الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال ناظمة في شرحه: معناه هم أهل الفضائل (سيماهم تبين) أي تظهر. ولا سيماهم: الأصل، ولاسيما، بياء متحركة، وهي مركبة من سي، وما؛ يستثنى بها؛ فسكنت الياء بضرورة الشعر وهو جائز؛ والضمير المتصل يعود إلى الصحابة. وقوله: وهي نور في وجوههم، يعين أثر السجود. وفي البيت التجنيس الملفق. انتهى كلامه، وكأنه يريد التلميح إلى قوله تعالى (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) .
العنوان
وآدم إذ بدا عنوان زلته
…
به توسل عند الله في القدم
العنوان بضم وقد يكسر، والأول أفصح. قال أبو الهيثم: أصله عنان كرمان، فلما كثرت النونات قلبت إحداهما واوا. ومن قال: علوان، جعل النون لاما، لأنها أخف وأظهر من النون. قال: وكلما استدللت بشيء تظهره على غيره فهو عنوان له. قال: وعننت الكتاب، وعنيته، وعنونته، وعلونته بمعنى واحد. قال: وسمي عنوان الكتاب عنوانا لأنه يعزله نم ناحيته.
وقال الجوهري: ويقال: عينان. وقال الليث: العلوان لغة في العنوان غير جيدة.
قال في المصباح: وعنوان كل شيء ما يستدل به عليه، ويظهره.
وفي اصطلاح البديعيين قال ابن أبي الإصبع: هو أن يأخذ المتكلم في غرض فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص سالفة. ومنه نوع عظيم جدا، وهو عنوان العلوم، بأن يذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها.
فمن الأول قوله تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) الآية، فإنه عنوان قصة بلعام.
ومن الثاني قوله تعالى (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) الآية فيها عنوان علم الهندسة، فإن الشكل المثلث أول الأشكال، وإذا نصب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل، لتحديد رؤوس زواياه. فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكما بهم. وقوله (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) الآيات، فيها عنوان علم الكلام، وعلم الجدل، وعلم الهيئة. انتهى.
وكثيرا ما يقع هذا النوع في أشعار المتقدمين بخلاف أقوال المتأخرين.
فمن ذلك قول أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وقد كتب إليه بعض إخوانه يوصيه بالصبر، وأجابه بقوله:
ندبت لحسن الصبر قلب نجيب
…
وناديت للتسليم خير مجيب
ولم يبق مني غير قلب مشيع
…
وعود على ناب الزمان صليب
وقد علمت أمي بأن منيتي
…
بحد سنان أو بحد قضيب
كما علمت من قبل أن يهلك ابنها
…
بمهلكه في الماء أم شبيب
فهذا عنوان لخبر أم شيب الخارجي. فإنها كانت قد رأت أنها ولدت نارا، فلم تزل النار تشتعل حتى بلغت السماء وعمت بضيائها أقطار الأرض ثم وقعت في ماء فطفئت. وكان إذا قيل لها: أن ابنك قتل لم تصدق، وإذا قيل لها: إنه مات قالت: لا، فلما قيل لها: أنه غرق، ناحت عليه. وكان وثب به فرسه في دجلة من أعلى الجسر فوقع في الماء، وأثقله الحديد الذي عليه فغرق. وحكي أن أصحاب الحجاج غاصوا عليه فأخرجوه من الماء، وشقوا بطنه، واستخرجوا قلبه فوزنوه فكان سبعة أرطال، ويقال: أنهم كانوا يضربون فيه الأرض فيطفر، وإن أحدهم كان يغمزه بأصبعه فيجده كالحجر صلابة، وحديثه معروف.
ومن هذه القصيدة أيضا:
تحملت خوف العار أعظم خطة
…
وأملت نصرا كان غير قريب
وللعار خلى رب غسان ملكه
…
وفارق دين الله غير مصيب
هذا أيضاً من نوع العنوان، فإنه يشير إلى قصة جبلة بن الأيهم، وهو آخر ملوك غسان، وهو بن الأيهم بن الحارث الغساني، وهو أول من ملك الشام من آل غسان، وكان طوالا، يقال: أن طوله كان اثني عشر ذراعا. وكان من خبره أنه قدم إلى عمر ليسلم، فخرج في خمسمائة فارس من عكل وجفنة. فلما قربوا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوجة بالذهب، والخز الأصفر، وحملهم على الخيل، وقلدها قلائد الفضة والذهب، ولبس تاجه، وفيه قرطا مارية، فلم يبق في المدينة إلا من خرج إليه. وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه. ثم حضر الموسم مع عمر، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ أزاره رجل من فزارة فحله، فالتفت إليه مغضبا فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر، فقال له: ما دعاك إلى لطم أخيك؟ قال: إنه وطئ أزاري، ولولا حرمة البيت لأزلت الذي فيه عيناه. فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت، فأما أن ترضيه، وأما أن أقيده منك. قال: أتقيده مني وهو سوقه؟ قال: قد شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية، قال: قد رجون أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية، قال: وهو ذاك، قال: إذن أتنصر، قال: إذا تنصرت ضربت عنقك. واجتمع وفد فزاره، ووفد جبلة حتى كادت تكون فتنة. فقال جبلة: أنظرني إلى غد أنظر في أمري، قال: ذلك إليك. فلما جنح الليل خرج في قومه من عكل وجفنة، فتنصر وقدم على هرقل، فأعظم هرقل قدومه وسر به، وأقطعه الأموال والرباع.
فلما بعث عمر رسوله إلى هرقل يدعوه للإسلام، وأجابه إلى المصالحة، قال للرسول: ألقيت ابن عمك الذي أتانا في ديننا؟ قال: لا، قال: ألقه ثم ائتني وخذ الجواب مني. قال: فذهبت إليه فوجدت على بابه هيبة وجمعا ما رأيت مثله على باب هرقل، فلما أذن لي دخلت عليه فإذا هو على سرير من ذهب، أربع قوائمه أسد من ذهب، وعليه ثياب صفر، وعلى رأسه تاج فيه قرطا مارية. فلما رآني رحب بي وأكرمني وقال: أجلس على ذلك الكرسي، فاستعفي لمكان الذهب، فضحك وقال: إذا طهر قلبك فلا تبالي ما لبست، وعلى ما جلست، فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك. ثم أشار إلى خادم، فما كان أسرع من أن جاء ومعه وصائف يحملن صناديق الأطعمة، فوضعت، ثم أتي بمائدة من ذهب عليها صحائف الفضة، وأتيت بطبق من خيزران، وبآنية من الخلنج والزجاج. فلما رفعنا أيدينا، أتي بطست وكوز من ذهب فشرب به خمسة. ثم وضعت بين يديه كراسي عشرة فجلست عليها جوار مثل الدمى، وجاءت جارية في يمينها جام ذهبي، وفي شمالها جام فضي، وعلى رأسها حمام أبيض مزخرف، فوضعت الجامين، فإذا في الذهبي ماء ورد، وفي الفضي سحيق المسك. ثم نفرت الحمام، فوقع في ذلك مرة، وفي هذا أخرى. ثم طار بما لزق بجناحيه من ماء الورد والمسك حتى وقع على تاجه فانتفض.
ثم أقبل جبلة على الجواري فقال: أطربنني، فتغنين بقولهم:
لله در عصابة نادمتهم
…
يوما بجلق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهم
…
راح تصفق بالرحيق السلسل
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
…
قبر ابن مارية الجواد المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم
…
لا يسألون عن السواد المقبل
فضحك ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا، قال: حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأول الأبيات المذكورة (أسألت رب الدار أم لم تسأل) : ثم ألتفت إلى الجواري وقال: ابكينني، فتغنين بقولهم:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة
…
وما كان فيها لو تجافيت من ضرر
تداخلني فيها لجاج ونخوة
…
فكنت كمن باع السلامة بالغرر
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
…
رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة
…
وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي في الشام أدنى معيشة
…
أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
فبكى حتى بل لحيته. ثم سألني عن حسان، قلت: عمي وقلت ذات يده، فدعى بخمسمائة دينار هرقلية وخمسة أثواب، ونزع جبة كانت عليه، وقال: أدفعها إليه.
فلما وفدت على عمر وقصصت عليه القصص، وأنه بعث معي إلى حسان كذا وكذا قال: أدع حسانا ولا تعلمه، فلما دخل حسان قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، إني لأجد روائح آل جفنة، قال له: نعم قد آتاك على رغم أنفه معونة.
فأخذها وخرج وهو يقول:
أن ابن جفنة من بقية معشر
…
لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها
…
كلا ولا متنصرا بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عطية
…
إلا كبعض عطية المحروم
وحكي أن حسان دخل يوما على جبلة فقال له: قد دخلت علي ورأيتني ورأيت النعمان فكيف وجدتنا؟ فقال: والله لشمالك أندى من يمينه، ولقفاك أحسن من وجهه، وأمك خير من أبيه.
وفي خبر رسول عمر المذكور، إنه لما سمع جبلة يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، طمع في إسلامه فقال له (ويحك يا جبلة الإسلام فقد عرفته وفضله) فقال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم قد فعل رجل من فزارة أكثر مما فعلت، أرتد وضرب وجه المسلمين، ثم أسلم وقبل منه، فقال: زدني من هذا، إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته، ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام. فضمنت له التزويج، ولم أضمن له الخلافة.
قال: فرجعت إلى عمر فأخبرته، فقال: هلا ضمنت له الأمر، فإذا أسلم قضى الله علينا بحكمه. ثم جهزني عمر إلى قيصر وأمرني أن أضمن لجبلة الشرط، فقدمت القسطنطينية فوجدت الناس منصرفين من جنازته، فعملت أن الشقاء قد سبق عليه.
ومن قصيدة أبي فراس المذكورة:
ولم يرتغب في العيش عيسى بن مصعب
…
ولا خف خوف بالحرون حبيب
وهذا عنوان لخبر عيسى بن مصعب بن الزبير، فإنه كان في حرب عبد الملك بن مروان مع أبيه وهو غلام حدث فقال له أبوه: انج بنفسك، فقال: ما كنت لأفارقك. فتقدم فقاتل حتى قتل بين يديه.
والحرون، هو حبيب بن المهلب بن أبي صفرة، وسمي الحرون لثباته في الحرب.
ومنه قوله أيضاً وقد أسرته الروم وساموا فداءه، فكتب إلى سيف الدولة (يسأله أن يفديه) قصيدة أولها:
دعوتك للجفن القريح المسهد
…
لدي وللنوم الطريد المشرد
أناديك لا أني أخاف من الردى
…
ولا أرتجي تأخير يوم إلى غد
وما ذاك بخلا بالحياة وإنها
…
لأول مبذول لأول مجتدي
وما الأسر مما ضقت ذرعا بحمله
…
وما الخطب مما أن أقول له قدى
وما زال عني أن شخصي معرض
…
لنبل العدى إن لم يصب فكأن قد
ولكنني أختار موت بني أبي
…
على صهوات الخيل غير موسد
إلى أن قال:
دعوتك والأبواب ترتج دوننا
…
فكن خير مدعو وأكرم منجد
فمثلك من يدعى لكل عظيمة
…
ومثلي من يفدى بكل مسود
ولا تقعدن عني وقد سيم فديتي
…
فلست عن الفعل الكريم بمقعد
فإن مت بعد اليوم عابك مهلكي
…
معاب الزرازيين مهلك معبد
هم عضلوا عنه الفداء فأصبحوا
…
يهذون أطراف القصيد المقصد
ولم يك بدعا هلكه غير أنهم
…
يعابون إذ سيم الفداء مما فدي
هذا عنوان لواقعة معبد بن زرارة التميمي أخي حاجب بن زرارة، وذلك أن بني عامر بن صعصعة كانوا قد أسروه فأشترى نفسه بأربعمائة بعير، فأبى أخوه لقيط أن يبذلها فيه، واعتذر بأن أباه أوصاه أن لا تطعموا العرب أثمان بني زرارة، فحبسه بنو عامر بن صعصعة حتى مات في الأسر، فندم أخوه لقيط، وانشأ فيه المراثي.
وما أحسن قول أبي فراس بعد هذا:
فإن تفتدوني تفتدوا لعلاكم
…
فتى غير مردود اللسان ولا اليد
وأن تفتدوني شرق العدى
…
أسرع عواد إليها معود
يدافع عن أحبابكم بلسانه
…
ويضرب عنكم بالحسام المهند
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى
…
طويل نجاد السيف رحب المقلد
وقال فيها يخاطب سيف الدولة:
فيا ملبسي النعمى التي جل قدرها
…
لقد أخلقت تلك الثياب فجدد
ألم تر أني فيك صافحت حدها
…
وفيك شربت الموت غير مصرد
وفيك لقيت الألف زرقا عيونها
…
بسبعين فيهم كل أشأم أنكد
يقولون جنب عادة ما عرفتها
…
عسير على الإنسان ما لم يعود
فقلت أما والله لا قال قائل
…
شهدت له في الرب ألأم مشهد
وبكر سألقاها فإما منية
…
هي الظن أو بنيان عز موطد
وهذا النوع في شعر أبي فراس كثير، ومنه قوله أيضا:
جمعت سيوف الهند من كل بلدة
…
وأعددت للهجاء كل مجاهد
وأكثرت للغارات بيني وبينهم
…
بنات البكيريات حول المذاود
إذا كان غير الله للمرء عدة
…
أتته الزرايا من وجوه الفوائد
فقد جرت الحنفاء حتف حذيفة
…
وكان يراها عدة للشدائد
الحنفاء: فرس حذيفة بن بدر الفزاري، وهذا عنوان لخبره معها. فإن الحنفاء كان حافرها كبيرا جدا ولم ير حافر مثله، فلما كان يوم الهباءة انهزم حذيفة عليها، فلم يدر أين توجه. فقال قيس بن زهير: اتبعوا أثر الحنفاء، فتبعوه حتى لحقوه بماء الهباءة، فقتل هو وجماعة من أهله، وكانت الحفناء سبب قتله.
وقال بعده:
وجرت منايا مالك بن نويرة
…
عقيلته الحسناء أيام خالد
يشير إلى حكاية مالك بن نويرة مع خالد بن الوليد. فإن مالكا لما أمتنع أن يؤدي الصدقات إلى أبي بكر أنفذ إليه خالد بن الوليد. فيذكر أن خالدا أعطاه الأمان، فلما رأى امرأة مالك أعجبته وكانت ذات جمال، فقتل مالكا وتزوج بها وبنى عليها من ليلته، والقضية في ذلك مشهورة.
وقال بعده:
وأردى ذؤابا في بيوت عتيبة
…
أبوه وأهله بشدو القصائد
يشيير إلى خبر ذؤاب بن ربيعة قاتل عتيبة بن الحارث اليربوعي، وذلك أن بني يربوع أسروا ذؤابا ولم يعلموا أنه قاتل عتيبة، وباعوه من أبيه إلى وقت، فجاء أبوه، وتخلف اليربوعيون لمانع منعهم، فظن أبو ذؤاب أنهم قتلوه بعتيبة.
فقال أشعارا منها قوله:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم
…
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
فبلغ اليربوعيين الشعر فقالوا: إنك لقاتل عتيبة؟ فقتلوه.
ومنه قول الفرزدق يخاطب جريرا من قصيدة هجاه بها:
وإني لأخشى لو خطبت إليهم
…
عليك الذي لاقى يسار الكواعب
وهذا عنوان لخبر يسار المضروب به المثل. قال أبو عبيدة: إنه عبد لبني غدانة بن يربوع، أراد مولاته على نفسها، فنهته مرة بعد مرة، فلما أبى إلا طلبها أطعمته في نفسها، وأوعدته أن يأتيها ليلا. فأخبر بذلك عبدا كان معه فقال: يا يسار كل من لحم الحوار، واشرب من لبن الغزار، وإياك وبنات الأحرار. فلم يستمع منه، وأتى مولاته بموعدها، وقد أعدت له موسى فلما دخل عليها قالت: إني أريد أن أدخنك فإنك منتن الريح، قال: افعلي ما بدا لك، ثم أدخلت تحته مجمرة وقبضت على مذاكيره فبترتها، فلما وجد حر الحديد قال صبراً على مجامر الكرام، فذهبت مثلا.
وزعم ابن الكلبي: أن يسار الكواعب، كان عبدا للجبابن حنظلة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة - وليس في العرب أسلم إلا هذا، وأسلم بن القيانة بن عك، وكل شيء في العرب أسلم - وإن يسارا تعشق الرائقة بنت الجبا، بنت مولاه، فخضع لها بالقول فزبرته، فشكا عشقها إلى رفيقه وكان يرعى معه فقال: يا يسار كل لحم الحوار، أشرب لبن العشار، وإياك وبنات الأحرار. فعصاه، وخضع لها ثانية فضحكت إليه، فرجع فقال لصاحبه فأعاد عليه القول الأول ونهاه، ثم عاد إليها وخضع لها فقالت له: ائت مرقدي الليلة، فصار إليها وقد أحدت له موسى، فلما جاء قالت: إن للحرائر طبيبا فإن صبرت عليه أمكنتك من نفسي، فقال: شأنك، فجبته وجدعت أذنيه وشفتيه، فوقع مغشيا عليه، فلم تزل تضربه بالعصي حتى أفاق. فرجع إلى صاحبه مجدوعا، فضرب به العرب المثل.
ومنه قوله أيضاً يجيب جريرا عن قصيدته التي هجا بها عياش بن الزبرقان بن بدر:
وأن تهج آل الزبرقان فإنما
…
هجوت الطوال الشم من هضب يذبل
وقد نبح الكلب النجوم دونه
…
فراسخ تنضي الطرف للمتأمل
لهم وهب الجبار بردي محرق
…
لعز معد والعديد المحصل
يريد بالجبار المنذر بن ماء السماء، وهي أمهن وأبوه امرؤ القيس، وابنه محرق وهو عمرو بن المنذر. ذكروا أن المنذر أبرز سريره وقد اجتمعت عنده وفود العرب، فدعا ببردي ابنه المحرق فقال: ليقم أعز العرب قبيلة، وأكثرهم عددا فليأخذ هذين البردين. فقام عامر بن أحيمر بن بهدلة فأخذهما فأتزر بواحد وارتدى الآخر. فقال له المنذر: ما أنت أعز العرب قبيلة، وأكثرهم عدد. قال: العز والعدد من العرب في معد، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في سعد، ثم في كعب؛ ثم في عوف؛ ثم بهدلة؛ فمن أنكر هذا في العرب فلينافرني. فسكت الناس، فقال المنذر عند ذلك لعامر: هذي عشيرتك ما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك؟ قال: أنا أبو عشرة، وعم عشرة، وخال عشرة، وأخو عشرة، يعينني الأكابر على الأصاغر، والأصاغر على الآكابر. فأما قولك: كيف أنت في بدنك، فشاهد العز شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض وقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل، فلم يقم إليه أحد من الناس. فذهب بالبردين، فسمي ذو البردين.
فقال الزبرقان بن بدر:
وبردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما
…
لعز معد حين عدت محاصله
رآه كرام الناس أولاهم به
…
ولم يجدوا في غيرهم من يعادله
ومما وقع من نوع العنوان في الغزل قول الأرجاني:
ما في جفائكم إذا أنا لم أخن
…
سبب يعاف حديثه ويعاب
سخط النبي على البريء وما درى
…
مما جناه الآفك الكذاب
حتى استبان له بوحني نازل
…
أن الذي قال الوشاة كذاب
يشير إلى واقعة الإفك على عائشة. وكان من أمرها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أقبل من غزوة بني المصطلق، حتى إذا كان قريبا من المدينة قال أهل الإفك في عائشة أم المؤمنين ما قالوا. وحدثت، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فلما كانت غزوة بني المصطلق خرج سهمي عليهن، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان الناس إذ ذاك خفافا، إنما يأكلن العلق لم يهجهن اللحم فيثقلن. وكنت إذا رحل بي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم ويحملونني، ويأخذون بأسفل الهودج ويرفعونه ويضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير وينطلقون به.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سفره ذلك، ونزل منزلا قريبا من المدينة فبات به بعض الليل، ثم أذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس، وخرجت لحاجتي وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار، فلما فرغت انسل من عنقي ولا أدري. فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده - وقد أخذ الناس في الرحيل - فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته. وجاء القوم الذين كانوا يرحلون لي البعير - وقد فرغوا من رحلته - فأخذوا الهودج وهم يظنون أنني فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه وشدوه على البعير، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به.
ورجعت إلى المعسكر وما فيه من داع ولا مجيب، فتلففت بجلبابي، واضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لرجع إلي. فو الله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي - وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس - فرآى سوادي فأقبل حتى وقف علي - وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا متلففة في ثيابي - قال: ما خلفك رحمك الله؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير فقال: أركبي - واستأخر عني - فركبت، وأخذ برأس البعير وأنطلق حتى أصبحت، ونزل الناس، فلما أطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقالوا أهل الإفك ما قالوا، فارتج العسكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك.
ثم قدمنا المدينة، فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أبوي، لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا. إلا أنني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض لطفه بي، فكنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل بي ذلك في شكواي، فأنكرت ذلك منه. وكان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني قال: كيف تيكم؟ ولا يزيد على ذلك، حتى وجدت في نفسي حين رأيت ما رأيت من جفائه، فقلت: يا رسول الله لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟ قال: لا عليك، فانتقلت إلى أمي، ولا أعلم بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها إنما كنا نذهب في فيح المدينة. وإنما كان النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن، فخرجت ليلة في بعض حاجتي، ومعي أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت: بئس ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا، قالت: أو ما بلغت الخبر يا بنت أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك، قلت: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله لقد كان.
قالت: فو الله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت. فو الله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع في كبدي، وقلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: أي بنية خفضي عليك الشأن، فو الله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس وخطبهم - ولا أعلم بذلك - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيرا ويقولون ذاك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي.
قالت: وكان قد كثر ذلك عند عبد الله بن أبي، في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، ولم يكن من نسائه امرأة تناصيني في المنزلة غيرها. فأما زينب فعصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضار بي لأختها فشقيت بذلك. فلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك المقامة قام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وأن يكونوا من أخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك، فو الله أنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد ابن عبادة فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم، أم والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذه المقالة، فقال أسيد: كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذيين الحيين من الأوس والخزرج شر. ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا علي بن أبي طالب عليه السلام وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا ثم قال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله أن النساء لكثير، وإنك لمقتدر أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة ليسألها فقام لها علي وهو يقول: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا وما كنت أعيب على عائشة شيئا، إلا إني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام فتأتي الشاة فتأكله.
قلت وورد عن علي عليه السلام أنه قال: طلقها يا رسول الله. قال الشيخ محمد القابلي: وما أراد بذلك تنقيص قدرها، وإنما تعارض في حقه أمران مشكلان: إضرار عائشة بالطلاق، وإضرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما نزل به من الأمر العظيم في شأن الإفك، والقاعدة فيما إذا تعارض إضراران، أن يرتكب أخفهما، ولاشك أن إضرار عائشة هو الأخف، فأراد راحته صلى الله عليه وآله وسلم مما حصل عنده، وعلم أنه ولابد أن ينزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء، لأنه يعتقد نزاهتها وعظيم قدرها، وإن له صلى الله عليه وآله وسلم سبيلا إلى مراجعتها.
قالت عائشة: ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعندي أبواي وعندي امرأة من الأنصار، وأنا أبكي وهي تبكي معي، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي الله، فإن كنت قارفت سوء مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة من عباده. قالت: فو الله ما هو إلا أن قال لي ذلك فقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت أبوي أن يجيبا عني فلم يتكلما.
قالت: وأيم الله لأنا كنت أحقر نفسي وأصغر شأنا أن ينزل الله فيّ قرآنا يتلى في المسجد ويصلى به، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نومه شيئاً يكذب الله به عني لما يعلم من برائتي، أو يخبر خبرا. فأما قرآن ينزل فيّ فو الله لنفسي كانت أحقر عندي من ذلك.
قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالا: والله ما ندري بماذا نجيبه. قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام. فلما استجمعا عليّ استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله، لا أتوب إلى الله عما ذكرت أبدا، والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس - والله يعلم أني منه بريئة - لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقول الناس لا يصدقونني. ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكني أقول كما قال أبو يوسف (فصبر جميل ولله المستعان على ما تصفون) .
قالت: فو الله ما برح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فتسجى بثوبه، ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه. فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فزعت ولا باليت قد عرفت أني بريئة، وإن الله غير ظالمي. وأما أبواي، فو الذي نفس عائشة بيده، ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس وأنه لينحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: ابشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك. فقلت: بحمد الله.
ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم.
قالت: ولما نزل في القرآن ذكر من قال من أهل الإفك فقال (إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما أكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) قيل: إنه حسان وأصحابه، وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه. ثم قال (لولا إذ سمعتوه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) أي هلا قلتم إذ سمعتوه كما قال أبو أيوب الأنصاري وصاحبته أم أيوب، وذلك أنها قالت لزوجها: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ فقال بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلته؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك. ثم قال تعالى (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) . فلما نزل هذا في عائشة قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته -: والله لا أنفق على مسطح أبدا، ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذي قال لعائشة. قالت: فأنزل الله في ذلك (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسمعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) . قالت: فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفقها وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
وكان حسان قد عرض بصفوان بن المعطل بقوله:
أمس الخلابيس قد عزوا وقد كثروا
…
وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
فلما بلغ ذلك صفوان اعترض حسان فضربه بالسيف ثم قال:
تلق ذباب السيف عني فإنني
…
غلام إذ هوجيت لست بشاعر
ولما سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا عائشة أما والله لقد برأك الله. فقالت أمي: قومي إليه، قالت عائشة: فقلت: والله لا أقوم إليه ولم أحمد إلا الله.
وبيت بديعية الصفي الحلي رحمه الله قوله:
والعاقب الحبر في نجران لاح له
…
يوم التباهل عقبى زلة القدم
العنوان في هذا البيت هو الإشارة إلى قصة المباهلة التي ذكرها الله سبحانه في القرآن المجيد فقال (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساؤكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنه الله على الكاذبين) .
قال الإمام في تفسيره: روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم أنهم أصروا على جهلهم قال عليه السلام: إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم. فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع في أمرنا ثم نأتيك. فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لكان الاستيصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلى بلادكم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي عليه السلام خلفها، وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قال: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وإن نقرك على دينك. فقال صلوات الله عليه: فإذا أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين. فأبوا، فقال: إني أناجزكم الحرب، فقالوا: مالنا بحرب العرب طاقة، نصالحك على أن لا تغزونا، ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر، وألف في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال: والذي نفسي بيده أن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله، ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة، ثم علي رضي الله عنهما، ثم قال (إنما يرد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) .
قال: وأعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.
وابن جابر لم ينظم هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
بشرى المسيح أتت عنوان دعوته
…
وقبله كل هاد صادق القدم
يريد بعنوانه قوله تعالى (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) . وعن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
به العصا أثمرت عزا لصاحبها
…
موسى وكم قد محت عنوان سحرهم
هذا البيت عنوانه ظاهر لم يحتج إلى شرح.
وبيت بديعية الطبري قوله:
رجم الشياطين من عنوان بعثته
…
وحين أرسل دين الكفر لم يقم
والعنوان في هذا البيت ظاهر أيضاً.
وبيت بديعيتي هو قولي:
وآدم إذ بدا عنوان زلته
…
به توسل عند الله في القدم