الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل ما تقدم من الكلام على بيت الشيخ صفي الدين من التقرير والتنكيت والتكميل فهو جار في هذا البيت.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري قوله:
قالوا مرضت فهل عادوا فقلت نعم
…
لكن من العهد والإيفاء بالذممِ
1 @أنوار الربيع في أنواع البديع
تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني
.
حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر
.
الجزء الثاني
الإبهام
.
قالوا وقد أبهموا إذ بان مكتتمي
…
في حبهم بان لكن أي مكتتم.
الإبهام- بالباء الموحدة، وسماه بعضهم: التوجيه، ومحتمل الضدين وهو عبارة عن أن يقول المتكلم كلاما محتملا لمعنيين متضادين، لا يتميز أحدهما عن الآخر، كالمديح والهجاء وغيرهما، ولا يأتي بعده ما يميز المراد منها، قصد للإبهام.
وزاد بعضهم: وينبغي أن يكون المراد، أنه إذا جرد عن القرائن ولم ينظر إلى القائل والمقول فيه، كان احتماله للمعنيين على السوية، كما سيلوح في أكثر الأمثلة.
ومثاله في القرآن العظيم قوله تعالى عن اليهود "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين".
قال صاحب الكشاف: قوله: غير مسمع، حال من المخاطب، أي اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذم، أي اسمع منا مدعوا عليك، بلا سمعت، لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع، قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم: لا سمعت، دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب على ما تدعوا إليه، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك لا تسمع شيئاً، أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب.
ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع، مفعول اسمع، أي اسمع كلاما غير مسمع مكروها. من قولك: اسمع فلان فلانا، إذا سبه. وكذلك قولهم: راعنا، يحتمل راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل شبه كلمة عبرانية وسريانية كانوا يتسابون بها وهي راعينا، فكانوا سخرية بالدين وهزوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة، ويظهرون به التوقير والإكرام.
فإن قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذو الوجهين، بعدما صرحوا وقالوا: سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به. انتهى.
ومثاله من الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر عنده شريح بن الحضرمي وهو من الصابة: ذاك رجل لا يتوسد القرآن. فيحتمل وجهين ذكرهما تغلب عن ابن الأعرابي، أحدهما المدح وهو أنه لأصنام الليل حتى يتوسد القرآن معه فيكون مدحا. والثاني الذم، وهو أنه ينام ولا يتوسده معه أي لا يحفظه، فيكون ذما.
ومثله قول عبد الملك بن مروان، وقد ذكر ذاكر عنده عمر بن الخطاب: اقصر من ذكره فهو طعن على الأئمة وحسرة على الأمة. فيحتمل الذم، وهو أن ذكره وعده من الأئمة فهو طعن عليهم بمشاركته لهم في الإمامة، وحسرة على الأمة المأمورين بمتابعته. ويحتمل المدح وهو أن كل من قاس سيرة أمراء الزمان بسيرته طعن عليهم، وكل من فكر ونظر فيما كان عليه من التشقيف وترك الدنيا، تحسر على ما فات من الأمة.
ومثاله من الشعر قول بعضهم، وقيل أنه بشار، يروى أنه فصل قباء عند خياط أعور اسمه عمرو أو زيد كما في تحرير التحبير لابن أبي الإصبع، فقال الخياط على سبيل العبث به: سآتيك به لا تدري أقباء هو أم دواج، فقال له: إن فعلت ذلك لأنظمن فيك بيتا لا يعلم أحد ممن سمعه لك أم عليك.
ففعل الخياط فقال هو:
خاط لي عمرو قباء
…
ليت عينيه سواء.
قلت شعرا ليس يدري
…
أمديح أم هجاء.
فإن قيل أنه قصد التساوي بين عينيه في العمى فقد صح، وإن قيل أنه قصد التساوي بينهما في الإبصار صح.
ومثله ما حكي أن جعيفران الموسوس تقدم إلى يوسف الأعور القاضي بسر من رأى في حكومة، في شيء كان في يده من وقف له، فدفعه عنه وقضى عليه، فقال: أراني الله أيها القاضي عينيك سواء، فأمسك عنه وأمر برده إلى داره. فلما رجع أطعمه ووهب له دراهم، ثم دعا به فقال له: ما أردت بدعائك، أردت أن يرد اله علي من بصري ما ذهب؟ فقال له: لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم لأسخر منك لأنت المجنون، لا أنا، اخبرني كم من أعور رأيته قد عمي؟ فقال: كثير، فقال: هل رأيت أعور قد صح قط؟ قال: لا، قال: فكيف توهمت علي الغلط؟ . فضحك منه وصرفه.
ومن شواهده أيضاً قول محمد بن حازم الباهلي في الحسن بن سهل حين تزوج المأمون بابنته بوران:
بارك الله للحسن
…
ولبوران في الختن.
يابن هارون قد ظفر
…
ت ولكن ببنت من.
فلا يعلم مل أراد ببنت من، في الرفعة، أو في الحقارة؟ ولذلك لما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: والله ما ندري أخيرا أراد أم شرا.
وأكثر من ألف في البديع لم يعرف قائل هذين البيتين، ونسبوهما إلى بعض الشعراء، وقائلهما محمد بن حازم المذكور على ما في وفيات الأعيان للقاضي ابن خلكان، وبعض شروح المقامات.
وكان محمد بن حازم هذا شاعرا مطبوعا؛ من شعراء الدولة العباسية مولده ومنشأه البصرة، وسكن بغداد، وكان كثير الهجاء للناس. ساقط الهمة. مر به بعض الأمراء وهو جالس على باب داره، فلم يسلم عليه سلاما يرضيه وكان من باهله أيضاً.
فقال فيه:
وباهلي من بني وائل
…
أدرك ما لا بعد افلاس.
قطب في وجهي خوف القرى
…
تقطيب درغام لدى الباس.
وأظهر التيه فتايهته
…
تيه امرءٍ لم يشق بالناس.
أعرته أعراض مستكبر
…
في موكب مر بكناس.
ومن شعره يمدح الشباب ويذم الشيب. قال ابن الأعرابي: وهو أحسن ما قاله المحدثون في ذلك:
لاحين صبر فخّل الدمع ينهمل
…
فقد الشباب بيوم المرء متصل.
سقيا ورعيا لأيام الشباب وإن
…
لم يبق منك له رسم ولا طلل.
جر الزمان ذيولا في مفارقه
…
وللزمان على إحسانه علل.
وربما جر أذيال الصبا مرحا
…
وبين برديه غصن ناعم خضل.
يصبي الغواني ويزهاه بشرته
…
شرخ الشباب وثوب حالك رجل.
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها
…
من الشباب بيوم واحد بدل.
كفاك بالشيب عيبا عند غانية
…
وبالشباب شفيعا أيها الرجل.
بان الشباب وولى عنك باطله
…
فليس يحسن منك اللهو والغزل.
أما الغواني فقد أعرضن عنك قلى
…
وكان إعراضهن الدل والخجل.
أعرنك الهجر ما ناحت مطوقة
…
فلا وصال ولا عهد ولا رسل.
ليت المنايا أصابتني بأسهمها
…
فكن يبكين عهدي قبل أكتهل.
عهد الشباب لقد أبقيت لي حزنا
…
ما جد ذكرك إلا جد لي ثكل.
إن المشيب إذ ما حل رائده
…
في منهل جاء يقفو أثره الأجل.
وقال له القاضي يحيى بن أكثم: ما عيب شعرك غلا أنك لا تطيل. فقال:
أبلى لي أن أطيل الشعر قصدي
…
إلى المعنى وعلمي بالصواب.
وإيجازي بمختصر قريب
…
حذفت به الفضول من الجواب.
فأبعثهن أربعة وخمسا
…
بألفاظ مثقفة عذاب.
خوالد ما حدا ليل نهارا
…
وما حسن الصبا بأخي الشباب.
وهن إذا وسمت بهن قوما
…
كأطواق الحمائم في الرقاب.
وهن إذا أقمت مسافرات
…
تهاداها الرواة مع الركاب.
وكان يقول: لم يبق على شيء من اللذات إلا بيع السنانير من اللذة، قال: يعجبني أن تجيء العجوز الرعناء تخاصمني وتقول: هذا سنوري سرق مني، فأخاصمها وأشتمها وتشتمني، وأغيظها فأعضها، وأنشد:
صل خمرة بخمار
…
وصل خمار بخمرة.
وخذ بحظك من ذا
…
وذا إلى أين تدري.
فقال له: إلى أين ويحك؟ فقال: إلى النار يا أحمق.
وحدث عن نفسه، قال: عرضت لي حاجة في عسكر الحسن بن سهل، فأتيته وقد كنت قلت شعرا، فلما دخلت على محمد بن سعيد بن مسلم، فانتسبت له فعرفني، فقال لي: ما قلت في الأمير؟ قلت: ما قلت فيه شيئا بعد، فقال له رجل كان معي: بلى قال أبياتا.
فسألني أن أنشده فأنشدته قولي:
وقالوا لو مدحت فتى كريما
…
فقلت وكيف لي بفتى كريم.
بلوت الناس مذ خمسين عاما
…
وحسبك بالمجرب من عليم.
فما أحد يعد ليوم خيرٍ
…
ولا أحد يعود على حميم.
ويعجبني الفتى وأظن خيرا
…
فأكشف من عن رجل لئيم.
تقيل بعضهم بعضا فأضحوا
…
بني أبوين قدوا من أديم.
وطاف الناس بالحسن بن سهل
…
طوافهم بزمزم والحطيم.
وقالوا سيدٌ يعطي جزيلاً
…
ويكشف كربة الرجل الكظيم.
فقلت مضى بذم القوم شعري
…
وقد يؤتى البريء من السقيم.
وخبر تترجمه ظنون
…
بأشفى من معاينة الحليم.
فجئت وللأمور مبشرات
…
ولن يخفى الأغر من البهيم.
فإن يك ما ينشر عنه حقا
…
رجعت بأهبة الرجل المقيم.
وإن يك غير ذاك حمدت ربي
…
وزال الشك عن رجل حكيم.
وما الآمال تعطفني عليه
…
ولكن الكريم أخو الكريم.
قال: فلما أنشدته هذا الشعر قال لي: أبمثل هذا الشعر تلقى الأمير؟ والله لو كان نظيرك ما يجوز أن تخاطبه بمثل هذا؛ قلت: لذلك قلت لك: إني لم أمدحه بعد، ولكني سأمدحه، قال: افعل وأنزلني عنده. ودخل على الحسن فأخبره بخبري، فأمر بإدخالي إليه من غير مدح، وأمرني أن أنشد الشعر وقال: قد قنعنا منك بهذا القدر إذا لم تدخلنا بجملة من ذممت فأنشدته إياه فضحك وقال: ويحك ما لك وللناس؟ حسبك الآن، فقلت قد وهبتهم للأمير، فقال: قد قبلت وأنا أطالبك بالوفاء، ثم وصلني فأجزل وكساني فقلت في ذلك وأنشدته:
وهبت الناس للحسن بن سهل
…
فعوضني الجزيل من الثواب.
وقال دع الهجاء وقل جميلا
…
فإن القصد أقرب للصواب.
فقلت له برئت إليك منهم
…
فليتهم بمنقطع التراب.
ولولا نعمة الحسن بن سهل
…
علي لسمتهم سوء العذاب.
بشعر تعجب الشعراء منه
…
يشبهه بالهجاء وبالعتاب.
أكيدهم مكايدة الأعادي
…
وأختلهم مخاتلة الذئاب.
بلوت خيارهم فبلوت قوما
…
كهولهم أخس من الشباب.
وما مسخوا كلابا غير أني
…
رأيت القوم أشباه الكلاب.
فضحك، فقال: ويحك من الآن ابتدأت تهجوهم؟ فقلت: هذه بقيت طفحت على قلبي وأنا كاف عنهم ما أبقى الله الأمير.
وأخباره ونكته كثيرة، فلنكتف منها بهذا القدر. وإنما تعرضنا لترجمته لكون بيتيه المذكورين في زواج المأمون ببوران بنت الحسن من أحسن شواهد هذا النوع، بل قيل أنه ليس للسلف ولا المتأخرين فيه غيرهما، وغير البيت المتعلق بالخياط.
وقد ظفرت أنا ببيت لبعض السلف يصدق عليهم حدهم للإبهام، ولم يستشهد به أحد من البديعيين قيما أعلم.
وهو قول الشاعر:
ويرغب أن يبني المعالي خالد
…
ويرغب أن يرضى صنيع الألائم.
فإن هذا يحتمل المدح والذم لأنه إن قدر (في) أولا و (عن) ثانيا فمدح، وإن عكس فذم، إذ يقال: رغب فيه، ورغب عنه.
ولهذا اشترط ابن مالك في حذف الجار مع أن، وأن تعيين الجار ليؤمن اللبس، قال: فلا يقال: رغبت أن تفعل، إذ لا يدري هل التقدير: في أن تفعل، أو عن تفعل.
واستشكله ابن هشام في الأوضح بقوله تعالى "وترغبون أن تنكحوهن" لحذف الجار، مع أن المفسرين اختلفوا في المراد.
وأجاب في المغني: بأنه إنما حذف الجار للقرينة المعينة، وإنما اختلف العلماء في المقدر من الحرفيين في الآية لاختلافهم في سبب نزولها، فالاختلاف في الحقيقة إنما هو في القرينة.
وأجاب المرادي بذلك، وبأنه أراد الإبهام ليرتدع من يرغب فيهن لجمالهن ومالهن، ومن يرغب عنهن لدمامتهن وفقرهن.
واستحسنه بعضهم، قال: لأن من شرط أمن اللبس يقول: إذ خيف اللبس لم يجز الحذف، وعند إرادة الإبهام لا يخاف اللبس فيجوز الحذف لأجلها. انتهى وهو في محله.
ومن لطيف الإبهام ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان قال لعقيل بن أبي طالب عليه السلام: إن أخاك عليا قد قطعك ووصلتك، ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر، قال أفعل، فصعد المنبر فقال بعد أن حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس قد أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان فالعنوه لعنة الله عليه، ثم نزل.
فقال له معاوية: إنك لم تبين من لعنت بيني وبينه، فقال: والله لا زدت حرفا ولا نقصت آخر، والكلام على نية المتكلم.
وغلط ابن حجة فعد من هذا النوع قصة سليمان بن كثير مع أبي مسلم الخراساني وقال: إنها من أغرب ما نقل من شواهد الإبهام التي ما يليق بغيره وهي: أن أبا مسلم قال لسليمان: بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى ذكري فقلت: اللهم سود وجهه، واقطع رأسه، واسقني من دمه، فقال: نعم قلت ذلك ونحن جلوس تحت كرم وحصرم. فاستحسن أبو مسلم ذلك منه. وهذا مما أخطأ فيه ابن حجة الصواب، بل هذا المثال كما قاله بعض الفضلاء المتأخرين ممن تقدم عصرنا بقليل: من نوع المواربة- براء مهملة فباء موحدة- وحقيقتها كما سيأتي، أن يقول المتكلم قولا يتضمن الإنكار عليه، ثم يستحضر بحذقه وجها من الوجوه التي يمكن التخلص بها من تلك المؤاخذة، إما بتحريف كلمة أو بتصحيفها أو بزيادة أو نقص أو غير ذلك.
واشتقاقها من ورب العرق إذ فسد، فكأن المتكلم قد أفسد ظاهر كلامه بما أبدأه من تأويل باطنه، وبه ظهر أن القصة المذكورة لا يصح أن يمثل بها لغير المواربة، لما اشتملت عليه من إفساد سليمان بن كثير ظاهر كلامه بتأويله بما لا يخطر ببال، ولا يتبادر إلى ذهن، من إرجاع ضمائره إلى الحصرم، ولا يعد إبهاما لاشتراطنا في حده استواء معنييه في احتمال أن يكون كل منهما مقصودا فاعلم.
وعد ابن الأثير في المثل السائر من الإبهام قول أبي الطيب المتنبي في كافور:
فمالك تعنى بالأسنة والقنا
…
وجدك طعان بغير سنان.
ومالك تختار القسي وإنما
…
عن السعد يرمي دونك الملوان.
قال: فإن هذا لا يحتمل المدح والذم، بل هو بالذم أشبه، لأنه يقول: إنك لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجد وسعادة، وهذا أفضل فيه، لأن السعادة ينالها الخامل والجاهل ومن لا يستحقها. قال: وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا الفن في القصائد الكافوريات.
وتعقبه ابن أبي الحديد في الفلك الدائر فقال: إن الناس وقع لهم واقع طريف مع المتنبي، وكن أصله الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني، فإنه نبه المتنبي على شيء من هذا الباب لم يكن قصده ولا خطر بباله، فضحك المتنبي ولم يكن ذلك لبغضه لكافور وحقده عليه. فصار قيه حديث طويل وزعم أن من جاء بعده أن المتنبي كان يقصد ذلك، ويمدحه بالشعر الموجه الذي يحتمل المدح والذم، ومنهم من يزعم أن كافورا كان يتفطن لذلك ويغضي عنه، وينقلون هذا هن المتنبي، وما كان ذلك قط ولا وقع شيء منه ولا قصد أبو الطيب نحو ذلك أصلاً.
فأما هذان البيتان فقد قال في سيف الدولة مثلهما كثرا، نحو قوله له: ولقد رمت بالسعادة بعضاً=من نفوس العدى فأدركت كُلا ونحو قوله له:
إذا سمعت الأعداء في كيد جدِّه
…
سعى جدّه في سعي محنق.
قال: وهذه الرواية أولى من رواية من روى (سعى مجده في جده) لأن قوله بعده:
وما ينصر الفضل المبين على العدى
…
إذ لم يكن فضل السعيد الموفق.
يؤكد ما ذكرناه.
ونحو قوله له:
لو لم تكن تجري على أسيافه
…
مهجاتهم لجرت على إقباله.
ونحو قوله له:
هم يطلبون فما أدركوا
…
وهم يدعون فمن يقبل.
وهم يتمنون ما يشتهون
…
ومن دونه جدك المقبل.
وقد قال لعضد الدولة أبي شجاع، وهو أعظم ملكا من سيف الدولة وأشد بأسا وأكثر انتقادا للشعر وهو يذكر هزيمة وهوذان عن عسكر ركن الدولة أبيه:
وليت يومي فناء عسكره
…
ولم تكن دانيا ولا شاهد.
ولم يغب غائب خليفته
…
جيش أبيه وجده الصاعد.
وقال له في هذه القصيدة وقد صرح أنه يقهر الأعداء بالجد فقط، والخطاب مع وهوذان:
وأنى شئت يا طرقي فكوني
…
أذاة أو نجاة أو هلاكا.
يشرديمن فناخسر عني
…
قنا الأعداء والطعن الدراكا.
وقال لغيرهما من ممدوحيه:
نفذ القضاء بما أردت كأنه
…
لك كلما أزمعت شيئا أزمعا.
وأطاعك الدهر العصي كأنه
…
عبد إذا ناديت رد مسرعا.
ولكن سيف الدولة لما اشتهر إخلاص أبي الطيب في ولائه عدل الناس عن هذا الشعر الذي يتضمن ذكر الجد والحظ، فلم يذكروه ولم يجعلوه موجها متوسطا بين المدح والذم، وقالوا ذلك في كافور لمكان تقصيره بأبي الطيب، وانحراف كل واحد منهما عن صاحبه، ومجاهرة أبي الطيب له بعد مفارقته بالهجاء. ولو تأملت الأشعار كلها وأردت أن تستنبط منها ما يمكن أن يكون هجاء لقدرت.
هذا السيد الحميري من الشيعة العلوية لا يختلف في ذلك اثنان، وقال أبو عمر الزاهد في كتابه الياقوتة: أن بعض الشيعة أنشد أبا مجالد قول السيد:
أقسم بالله وآلائه
…
والمرء عما قال مسؤول.
أن علي بن أبي طالب
…
على الهدى والبر مجبول.
وأنه كان الإمام الذي
…
له على الأمة تفضيل.
كان إذا الحرب مرتها القنا
…
وأحجمت عنها البهاليل.
يمشي إلى الروع وفي كفه
…
أبيض ماضي الحد مصقول.
مشي العفرنى بين أشباله
…
أصحره للقنص الغيل.
ذاك الذي سلم في ليلة
…
عليه ميكال وجبريل.
ميكال في ألف وجبريل في
…
ألف ويتلوهم سرافيل.
في يوم بدر مددا كلهم
…
كأنهم طير أبابيل.
فقال له أبو مجال في هذا: إن الشاعر لم يمدح صاحبك في موضعين، أحدهما أنه زعم أن عليا مجبول على البر والهدى، ومن جبل على أمر لم يمدح عليه، لأته لم يكسبه بسعيه. والثاني أنه أيد في حروبه بالملائكة، ولا فضيلة له إذن في الظفر، لأن أبا حية النميري لو أيد بهؤلاء لقهر الأعداء وغلبهم.
قال ابن أبي الحديد: واعلم أن الشعراء مازالت على قديم الدهر وحديثه يمدحون الرئيس بعلو جده ومساعدة الأقدار له، ومطاوعة الأفلاك والكواكب والدهر لإرادته، وأقوالهم في هذا أكثر من أن تورد وتملى. وكان الأصل في إكثارهم من ذلك أن يملأوا أسماع أعداء الممدوح وخصومه، ويوقروا في صدورهم أو يثبتوا في نفوسهم أنه منصور من السماء، وأنه محوط بالعناية الإلهية، وأن الكواكب تساعده، والأقضية والأقدار تجري على مراده فيوقعوا الرعب منه في الصدور والخوف في القلوب إلى أن ينخذل من يناويه من غير حرب ولا كيد.
وقد روي ان ملك الصين قد عرض عسكره على الإسكندر فاستعظمه ورأى ما هاله، فقال له: قد كنت قادرا على أن أصادمك بهذه العساكر العظيمة، لكني رأيت الأفلاك ناصرة لك، فرأيت أن لا أحارب من تنصره ثم أعطاه الطاعة، ودفع إليه الأتاوة.
انتهى كلام ابن أبي الحديد، ولم يتعرض للرد على ابن أبي مجاهد في كتابه المذكور. ولعمري لقد أخطأت أست أبي مجال الحفرة، ولم يصب سهمه الثغرة. وقد عرضت كلامه هذا الذي هجر به، على شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي العاملي عامله الله بإحسانه وكساه حلة رضوانه، طالبا منه الرد عليه، فأجاب على جاري عادته فيما يجيب بما شفى النفس وأزال اللبس، وشحن كلامه بدرر الفوائد وغرر الفرائد، فقال ما نصه: الجواب عن الشبهة الأولى- أنه إذ قيل: فلان مجبول على الخير، لا يصح أن يراد به ما هو ظاهر اللفظ، من أن الخير غريزة فيه قد طبع عليها كما طبع الإنسان على غريزة العقل، وامتاز بها عن سائر البهائم، وطبع الحيوان على غريزة الحياة وفارق الجمادات والنباتات، وإلا لشاركه فيها جميع مشاركته في الماهية النوعية والجنسية، ولم يدخل تحت قدرته واختياره، لأن لوازم الماهيات ليست بجعل جاعل وراء جاعل الذات، فلا بد أن يصرف عنه إلى معنى يناسبه، ويختلف ذلك باختلاف المراتب والدرجات.
فإن كان صاحبه من أصحاب اليمين صح أن يراد به أن كلا من جوهر نفسه وطينة بدنه، مجبول حقيقة على قابليته، فإن النفس في بدء خلقها قابل محض لاشيء معها بالفعل، والمادة الأولى مبدأ القوة والاستعداد ولكن النفس القدسية والطينة الطيبة لشرف جوهريهما أقبل للطرف الأشرف من كل متقابلين.
ثم يتدرج الإنسان بعد الخلق الثاني، وهي النشأة الدنيوية للاستعداد للتحلي بالفضائل، والتخلي من الرذائل، والمواضبة على الأعمال المستحسنة والمجانبة للأفعال المستهجنة شيئا فشيئا بسهولة لتهيؤ الأسباب وتوفر المعدات من توفيقات إلهية وألطاف ربانية، على حسب وسع قابليته، فربما كانت غاية وسع قابليته أن يوكل الله به روح الإيمان، وربما كانت ساحة قابليته أوسع، فأيده مع روح الإيمان بروح القدس، لا لمجرد بخت واتفاق، بل لابد مع علمه تعالى بما طبع عليه من القابلية الذاتية، أن يعلم انتفاعه به فيما يؤل إليه من السعادة الأبدية، المستحقة بالأعمال والطاعات الاختيارية.
فإن الألطاف إنما تجري بحسب القابليات، وعلى طبق المصالح، ليكون اللطف ناجعا فيه، إذ التكليف وإن أوجب فعل اللطف بالعبد، ولكن الحكمة تقتضي ألا يفعله الله بمن علم أن له فيه لطفا. ولهذا قال تعالى في قوم غلبت عليهم شقوتهم "ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم".
قال جار الله: لو علم في هؤلاء الصم البكم انتفاعا باللطف للطف بهم. وعلم تعالى أن لأمير المؤمنين عليه السلام في العصمة لطفا فعصمه، ثم كلما تم له استعداد فعل أوجبته الإرادة وأبرزته القدرة من مكمن القوة على مجلى الفعل، إن علمه الله تعالى وشاء وقدره وقضاه وأمضاه. فظهر أن هذه الألطاف ليست عللا تاما للطاعات، ولا مؤثرات مستقلة فيها، بحيث لا يكون لقدرة العبد فيها تأثير، فيخرج بها عن حيز الاختيار، ويدخل في باب الاضطرار، ولا يكون له سعي ولا كسب فيما يأتي ويذر- كما زعمه هذا المطبوع على قلبه- وإنما هي معدات ومباد قريبة، والجزء الأخير من العلة التامة هي الإرادة الموجبة لما هو راجح في معيار العقل من الطرفين.
ومن هنا فسر سيدنا المرتضى رضي الله تعالى عنه العصمة بأنها اللطف الذي يفعله الله بالعبد فيختار عنده إيثار الطاعة والامتناع عن المعصية، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه، وكون الفاعل موجبا في قبول فعل لكونه مفطورا عليه لا ينافي كونه مختارا في إخراجه من القوة إلى الفعل، وبهذا تنحل عقدة التشكيك فيما ورد في طينة المؤمن وطينة الكافر، بأنه يستلزم الجبر، حتى أنكر صحة ذلك بعض من لم يعض في العلم بضرس قاطع.
واعلم أن هذا الشاعر قد شبه رسوخ ملكتي التقى والبر في النفس بالانطباع على الغرائز بجامع عدم الانفكاك عنها، ثم استعار للمشتبه اسم المشبه به، واشتق منه صيغة المفعول على سبيل الاستعارة التبعية، أو أضمر في النفس تشبه التقى والبر الراسخين في النفس بالغرائز التي يطبع عليها، وأومأ إلى التشبيه بأن أثبت للمشبه لازما من لوازم المشبه به وهو الجبل على طريق الاستعارة المكنية والتخيل. أو سمى قابلية التقى والبر التي جبل عليها باسميهما، من باب تسمية الشيء باسم ما من شأنه أن يؤول إليه، على نهج المجاز المرسل.
ومع التنزيل عن هذه المرتبة فالإيجاب في غريزة من الغرائز الفاضلة إنما ينافي استحقاق الحمد عليها استحقاق المدح بها. ومع التنزيل عن هذه المرتبة أيضاً من أين يلزم أن يكون وصف صاحبها بها هجوا له؟ وهل في وصف الشمس بالضياء ذم لها؟ أو في إطراء إنسان بالعقل إزراء عليه لولا نصب أبي مجالد؟ .
والجواب عن الشبهة الثانية مسبوق بتمهيد مقدمة وهي: إن أهل القبلة قد اختلفوا في حقيقة نزول الملائكة يوم بدر، فقال الجمهور: نزلوا من السماء إلى الأرض كما ينزل الإنسان من الموضع العالي إلى الموضع السافل، ونزله أصحاب المعاني على ما يناسب نزول المجردات من عالم العقل إلى عالم الخيال، فيكون التأييد بهم من باب تقوية الأرواح لإمداد الأشباح.
ثم اختلف الأولون فقال الأكثرون منهم: نزلوا وقاتلوا، وقال الباقون: نزلوا ولم يقاتلوا، وجعلوا قوله تعالى "فاضربوا فؤق الأعناق" أمرا للمسلمين لا الملائكة، وتمسكوا به لأنه لو حارب واحد من الملائكة جميع البشر لاستأصلهم ببعض قوته. فإن جبرائيل عليه السلام اقتلع مدائن قوم لوط ورفعها على خافقة من جناحه حتى بلغ بها السماء، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، فما عسى تبلغ قوة ألف رجل من قريش ليحتاج في مقاومتها إلى ألف ملك من ملائكة السماء، مضافين إلى ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً من بني آدم؟ وإنما كان نزولهم ليكثروا سواد المسلمين في أعين المشركين، إذ كانوا يرونهم في بدء الحال قليلين، كما قال تعالى "ويقللكم في أعينهم" ليطمع المشركون فيهم، ويجترؤا على حربهم، فلما نشبت الحرب فيهم كثرهم الله تعالى بالملائكة في أعينهم ليفروا، ولأنهم كانوا يتصورون لهم في صور من يعرفونهم من البشر، ويقولون لهم ما جرت العادة به أن يقال في تثبيت القلوب في الحرب وذلك قوله تعالى "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا"، وحينئذ بعدم القول بعدم النزول إلى عالم الحس أو القول به مع عدم القتال فالشبهة ساقطة، وعلى القول به أيضاً إنما تفوته فضيلة الظفر لو لم يغن في مجاهدة الفرسان ومجالدة الأقران عن سائر من حضر من الملائكة والبشر. وهب أنها فاتته، أليس التأييد في نفسه فضيلة لا تقاس بها فضيلة؟ ورب فضيلة تركت لما هو أفضل منها. ألم يكن الله تعالى قادرا على قبض أرواح العباد لا بيد عزرائيل؟ وعلى إهلاك من أهلك من الأمم لا على يد جبرائيل؟ وعلى إحصاء أعمال العباد من دون كتابة الصحف؟ بلى كان قادرا على ذلك كله، ولكن بحصول المطلوب بنفوذ الأمر من القادر المطاع من إظهار الجلال والجبروت ما لا يحاط به نطاق العقل بل تسخير المدبرات من آثار التمكن والاقتدار ما ليس في وسع دائرة المباشرة. ومع الإغماض عن ذلك كله من أين يتطرق إليه النقص لو شاركته الملائكة في قهر الأعداء؟ أو استقلت به دونه حتى يكون وصفه هجوا له؟ وإنما يتطرق النقص إلى من تقاعد عن الحرب حيث تمس الحاجة إلى القيام بها جبنا، أو تقاعس عنها حيث تدعو الضرورة إلى الإقدام عليها فرقا. ولعمري لقد عشي بصر أبي مجال حتى رأى الحسنة سيئة والمنقبة مثلبة قوله تعالى "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون".
هذا ما جرى به القلم على يد أقل العباد محمد بن علي الشامي العاملي عصمه الله من الخلل والخطل في القول والعمل في سنة ثمانين وألف. انتهى كلامه رفع مقامه.
وأبو حية النميري الذي ذكره أبو مجالد كان من أجبن خلق الله. حكى جار له قال: كان لأبي حية سيف ليس بينه وبين العصى فرق، وكان يسميه لعاب المنية. فأشرفت ليلة عليه فرأيته قد أضناه وهو واقف على باب داره- وقد سمع في بيته حسا- وهو يقول: أيها المغتري بنا والمجتري علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، إنني والله أن أدع لك بني نمير، جاءتك بخيلها ورجلها، فاخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك. ثم فتح الباب على حذر ووجل شديد، فإذا كلب قد خرج فقال: الحمد الله الذي أرانا كلبا وكفانا حربا.
رجع إلى الإبهام- ومما قيل أن أبا الطيب قصد فيه الإبهام قوله في مدح كافور:
ويغنيك عما ينسب الناس إنه
…
إليك تتناهى المكرمات وتنسب.
قال الخطيب لهذا البيت باطن وهو سخرية، يريد أنه لا نسب لك لأنك عبد.
وقوله:
وما طربي لما رأيتك بدعة
…
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب.
قال الواحدي وغيره: هذا البيت يشبه الاستهزاء به، لأنه يقول: طربت على رؤيتك كما يطرب الإنسان على رؤية القرود، وما يستملحه ويضحك منه. قال ابن جني: لما قرأت على أبي الطيب هذا لبيت قلت له: أجعلت الرجل أبازنة؟ فضحك لذلك.
وقوله فيه:
يدل بمعنى واحد كل فاخر
…
وقد جمع الرحمن فيك المعانيا.
قال أبو الفتح: لما قرأت هذا البيت ضحكت وضحك أبو الطيب وعرف مطلوبي.
وقوله منها:
وغير كثير أن يزورك راجل
…
فيرجع ملكا للعراقيين والياً
قال أبو الفتح: هذا ظاهره أن من رآك أفاد منك كسب المعالي. وباطنه أن من رآك على ما بك من النقص وقد صرت إلى الملك ضاق صدره أن يقصر عما بلغته وأن لا يتجاوز ذلك إلى كسب المكارم، وكذلك إذا رآك راجل لا يستكثر لنفسه أن يرجع واليا على العراقيين.
ومثل هذا البيت قوله أيضاً فيه:
يضيق على من راءه العذر أن يرى
…
ضعيف المساعي أو قليل التكرم
فإن ظاهره أن من رآه لم يكن له عذر أن يكون ضعيف المسعاة قليل التكرم، يعني منه يتعلم هذه الأشياء، فمن رآه ولم يتعلم منه فهو غير معذور. وباطنه أن مثله في خسته ولؤم أصله إذا كانت مسعاة وتكرم فلا عذر لأحد بعده في تركه.
كما قال الآخر:
لا تيأسن من الإمارة بعدما
…
خفق اللواء على عمامة جرولِ
هذا كلام ابن جني والحق ما قاله ابن أبي الحديد: أن المتنبي لم يكن يقصد شيئاً من ذلك قط ولا خطر له أصلا، كيف ولو كان كذلك لناقض كلامه بعضه بعضا، لأن له في كافور من المدح ما لا يشوبه شيء من هذه التأويلات الباردة، والله أعلم بحقائق الأمور.
ومن لطيف الإبهام في النثر، قول القاضي تاج الدين المالكي، غمام المالكية بالمسجد الحرام، في تقريظ له على تصدير وتعجيز للشيخ تقي الدين السنجاري لقصيدة أبي الطيب المتنبي التي مطلعها (أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل) . ولم يكن الشيخ تقي الدين المذكور ممن له قدم في الأدب ولا قدم في الحسب، وهو: وقفت على هذا التصدير والتعجيز فإذا منشئه قد أجاد في النظم والإنشاء، وما كل من أخذ القلم ومشى، ووقف بعجيب تصرفه بين معوج المعاني وطابق.
وكأنه قصد الرد على الطغرائي في قوله: وهل يطابق معوج بمعتدل. ومنه: فقصد أن يسبك درر الأسلاك، ويتصرف فيها تصرف الملاك، أو المنجم الماهر في دراري الأفلاك، فانتبذت خشية منه مكانا قصيا وقالت لعلمها بقدرته على تصرفه كيف شاء "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا". انتهى.
انظر ما أحسن هذا الإبهام الذي تعقد عليه الخناصر.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي في هذا النوع قوله:
ليت المنية حالت دون نصحك لي
…
فيستريح كلانا من أذى التهم.
هذا البيت كما قال ابن حجة ليس له نظير في أبيات البديعيات، فإنه اشتمل على الرقة والسهولة والانسجام، وما زاده حسنا إلا تقويته ب (ليت) التي استعان بها الشاعر في إبهام بيته على زيد الخياط.
فإن الشيخ صفي الدين لما قال لعاذلته (ليت المنية حالت دون نصحك لي) حسن إبهامه بقوله (فيستريح كلانا من أذى التهم) ، فصار الأمر مبهما بينه وبين العاذل.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
أبهمت نصحي مشيرا بالأصابع لي
…
ليت الوجود رمى الإبهام بالعدم.
قال ابن حجة وهذا الإبهام هنا يشار إليه بالأصابع، فإنه أجاد فيه إلى الغاية ولم يتفق له في نظم بديعيته بيت نظيره، فإنه جمع بين الانسجام والتصدير والتورية البارزة في أحسن القوالب بتسمية النوع ونوع الإبهام الذي هو المقصود. ولعمري انه بالغ في عطف القلوب بهذا السحر الحلال. انتهى.
وأنا أقول: الذي أراه أن هذا البيت ليس من الإبهام الاصطلاحي في شيء، بل هو من الاستخدام على طريقة ابن مالك. لأن الإبهام كما تقدم، أن يقول المتكلم كلاما محتملا لمعنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر، ولذلك سماه بعضهم محتمل الضدين، ولا تضاد هنا بين إرادة الإبهام الذي هو مصدر أبهم الأمر، وبين الإبهام الذي هو أكبر الأصابع.
قال العلامة التفتازاني في مختصر المطول عند قول الماثن في تعريف هذا النوع: هو إيراد الكلام محتملا لمعنيين مختلفين أي متباينين متضادين ولا يكفي مجرد احتمال معنيين مختلفين. انتهى.
وهذا يدل صريحاً على أن هذا البيت ليس من الإبهام بشيء، وإنما قلنا إنه من الاستخدام على طريقة ابن مالك، لأنه داخل في حده، وذلك أن الاستخدام على طريقته كما مر أن يؤتى بلفظ مشترك بين معنيين ثم بلفظين يخدم كل واحد منهما معنى من دينك المعنيين، وهذا البيت كذلك فإن لفظ الإبهام يطلق على المعنيين المذكورين، ولفظ أبهمت يخدم الإبهام بمعنى المصدر، ولفظ الأصابع يخدم الإبهام الذي هو أكبر الأصابع.
وهذا الكلام بعينه يجري في بديعية ابن حجة:
وزاد إبهام عذلي عاذلي ودجا
…
ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي.