الأحياء وهو جعل الشيء حياً للهداية التي هي الدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب، والأحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء، وإن كان ممتنعاً سميت عنادية، وذلك كاستعارة المعدوم للموجود لانتفاء النفع به كما في العدوم. ولا شك أن اجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع، وذلك كاستعارة اسم الميت للحي الجاهل، فإن الموت والحياة ممتنع اجتماعهما.

ومن العنادية التهكمية والتمليحية، وهما ما استعمل في ضد أو نقيض نحو قوله تعالى:(فبشرهم بعذابٍ أليمٍ) أي أنذرهم. استعيرت البشارة التي هي الأخبار بما يسر، للإنذار الذي هو ضده، بإدخاله في جنسها على سبيل التهكم، وكذا قولك: رأيت أسداً، وأنت تريد جباناً على سبيل التمليح والطرافة.

ص: 46

وتنقسم باعتبار الجامع إلى عامية، وهي المبتذلة لظهور الجامع فيها، نحو رأيت أسداً يرمي، وخاصية وهي الغريبة التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة. والاستعارات الواردة في التنزيل كلها من هذا القبيل.

ومنه قول طفيل الغنوي:

وجعلت كوري فوق ناجية

يقتات شحم سنامها الرحل

وموضع اللطف والغرابة منه أنه استعار الاقتيات لإذهاب الرحل شحم السنام، مع أن الشحم يقتات.

ثم الغرابة قد تكون في نفس الشبه، بأن يكون نفس التشبيه غريباً كقول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرساً له، بأنه مؤدب، وأنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود:

عودته فيما أزور حبائبي

إهماله وكذاك كل مخاطر

فإذا أحتبي قربوسه بعنانه

علك الشكيم إلى انصراف الزائر

شبه هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السرج بهيئة وقوع الثوب في موقعه من ركبة المحتبي، فجاءت الاستعارة غريبة لغرابة الشبه.

وقد تحصل الغرابة بتصرف في الاستعارة العامة.

كقول كثير عزة وقيل غيره:

ولما قضينا من مني كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على دهم المهارى رحالنا

ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

استعار سيلان السيول الواقعة في الأباطح لسير الإبل يسراً حثيثاً في غاية السرعة المشتملة على لين وسلاسة، والتشبيه فيها ظاهر عامي لكنه تصرف فيه بما أفاده اللطف والغرابة حين أسند الفعل وهو (سالت) إلى الأباطح دون المطي أو أعناقها، حتى أفاد أن الأباطح امتلأت من الإبل. وأدخل الأعناق في السير، لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهر أن غالباً في الأعناق، ويتبين أمرهما في الهوادي، وسائر الأجزاء يستند إليها في الحركة، ويتبعها في الثقل والخفة.

ومثل هذه الاستعارة في الحسن وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول ابن المعتز:

سالت عليه شعاب الحي حين دعا

أنصاره بوجوه كالدنانير

أراد أنه مطاع في الحي، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم لخطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول. تجيء من ههنا وههنا، وتنصب من هذا المسيل وذاك، حتى يغص بها الوادي ويطفح منها، وهذا التشبيه ظاهر معروف أيضاً، ولكن حسن التصرف فيه إفادة الغرابة بإسناد الفعل إلى الشعاب دون الأنصار أو الوجوه، حتى أفاد أن الشعاب امتلأت من الرجال، وكما أن إدخال الأعناق في السير، أكد الدقة والغرابة في الأول، أكدها هنا تعدية الفعل إلى ضمير الممدوح بعلى، لأنه يؤكد مقصوده من كونه مطاعاً.

وكذا في قوله:

فرعاء إن نهضت لحاجتها

عجل القضيب وأبطأ الدعص

فإن تشبيه القوام بالقضيب، والردف بالدعص تشبيه عامي مبتذل، لكن وصفه الأول بالعجلة والثاني بالبطء أفاده غرابة ولطفاً.

وقد يكون وجه التشبيه في الاستعارة منتزعاً من عدة أمور فتسمى الاستعارة تمثيلية، والعلم في ذلك ما كتبه الوليد بن يزيد لما بويع بالخلافة إلى مروان بن محمد وقد بلغه أنه متوقف في بيعته له: أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا، فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فشبه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلاً، وتارة لا يريده فيؤخر أخرى، فاستعمال الكلام الدال على هذه الصورة في تلك، ووجه الشبه وهو الإقدام تارة والإحجام تارة أخرى منتزع من عدة أمور كما ترى.

وإذا تحقق معنى الاستعارة حساً أو عقلاً، سميت تحقيقية، لتحقيق معناها في الحس أو العقل؛ فالأول كقوله: لدى أسد شاكي السلاح؛ فإن الأسد مستعار للرجل الشجاع، وهو أمر متحقق حساً، والثاني كقوله تعالى:(وأنزلنا إليكم نوراً) فإن النور مستعار للبيان الواضح، وهو أمر متحقق عقلاً.

ص: 47

وقد يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، فيسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية، ومكنياً عنها، لأنه لم يصرح به بل دل عليه بذكر خواصه ولوازمه، ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به استعارة تخيلية، لأن قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه به أو قوامه في وجه التشبيه ليتخيل أن المشبه من جنس المشبه به.

ثم ذلك الأمر المختص بالمشبه به على ضربين، أحدهما ما لا يكمل وجه التشبيه في المشبه به بدونه، والثاني ما به يكون قوام وجه الشبه في المشبه.

فالأول كقول أبي ذؤيب الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

شبه المنية في نفسه بالسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، من غير تفرقة بين نفاع ضرار، ولا رقة لمرحوم، ولا بقيا على ذي فضيلة، فأثبت لها الأظفار التي لا يكمل ذلك الاغتيال في السبع بدونها تحقيقاً للمبالغة في التشبيه، فتشبيه المنية بالسبع استعارة بالكناية وإثبات الأظفار للمنية، استعارة تخييلية.

والثاني كقول العتبي:

فلئن نطقت بشكر برك مفصحاً

فلسان حالي بالشكاية أنطق

شبه الحال بإنسان متكلم بالدلالة على المقصود، وهذا هو الاستعارة بالكناية، ثم أثبت للحال اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان المتكلم وهذه الاستعارة التخييلية. وبينه وبين السكالي في ذلك نزاع لا يتسع المجال لبيانه، وكتبهما كافلة بذلك، فمن أراده فعليه بها.

واعلم أن الاستعارة تنقسم باعتبار آخر - غير اعتبار اللفظ والطرفين والجامع - إلى ثلاثة أقسام: مطلقة ومجردة ومرشحة.

فالمطلقة، هي ما لم تقرن بصفة ولا تفريع كلام مما يلائم المستعار أو المستعار منه نحو عندي أسد، والمراد بالصفة، الصفة المعنوية لا النعت.

والمجردة هي ما قرن بما يلائم المستعار كقول كثير:

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً

علقت بضحكته رقاب المالِ

فإنه استعار الرداء للعطاء، لأنه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه، ثم وصفه بالغمر الذي يلائم العطاء لا الرداء، فنظر إلى المستعار له تجريداً للاستعارة.

والمرشحة هي ما قرن بما يلايم المستعار منه كقوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم) فإنه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم قرنها بما يلائم الاشتراء من الربح والتجارة، فنظر إلى المستعار منه.

وقد يجتمع التجريد والترشيح كقول زهير:

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

فقوله: شاكي السلاح تجريد، لأنه قرن بما يلائم المستعار له أعني الرجل الشجاع. وقوله: مقذف إلى آخر البيت ترشيح، لأن هذه الصفة إنما تلائم المستعار منه، أعني الأسد الحقيقي.

والترشيح أبلغ من الإطلاق والتجريد، ومن جمع التجريد والترشيح لاشتماله على تحقيق المبالغة في التشبيه، لأن في الاستعارة مبالغة فيه، فترشيحها وتزيينها بما يلائم المستعار منه تحقيق لذلك وتقوية له، ومبنى الاستعارة على تناسي التشبيه وإدعاء أن المستعار له عين المستعار منه لا شيء مشبه به، حتى أنه يبنى على علو القدر ما يبنى على علو المكان.

كقول أبي تمام:

ويصعد حتى يظن الجهول

بأن له حاجة في السماء

فإن استعار الصعود لعلو القدر ثم بنى عليه ما يبنى على علو المكان والارتقاء إلى السماء، فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه ويصمم على إنكاره فيجعله صاعداً في السماء من حيث المسافة المكانية لما كان لهذا الكلام وجه.

وكقوله أيضاً:

خدم العلي فخدمنه وهي التي

لا تخدم الأقوام ما لم تخدمِ

وإذا ارتقى من قلةٍ في سؤدد

قالت له الأخرى بلغت تقدم

وقول ابن الرومي:

يا آل نوبخت لا عدمتكم

ولا تبدلت بعدكم بدلا

إن صح علم النجوم فهو لكم

حقاً إذا ما سواكم انتحلا

كم عالم فيكم وليس بأن

قاس ولكمن بأن رقى فعلا

أعلاكم في السماء مجدكم

فلستم تجهلون ما جهلا

شافهتم البدر في السؤال عن الأمر إلى أن بلغتم زحلا

ونحو ذلك ما وقع من التعجب في قول ابن العميد أو غيره:

ص: 48

قامت تظللني من الشمس

نفس أعز علي من نفسي

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمسِ

والنهي عنه في قول ابن طباطبا:

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زره أزراره على القمر

وقول الآخر:

ترى الثياب من الكتان يلمحها

نور من البدر أحياناً فيبليها

فكيف تنكر أن تبلى معاجرها

والبدر في كل وقت طالع فيها

ونحو ذلك قول الشريف الرضي:

كيف لا تبلى غلالته

وهو بدر وهي كتانُ

وكلما بعدت الاستعارة في التفريع تجريداً كان أو ترشيحاً زاد حسنهما ألا ترى إلى الأبيوردي حيث قال:

وفي الحدوج الغوادي كل غانية

يروى مؤزرها والخصر ظمآن

كيف نبذ استعارة الغصون للقدود وراءه ظهرياً، وبنى على الفرع وهو (يروى) و (ظمآن) .

وكذا قول أبي العلاء المعري في السيف:

ما كنت أحسب جفناً قبل مسكنه

في الجفن بطوى على نار ولا نهر

ولا ظننت صغار النمل يمكنها

مشي على اللج أو سعي على السعر

فلولا أن طرائق السيف هي الماء والنار بعينهما إدعاء، لما كان لنفي الحسبان فائدة، إذا لا استبعاد في اجتماع شيئين يشبهان الماء والنار. ولولا أن فرنده هو النمل بعينه، لما صح المشي والسعي على اللج والسعر وحسب التعجب منها.

وقال العزي:

فبت الثم عينيها ومن عجب

أني أقبل أسيافاً سفكن دمي

وقال أبو الطيب:

كبرت حول ديارهم لما بدت

منها الشموس وليس فيها المشرق

واعلم أن لحسن الاستعارة شروطاً، أن لم تصادفها عريت من الحسن وربما اكتسيت قبحاً، فحسن كل من الاستعارة التحقيقية والتمثيلية، برعاية جهات حسن التشبيه. كأن يكون وجه الشبه شاملاً للطرفين، وافياً بما علق به من الغرض ونحو ذلك مما يذكر في باب التشبيه، وبأن لا تشم رائحة التشبيه من جهة اللفظ، لأنه يبطل الغرض من الاستعارة. أعني إدعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، والحاقة به، لما في التشبيه من الدلالة على كون المشبه به أقوى من الشبه كما قيل:

ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك

فقاعدة التشبيه نقصان ما يحكي

وقلت أنا من قصيدة:

من أين للظبي أن يحكي ترائبها

ولو تشبه ما حاكٍ كمحكي

ولذلك يوصي أن يكون ما به المشابهة بين الطرفين جلياً بنفسه، أو بسبب عرف أو اصطلاح خاص لئلا يصير كل منها ألغازاً، كما لو قيل في التحقيقية: رأيت أسداً وأريد إنسان أبخر، وفي التمثيلية: رأيت إبلاً مائه لا تجد في راحلة. يريد أن المرضي المنتجب في عزة وجوده كالنجية التي لا توجد في كثير من الإبل. وهذا يظهر أن كلاً من التحقيقية والتمثيلية لا يجيئان في كل ما يجيء به التشبيه.

ومما يتصل بهذا أنه إذا قوي الشبه بين الطرفين بحيث صار الفرع كأنه الأصل، لم يحسن التشبيه وتعينت الاستعارة في ذلك، كالنور إذا شبه العلم به، والظلمة شبهت الشبهة بها، فإذا فهمت مسألة تقول: حصل في قلبي نور ولا تقول كأن نوراً حصل في قلبي. وكذا إذا وقعت في شبهة تقول: وقعت في ظلمة، ولا تقول: كأني وقعت في ظلمة.

والاستعارة المكنى عنها كالتحقيقية، في أن حسنها برعاية حسن التشبيه لأنها تشبيه مضمر في النفس.

وأما التخيلية فحسنها بحسب حسن المكنى عنها، لأنها لا تكون إلا تابعة لها عند الخطيب كما تقدم.

واستهجن من الاستعارات قول أبي تمام:

لا تسقني ماء الملام فإنني

صب قد استعذبت ماء بكائي

إذ ليس بظهر للملام شبه بشيء له مائع مستكره كالحنظل أو الحوض الأجن ماؤه حتى يشبه به ويضاف إليه الماء ويرشح بالسقي.

قيل: كأنه توهم للملام - بلا ملاحظة - تشبيه بذي مائع مستكره شيئاً رقيقاً به قوام سريانه في النفس وتأثيره فيها، وأطلق عليه اسم الماء ورشح هذا الإطلاق بذكر السقي، ومع هذا لا يخفى كونه سمجاً مستهجناً.

ويحكى أن بعض الظرفاء المعاصرين لأبي تمام لما سمع قوله هذا، جهز له كوزاً وقال: ابعث لي في هذا قليلاً من ماء الملام، فقال أبو تمام أبعث لي ريشة من جناح الذل حتى أبعث لك قليلاً من ماء الملام.

فإن صح ذلك فقد أخطأ أبو تمام، لأن استعارة الجناح للذل في غاية الحسن كما تقدم بيانه، وأين هي من ماء الملام.

ومثل هذه الاستعارة قول المتنبي:

ص: 49

وقد ذقت حلواء البنين على الصبا

فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل

البنين، وذلك أن البنين لا يسمون شيئاً تكون الحلواء من لوازمه.

وأقبح من هاتين الاستعارتين من قبح الألفاظ قول ابن المعتز:

(كل يوم يبول زب السحاب) .

وأحسن ما قيل في العذر عن بيت أبي تمام: قول المرزوقي: إنما ذكر ماء الملام لما قال بعده: ماء بكائي على طريقة المشاكلة.

وهذا محل إيراد شيء مما وقع من محاسن الاستعارة نثراً ونظماً.

أما النثر فمن محاسنه، قول الحسن بن وهب: شربت البارحة على وجه السماء وعقد الثريا ونطاق الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما عقلت حتى لحقني قميص الشمس.

وقول الصاحب بن عباد في استزارة: غداً يا سيدي ينحسر الصيام، ويطيب المدام، فلا بد من أن نقيم أسواق الإنس نافقة، وننشر أعلام السرور خافقة، فبالفتوة أنها قسم للظراف، تفرض حسن الإسعاف، لما بادرتنا ولو على جناح الرياح والسلام.

وقوله أيضاً رحمه الله في مثل ذلك: نحن يا سيدي، في مجلس غني إلا عنك، شاكر إلا منك، قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت خدود الورد، وتجعدت أصداغ البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وتفتقت فارات النارنج، ونطقت السنة العيدان، وقامت خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس. وقام منادي الطرب، وطلعت كواكب الندمان، وامتدت سماء الند. فبحياتي عليك إلا ما حضرت، لنحصل بك في جنة الخلد، وتتصل الواسطة بالعقد.

وقول أبي نصر العتبي: هذا يوم قد رقت غلائل صحوه، وغنجت شمائل جوه، وضحكت ثغور رياضه، واضطربت زرد النسيم فوق حياضه وفاحت مجامر الأزهار، وانتثرت قلائد الأغصان، عن فرائد الأنوار؛ وقامت خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، ودارت أفلاك الراح بشموس الأقداح، وسيبنا العقل في مرج الجنون، وخلعنا العذار بأيدي المجون.

وقول الآخر: ولقد عرق بالندى جبين النسيم، وابتل جناح الهواء، وضربت خيمة الغمام، واغرورقت مقلة السماء، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق.

وما أحسن قول القاضي الفاضل معتذراً عن كتاب كتبه لبعض أصحابه ليلاً: كتبها المملوك وقد عمشت عين السراج، وشابت لمة الدواة، وكل خاطر السكين، وضاق صدر الورقة.

وقول علي بن ظافر: بت ليلة في منزل اعترفت له مشيدات القصور بالانخفاض والقصور، والبدر قد محا خضاب الظلماء، وجلاً محياه في زرقة قناع السماء، وكسى الجدران ثياباً من فضة، ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضه، والروض قد ابتسم محياه، ووشت بأسرار محاسنه رياه، والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميلها، وغصبها مباسم نورها فقبلها، وعندنا مغن قد وقع على تفضيله الإجماع، وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع، إن بدا، فالشمس طالعة، أو شدا، فالورق ساجعة، تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه، وقابله فقلنا: البدر قابل عيوقه، وهو يغار عليه من النسيم كلما خفق وهب، ويستجيش عليه تلويح بارقة الموشى بالذهب، ويديم حرقته وسهده، ويبذل في الطاقة طاقته وجهده. فتارة يضمخه بخلوقه، وتارة يحليه بعقيقه، وآونة يكسوه أُواب شقيقه. فلم نزل كذلك حتى نعس طرف المصاح، واستيقظ نائم الصباح.

وما أحسن قول ابن زيدون يحكي أو اجتماعه بمعشوقته ولادة بنت المستكفي قال: كنت في أيام الشباب هائماً بغادة أرى الحياة متعلقة بقربها، ولا يزيدني امتناعها إلا اغتباطاً، فلما ساعد القضاء وآن اللقاء، كتبت إلي:

ترفب إذا جن الظلام زيارتي

فإني رأيت الليل اكتم للسر

وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح

وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر

ثم لما طوى النهار كافوره، ونشر الليل عبيره، أقبلت بقد كالقضيب في ردف كالثيب، وقد أطبقت نرجس المقل على ورد الخجل، فملنا روض مدبج، وظل سجسج، قد قامت رايات أشجاره، وامتدت سلاسل أنهاره، ودر الطل منشور، وجيب الراح مزرور. فلما شببنا نارها، وأدرت منا ثارها، باح كل منا بحبه، وشكا ما بقلبه، وبتنا بليلة نجتني أقحوان الثغور ونقطف رمان الصدور. فلما نشر الصباح لواءه، وطوى الليل ظلماءه، وأدعتها وأنشأت:

وادع الصبر محب ودعك

ذائع من سره ما أودعك

يقرع السن على أن لم يكن

زاد في تلك الخطا إذ شيعك

يا أخ البد سناء وسنا

حفظ الله زماناً أطلعك

ص: 50

أن يطل بعدك ليلي فلكم

بت أشكو قصر الليل معك

ومن بديع النثر في هذا النوع قول أبي القاسم عبد الصمد بن علي الطبري، يصف متنزهاً: لله متنزهنا والسماء زرقاء اللباس؛ والشمال ندية الأنفاس، والروض مخضل الأزار، والغيم منحل الأزرار.

كأن السماء تجلو عروساً

وكأنا من قطره في نثارِ

والربي رابية الأرجاء، شاكرة صنيع الأنواء.

ذهب حيثما ذهبنا ودر

حيث درنا وفضة بالفضاءِ

والجبال قد تركت نواصيها الثلوج شيباً، والصحارى قد لبست من نسيج الربيع برداً قشيبا. والكؤوس تدور بيننا بالرحيق، والأباريق تنهل مثل ذوب العقيق، وتفتر عن فار المسك وخد الشقيق. والجيوب تستغيث من أكف العشاق، وسقيط الطل يعبث بالأغصان عبث الدل بالغصون الرشاق والدن يجرح بالمبزال فتل الصائغ طرف الخلخال.

إذا فض عنه الختم فاح بنفسجاً

وأشق مصباحاً ونور عصفرا

وأما النظم فمن محاسنه قول ابن خفاجة الأندلسي:

وقد جال من جون الغمامة أدهم

له البرق سوط والشمال عنان

وضمخ ردع الشمس نحر حديقة

عليه من الطل السقيط جمان

ونمت بأسرار الرياض خميلة

لها النور ثغر والنسيم لسان

وقوله أيضاً:

وما الأنس إلا في مجاج زجاجة وما العيش إلى في صرير سرير

وإني وإن جئت المشيب لمولع

بطرة ظل فوق وجه غدير

وقوله أيضاً وهي من محاسن قصائده:

أما والتفات الروض عن أزرق النهر

وأشرف جيد الغصن عن حلية الزهر

وقد نسيت ريح النعامة فنبهت

عيون الندامى تحت ريحانة الفجر

وخدر فتاة قد طرقت وإنما

أبحت به وكر الحمامة للصقر

وقدٍ خلعت البرد عنه وإنما

نشرت به طي الصحيفة عن سطر

لقد جبت دون الحي كل تنوفة

يحوم بها نسر السماك على وكر

وخضت ظلام الليل يسود فحمه

ودست عرين الليث ينظر عن جمر

وجئت ديار الحي والليل مطرف

منمنم ثوب الأفق بالأنجم الزهر

أشيم بها برق الحديد وربما

عثرت بأطراف المثقفة السمر

فلم ألق إلا صعدة فوق لامة

فقلت قضي قد أطل على نهر

ولا شمت إلا غرة فوق أشقر

فقلت حباب يستدير على خمر

ودون طروق الحي خوضة فتكةٍ

مورسة السربال دامية الظفر

تطلع في فرع من النقع أسود

وتسفر عن خد من السف محمر

فسرت وقلب الليل يخفق غيرة

هناك وعين النجم تنظر عن شزر

فطار إليها بي جناح صبابة

فطار بها عني جناح من الذعر

فقلت رويداً لا تراعي فإننا

لنطوي ضلوع الليل منا على سر

وسكنت من نفس تجيش مروعة

ومسحت عن عطفٍ تمايل مزور

ومزقت جيب الليل عنها وإنما

رفعت جناح الستر عن بيضة الخدر

وقبلت ما بين المحيا إلى الطلى

وعانقت ما بين التراقي إلى الخصر

وأطرب سجع الحلي من خيزرانة

تميل بها الشبيبة والسكر

غزالية الألحاظ ريمية الظلى

مدامية الألمى حبابية الثغر

تلاقي نسيبي في هواها وأدمعي

فمن لؤلؤ نظم ومن لؤلؤ نثر

وقد جعلت ليلاً علينا يد الهوى

رداء عناق مزقته يد الفجر

ولما انجلى ضوء الصباح كأنه

جناح لواء جددته يد النصر

ولاح مشيب النور في لملم الربى

ونم على ذيل الصبا نفس الزهر

صددت ودون الحي ستر غمامة

يشف كما شف الرماد عن الجمر

وقوله:

وكمامة حسر الصباح قناعها

عن صفحة تندى من الأنهارِ

في أبطح رضعت ثغور إقاحة

أخلاف كل غمامة مدرار

نثرت بحجر الأرض في يد الصبا

درر الندى ودراهم الأزهار

فحللت حيث الماء صفحة ضاحك

جذل وحيث الشط بدء عذار

والريح تنفض بكرة لمم الربى

والطل ينضح أوجه الأشجار

متقسم الألحاظ بين محاسن

من ردف رابية وخصر قرار

وأراكة سجع الهديل بفرعها

والصبح يسفر عن جبين نهار

هزت له أعطافها ولربما

خلعت عليه ملاءة الأنوار

وقول محي الدين بن قرناص:

قد أتينا الرياض حين تجلت

وتحلت من الندى بجمال

ص: 51

ورأينا خواتم الزهر لما

سقطت من أنامل الأغصان

وقوله أيضاً:

لقد عقد الربيع نطاق زهر

يضم لغصنه خصراً نحيلا

ودب مع العشي عذار ظل

على نهر حكى خداً أسيلا

وقول الآخر:

مجرة جدول وسماء آس

وأنجم نرجس وشموس وردِ

ورعد مثالث وسحاب كاس

وبرق مدامة وضباب ند

وقول أمين الدين القواس:

أصغي إلى قول العذول بجملتي

مستفهماً عنكم بغير ملالِ

لتلقطي زهرات ورد حديثكم

من بين شوك ملامة العذال

وقول ابن قلاقس:

سرى وجبين الجو بالطل يرشح

وثوب الغوادي بالبروق موشحُ

وفي طي أبراد النسيم خميلة

بأعطافها نور المنى يتفتح

تضاحك في مسرى المعاطف عارضاً

مدامعه في وجنة الروض تسفح

وتوري به كف الصبا زند بارق

شرارته في فحمة الليل تقدح

باكر إلى اللذات، واركب لها

نجائب اللهو ذوات المراح

من قبل أن ترشف شمس الضحى

ريق الغوادي من ثغور الأقاح

وقول مجير الدين بن تميم:

وليلة بت أسقي في غياهبها

راحا تسل شبابي من يد الهرمِ

ما زلت أشربها حتى نظرت إلى

غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم

وقول ابن الساعاتي:

ولولا رواة بل وشاة تخرصوا

أحاديث ليست في سماع ولا نقلِ

لثمنا ثغور النور في شنب الندى

خلال جبين النهر في طرر الظل

وقول أبي الحسن المخريطي:

ألا حبذا نوح الحمامة سحرة

وقد شق جيب الليل عن لبة الفجرِ

وسأل نجيع البرق من ثغرة الدجى

وخمش ثكل الليل من صفحة البدر

وأعول ناعي الرعد يندب صارخاً

ويذرف في خد الثرى دمعة القطر

فما كان إلا أن جلا الصبح سنه

تبسم في خد الثرى دمعة القطر

وجر نسيم الريح ردن غلالة

تمسح دمع الطل عن صفحة الدهر

فدونكها عذراء زفت لشربها

وليس لها غير الزجاجة من خدر

فأحسن من ثغر تبسم أشنب

دموع حباب الماء في وجنة الخمر

بحيث غناء الرعد يطرب والحيا

يسقي وخوط البان يرقص من سكر

وعزم المعتمد بن عباد على إرسال حظاياه من قرطبة إلى أشبيلية، فخرج معهن يشيعهن، فسايرهن من أول الليل إلى الصبح، فودعهن ورجع فأنشد:

سايرتهم والليل عقل ثوبه

حتى تبدى للنواظر معلما

فوقفت ثم مودعاً وتسلمت

مني يد الأصباح تلك الأنجما

كان الوزير أبو جعفر أحمد بن طلحة الكاتب المغربي لا يخلي أكثر شعره من بديع الاستعارة، وكان شديد التهور كثير الطيش، ذاهباً بنفسه كل مذهب. قال ابن سعيد صاحب القدح المعلى: سمعته مرة وهو في محفل يقول: تقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي، وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه، فأهوى له شخص له قحة وإقدام فقال: يا أبا جعفر فأرنا برهان ذلك، ما أظنك تعني إلا نفسك. قال: نعم، ولم لا، وأنا الذي أقول ما لم يتنبه له متقدم ولا يهتدي لمثله متأخراً:

يا هل ترى أظرف من يومنا

قلد جيد الأفق طوق العقيق

وأنطق الورق بعيدانها

مرقصة كل قضيب وريق

والشمس لا تشرب خمر الندى

في الروض إلا بكؤوس الشقيق

فلم ينصفوه في الإحسان، وردوه من الغيظ إلى أضيق مكان. فقلت له: يا سيدي هذا هو السحر الحلال، فبالله إلا مازدتني من هذا النمط.

فأنشد:

أدرها فالسماء بدت عروساً

مضمخة الملابس بالغوالي

وخد الروض أحمره صقيل

وجفن النهر كحل بالظلال

وجيد الغصن يشرق في لآلٍ

تضيء بهن أكناف الليالي

فقلت زد وعد: فعاد والارتياح قد ملك عطفه، والتيه قد رفع أنفه وأنشد:

لله نهر عندما زرته

عاين طرفي منه سحراً حلال

إذا أصبح الظل به ليلة

وجال فيه الغصن شبه الخيال

فقلت زد فأنشد:

فلما ماج بحر الليل بيني

وبينكم وقد جددت ذكراً

أراد لقاءكم إنسان عيني

فمد له المنام عليه جسراً

فقلت له أيه فقال:

ولما أن رأى إنسان عيني

بحصن الخد منه غريق ماءِ

أقام له العذار عليه جسراً

كما مد الظلام على الضياء

ص: 52

فقلت أعد فأعاد، وقال: حسبك لئلا تكثر عليك المعاني فلا تقوم بحق قيمتها.

ثم أنشد:

هات المدام إذا رأيت شبيهها

في الأفق يا فرداً بغير شبيهِ

فالصبح قد ذبح الظلام بنصله

فغدت تخاصمه الحمائم فيه

انتهى.

ومن طريف هذا النوع قول السري الرفاء:

أسلاسل البرق الذي لحظ الثرى

وهنا فوشح روضه بسلاسل

أذكرتنا النشوات في ظل الصبا

والعيش في سنة الزمان الغافل

أيام أستر صبوتي في كاشح

عمداً وأسرق لذتي من عاذل

وقوله أيضاً:

وصاحب يقدح لي

نار السرور بالقدحْ

في روضة قد لبست

من لؤلؤ الطل سبح

يألفني حمامها

مغتبقاً ومصطبح

أوقظه بالعزف أو

يوقظني إذا صدح

والجو في ممسك

طرازه قوس قزح

يبكي بلا حزن كما

يضحك من غير فرح

وقوله أيضاً:

يوم خلعت به عذاري

فعريت من حلل الوقارِ

وضحكت فيه إلى الصبا

والشيب يضحك في عذاري

متلون بيدي لنا طرفاً بأطراف النهار

فهواؤه سكب الرداء

وغيمه

يبكي فيجمد دمعه

والبرق يكحله بنار

وقول أبي الحسن على بن أحمد الجوهري من شعراء اليتيمة:

رذ الصباح علينا شملة السحب

ومدت الريح منها واهي الطنبِ

صك النسيم فراخ الغيث فانزعجت

ينفض أجنحة من عنبر الزغب

قال الثعالبي: لو لم يقل إلا هذا البيت لكان من أشعر الناس.

تسعى الجنوب بطرف نحوها ثملٍ

من الندى وفؤاد نحوها طربِ

كفى العواذل أني لا أرى قدحاً=إلا شققت عليه جلدة الطرب وقول بدر الدين يوسف بن لؤلؤ:

هلم يا صاح إلى روضة

يجلو بها العاني صدى همهِ

نسيمها يعثر في ذيله

وزهوها يضحك في كمه

ومثله قولي:

وروضة قابلنا بشرها

بضاحك النوار بسامهِ

تسحب فيها الريح أذيالها

وينفخ الورد بأكمامه

وما أظرف قول ابن عمار:

يا ليلة بتنا بها

في ظل أكتاف النعيمِ

من فوق أكمام الرياض

وتحت أذيال النسيم

ومثله قول ابن المعتز:

وقد ركضت بنا خيل الملاهي

وقد طرنا بأجنحة السرورِ

وقول ابن وكيع:

غرد الطير فنبه من نعس

وأدر كأسك فالعيش خلس

سل سيف الفجر من غمد الدجى

وتعرى الصبح من ثوب الغلس

وانجلى عن حلل فضية

نالها من ظلمة الليل دنس

وطريف قول البدر الذهبي:

ما نظرت مقلتي عجيبا

كاللوز لما بدا نواره

اشتعل الرأس منه شيبا

واخضر من بعد ذا عذاره

وقول أبي الحسن العقيلي:

فلما تبدى لنا وجهه

نهبنا محاسنه بالعيون.

وقول محمد بن عبد الله السلامي:

والكأس للمسكر التبري صائغة

والماء للحبب الدري نظام

بتنا نكفكف بالكاسات أدمعنا

كأننا في حجور الروض أيتام

وقوله أيضاً: تبسطنا على الآثام لما=رأينا العفو من ثمر الذنوبِ قيل كل الصاحب بن عباد يستحسن هذا البيت، ويستشهد به كثيراً، وكان يقول: ما درى قائله أي درة رمى بها، وأي غرة سيرها وخلدها.

وطريف قول مجير الدين بن تميم:

كيف السبيل بأن أقبل خد من

أهوى وقد نامت عيون الحرس

وأصابع المنثور تومئ نحونا

حسداً وترمقنا عيون النرجس

وما أبدع قول الشريف الرضي في مرثية:

أرسى النسيم بواديكم ولا برحت

حوامل المزن في أجداثكم تضعُ

ولا يزال جنين النبت ترضعه

على قبوركم العراصة اللمع

وقد سرق هذا البيت ابن سعد الموصلي سرقة فاحشة فقال من قصيدة يتشوق فيها إلى دمشق.

مطلعها:

سقى دمشقى وأياماً مضت فيها

مواطر السحب ساريها وغاديها

والبيت المسروق هو:

ولا يزال جنين النبت ترضعه

حوامل المزن في أحشا أراضيها

ص: 53

وأما خمرية الشريف الرضي عليه من الله الرضا، التي أسكرت الألباب وانتشت بها قلوب أولي الآداب، فإن استعاراتها كلها بديعة وأبيات لطائفها على غير منيعة. وكان سبب نظمه لها، أنه على وفور شعره، وارتفاع شأنه، وغلاء سعره، لم يكن ينظم في باب الخمريات شيئاً، نزاهة منه وإجلالاً لقدره الشريف عن ذلك، فسأله بعض من يعز عليه من أصحابه القول في ذلك، ليشتمل ديوانه من الشعر على فنونه كما اشتمل على محاسنه وعيونه فقال:

اسقني فاليوم نشوان

والربى صاد وريانُ

كفلت باللهو وافية

لك نايات وعيدان

جار وفد الريح فالتطمت

منه أرواق وأغصان

كل فرع مال جانبه

فكأن الأصل سكران

وكأن الغصن مكتسياً

من بياض الطل عريان

كلما قبلت زهرتها

خلت أن القطر غيران

ومقيل بين أخبية

قلته والحي قد بانوا

عسكرت فيها السحاب كما

حط بالبيداء ركبان

في أصحاب مفارشهم

ثم أنقاء وكثبان

فارتشفنا ريق سارية

حيث كان الأرض غدران

فاسقني والوصل يألفني=إن يوم البين قرحان

قهوة ما زال يعلق في

مجتناها المسك والبان

غير سمعي للملام إذا

صاح شاجي الصوت مرنان

رب بدر بت ألثمه

صاحياً والبدر نشوان

قدت خيل اللثم أصرفها

حيث ذاك الجيد ميدان

لي غدير من مقبله

ومن الصدغين بستان

في قميص الليل عبقة من

ظن أن الوصل كتمان

كيف لا تبلى غلائله

وهو بدر وهي كتان

وندامى كالنجوم سطوا

بالمنى والدهر جذلان

خطروا والخمر تنفضهم

وذيول القوم أردان

كم تخلت من ضمائرهم

ثم الباب وأذهان

كل عقل ضاع عن يقظ

فهو في الكاسات حيران

إنما ضلت عقولهم

حيث يعيبهن وجدان

فاختلس طعن الزمان

إنما الأيام أقران

وله أيضاً رضي الله عنه:

أشكو ليالي غير معتبة

أما من الطول أو من القصر

تطول في هجرهم وتقصر في

الوصل فما تلتقي على قدر

يا ليلة كاد من تقاصرها

يعثر فيها العشاء بالسحر

وما أرق قوله من أبيات:

آها على نفحات نجد أنها

رسل الهوى وأدلة الأشواقِ

وما ألطف قول أبي زكريا المغربي:

نام طفل النبت في حجر النعامى

لاهتزاز الظل في مهد الخزامى

وسقى الوسمي أغصان النقا

فهوت تلثم أفواه الندامى

كحل الفجر لهم جفن الدجى

وغدا في وجهة الصبح لثاما

تحسب البدر محيا ثمل

قد سقته راحة الصبح مداما

حول الزهر كؤوس قد غدت

مسكة الليل عليهن ختاما

يا عليل الريح رفقاً علني

أشف بالسقم الذي حزت سقاما

أبلغن شوقي غريباً باللوى

همت في أرض بها حلواً غراما

فرشوا فيها من الدر حصى

ضربوا فيها من المسك خياما

كنت أشفي غلة من صدكم

لو أذنتم لجفوني أن تناما

واستعدت الروح من ريح الصبا

لو أتت تحمل من سلمى سلاما

وقول التنوخي وهو من غريب الاستعارة:

ورياض حاكت لهن الثريا

حللاً كان غزلها للرعودِ

نثر الغيث در دمع عليها

فتحلت بمثل در العقود

أقحوان معانق لشقيق

كثغور تعض ورد الخدود

وعيون من نرجس تترائى

كعيون موصولة للسهود

وكأن الشقيق حين تندا

ظلمة الصدغ في خدود الغيد

وكأن الندا عليها دموع

في جفون مفجوعة بفقيد

وقول السيد أبي الحسن علي بن أبي طالب البلخي من أبيات:

وكم قد قضى ليل على أبرق الحمى

مضيء ويوم بالمسرة مشرقُ

تسرقت فيه اللهو أملس ناعما

وأطيب أنس المرء ما يتسرق

ويا حسن طيف قد تعرض موهنا

وقلب الدجا من صولة الصبح يخفق

وقول ابن عمار: أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى=والنجم قد صرف العنان عن السرى

والصبح قد أهدى لنا كافوره

لما استرد الليل منا العنبرا

وقول ابن النبيه:

والنهر خد بالشعاع مورد

قد دب فيه عذار ظل البانِ

ص: 54

والماء في سوق الغصون خلاخل

من فضة والزهر كالتيجان

وقول ابن قرناص:

لقد عقد الربيع نطاق زهر

يضم بغصنه خصراً نحيلا

ودب مع العشي عذار ظل

على نهر حكى خداً أسيلا

وكلهم قد أخذوا الوجه والعذار من ابن خفاجة حيث قال:

وإني وإن جئت المشيب لمولع

بطرة ظل فوق وجه غديرِ

وما أحسن قول الشهاب محمد:

إذا الكرى ذر في أجفاننا سنة

من النعاس منعناها عن الهدبِ

وقول ابن نباتة المصري:

ولما جنى طرفي رياض جمالكم

جعلت سهادي في عقوبة من جنى

أأحبابنا أن عفتم السفح منزلا

وأخليتم من جانب الجزع موطنا

فقد حزتموا دمعي عقيقاً ومهجتي

غضاً وسكنتم من ضلوعي منحنى

وقوله أيضاً:

هذي الحمائم في منابر أيكها

تملي الغنا والطل يكتب في الورقْ

والقضب تخفض للسلام رؤوسها

والزهر يرفع زائريه على الحدقْ

وهو أحسن من قول ابن تميم:

إني لأشهد للحمى بفضيلة

من أجلها أصبحت من عشاقهِ

ما زاره أيام نرجسه فتى

إلا وأجلسه على أحداقهِ

وقول ماني الموسوس:

دعتني إلى وصلها جهرة

ولم تدر أني لها أعشقُ

فقمت وللقسم من مفرقي

إلى قدمي ألسن تنطق

وما أجود قول أبي طاهر البغدادي في نار القرى:

خطرت فكاد الورق تسجع فوقها

إن الحمام لمغرم بالبانِ

من معشر نشروا على تاج الربى

للطارقين ذوائب النيران

وهو مأخوذ من قول الأول:

يبيتون في المشتى خماصاً وعندهم

من الزاد فضلات تعد لمن يقرى

إذا ضل عنهم طارق رفعوا له

من النار في الظلماء ألوية حمرا

وقول صردر:

قوم إذا حيا الضيوف جفانهم

ردت عليهم ألسن النيرانِ

ومنه قول التهامي:

نادته نارك وهي غير فصيحة

فأتم خفق ذوائب النيرانِ

وقد بالغ مهيار الديلمي في قوله:

ضربوا بمدرجة الطريق قبابهم

يتقارعون على قرى الضيفانِ

ويكاد موقدهم يجود بنفسه

حب القرى حطباً على النيران

ومن بديع الاستعارة على سخفه ومجونه قول السعيد بن سناء الملك:

يا هذه لا تستحي

مني في انكشف المغطى

إن كان كسك قد تثأ

ب إن أيري قد تمطى

فاستعارة التثأب والتمطي هنا من أحسن الاستعارات. قال ابن جبارة: أنشدني ابن سناء الملك هذا وزادني الإعجاب به، فلما عدت إلى البيت، أخذت جزء من البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي، فوجدت فيه، أن بغدادية قالت الأخرى: خرجت اليوم إلى العيد؟ قالت أي وحياتك. قالت لها: فما رأيت؟ قالت: أحراءً تتثأب وأيوراً تتمطى. فلما اجتمعت به قلت لها: قد عرفت وعثرت على الكنز الذي انتهبته، وحكيت لها الحكاية فقال: سيدنا يفتش عن أمري.

ومن طريف الاستعارات قول أبي الوليد بن الجنان الكناني الشاطبي:

هات المدام فقد ناح الحمام على

فقد الظلام وجيش الصبح في غلبِ

وأعين الزهر من طول البكاء رمدت

فكحلتها يمين الشمس بالذهبِ

والكأس حلتها حمراء مذهبة

لكن أزرارها من لؤلؤ الحبب

كم قلت للأفق لما أن بدا صلفا

بشمسه عندما لاحت من الحجب

إن تهت بالشمس يا أفق السماء فلي

شمسان خد نديمي وابنة العنب

تم فاسقنيها وثغر الصبح مبتسم

والليل تبكيه عين الشمس بالشهب

والسحب قد لبست سود الثياب وقد=قامت لترثيه الأطيار في القضب وقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي:

قم هاتها وضمير الليل منشرح

والبدر في لحبة الظلماء يسبحُ

عجل بها وحجاب الليل منسدل

من قبل يدري بنا في وكره الصبح

واستضحك الدهر قد طال العبوس به

لا يضحك الدهر حتى يضحك القدح

فقام والسكر يعطو في مفاصله

يكاد يقطر من أعطافه المرحُ

يطوف والليل بالجوزاء منتطق=بها علينا رشا بالحسن متشح منها:

فما تبسم في وجه الصبا قدح

حتى تنفس من جيب الدجى وضحُ

ودعته وجبين الصبح منذلق=وللظلام لسان ليس يجترح

ولا يطيب الهوى يوماً لمغتبقٍ

حتى يكون له في اليوم مصطبح

ص: 55

وله أيضاً وهو من الشعر الذي تكبو فرسان البلاغة دونه، ويتعثر الساعون خلفه، في أذيال خسرهم، ولا يلحقونه:

طال عمر الدجى علي وعهدي

بالدياجي قصيرة الأعمارِ

ما احتسيت المدام إلى وغصت

لهوات الدجى بضوء النهار

حبذا طلعة الربيع وأهلاً

بمجالي عرائس الأزهار

وزمان البهار لو عاد فيه

غيسان الشباب عود البهار

ومبيتي إذا نبا بي مبيتي

في ظلال العريش والنوار

كم تفيأتها فحنت علينا

حنة الأمهات والأطيار

مرحباً بالمشيب لولا زمان

غض من وحط من مقداري

لو وفى الصبا ولو عمر حين

يا زماني أخذت منك بثاري

هذه من القوافي التي عناها بقوله من أخرى على الوزن دون القافية:

وقواف لو ساعد الجد نيطت

موضع الدر من رقاب الغواني

سائرات بيوتهن على الأل

سن سير الأمثال في البلدان

قصدٌ كالفرند في صفحة الده

ر أو كالشنوف في الآذان

عاصيات على الطباع ذلول

يتغنى بهن في الركبان

وقوله أيضاً فيما نحن فيه:

أرقت لبارق في جو راسي

جرضت لصوب عارضه بريقي

هدته النائبات وأي ضيف

هدت يوم الفراق إلى فروقِ

رفعت له بجنح الليل ناري

فخاض الليل يعسف في الطريق

وددت ولو بضرب الهام أني

رعيت له ولو بعض الحقوق

وقول السيد أحمد بن مسعود الحسني:

ألا هبي فقد بكر الندامى

ومجيء المزج من ظلم الندى ما

وهيمنت القبول فضاع نشر

روى عن شيح نجد والخزامى

وقد وضعت عذارى المزن طفلاً

بمهد الروض تغذوه النعامى

وقول القاضي تاج الدين المالكي:

طال المنام على أرجوحة الصغر

وبالغ الشيب في التحذير بالنذرِ

وجيش ليل الصبا فرت كتيبته

لما أتى جيش صبح الشيب بالتبر

فاغسل بدمعك جفناً بات مكتحلاً

بنومه واكتحل من أثمد السهر

وانهض لتصقل مرآة البصيرة من

غين الغشاء وما للذنب من أثر

إن الذنوب وإن جلت فإن لها

إتيان ساحة طه سيد البشر

فشد حزم مطايا قصده وانخ

ببابه والثم الأعتاب واعتفر

ومما وقع لي أنا في باب الاستعارة، قولي وهو صدر قصيدة مدحت بها الوالد رحمه الله تعالى:

برق الحمى لاح مجتازاً على الكثب

وراح يسحب أذيالاً من السحبِ

أضاء والليل قد مدت غياهبه

فأنجاب عن لهب يذكو وعن ذهب

فما تحدر دمع المزن من فرقٍ

حتى تبسم ثغر الروض من طرب

وغنت الورق في الأفنان مطربة

وهزت الريح أعطافاً من القضب

والصبح خيم في الآفاق عسكره

والليل أزمع من خوف على الهرب

فقلت للصحب قوموا للصبوح بنا

يا طيب مصطبح فيه ومصطحب

واستضحكوا الدهر عن لهو فقد ضحكت=كأس المدامة عن ثغر من الحبب وقلت بعده:

فقام يسعى بها الساقي مشعشة

كأنها حلب العناب لا العنبِ

حمراء تسطع نوراً في زجاجتها

كالشمس في البدر تجلو ظلمة الكرب

وراح يثني قواماً زانه هيف

بمعطف من قضيب البان مقتضب

في فتية يتجلى بينهم مرحاً

كأنه البدر بين الأنجم الشهب

مهفهف القدِّ معسول اللمى ثمل

يتيه بالحسن من عجب ومن عجب

لا يمزج الكأس إلا من مراشفه

فأطرب لما شئت من خمر ومن ضرب

قد أمكنت فرص اللذات فاقض بها

ما فات منك وبادر نهزة الغلب

واغنم زمانك ما صافاك منتهبا

أيام صفوك نهباً من يد النوب

ولا تشب مورداً للأنس فزت به=بذكر ما قد مضى في سالف الحقب

إن الزمان على الحالين منقلب

وهل رأيت زماناً غير منقلب

وإنما المرء من وفته همته

حظيه في الدهر من جد ومن لعب

كم قلبتني ليالي في تصرفها

فكنت قرة عين الفضل والأدب

تزيدني نوب الأيام مكرمة

كأنني الذهب الإبريز في اللهب

لا أستريب بعين الحق أدفعه

ولا أراب بغين الشك والريب

لقد طلبت العلى حتى انتهيت إلى ما لا ينال فكانت منتهى أربي

وتخلصت إلى المدح بقولي:

ص: 56

حسبي من الشرف العليا أرومته

إن انتمى لنظام الدين في حسبن

هذا أبي حين يعزى سيدٌ لأبٍ

هيهات ما للورى يا دهر مثل أبي

قطب عليه رحى العلياء دائرة

وهل تدور الرحى إلا على القطب

كالليث والغيث في عزم وفي كرم

والزهر والدهر في بشر وفي غضب

مسلك تهب آلاف راحته

فكم أغاثت بجدواها من التعب

أضحت به الهند للألباب سالبة

كأنها هند ذات الظلم والشنب

ومن الموشحات التي اشتملت على بديع الاستعارة قول شهاب العزازي:

يا ليلة الوصل وكأس العقار

دو استتار

علمتماني كيف خلع العذارْ

اغتنم اللذة قبل الذهابْ

وجر أذيا الصبا والشباب

وأشرب فقد طابت كؤوس الشراب

على خدود تنبت الجلنار

ذات احمرار

طرزها الحسن بآس العذار

الراح لا شك حياة النفوس

فحل منها عاطلات الكؤوس

واستجلها بين الندامى عروس

تجلى على خطابها في أزار

من النضار

حبابها قام مقام النثار

أما ترى وجه الهنا قد بدا

وطائر الأسحار قد غردا

والروض قد وشاه قطر الندا

فكلمل اللهو بكأس تدار

على افترار

مباسم الأزهار غب القطار

إجن من الوصل ثمار المنى

وواصل الكأس بما أمكنا

مع طيب الريقة حلو الجنى

بمقلة أفتك من ذي الفقار

ذات أحورار

منصورة الأجفان بالانكسار

زار وقد حل عقود الجفا

وافتر عن ثغر الرضا والوفا

يا ليلة أنعم فيها وزار

شمس النهار

حييت من بين الليالي القصار

ولنقف من النظم على هذه الغاية، ففيه للطالب كفاية إن شاء الله تعالى.

خاتمة - من المهم الفرق بين الاستعارة والتشبيه المحذوف الأداة، نحو زيد أسد. قال الزمخشري في قوله تعالى:(صم بكم عمي) فإن قلت: هل يسمى ما في الآية الاستعارة؟ قلت: مختلف فيه والحففون على تسمية تشبيهاً بليغاً لا استعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون. وإنما تطلق الاستعارة، حيث يطوي ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلواً عنه، صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه، لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام. ومن ثم ترى المفلقين من السحرة يتناسبون التشبيه ويضربون عنه صفحاً.

وعلله السكاكي بأن من شرط الاستعارة، إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر، وتناسي التشبيه وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة، فلا يجوز كونه استعارة، وتابعه صاحب الإيضاح.

قال في عروس الأفراح: وما قالاه ممنوع، وليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة في الظاهر.

قال: بل لو عكس ذلك وقيل: لا بد من عدم صلاحيته لكان أقرب لأن الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة، فإن لم تكن قرينة امتنع صرفه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته، وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة، أما لفظية أو معنوية، نحو زيد أسد، فالأخبار به عن زيد قرينة صارفة عن إرادة حقيقية.

قال: والذي نختاره، إن نحو زيد أسد قسمان، تارة يقصد به التشبيه فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة، فلا تكون مقدرة، ويكون الأسد مستعملاً في حقيقته، وذكر زيد والأخبار عنه بما لا يصلح له حقيقة قرينة صارفة إلى الاستعارة دالة عليها، فإن قامت قرينة على حذف الأداة صرنا إليه، وإن لم تقم، فنحن بين إضمار واستعارة، والاستعارة أولى، فيصار إليها.

وممن صرح بهذا الفرق، عبد اللطيف البغدادي في قوانين البلاغة.

وكذا قال حازم: الفرق بينهما إن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه. فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها، والتشبيه بغير حرف على خلاف، لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه، قال في الإتقان.

وبيت بديعية الشيخ صفي الدين في نوع الاستعارة قوله:

إن لم أحث مطايا العزم مثقلة

من القوافي تؤم المجد عن أمم

وبيت ابن جابر الأندلسي قوله:

تقول صحبي وسفن العيس خائضة

بحر السراب وعين القيظ لم تنم

قال ابن حجة: بيت الشيخ صفي الدين وبيت ابن جابر لم يحسن السكوت عليهما، إذ لم تنم بهما الفائدة، فإن بيت الشيخ صفي الدين متعلق بما قبله، وبيت ابن جابر متعلق بما بعده.

ص: 57