الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وارع النظير من القوم الآلي سلفوا
…
من الشباب ومن طفل ومن هرم
المناسبة فيه ظاهرة وهي بين الشباب والطفل والهرم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
ذكرت نظم اللآلي والحباب له
…
راعى النظير بثغر منه منتظم
المناسبة بين نظم الآلي والحباب والثغر المنتظم، ومعنى البيت أنه ذكر الآلي والحباب لمحبوبه، فراعى النظير بثغر منه منتظم، كأنه تبسم عند ذكر ذلك له.
فكان يجب عطف قوله: راعى النظير (بالفاء) على قوله (ذكرت) كما قدرناه ليفهم المعنى ويصح التركيب، والوصل بين الجملتين بالعطف متعين في مثل هذا التركيب عند أرباب المعاني، وبسبب هذا الفصل خفي معنى البيت على بعض الأدباء، فأعرب الحباب مبتدأ، وجعل قوله: راعى النظير خبره وأعاد الضمير المستتر (في راعى) على الحباب، واستعار له الثغر، وهذا خبط منه سببه هذا الفصل القبيح والصواب ما ذكرناه أولا.
ولا أعجب إلا من إعجاب ابن حجة بهذا البيت حتى قال: إن مهجته ذابت لعدم الإطناب في مدحه، مع أن ما ذكره فيه فوق الإطناب والله أعلم.
والشيخ عبد القادر الطبري جمع بين هذا النوع والتخلص في بيت واحد فقال:
راعي النظير طوى نشر العلى عملا
…
رام التخلص للمختار في الأمم
ليس في هذا البيت من مراعاة النظير شيء أصلا غير الاسم، وأما قوله: طوى نشر العلى فهو مطابقة لا مناسبة، وقد تقدم تقييدهم المناسبة في هذا النوع بكونها لا بالتضاد، احترازا من المطابة. وأما معنى البيت فعلمه عند ربه. وما أقبح هذا التخلص الذي أتى به، فإن الاقتضاب أحسن منه بكثير.
وبيت بديعيتي هو قولي:
وقد قصدت مراعاة النظير لهم
…
من جلنار ومن ورد ومن عنم
المناسبة بين الجلنار والورد والعنم ظاهرة، لكن في تناسب هذه الثلاثة في اللون وهو الحمرة مناسبة معنوية أخرى، والعنم قال في القاموس: شجرة حجازية لها ثمرة حمراء يشبه بها البنان المخضوب.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
قلبي الكليم بموسى اليأس من خضر
…
هود بإسحاقه عيسا خليلهم
مراعاة المناسبة في هذا البيت من النوع الثاني من مراعاة النظير، فإنه ناسب في الظاهر بين أسماء الأنبياء عليهم السلام، ومقصوده غيرها.
قال ناظمه في شرحه: معناه، قلبي الكليم، أي الجريح، بموسى اليأس هنا ضد الرجاء واستعار له موسى يجرح بها، وقوله: من خضر، صفة محبوبه. ثم قال:(هود بإسحاقه عيسا خليلهم) فعيسا: تثنية عيس وهي الإبل، والإسحاق: الإبعاد، وهاد: إذا رجع.
يقول: إن الإبل هود بإبعاده، أي راجعة بإبعاده. يقال: هادت الإبل تهود هودا، فهي هود، إذا رجعت. انتهى بنصه.
ولعمري لقد تكلف الشيخ في هذا البيت ما شاء، والسهولة والانسجام غير هذا.
التوجيه
رفعت حالي إليهم إذ خفضت وقد
…
نصبت طرفي إلى توجيه رسلهم
التوجيه، قال ابن حجة: مصدر توجه إلى ناحية كذا، إذا استقبلها وسعى نحوها. انتهى.
وهو غلط واضح دل على عدم معرفته باللغة والصرف، وإنه كان فيهما راجلا جدا، إذ لا يخفى على أصغر الطلاب أن التوجيه مصدر وجهه إلى كذا توجيها، كما يقال: وجهت وجهي لله سبحانه. وقد يقال: وجهت إليك، بمعنى توجهت، لازما. وأما توجه، فمصدره التوجه، وهذا أمر قياسي ولا يحتاج فيه إلى سماع.
قال ابن مالك في الخلاصة:
وغير ذي ثلاثة مقيس
…
مصدره كقدس التقديس
وزكه تزكية وأجملا
…
إجمال من تجملا تجملا
قال ابنه في شرحها: إن كان الفعل على فعل فمصدره من الصحيح اللام، على تفعيل نحو قدس تقديسا، وعلم تعليما. ومن المعتل على تفعلة، نحو زكى تزكية، وغطى تغطية. وإن كان على تفعل فمصدره على تفعل، نحو تجمل تجملا، وتعلم تعلما، وتفهم تفهما. انتهى.
وابن حجة لم يتعلم ولم يتفهم، فجعل التوجيه مصدر توجه، قولا بغير علم.
وأما التوجيه في اصطلاح البديعيين فهو عند جماعة كالسكاكي، والخطيب والطيبي اسم لمسمى الإبهام المتقدم ذكره، وهو إيراد الكلام محتملا لمعنيين متضادين لا يتميز حدهما عن الآخر، كالمديح والهجاء وغيرهما، والإبهام عند هؤلاء: اسم مرادف للتورية لا لهذا المعنى.
وجاء جماعة من المتأخرين فجعلوا الإبهام اسما لإيراد الكلام محتملا لمعنيين متضادين، لأنهم رأوا أن هذا الاسم أليق بهذا المسمى من التوجيه وقد مر الكلام على الإبهام بهذا المعنى مستوفى في محله مع ذكر شواهده. وجعلوا التوجيه عبارة عن أن يؤلف المتكلم مفردات بعض كلامه أو جمله، ويوجهها إلى أسماء متلائمة من أسماء الأعلام، أو قواعد العلوم، أو غيرها توجيها مطابقا لمعنى اللفظ الثاني من غير اشتراك حقيقي بخلاف التورية. وبهذا يظهر الفرق بينه وبين التورية خلافا لمن أدخله فيها. وسيأتي مزيد بيان للفرق بينهما في أواخر هذا الباب إن شاء الله تعالى.
وهذا الحد للتوجيه هو مذهب الشيخ صفي الدين الحلي، وعليه نشج بيت بديعيته، وهي نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن، وعلى منواله نسج ابن حجة بديعيته، وكذا الشيخ عبد القادر الطبري، والعلوي، وهو الطريق الذي سلكته أنا أيضاً في بيت بديعيتي كما سيأتي فمن التوجيه بأسماء الأعلام قول الشيخ علاء الدين الوداعي وأجاد ما شاء:
من أم بابك لم تبرح جوارحه
…
تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة
…
والقلب عن جابر والأذن عن حسن
الشيخ علاء الدين أحرز قصبات السبق في مضمار هذا النوع بهذين البيتين، وأبدى بهذا التوجيه وجوها أسفرت عن محاسن هي شنوف للسمع وقرة للعين، وبمثل طيب هذه الآثار فليتمسك الأديب، وبنحو هذه الرواية فليتوثق الأريب، ولا غرو أن صدرناهما على سائر الشواهد في هذا الباب، فاستحقاقهما للتصدير معترف به عند أولي الألباب.
وما أحسن مناسبته بين القرة والعين، والصلة والكف، والجبر والقلب والسمع والحسن.
أما قرة فقال ابن حجة: هو قرة بن خالد السدوسي. وليس بمتعين لأنه اسم لجماعة من الرواة منهم قرة بن أياس أبو معاوية المزني، له صحبة عنه ابنه، ومنهم قرة بن موسى الهجيمي، وعنه قرة بن خالد، ومنهم قرة بن بشر الكلبي، عن أبي برده، وعنه أخوه إسماعيل بن أبي خالد.
وأما صلة، فقال بن حجة: هو صلة بن أشيم العدوي، كان من كبار التابعين، والأولى أن يكون صلة بن زفر العبسي لأنه أشهر من ذاك وقد روى عن علي عليه السلام وعبد الله وعمار.
وأما جابر فهو اسم لجماعة كثيرين من الرواة أعظمهم جابر بن عبد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الحسن فقال ابن حجة: هو الحسن البصري، وليس بمتعين أيضاً لكثرة الرواة المسمين بهذا الاسم، ومنهم صحابيون، فتخصيصه بالحسن البصري لا وجه له.
والوادعي المذكور صاحب البيتين هو الشيخ علي بن المظفر بن إبراهيم الكندي الإسكندراني.
وعلى ذكره، فقد اتفقت لي نكتة لطيفة لا بأس بذكرها هنا استطرادا وهي: أني كنت في بعض الأيام في مجلس مع بعض الأصحاب، فتجاذبنا أهداب الصحبة والحديث من قديم وحديث، فكان في جملة ما حدثني به أن قال: أني دخلت شيراز في أيام الشبيبة مع رفقة لي فرأينا في بعض مساجدها أيام مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيخا كبيرا من أهل العجم أناف سنه على التسعين، وجف من ماء عمره العذب المعين، وهو يقرأ في المولد، فبينا نحن جلوس إذ وضع عمامته عن رأسه فبدت له ذؤابة بيضاء تنوس عذبتها. قال: فاستغربنا في الضحك من ذلك، إذ لم نعهد الذؤابة في بلادنا إلا للصبيان، فضحكت أنا من هذه الحكاية، واستطرفت هذه الرواية.
فلم يمض على ذلك يوم أو يومان حتى وقفت في الدرر الكامنة - تاريخ أهل المائة الثامنة - للحافظ بن حجر العسقلاني، على ترجمة الشيخ علاء الدين الوداعي المذكور، وقال فيها: وكانت له ذؤابة بيضاء إلى أن مات، وفيها يقول:
يا عائبا مني بقاء ذؤابتي
…
مهلا فقد أفرطت في تعييبها
قد واصلتني في زمان شبيبتي
…
فعلام أقطعها أوان مشيبها
فتعجبت في نفسي من هذا الاتفاق، وقلت: إن هذين البيتين قاما لذلك الرجل العجمي مقام العذر، وكان له أسوة في إبقاء ذؤابته بالشيخ علاء الدين رحمه الله تعالى.
قال ابن حجة: كانت وفاة الشيخ علاء الدين المذكور في رجب سنة ست عشرة وسبعمائة.
قال: وكان شديدا في مذهب التشيع رحمه الله تعالى. انتهى.
رجع. ومن التوجيه بأسماء الأعلام أيضاً قول ابن النقيب يهجو:
أرح ناظري من عابس الوجه يابس
…
له خلق صعب ووجه مقطب
أقول له إذ آيستني صفاته
…
وإن قيل أني في المطابع أشعب
متى يظفر الآتي إليك بسؤله
…
وينجح من مسعاه قصد ومطلب
ولومك سيارٌ وشرك ياسر
…
ووجهك عباس وخلقك مصعب
وقول محي الدين بن عبد الظاهر يصف نهرا:
إذا فاخرته الريح ولت عليلة
…
بأذيال كثبان الربى تتعثر
به الفضل يبدو والربيع وكم غدا
…
به الروض يحيى وهو لا شك جعفر
ومثله قول بعضهم:
بخالد الأشواق يحيى الدجى
…
يعرف هذا العاشق الوامق
خذوا حديث الوجد عن جعفر
…
من دمع عيني إنه الصادق
وقلت أنا في التوجيه بأسماء الرواة:
صح عن جوده حديث العطايا
…
مستفيضا ما بين باد وقار
كم رجاء فيه روى عن وفاء
…
عن عطاء عن واصل عن يسار
فرجاء اسم لعدة من الرواة. ووفاء، هو وفاء بن شريح المصري، رو عن رويفع بن ثابت وغيره، وعنه بكر بن سوادة، وزياد بن نعيم. وعطاء اسم لاثنين وعشرين راويا، منهم جلة أعلام كعطاء بن أبي رباح، وابن السائب الثقفي الكوفي، وعطاء بن يسار، كان من كبار التابعين. وواصل، اسم جماعة من الرواة أيضاً، منهم واصل بن حيان الأسدي، وابن السائب الرقاشي وابن عبد الأعلى. ويسار جماعة، منهم يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى عن أبيه وعنه ابنه بلال، ويسار أبو نجيح روى عن ابن عباس وابن عمر.
فهذه خمسة من أسماء الرواة وقع بها التوجيه مع تمام المناسبة بينها وبين المعنى المقصود.
ومنه قول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي من قصيدة يمدح بها الوالد:
كم للزمان ولا أخشى بوائقه
…
من ضنةٍ ولعين الملك من جود
عف الشبيبة ميمون النقية منصور الكتيبة مأمون المواعيد
ومما علق بخاطري من هذه القصيدة قوله:
أخلاق أحمد في تقوى أبي حسن
…
وحسن يوسف في ملك ابن داود
لا يحسن الشعر غلا في مدائحه
…
كالدر أحسن ما يبدو على الجيد
ومن التوجيه بأسماء القبائل قول زين الدين بن الوردي وأجاد:
هويت أعرابية ريقها
…
عذب ولي فيه عذاب مذاب
رأسي بنو شيبان والطرف من
…
نبهان والعذال فيها كلاب
ومن التوجيه بأسماء الرجال أيضاً قول بعضهم في الخمر:
تخبر عن نافع فإن قرأت
…
لابن كثير روت لعباس
فهي لنا شمسة الزمان فما
…
تكسف إلا بعقدة الرأس
وقول بعضهم:
سهري من المحبوب أصبح مرسلا
…
وأراه متصلا بفيض مدامعي
قال الحبيب بأن ريقي نافع
…
فاسمع رواية مالك عن نافع
وقول الوزير مؤيد الدين العلقمي رحمه الله تعالى:
ثراؤك موهوب وبرك كامل
…
وحظك مسعود وفضلك منجح
وفعلك محمود ورأيك صالح
…
ووجهك وضاح وسعيك مصلح
وطبعك مشكور وعرضك سالم
…
وجدك منصور وراجيك مفلح
ومن التوجيه بأسماء الكتب أيضاً قول بعضهم:
وظبي معانيه معان بديعة
…
له حار فكري إذ حوى كل معجز
قرأت مقامات الحريري كلها
…
بعارضه مشروحة للمطرزي
وقول تقي الدين السروجي:
تفقهت في عشقي لمن قد هويته
…
ولي فيه بالتحرير قول ومذهب
وللعين تنبيه به طال شرحه
…
وللقلب منه صدق ود مهذب
وقول أمين الدين السليماني:
لو أنه الكشاف من لمع الهوى
…
لرأى مفصل ذا الغرام ومجمله
أو لو رأى إيضاح نور جبينه
…
جعل الوصال لعاشقيه تكمله
وقول بعضهم دوبيت:
الصب بحبكم عراه الوله
…
في طوع هواكم عصى عذله
إيضاح غرامه غدا تكملة
…
إذا صار مفصل الهوى مجمله
ومن التوجيه بأسماء سور القرآن قول السراج الوراق:
كل قلب علي كالصخر ملآ
…
ن وهيهات أن تلين الصخور
مغلق الباب ما تلا سورة الفت
…
ح وقاف من دونها والطور
وقول الشيخ علي بن ملك: ت
ألا يا بني الروم القتال فدونكم
…
فأنا تدرعنا الحديد إلى الحشر
ولا زال آي الفتح تتلو رماحنا
…
وأسيافنا تتلو بها سورة النصر
وقول الشيخ عبد الرحمن العباسي:
وزلزلة كادت تهد بعزمها
…
أقاليم لا يبقى لها أبدا أثر
وواقعة قد صار منها تغابن
…
على الروم لا تنفك أو يحصل الحشر
لقد سئموا وقع الحديد فلا يرى
…
لهم همة نحو القتال ولا كر
فائدة - قال الحافظ السيوطي في الإتقان: التوجيه بالألفاظ القرآنية في الشعر وغيره جائز بلا شك.
وروينا عن الشريف تقي الدين الحسيني أنه لما نظم قوله:
مجاز حقيقتها فاعبروا
…
ولا تعمروا هونوها تهن
وما حسن بيت له زخرف
…
تراه إذا زلزلت لم يكن
خشي أن يكون ارتكب حراما باستعماله هذه الألفاظ القرآنية في الشعر فجاء إلى شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد ليسأله عن ذلك، فأنشده إياهما فقال له: قل (فما حسن كهف له زخرف)، فقال له: يا سيدي أفدتني وأفتيتني. انتهى.
ولابن جابر قصيدة في التوجيه بجميع أسماء السور مدح بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأولها:
في كل فاتحة للقول معتبره
…
حق الثناء على المبعوث بالبقرة
وهي قصيدة طويلة ذكرها رفيقه في شرح بديعيته فلا حاجة بذكرها هنا، وعارضها جماعة فما شقوا لها غبارا.
وما أحسن قول الآخر:
لي عبرة في المرسلات ومهجة
…
في النازعات ومقلة في هل أتى
ومثله قول محمد بن عيسى الخالدي:
في النازعات غدا من باب يعشقكم
…
والعاديات عليه منكم الحدق
وبالحديد تلاقوه إذا انفطرت
…
أكباده وهو بالإخلاص يحترق
والذاريات جفوني حشوها أرق
…
والمرسلات على الخدين تستبق
وقول الآخر:
إذا ما غدا مثل الحديد فؤاده
…
فو العصر إن العاشقين لفي خسر
ومن التوجيه بأسماء المذاهب قول بعضهم:
قلت وقد لج في معاتبتي
…
وظن أن الملال من قبلي
خدك ذا الأشعري حنفني
…
وكان من أحمد المذاهب لي
حسنك ما زال شافعي أبدا
…
يا مالكي كيف صرت معتزلي
ذكرت ما وقفت عليه في بعض الكتب الأدبية: إن بعض المغفلين سأل بعض العلماء: إن الناس قد اختلفت مذاهبهم، فما مذهب الله تعالى؟ وما مذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وما مذهب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقال له: الله مالكي، والنبي شافعي، وعلي إمامي، فاستحسن منه هذا الجواب.
ومن التوجيه بقواعد العلوم قول القاضي شرف الدين المقدسي موجها بألفاظ من قواعد الفقه:
احجج إلى الزهر لتحظى به
…
وارم جمار الهم مستنفرا
من لم يطف بالزهر في وقفة
…
من قبل أن يحلق قد قصرا
وقول ابن جابر موجها بألقاب الحديث:
قالت أعندك من أهل الهوى خبر
…
فقلت أني بذاك العلم معروف
مسلسل الدمع من عيني مرسله
…
على مدبج ذاك الخد موقوف
وقلت أنا في ذلك وفيه نكتة لطيفة:
روى لنا المشط حديثا عجبا
…
من فرعها الداجي كليل اليل
إذ أرسلته واردا مسلسلا
…
فاعجب له من مرسل مسلسل
ومن التوجيه في علم النحو قول البوصيري في البردة:
خفضت كل مقام بالإضافة إذ
…
نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
وقول أمين الدين علي السليماني:
أضيف الدجى معنى إلى لون شعره
…
فطال ولولا ذاك ما خص بالجر
وحاجبه نون الوقاية ما وفت
…
على شرطها فعل الجفون من الكسر
وقوله أيضاً:
نصبت على التمييز إنسان مقلتي
…
أشاهد قدا منه نصبا على الظرف
أأخشى فراقا بعدها أو قساوة
…
وقد جاء واو الصدغ للجمع والعطف
وقول ابن العفيف التلمساني:
ومستتر من سنا وجهه
…
بشمس لها ذلك الصدغ في
كوى القلب مني بلام العذار
…
فعرفني أنها لام كي
وما ألطف قول ابن الحنبلي:
ضممت إلى صدري فتاة صغيرة
…
لها سحر أجفان خلون عن الذم
فمذ كسرت أجفانها قلت أنها
…
على الفتح لم تقدر فمالي سوى الضم
ومن لطيف ما يحكى هنا: أنه كان بالعراق عاملان أحدهما اسمه عمر والآخر اسمه أحمد، وكان عمر عادلا في حكومته، لكنه فقير، وكان لأحمد مال ينفقه على من يسعى له في الولاية. فعزل عمر عن ولايته، واستقر أحمد مكانه بسبب المال.
فقال بعض الشعراء في ذلك:
أيا عمر استعد لغير هذا
…
فأحمد بالولاية مطمئن
فإن تك فيك معرفة وعدل
…
فأحمد فيه معرفة ووزن
ونحو ذلك قول كمال الدين الشرفي في قاض عزل اسمه أحمد الرازي:
يا أحمد الرازي قم صاغرا
…
عزلت عن أحكامك المسرفه
ما فيك إلا الوزن والوزن لا
…
يمنعك الصرف بلا معرفه
ومثله قول ابن عنين فيمن عزل عن وظيفته وكانت سيرته غير مشكورة:
شكى ابن المؤيد من عزله
…
وذم الزمان وأبدى السفه
فقلت له لا تذم الزمان
…
فتظلم أيامه المنصفه
ولا تغضبن إذا ما صرفت
…
فلا عدل فيك ولا معرفة
وقال الغزي:
غيري له المجد والأيام تقسم بي
…
وهي الجديرة بالضيزى من القسم
أظنها أقسمت باسمي لتخفضني
…
ولم يكن غير فضلي أحرف القسم
ومن أحسن ما يقع في هذا الباب ما وافقت ألفاظه صفاتها، كأن يكون الموصوف بأسماء أدوات الإعراب لفظة معربة بها.
قال الصلاح الصفدي: لم أر من استعمل هذا المعنى وأتى به كاملا غير الشهاب التلعفري في قوله:
وإذا الثنية أشرقت وشممت من
…
أرجائها أرجا كنشر عبير
سل هضبها المنصوب أين حد
…
يثها المرفوع عن ذيل الصبا المجرور
فانظر كيف نصب الهضب، ورفع الحديث، وجر ذيل الصبا. وهذا في غاية الحسن مع كمال الانسجام وعدم التكلف في التركيب.
وقد نظم هذا المعنى التلعفري أيضاً فقصر عن هذه الغاية في قوله:
قل للصبا سرا فإن لها شذى
…
يضحى لما يفضي إليه مذيعا
يا ذيلها المجرور عن هضب الحمى ال
…
منصوب هات حديثها المرفوعا
قلت: وقد شن الغارة الشيخ صفي الدين الحلي على الشهاب التلعفري حيث قال في رياض الميطور بدمشق:
إن جزت بالميطور مبتهجا به
…
ونظرت ناضر دوحه الممطور
وأراك بالآصال خفق هوائه ال
…
ممدود تحريك الهوى المقصور
سل بأنه المنصوب أين حديثه ال
…
مرفوع عن ذيل الصبا المجرور
والشهاب التلعفري أقدم أم الصفي الحلي، لأن التلعفري توفي قبل أن يولد الصفي بسنتين.
وممن نظم هذا المعنى وقصر فيه ابن حجة حيث يقول:
رفعتم قبابا نصب عيني ونحوها
…
تجر ذيول الشوق والقلب يجزم
فيا عرب الوادي المنيع جنابه
…
وأعني به قليب الذي فيه خيموا
فائدة: - التلعفري نسبة إلى تلعفر - بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد اللام، وسكون العين المهملة، وبعدها راء مهملة - قرية من أعمال الشام، ويعرف بهذه النسبة شاعران.
أحدهما أبو الحسن علي بن أحمد التلعفري، كان شاعرا مطبوعا مقتدرا، من أقران أبي الفرج الببغاء وأبي عثمان الخالدي، ونحوهما من مذكوري الشعراء.
ومن شعره ما أنشده له الثعالبي في يتيمة الدهر:
يا راكب العيس قف وعرج
…
واقرأ سلامي على بني طي
وقل لهم ظبيكم جفاني
…
لما رآني وما معي شي
وأنشد له من قصيدة:
من ذا يدل على الرقاد جفوني
…
قد ضاع بين صبابتي وشجوني
أما النجوم فقد ألفن رعايتي
…
والعائدات فقد مللن أنيني
وللسلامي فيه هجاء كثير، وسبب ذلك: أن السلامي لما خرج من مدينة السلام ورد الموصل وهو صبي حين راهق. فوجد بها أبا عثمان الخالدي، وأبا الحسين التلعفري المذكور، وأبا الفرج الببغاء، وغيرهم من شيوخ الشعر فلما رأوه عجبوا منه واتهموه بأن الشعر ليس له.
فقال الخالدي: أنا أكفيكم أمره، فاتخذ دعوة جمع الشعراء فيها، وحصل السلامي معهم، فلما توسطوا الشراب، أخذوا في ملاحاته والتفتيش عن قدر بضاعته، فلم يلبثوا أن جاء مطر شديد، وبرد ستر الأرض كثرة، فألقى أبو عثمان نارنجا كان بين أيديهم على ذلك البرد وقال: ي أصحابنا هل لكم في أن نصف هذا؟ فقال السلامي ارتجالا:
لله در الخالدي الأوحد الندب الخطير
أهدى لماء المزن عن
…
د جموده نار السعير
حتى إذا صدر العتا
…
ب إليه عن حنق الصدور
بعثت إليه بعذره
…
مع خاطري أيدي السرور
لا تعذلوه فإنه
…
أهدى الخدود إلى الثعور
فلما رأوا ذلك أمسكوا عنه وأخذوا يصفونه بالفضل، ويعترفون له بالحذق إلا التلعفري فإنه أقام على قوله الأول، حتى قال فيه السلامي:
يا شاعرا بسقوطه لم يشعر
…
ما كنت أول طامع لم يظفر
لو كنت تعرف والدا تسمو به
…
لم تنتسب ضعة إلى تلعفر
تاه ابن نابغة الفوق على الورى
…
بقذال صفعان ونكهة أبخر
وبلادة في الشعر تشهد أنه
…
تيس ولو نصرت بطبع البحتري
يحلو بأفواه الأنامل صفعه
…
حتى كأن قذاله من سكر
وقال فيه أيضاً:
سما التلعفري إلى وصالي
…
ونفس الكلب تكبر عن وصاله
ينافي خلقه خلقي فتأبى
…
فعالي أن تضاف إلى فعاله
فصنعتي النفيسة في لساني
…
وصنعته الخسيسة في قذاله
فإن أشعر فما هو من رجالي
…
وإن يصفع فما أنا من رجاله
ولم أقف على تاريخ ولادة التلعفري المذكور ولا وفاته، إلا أنه من أهل المائة الرابعة.
والشاعر الثاني، هو شهاب الدين محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الشيباني التلعفري، الأديب البارع المشهور ولد بالموصل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، واشتغل بالأدب، ومدح الملوك والأعيان، وكان خليعا ممتحنا بالقمار، وكلما أعطاه الملك الأشرف شيئا قامر به، فطرده إلى حلب فمدح العزيز فأحسن إليه، وقرر له رسوما، فسلك ذلك المسلك في القمار، فنودي في حلب من قامر الشهاب التلعفري قطعت يده، فضاقت عليه الأرض، فارتحل من حلب إلى دمشق، ولم يزل يستجدي ويقامر حتى بقي في أتون حمام، وفي الآخر نادم صاحب حماة، وله ديوان شعر مشهور.
ومن شعره قوله:
أقلعت إلا عن العقار
…
وتبت إلا عن القمار
فالكأس والزهر ليس يخلو
…
منه يميني ولا يساري
ومن رقيق شعره قوله أيضاً:
ألا يا صاحبي هذا المصلى
…
وتلك ملاعب الظبي الرخيم
فحي وقل سلاما من سليم
…
بذي سلم على الرشأ السليم
وسل غزلان وادي بان سلع
…
إذا سنحت عن العهد القديم
وعرض بي فما لي من جنان
…
يلاقي بي ظبا ذاك الصريم
وفي تلك الخيام هلال خدر
…
غرامي في محبته غريمي
روى عن خصره جسمي وأدى
…
صحيحا مسند الخبر السقيم
يخاف قضيب قامته انهصارا
…
فلم يبرح يميل مع النسيم
وقوله أيضاً:
يا خليلي وللخليل حقوق
…
واجبات الأداء في كل حاله
سل عقيق الحمى وقل إذ تراه
…
خاليا من ظبائه المختاله
أين تلك المراشف العسليا
…
ت وتلك المعاطف العسالة
وليال قضيتها كلآل
…
مع غزال تغار منه الغزاله
بابلي اللحاظ والريق والأل
…
فاظ كل مدامة سلساله
وسقيم الجفون والخصر والعه
…
د فكل تراه يشكو اعتلاله
ونقي الجبين والخد والثغ
…
ر فطوبى لمن حسا جرياله
طويل الصدود والشعر والمط
…
ل ومن لي بأن يديم مطاله
وقوله أيضاً:
لم أزل مكثرا عليه السؤالا
…
وجوابي ما عنده لي سوى لا
كلما رمت رشف معسول فيه
…
هز لي من قوامه عسالا
وتثنى عجبا وماس دلالا
…
وانثنى معرضا وصال وقالا
كان عهدي بالخمر وهي حرام
…
فبماذا صارت لديك حلالا
ما كأني في الحب إلا فقيه
…
جئته ابتغي لديه الجدالا
أنا قصدي تقبيله أرشادا
…
كان رشفي رضابه أم ضلالا
هازئا بالغصون عطفا وبالكث
…
بان ردفا وبالرماح اعتدالا
وبضوء الصباح ثغرا وبالظل
…
ماء شعرا وبالبدور جمالا
ما شجاني فقدي لحبة قلبي
…
عندما صاغها لخديه خالا
ما ألطف هذا المعنى وأحلاه، وله كل مقطوع لطيف، ومعنى طريف.
وكانت وفاته سنة خمس وسبعين وستمائة. وإنما آثرت إيراد هذه الفائدة هنا لأنه كان وقع في بعض المجالس ذكر الشهاب التلعفري المذكور، فلم يعرف له أحد من الحاضرين ترجمة، ولا فرقوا بينه وبين أبي الحسين التلعفري المقدم ذكره، فأحببت التنبيه على ذلك هنا عندما عن ذكر الشهاب التلعفري، والاستشهاد بشيء من شعره في التوجيه. ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أمثلة التوجيه بقواعد النحو.
فمنه قول ابن أبي الإصبع:
أيا قمرا من حسن وجنته لنا
…
وظل عذاريه الضحى والأصائل
جعلتك للتمييز نصبا لناظري
…
فهلا رفعت الهجر والهجر فاعل
ويحكى أنه دخل رجل مجلس كافور الأخشيدي، ودعا له وقال في دعائه: أدام الله أيام مولانا - بكسر الميم - فتحدث جماعة من الحاضرين في ذلك وعابوا عليه.
فقام أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي اللغوي كاتب كافور وأنشد مرتجلا:
لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا
…
أو غص من دهش بالريق أو بهر
فتلك هيبته حالت جلالته
…
بين الأديب وبين القول بالحصر
وإن يكن خفض الأيام من غلط
…
في موضع النصب لا عن قلة النظر
فقد تفاءلت من هذا لسيدنا
…
فالفال مأثورة عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب
…
وأن دولته صفو بلا كدر
وما أحسن قول الآخر:
كأن النوى إذا نادت الدمع رخمت
…
ولا أثر فيها أجاب على العين
جعل استلزام النوى للبكاء نداء منها للدمع، ولما كان يبكي دما قال: كأن النوى قالت للدمع - على ترخيم المنادي - يا دم.
وقال ابن عنين في الهجاء:
مال ابن ماذة دونه لعفاته
…
خرط القتاد أو مناط الفرقد
مال لزوم الجمع منع صرفه
…
في راحة مثل المنادى المفرد
وقد تقدم في نوع الاقتباس جملة مقنعة من هذا النوع، فلنكتف منه هنا بهذا المقدار.
ومن التوجيه في النحو والعروض قول بعضهم يهجو:
لا تنكروا ما ادعى الأديب فلا
…
ن من الشعر أنه قادر
يقصر ممدوده ويرفعه
…
في الجر نصب الغرمول في الآخر
يريك وهو البسيط دائرة
…
تجمع بين الطويل والوافر
ومن التوجيه في العروض قول الشيخ جلال الدين بن الصفار:
لتعليق قلبي في رسوم خيالكم
…
مثال له نثر الدموع رسائل
بكائي سريع والجوى متواتر
…
وحزني طويل والأسى منه كامل
وبحر دموعي وافر في مد يده
…
سفائنه الأجفان والخد ساحل
وقول الشاعر عبد علي بن رحمة الحويزي رحمه الله:
قلت لمن قد جفا فأضحى
…
جسمي من هجره عليلا
قصرت مني طويل حب
…
والقصر لا يلحق الطويلا
وقوله:
يقول لي الألى جهلوا مكاني
…
ببحر وافر ماذا تقول
فقلت لهم كشأنكم وشأني
…
مفاعيلن مفاعيلن فعول
ومن التوجيه في علم المعاني قول ابن رحمة المذكور أيضاً:
إن كان قاطعني الحبيب مواصلا
…
لطريق زناء مباح الأسفل
فصناعة الفصحاء قادته إلى
…
ترك الحقيقة للمجاز المرسل
وقوله:
أتظن تنكير اللئيم محقرا
…
لك إن كساك الفضل ثوب عظيم
لا تخش من تنكيره فبمثل ذا
…
يتعين التنكير للتعظيم
ومن التوجيه في علم البديع قول الشيخ شرف الدين العصامي:
رأى سقم الكتاب فمال عنه
…
سقيم الجفن ذو حسن بديع
فقلت له فدتك النفس هلا
…
مراعاة النظير من البديع
وقول الشيخ عبد علي بن رحمة:
أبدى ضروب بديع طرفه فله
…
في فتية العشق تصريع وتشطير
وقلت أنا في ذلك وفيه من الرشاقة ما لا يخفى:
ليس احمرار لحاظه من علة
…
لكن دم القتلى على الأسياف
قالوا تشابه طرفه وبنانه
…
ومن البديع تشابه الأطراف
ومن التوجيه في علم المنطق قول ابن رحمة رحمه الله تعالى:
أوجبت للقلب الجوى وسلبته
…
صبرا يدافع سورة الإلهاب
فنتجن أشكال السرور سوالبا
…
لقضيتين السلب وافيجاب
وقوله:
وممتنع على المعروف أضحى
…
من الإمكان حيرة كل عارف
يفيد ضرورة الطرف الموالي
…
ويسلبها عن الطرف المخالف
وقوله:
تجيء بزور القول ثم تلومني
…
عليه وهذا مطلب غير معقول
وترجوا احتمالي ما وضعت علي من
…
حديثك والموضوع ليس بمحمول
وقوله:
لم تصلني تصورات زماني
…
لي بإيصال قدري الذاتي
ليتها حين لم تصب لي حدا
…
عرفتني باللازم الرسمي
ومن التوجيه في علم النجوم قول الشهاب محمود في حراث:
عشقت حراثا مليحا غدا
…
في يده المساس ما أجمله
كأنه الزهرة قدامه ال
…
ثور يراعي مطلع السنبله
وقول ابن عروة الحلي:
وحاجب ليس فيه
…
من المروة شعره
بصرفة يلتقيني
…
وجبهة ثم زبره
وقول زكي الدين بن أبي الإصبع:
تنقلت من طرف لقلب مع النوى
…
وهاتيك للبدر التمام منازل
ومنه ما يحكى أن شهاب الدين القوصي حضر عند الملك الأشرف وقد دخل إليه سعد الدين الحكيم، فقال الملك الأشرف: ما تقول في سعد الدين الحكيم؟ فقال: يا مولانا السلطان، إذا كان بين يديك فهو سعد الدين، على السماط: سعد بلع، وفي الخبا عن الضيوف: سعد الأخبية، وعند مرضى المسلمين: سعد الذابح. فضحك الملك الأشرف، واستحسن اتفاقه البديع.
ومنه قول بعضهم:
قد ذهب الناس فلا ناس
…
وصار بعد الطمع الياس
وساس أمر الناس أدناهم
…
وصار تحت الذنب الراس
وقد أورد بعض شراح البديعيات أمثلة في هذا النوع ليست منه قطعا، كقول أبي الفتح البستي:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلا
…
فاحكم على ملكه بالويل والحرب
ألم تر الشمس في الميزان هابطة
…
لما غدا برج نجم اللهو والطرب
فإن هذا ونحوه ليس من التوجيه في شيء، بل هو بنوع (_) أشبه، وفي بابه أدخل كما سنذكره هناك عند إفضاء النوبة إليه، مع مشيئة الله سبحانه.
ومن التوجيه في علم الهندسة قول ابن النبيه في صبي يشتغل بالهندسة:
وبي هندسي الشكل يسبيك لحظه
…
وخال وخد بالعذار مطرز
ومذ خط بركار الجمال عذاره
…
كقوس علمنا إنما الخال مركز
وقول بعضهم:
قد بينت فيه الطبيعة آية
…
ببديع أعمال المهندس باهرة
عبثت بمبسمه فخطت فوقه
…
بالمسك قوسا من محيط دائرة
ومن التوجيه في علم الكلام قول هبة الله بن سناء الملك:
ومن قال إن الخيزرانة قدها
…
فقولوا له إياك أن يسمع القد
ولو أبصر النظام جوهر ثغرها
…
لما شك فيه أنه الجوهر الفرد
وقول الشيخ عبد علي بن رحمة:
قلت هل تقسم لي
…
جوهر ثغر أشتهيه
قال ثغري الجوهر الفر
…
د ولا قسمة فيه
ومن التوجيه في علم الرمل قول البهاء زهير:
تعلمت علم الرمل لما هجرتم
…
لعلي أرى شكلا يدل على الوصل
فقالوا طريق قلت يا رب للقا
…
وقالوا اجتماع قلت يا رب للشمل
وقول ابن مطروح:
حلا ريقه والدر فيه منضد
…
ومن ذا رأى في العذب درا منضدا
رأيت بخديه بياضا وحمرة
…
فقلت له البشرى اجتماع تولدا
ومن التوجيه في الكتابة قول بعضهم:
غبار ذنوبي في الرقاع محقق
…
بنسخ الكرام الكاتبين ذوي العدل
وتوقيع ريحاني رجائي لعفو من
…
ينادي بثلث الليل يا واسع الفضل
وقول ابن عبد الظاهر وأجاد:
مفرد في جماله أن تبدى
…
خجلت منه جملة الأقمار
كيف أرجو الوفاء منه وعامل
…
ت غريما من لحظه ذا انكسار
ذو حواش تلوح من قلم الريحان في خده فجل الباري
فيه وجدي محقق وسلوي
…
وكلام العذول مثل الغبار
فلساني في وصفه قلم الشع
…
ر ورقي المكتوب بالطومار
وقول ابن جابر وقد ذكر الأقلام السبعة: ت
تعليق ردفك بالخصر الخفيف له
…
ثلث الجمال وقد وفته أجفان
خد عليه رقاع الروض قد جعلت
…
وفي حواشيه للصدغين ريحان
خط الشباب بطومار العذار له
…
سطرا ففضاحه للناس فتان
محقق نسخ صبري عن هواه ومن
…
توقيع مدمعي المنثور برهان
يا حسن ما قلم الأشعار خط على
…
ذاك الجبين فلا يسلوه إنسان
أقسمت بالمصحف السامي وأحرفه
…
ما مر بالبال يوما عنك سلوان
وقول ابن الوردي:
فديت فقيرا في المرقعة التي
…
على حسنه دلت وحسن طباعه
بخديه ريحان الحواشي محقق
…
إلى الثلث والفضاح تحت رقاعه
وقول ابن مليك:
وورد خد قد زكا نثره
…
عليه لما ضاع دار العذار
أقسم بالفضاح من عبرتي
…
ريحانه ليس عليه غبار
وقوله:
والخد بان الورد فيه محققا
…
والصدغ فيه مسلسلا ريحانه
وقول ابن القيسراني:
بوجه معذبي آيات حسن
…
فقل ما شئت فيه ولا تحاشي
فنسخة حسنه قرئت وصحت
…
وها خط الكمال على الحواشي
ومنه قول القرشي الكاتب، وقد اختفى في بيته ثلث سنة - لما طلبه السلطان بسبب لوح البريد الذي نقشه لعز الدولة - فكتب إلى القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر - يسأله القيام ي أمره - رقعة أولها: يقبل الأرض وينهي أنه له ثلث سنة محقق مختف في حواشي البيت يخشى توقيعات الرقاع من صاحب الطومار، وسؤال الملوك نسخ هذا الأمر الفضاح بحيث لا يبقى عليه غبار، فإن المملوك وحق المصحف ما يحمل عود ريحان.
فأعجبه ذلك فلم يزل يتلطف له عند أكابر الدولة حتى خمدت قضيته وسكنت.
ونحو ذلك وهو من التوجيه في علم الطب، ما حكي أن بعض الأطباء كان في خدمة بعض الملوك في غزو، ولم يكن معه وقت النصرة كاتب ترسل فتقدم للطبيب أن يكتب إلى الوزير يعلمه بذلك فكتب: - أما بعد، فأنا كنا مع العدو في حلقه كدائرة البيمارستان، حتى لو رميت مبضعا لما وقع إلا على قيفال. فلم يكن إلا كنبضة أو نبضتين حتى لحق العدو بحران عظيم، فهلك الجميع بسعادتك يا معتدل المزاج.
ومثله وهو من التوجيه في علم الرياضي قول بعضهم حين احتضر: اللهم يا من يعلم قطر الدائرة ونهاية العدد والجذر الأصم، اقبضني إليك على زاوية قائمة واحشرني على خط مستقيم.
ومن التوجيه في علم الموسيقى قول ابن جابر الأندلسي:
يا أيها الحادي اسقني كأس السرى
…
نحو الحبيب ومهجتي للساقي
حي العراق على النوى واحمل إلى
…
أهل الحجاز رسائل العشاق
وقول البدر لؤلؤ الذهبي:
وبمهجتي المتحملون عشية
…
والركب بين تلازم وعناق
وحداتهم أخذت حجازا بعدما
…
غنت وراء الركب في عشاق
وما أحسن ما قال بعده:
وتنبهت ذات الجناح بسحرة
…
في الواديين فنبهت أشواقي
ورقاء قد أخذت فنون الحزن عن
…
يعقوب والألحان عن إسحاق
قامت على ساق تطارحني الهوى
…
من دون صحبي في الهوى ورفاقي
أنى تباريني جوى وصبابة
…
وكآبة وأسى وفيض مآقي
وأنا الذي أملي الهوى من خاطري
…
وهي التي تملي من الأوراق
ومنه قول الشيخ عبد النافع بن عراق:
يا غائبين وقولي حين أذكرهم
…
كم هكذا اغتدي في غربة وفراق
لو سار ركب بعشاق اللوى رملا
…
نحو الحجاز لما ذاق النوى ابن عراق
وقال الشيخ العلامة جمال الدين العصامي من أبيات مادحا بها الشيخ عبد النافع المذكور وقد وصل إلى مكة المشرفة من الروم بمنصب خطابة الشافعية بمكة.
قال الشيخ جمال الدين: واتفق أن تلك السنة كانت مجدبة، فدعا واستسقى في أول خطبة خطبها، فغيمت السماء وأمطرت وهو يخطب، وحصل خصب عظيم، فكان يقال: الشيخ عبد النافع، عبد نافع، وهو:
ظرف الحجاز بمقدم ابن عراق
…
من بعد ما قاسى نوى العشاق
فاليوم نيروز الحجاز وعيده
…
إذ صام فيه وعيد ابن عراق
قال الشيخ جمال الدين: واتفق أن جاء القاضي حسين في موكبه إلى بيت الشيخ عبد النافع زائرا، فذيل الشيخ عبد النافع بيتي المذكورين بقوله - موجها أيضاً:
وله أتى الركب الحسيني زائرا
…
سعيا على الآماق والأحداق
ومنه قول الشيخ شرف الدين يحيى بن الشيخ عبد الملك بن الشيخ جمال الدين العصامي المذكور، فيمن اسمه حسين - وقد قدم من مكة المشرفة إلى المدينة وبها الشيخ شرف الدين المذكور:
أقول لمعشر العشاق لما
…
بدا ركب الحجاز وقر عيني
أمنتم من نوى المحبوب فاسمعوا
…
له رملا وغنوا في حسيني
ولنكتف من أمثلة التوجيه بهذا المقدار، فقد طال الشرح حتى كاد يفضي إلى الإملال والإكثار.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
خلت الفضائل بين الناس ترفعني
…
بالابتداء فكانت أحرف القسم
التوجيه في هذا البيت بألفاظ القواعد النحوية، ومقاصد المحاسن فيه محوية.
والشيخ شمس الدين بن جابر نظم هذا النوع على تفسير السكاكي والخطيب ومن وافقهما، وهم الأكثر، وهو إيراد الكلام محتملا لمعنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر، وهذا معنى الإبهام عند أكثر أرباب البديعيات.
وبيت بديعيته قوله:
ترى الغني لديهم والفقير وقد
…
عادا سواء فلازم باب قصدهم
هذا البيت يحتمل المدح وهو الظاهر، فيكون المراد: أنهم يجودون على الفقير حتى يعود مساويا للغني، ويحتمل الذم، فيكون المراد: أنهم ينهبون الغني ويسلبونه غناه حتى يعود مساويا للفقير، غير أن قوله: فلازم باب قصدهم، يعين المعنى الأول، وهو إرادة المدح فيخرج عن نوع التوجيه الذي قصده. وابن حجة فاته إدراك المعنى الثاني، وهو إرادة الذم حتى قال:(وأما المعنى الآخر فما وجدت له قرينة صالحة تدلني عليه، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه) .
وبيت بديعية الشيخ عز الدين قوله يخاطب العذول:
نزهت طرفي وسمعي في محاسنه
…
وعنك أن تقصد التوجيه في الكلم
هذا البيت لا أرى فيه للتوجيه وجها، لا على تفسير الشيخ صفي الدين ولا على تفسير السكاكي والخطيب. أما الأول - فظاهر إذ ليس في مفرداته ولا جمله توجيه إلى أسماء متلائمة من أسماء الأعلام، ولا قواعد العلوم ونحوها. وأما على الثاني - فلعدم احتماله معنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر. وقول ابن حجة: أن الكلمة التي اقتضت اشتراك المعنيين قوله: نزهت، فإنه قال: أنه نزه طرفه في محاسن محبوبه، وكأنه التفت إلى العذول وقال له: وعنك. إن أراد به بيان التوجيه، فليس بشيء، لأن هذا ليس بتوجيه قطعا، وإن أراد به بيان استعمال قوله (نزهت) في معنييه، فمسلم على أن قوله:(نزهت طرفي وسمعي في محاسنه) مأخوذ من استعمالهم التنزه في الخروج إلى البساتين والخضر والرياض، وقد نص صاحب القاموس على أن هذا الاستعمال غلط قبيح، وقال في الصحاح: قال ابن السكيت: ومما يضعه الناس في قولهم: خرجنا نتنزه، إذا خرجوا إلى البساتين، قال: وإنما التنزه: التباعد عن المياه والأرياف، ومنه قيل: فلان يتنزه عن الأقذار، وينزه نفسه عنها، أي يباعدها عنها. انتهى.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
وأسود الخال في نعمان وجنته
…
لي منذر منه بالتوجيه للعدم
التوجيه فيه بأسماء الأعلام هي: الأسود والنعمان والمنذر، والأسود أخو النعمان بن المنذر وكان من ملوك العرب.
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
قاد الجنائب أغراء موجهة
…
لا صرف فيها ولا نصب لمنجزم
التوجيه في هذا البيت بقواعد النحو وهي: الإغراء والصرف والنصب والجزم، ولكن انظر، ما معنى قوله: ولا نصب لمنجزم؟.
وبيت بديعيتي هو قولي:
رفعت حالي إليهم إذ خفضت وقد
…
نصبت طرفي إلى توجيه رسلهم
التوجيه في هذا البيت بقواعد النحو أيضاً وهي: الرفع والحال والخفض والنصب.
وبيت بديعية الشيخ شرف الدين المقري قوله:
لا تطعني هند فالأنساب واحدة
…
ونحن إن نفترق نرجع إلى حكم
الشيخ شرف الدين فارق الجماعة في هذا النوع فقال في شرح بديعيته (التوجيه كالتورية، وأكثر البديعيين يجعلها شيئا واحدا، وفرق الصفي الحلي وغيره بينهما بفروق لا تكاد تظهر، والظاهر أن التورية منها ما يحتاج إلى توجيه ألفاظ قبلها ترشح الكلام للتورية، ومنها ما لا يحتاج، فيكون هذا الاسم خاصا لما يحتاج كالنوع منها واسم التورية كالجنس لها. والترشيح ومعنى البيت على هذا: أن هندا طعنت في نسبه، وفخرت بقومها عليه (فأخبرها) أن نسبه ونسبها واحد وأنهما إن افترقا في الآباء القريبة فكلهم يرجعون إلى حكم من سعد العشيرة، ولكن لفظة حكم مشتركة، فذكر الطعن والنسب فيه يوجهها إلى اسم القبيلة، وذكر الافتراق يوجهها إلى الحكم الفاصل بين الخصومة) . هذا نصه، وعليه مؤاخذات من وجوه: أحدها - أن قوله: أكثر البديعيين يجعلهما شيئا واحدا ليس بصحيح، بل الأكثر على أن كلا منهما غير الآخر كما يشهد به استقراء كتبهم.