الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنه لا تضاد فيه بين إرادة البهيم بمعنى بهيم الليل وبين العاذل، بل هو من الاستخدام على الطريقة المذكورة، فلفظ الليل يخدم البهيم بمعنى الأسود، ولفظ إبهام عذلي يخدم البهيم بمعنى العاذل. فلا يغرنك قوله في شرحه: أن الإبهام هنا بين بهيم الليل وبين العاذل، فإن اشتراك البهيم صالح لهما ولكن لم يحصل التميز لأحدهما عن الآخر كما وقع عليه الشرط بل الأمر بينهما مبهم لا يعلم من هو المقصود منهما. انتهى.
فإن هذا الإبهام الذي ذكره لغوي لا اصطلاحي، إذ اشترط تضاد المعنيين في حد الإبهام الاصطلاحي لم يختلف في كتاب من كتب البديع وأمثلتهم له كلها جارية على ذلك، والله أعلم.
والطبري جمع بين الإبهام والتهكم في بيت واحد فقال: أذقت إبهام ما يرضى الفؤاد فسد=تهكما أنت ذو عز وذو عظم.
الإبهام في قوله: يرضي الفؤاد، فإنه إن قيل: فؤاد العاشق، صح، أو العاذل، صح.
وبيت بديعيتي:
قالوا وقد أبهموا إذ بان مكتتمي
…
في حبهم بان لكن أي مكتتم.
الإبهام في هذا البيت على حده في بيت ابن حازم المتعلق بزواج المأمون من بوران بنت الحسن المقدم ذكره وهو:
يا بن هارون قد ظفر
…
ت ولكن ببنت من.
فإنه لا يعلم بما أراد ببنت من، في الحقارة، أو في الرفعة؟. وهنا كذلك، فإن قولهم: بان لكن أي مكتتم، لا يعلم ما أرادوا به، هل هو إعجاب به؛ أو احتقار له؟ فالأمر مبهم بين هذين المعنيين المتضادين محتمل لكل منهما على السواء، لا يتميز أحدهما عن الآخر.
وبيت الشيخ شرف الدين المقري من هذا القبيل أيضاً وهو:
ما مثلهم في العلى هيهات أين هم
…
وأين منصبهم في القدر والعظم.
قال ناظمه في شرحه: ما مثلهم في العلى محتمل، إنه أراد: لا نظير لهم في علوهم ومجدهم؛ ويحتمل أنه أراد: أن مثلهم لا يكون في العلى.
وكذلك قوله: هيهات أين هم وأين منصبهم في القدر والعظم، يحتمل أن سؤاله سؤال تفخيم وتعظيم، ويحتمل أنه أراد: الاحتقار والإعلام أنهم بحيث يفتش عليهم فلا يوجدون والله أعلم.
وابن جابر الأندلسي لم ينظم نوع الإبهام في بديعيته.
الطباق
.
إن أدن ينأوا وما قلبي كقلبهم
…
وهل يطابق مصدوع بملتئم
الطباق ويسمى المطابقة والتطبيق والتضاد والتكافؤ- وهو الجمع بين معنيين متضادين، أي معنيين متقابلين في الجملة، قالوا: ولا مناسبة بين معنى المطابقة لغة، ومعناها اصطلاحا، فإنها في اللغة الموافقة، يقال: طابقت بين الشيئين: إذا جعلت أحدهما على حذو الآخر، وطابق الفرس في جريه: إذا وضع رجليه مكان يديه، والجمع بين الضدين ليس موافقة.
قال ابن الأثير في المثل السائر: ولا أعلم من أي شيء اشتقوا هذا الاسم، ولا وجه للمناسبة بينه وبين مسماه، ولعلهم قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم نعلمها نحن. انتهى.
واغرب ابن أبي الحديد في قوله: الطبق في التحريك في اللغة، هو المشقة، قال الله سبحانه وتعالى "لتركبن طبقا عن طبق" أي مشقة بعد مشقة، فلما كان الجمع بين الضدين على الحقيقة شاقا بل متعذرا، ومن عادتهم أن تعطى الألفاظ حكم الحقائق في أنفسها توسعا، سموا كل كلام جمع فيه الضدين مطابقة وطباقا. انتهى.
وقال السعد التفتازاني في شرح المفتاح: إنما سمي هذا النوع مطابقة لأن في ذكر المعنيين المتضادين معا توفيقا، وإيقاع توافق بين ما هو في غاية التخالف كذكر الأحياء مع الإماتة، والإبكاء مع الضحك ونحو ذلك. انتهى.
وكأن ابن الأثير ظهر له وجه المناسبة فيما بعد فقال في كفاية الطالب: المطابقة هي عند الجمهور: الجمع بين المعنى وضده، ومعناها أن يأتلف في اللفظ ما يضاد في المعنى، وكأن كل واحد منهما وافق الكلام فسمي طباقا.
قال: وذكر الأصمعي المطابقة في الشعر فقال: أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع وأنشد:
وخيل تطابقن بالدراعين
…
طباق الكلاب يطأن الهراشا
الهراش كحطام الشوك، ولذلك خص الوطأ فيه، لأن الكلب إذا مشى فيه رأى أين يضع يده فيضع رجله موضعها، وفي ذوات الأربع ما لم تجاوز رجله موضع يده، وقد يطابق من ثقل يحمله، أو شيء يتقيه، وقد يطابق بعضها على كل حال.
قال: وأحسن بيت قيل في ذلك لزهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
…
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا.
وقال الخليل: يقال: طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حد واحد وألصقتهما.
وقدامة يسمي المطابقة تكافؤا، والطباق عنده اجتماع المعنيين في لفظة مكررة، وأنشد عليه قول الأودي:
وأقطع الهوجل مستأنساً
…
بهوجل عيرانة عنتريس.
فهوجل الأول: المفازة البعيدة. والثاني: الناقة بها هوج من سرعتها وهذا عند سائر أهل هذا العلم تجنيس مستوفي. وقد يجمع بين قول الخليل وقدامة، بأن يجعل الشيئان في كلام الخليل المعنيين، والحد الواحد اللفظة ويكون مطابقة اللفظة للمعنى أي موافقته، ومنه قولهم: فلان يطابق فلانا على كذا أن يوافقه ويساعده، فيكون مذهب قدامة أن اللفظة وافقت معنى ثم وافقت معنى آخر. انتهى كلام ابن الأثير.
وجمعه بين قول الخليل وقدامة ليس بصواب، فقد قال الأخفش: ممن قال أن المطابقة اشتراك المعنيين في لفظ واحد، فقد خالف الخليل والأصمعي، فقيل له: أو كانا يعرفان ذلك؟ فقال سبحان الله، من كان أعلم منهما بطيبه وخبيثه؟. انتهى.
وما أحسن ما أتى في الجواب بالطباق بين الطيب والخبيث، وعلى هذا فتفسير الخليل المذكور للمطابقة لغوي لا اصطلاحي.
والطباق قسمان، حقيقي ومجازي، ويخص بعضهم الثاني باسم التكافؤ. وكل منهما إما لفظي أو معنوي، وإما طباق إيجاب أو طباق سلب. فالطباق الحقيقي- ما كان بألفاظ الحقيقة، سواء كان من اسمين أو فعلين أو حرفين، كقوله تعالى:(وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) وقوله تعالى: (وما يسوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور) وقوله تعالى: (وإنه هو أضحك وأبكى وأنه هو آمات وأحيا) وقوله تعالى: (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) .
وقول الني صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع.
وقل أبي صخر الهذلي:
أما والذي أبكى وأضحك والذي
…
أمات وأحيا والذي أمره الأمر
وقول ابن الدمينة:
لأن سائني أن نلتني بمساءة
…
لقد سرني أني خطرت بالك
وقول كثير عزة:
وواله ما قاربت إلا تباعدت
…
بصرم ولا أكثرت إلا أقلت
وقول أبي الحسن التهامي:
طبعت على كدر وأنت تريدها
…
صفوا من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
…
متطلب في الماء جذوة نار
ومن لطيف قول الأرجاني:
وقد نزلت من الملوك بماجد
…
فقر الرجال إليه مفتاح الغنى
وقول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب أنهم
…
لا يغدرون ولا يفنون لجار
يستيقظون إلى نهيق حمارهم
…
وتنام أعينهم عن الأوتار
وفي البيت الأول مع الطباق تكميل حسن، إذ لو اقتصرت على قوله: لا يغدرون، لاحتمل الكلام المدح، إذ ترك العذر قد يكون عن عفة، فقال: ولا يفنون، ليفيد أنه للعجز، كما أن ترك الوفاء للؤم، وحصل مع ذلك إيغال حسن لأنه لو وقف على قوله: ولا يفون، لتم المعنى، لكنه لما احتاج إلى القافية أفاد بها معنى زائدا، حيث قال: لجار، لأن ترك الوفاء للجار أشد قبحا من تركه لغيره.
والطباق بالحروف كقوله تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) .
وقول الشاعر:
على أنني راض بأن أحمل الهوى
…
وأخلص منه لا عليَّ ولا ليا
وقول الآخر:
ويوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نساء ويوم نسر.
والطباق المجازي- ما كان بألفاظ المجاز، كذا قالوا، والذي أراه: أنه يشترط فيه أن يكون المعنيان المجازيان متقابلين أيضاً، وإلا دخل فيه إيهام الطباق- وهو الجمع بين معنيين غير متقابلين أيضاً، عبر عنهما بلفظين يتقابل معناهما الحقيقيان، وقد جعلوه نوعا أخر غير المجازي.
فمثال الطباق المجازي قوله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه) أي ضالاً فهديناه، فالموت والإحياء متقابل معناهما المجازيان، وهما الضلال والهدى، ومعناهما الحقيقيان المعروفان.
ومثله قول علي عليه السلام: احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع. قال ابن أبي الحديد: ليس يعني بالجوع والشبع ما يتعارفه الناس وإنما المراد: احذروا صولة الكريم إذا ضيم وامتهن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم. انتهى.
فعبر عن الضيم بالجوع، وعن الإكرام بالشبع، وهو مجاز، وكلا معنييهما متقابلان، الحقيقان والمجازيان.
وقول التهامي:
لقد المكارم بعد موت
…
وشاد بناءها بعد انهدام.
فالإحياء والموت، والشيد والانهدام متقابلة معانيها الحقيقة والمجازية إذ المراد: أنه أعطى بعد أن منع الناس كلهم.
ومنه قولي:
يهلك المال بالعطاء ويحيا
…
ميت فضل فاعجب لمحيٍ مميت.
ومثال إيهام الطباق قول دعبل:
لا تعجبي يا سلم من رجل
…
ضحك المشيب برأسه فبكى.
فضحك المشيب هنا عبارة عن ظهوره ظهورا تاما، ولا تقابل بين البكي وظهور المشيب، لكنه عبر عنه بالضحك الذي يكون معناه الحقيقي مضاد لمعنى البكاء.
وقول ابن رشيق:
وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا
…
نجوم العوالي في سماء عجاج.
فإن التقابل غنما هو في معنيي الإطفاء والإيقاد الحقيقيين، وأما المجازيان فلا، لأن إطفاء الشمس عبارة عن إثارة العجاج حتى غطى على الشمس، وإيقاد نجوم العوالي عبارة عن تشريع أسنة رماحهم، ولا مضادة بين هذين المعنيين. وغلط ابن حجة في عده هذا البيت من التكافؤ.
ويعجبني من هذا النوع قول أبي العرب المغربي:
من كل مشتمل بمنصل عزمه
…
ذي همة يطأ السماء همام.
نشوان من خمر الكرى صاحي الندى
…
ريان من ماء المحامد ظام.
فالتقابل في هذا أيضاً بين المعاني الحقيقة لا المجازية كما لا يخفى. وأما الطباق المعنوي فهو متقابلة الشيء بضده في المعنى لا اللفظ، كقوله تعالى:(إن أنتم إلا تكذبون. قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) معناه: ربنا ليعلم إنا لصادقون، وقوله تعالى:(جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء) قال أبو علي الفارسي: لما كان البناء رفعا للمبني قوبل بالفراش الذي هو خلاف البناء.
وقول المقنع الكندي:
لهم جل مالي أن تتابع لي غنى
…
وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا.
فقوله: إن تتابع، في قوة قوله: إن كثر، والكثرة ضد القلة، فهو إذن طباق بالمعنى لا باللفظ.
وقول هدبة بن الخشرم:
فإن تقتلوني في الحديد فإنني
…
قتلت أخاكم مطلقا لم يقيد.
فإن معناها، فإن تقتلوني مقيدا، وهو ضد الطلق، فطابق بينهما في المعنى. وطباق الإيجاب كجميع ما تقدم من الأمثلة.
وأما طباق السلب، فهو الجمع بين فعلي مصدر واحد، مثبت ومنفي أو أمر ونهي، كقوله تعالى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقوله "أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا" وقوله "تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك" فالمطابقة بين هذه الآيات حاصلة بين إثبات العلم ونفيه. وقوله تعالى "فلا تخشوا الناس واخشون" فالمطابقة حاصلة بين النهي عن الخشية والأمر بها.
ومثاله من الشعر قول امرئ القيس:
جزعت ولم أجزع من البين مشفقا
…
وعزيت قلبا بالكواعب مولعا.
وقول آخر:
وننكر عن شئنا على الناس قولهم
…
ولا ينكرون القول حين نقول.
وقول البحتري:
يقيض لي من حيث لا أعلم النوى
…
ويسري إلي الشوق من حيث أعلم.
وقول أبي الطيب:
ولقد علمت وما علمت حقيقة
…
ولقد جهلت وما جهلت خمولا.
ومن المستطرف في ذلك قول بعضهم:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة
…
فكأنهم خلقوا وما خلقوا.
رزقوا وما رزقوا سماح يد
…
فكأنهم رزقوا وما رزقوا.
فالمطابقة بين ذلك كله بين الإيجاب والسلب.
ومن الطباق نوع يسمى الطباق الخفي، والملحق بالطباق، وهو الجمع بين معنيين يتعلق أحدهما بما يقابل الآخر، نوع تعلق مثل السببية واللزوم كقوله تعالى:"أشداء على الكفار رحماء بينهم" فإن الرحمة وإن لم تكن مقابلة للشدة لكنها مسببة عن اللين الذي هو ضد الشدة، وقوله تعالى "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" فإن ابتغاء الفضل وإن لم يكن مقابلا للسكون لكنه يستلزم الحركة المضادة للسكون، ومنه قوله تعالى "اغرقوا فأدخلوا نارا" لأن إدخال النار يستلزم الإحراق المضاد للإغراق، وقيل لأن الغرق من صفات الماء، فكأنه جمع بين النار والماء.
قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة من القرآن.
قال ابن المعتز: من أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة" لأن معنى القصاص القتل، فصار القتل سبب الحياة.
ومن أمثلته في الشعر قول التهامي:
والهون في ظل الهوينا كامن
…
وجلالة الأخطار في الأخطار.
فإن جلالة الأخطار وإن لم تكن مقابلة للهون، لكنها لازمة للعز المقابل للهون.
وقول الآخر:
وجهه غاية الجمال ولكن
…
فعله غاية لكل قبيح.
فإن ضد الجمال الدمامة، لكنها لما كانت تستلزم القبح طابقه بينه وبين الجمال.
وكذا قول الطغرائي:
وشان صدقك عند الناس كذبهم
…
وهل يطابق معوج بمعتدل.
لأن المعوج إنما يطابقه المستقيم، والمعتدل يطابقه المائل، لكن الاعتدال لازم للمستقيم المطابق للمعوج.
وأما قول أبي الطيب:
لمن تطلب الدنيا إذ لم ترد بها
…
سرور محب أو إساءة مجرم.
فاتفقوا على أنه طباقه بين المحب والمجرم فاسد، لأن المجرم ليس ضد المحب، وإنما ضده المبغض، وأما طباقه بين السرور والإساءة، فقد يقال من الملحق بالطباق، لان من أحسن إلى شخص فقد سره.
وفساد المطابقة أمر محذور.
وعد منه ابن الأثير في كفاية الطلب قول زهير:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا
…
أصبت حليما أو أصابك جاهل.
قال: فإن الحلم ليس بضد الجهل والخنا، وإنما ضده السفه والطيش، وضد الجهل العلم أو المعرفة وما شاكلها. انتهى.
ووقع هذا للتهامي في قوله:
ولربما اعتضد الحليم بجاهل
…
لا خير في يمنى بغير يسار.
على أنه ما جهل المطابقة بين الجهل والعلم في قوله:
ومن الرجال معالم ومجاهل
…
ومن النجوم غوامض ودراري.
وممن طابق بين السفه والحلم، والجهل والعلم، أبو تمام في قوله:
سفيه الرمح جاهله إذا ما
…
بدى فضل السفيه على الحليم.
وقوله:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل
…
ويكدي الفتى من دهره وهو عالم.
وقال الشريف الرضي:
خطط يجبن المش......جع أو يسفهن الحليما.
وقال:
رأيت المال يرفع من سفيه
…
وعدم المال ينقص من حليم.
ومقابلة النقص بالرفعة من الملحق بالطباق للزومه الضعة المقابلة لها.
وقال أيضاً:
في رفقة لا يستطيل سفيهها
…
أبدا ولا يدري المقال حليمها.
قال الصفدي: وعدم المطابقة في شعر أبي الطيب كثير، من ذلك قوله:
ولكل عين قرة في قربه
…
حتى كأن مغيبه الأقذاء
فإن القرة ضدها السخنة، والقذى ضد الجلاء.
قوله أيضاً:
ولم يعظم لنقص كان فيه
…
ولم يزل الأمير ولن يزالا
فإن العظم ضد الحقارة، والنقص ضد الكمال، فلو قال: ولم يكمل لنقص كان فيه، كان أصنع. انتهى.
قلت: ويجاب عنه أنه من الملحق بالطباق لاستلزام النقص الحقارة.
قال: وكذا قوله:
وإنه المشير عليك في بضلةٍ
…
والحر ممتحن بأولاد الزنا.
فإن الحر ضده اللئيم. انتهى.
ومنه قوله:
رأيتك في الذين أرى ملوكا
…
كأنك مستقيم في محال.
حكى أبو الحسن الواحدي في شرحه قال: قال أبو الحسن محمد بن أحمد المعروف بالشاعر المغربي: كان سيف الدولة يسر بمن يحفظ شعر المتنبي، فأنشدته يوما (رأيتك في الذين أرى ملوكا) وكان أبو الطيب حاضرا، فقلت: هذا لبيت والذي يتلوه لم يسبق إليه، فقال سيف الدولة: كذا حدثني الثقة، أن أبا الفضل محمد بن الحسين قال كما قلت.
فأعجب المتنبي واهتز، فأردت أن أحركه فقلت: إلا إن في أحدهما عيبا في الصنعة، فالتفت إلي التفات حنق وقال: ما هو؟ فقلت: قولك: مستقيم في محال، والمحال ليس ضد الاستقامة، وإنما ضدها الاعوجاج، فقال الأمير: هب أن القصيدة جيمية وقلت: كأنك مستقيم في اعوجاج، فكيف تعمل في تغيير البيت الثاني وهو:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإن البيض بعد دم الدجاج.
فضحك وضرب بيده وقال: حسن مع هذه السرعة، إلا أن يصلح أن يباع في سوق الطير، لا مما يمدح به أمثالنا يا أبا الحسن. انتهى.
تنبيه- جعل الخطيب القزويني في الإيضاح والتلخيص، من أنواع المطابقة التدبيج ومثل له.
بقول أبي تمام:
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى
…
لها الليل إلا وهي من سندس خضر.
ومنع بعضهم كون مطلق التدبيج من الطباق، وقال: ليس في الألوان ما تحصل به المطابقة غير البياض والسواد، لأنهما ضدان بخلاف غيرهما.
قال ابن الأثير: وقد زعم بعضهم أن أفضل مطابقة وقعت قول ابن كلثوم:
أنا نورد الرايات بيضا
…
ونصدرهن حمرا قد روينا.
وليس كما زعم، لأن الناس متفقون على أن جميع المخلوقات مخالف وموافق ومضاد، فمتى وقع الخلاف في باب المطابقة فإنما هو في سبيل المسامحة.
قال الرماني وغيره: السواد والبياض ضدان، وسائر الألوان يضاد كل واحد منها صاحبه، إلا أن البياض هو ضد السواد على الحقيقة، لأن كل واحد منهما كلما قوي زاد بعدا من صاحبه، وما بينهما من الألوان كلما قوي زاد قربا من السواد، فإذا ضعف زاد قربا من البياض، ولأن البياض منصبغ لا يصبغ، والسواد صابغ لا يتصبغ، وليس سائر الألوان كذلك، لأنها تصبغ، وهذا ظاهر فمن شك فيه لا يعد من العقلاء فضلا عن العلماء. انتهى كلام ابن الأثير.
والحق أن التدبيج داخل في تفسير الطباق لما بين اللونين من التقابل، فإنهم فسروا المتضادين في حد الطباق بالمعنيين المتقابلين في الجملة.
قال السعد التفتازاني: يعني ليس المراد بالمتضادين، الأمرين الوجوديين المتواردين على محل واد بينهما غاية الخلاف، كالسواد والبياض، بل أعم من ذلك، وهو ما يكون بينها تقابل وتناف في الجملة وفي بعض الأحوال، سواء كان التقابل حقيقيا أو اعتباريا، وسواء كان تقابل التضاد أو تقابل الإيجاب والسلب، أو تقابل العدم والملكة، أو تقابل التضايف، أو ما يشبه شيئا من. انتهى.
وعلى هذا فبين كل لونين من الألوان غير البياض والسواد تقابل، وإن لم يكن تقابل التضاد فهو داخل في الطباق، وسيأتي الكلام على التدبيج مستوفي في محله إن شاء الله تعالى.
تتميم- أحسن الطباق ما ترشح بنوع آخر من البديع يكسوه طلاوة وبهجة لا توجد عند فقده، وإلا فمجرد مطابقة الضد بالضد ليس تحته كبير أمر، وما وقع في القرآن العظيم منه أكثره مشتمل على ما ذكرناه كقوله تعالى:"هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً" فقابل بين الخوف والطمع مع التقسيم البديع، إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع والأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين وقوله تعالى:"له الحمد في الأولى والآخرة" فإن فيه مع المطابقة إدماجا لأن الغرض من هذه الآية تفرده تعالى بوصف الحمد، وأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء، وسيأتي عليها مزيد كلام في نوع الإدماج إن شاء الله تعالى. وكذلك قوله تعالى:"تولج الليل في النهار تولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب" فترشحت المطابقة فيها بالعكس الذي لا يدرك لو جازته وبلاغته ومبالغة التكميل التي لا تليق بغير القدرة الإلهية، فإن في العطف بقوله: وترزق من تشاء بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال التي لا يقدر عليها غيره، قادر على أن يرزق من يشاء من عباده بغير حساب، وهذا من مبالغة التكميل المشحونة بالقدرة الربانية، وقوله تعالى:"جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله" فإن فيه المطابقة بين الليل والنهار اللف والنشر المرتب، فإن السكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار، وأنت إذا تأملت ما وقع في كلام الله تعالى من هذا النوع، رأيته جميعه أو أكثره من هذا القبيل.
وأما أمثلته في الشعر فمن بديعة يقول أبي الطيب المتنبي:
برغم شبيب فارق السيف كفه
…
وكانا على العلات يصطحبان.
كأن رقاب الناس قالت لسيفه
…
رفيقك قيسي وأنت يماني.
فإنه رشح الطباق بالتورية التي كسته بهجة كان عاريا عنها، والطباق بين قوله: قيسي ويماني، لان العداوة بين قيس ويمن معلومة، والتورية في قوله: يماني، لأنه أراد السيف فورى به عن الرجل المنسوب إلى اليمن.
ومثاله قول الصاحب بن عباد يرثي كثير بن أحمد الوزير:
يقولون قد أودى كثير بن أحمد
…
وذلك رزء في الأنام جليل.
فقلت دعوني والعلى نبكه معا
…
فمثل كثير في الأنام قليل.
وأبو العلاء المعري كساه ديباجة الجمع مع التقسيم في قوله:
لا تطويا السر عني يوم نائبة
…
فإن ذلك ذنب غير مغتفر.
والخل كالماء يبدي لي ضمائره
…
مع الصفاء ويخفيها مع الكدر.
والقاضي الأرجاني ضوع أرجه في اللف والنشر المرتب في قوله:
تعلق بين الوصل والهجر مهجتي
…
فلا أربى في الحب أقضي ولا نحبي.
وهذا البيت من قصيدة جيدة له مطلعها:
أسائل عنها الركب وهي مع الركب
…
واطلبها من ناظري وهي في القلب.
وبعده البيت المستشهد به وبعده:
فلله ربع من أميمة عاطل
…
توشحه الأنداء باللؤلؤ الرطب.
رميت محيا دارهم عن صبابة
…
بسافحة الإنسان سافحة الغرب.
أروي بها خدي وفي القلب غلتي
…
وقد يتخطى الغيث أمكنة الجدب.
فسر نتعلل بالحديث عن الهوى
…
ونسند إلى أحبابنا أثر الحب.
ولا تتعجب أني عشت بعدهم
…
فإنهم روحي وقد سكنوا قلبي.
وحرف تجوب القاع والوهد والربى
…
كحرف مديم الرفع والجر والنصب.
نجائب يقدحن الحصى كل ليلة
…
كأن بأيديها مصابيح للركب.
ومن المطابقة باللف والنشر المرتب أيضاً قول الشريف الرضي رضي الله عنه:
يا روض ذي الأثل من شرقي كاظمة
…
قد عاود القلب من ذكراك أشجانا.
أوسعت عيني دموعا والحشا حرقا
…
فكيف ألفت أماها ونيرانا.
وما أحسن قوله بعده وهو من المرقص المطرب:
أشم منك نسيما لست أعرفه
…
أظن ظمياء جرت فيك أردانا.
ومنها:
ألقاك والقلب صاح من رجيع هوى
…
وأنثني عنك بالأشواق نشوانا.
وما تداويت من قرح على كبدي
…
ولا سقاني راقي الحب سلوانا.
ومن المطابقة على الوجه المذكور قوله أيضاً:
تلذ عيني وقلبي منك في ألم
…
فالقلب في مأتم والعين في عرس.
وقوله في المعنى أيضاً:
قلبي وطرفي منك هذا في حمى
…
قيظ وهذا في رياض ربيع.
وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعنى، فقال أبو تمام:
أفي الحق أن يضحى بقلبي مأتم
…
من الحب والبلوى وعيناي في عرس.
وقول المتنبي:
حشاي على جمر ذكي من الهوى
…
وعيناي في روض من الحسن ترتع.
وقال آخر وهو شاهد لما نحن فيه من المطابقة باللف والنشر غير أنه معكوس الترتيب:
تصلى الفؤاد بنور من محاسنها
…
فالعين في جنة والقلب في نار.
وأبو تمام رفع طبقة المطابقة بالاستعارة في قوله:
وأحسن من نور تفتحه الصبا
…
بياض العطايا في سواد المطالب.
وألبسها حلة المشاكلة وملكها رق الاستعارة في قوله:
فتى عنده خير الثواب وشره
…
ومنه الإباء المر والكرم العذب.
وأما المتأخر ون فأكثروا من إبرازها في أشعار التورية التي هي أعلى وأحلى أنواع البديع على القول المتصور.
فمن ذلك قول الصاحب فخر الدين بن مكانس في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
يا بن عم النبي إن إناسا
…
قد توالوك بالسعادة فازوا.
أنت للعلم في الحقيقة باب
…
يا إمامي ومن سواك مجاز.
وقول جمال الدين بن نباتة:
يا غائبين تعللنا لغيبتهم
…
بطيب عيش ولا والله لم يطب.
ذكرت والكأس في كفي لياليكم
…
فالكأس في راحة والقلب في تعب.
وقوله:
إني إذا آنست همسا طارقا
…
عجلت باللذات قطع طريقه.
ودعوت ألفاظ الحبيب وكأسه
…
فنعمت بين حديثه وعتيقه.
وقول العفيف التلمساني:
وفي الحي هيفاء المعاطف لو بدت
…
مع البان كان الورق فيها تغننت.
عجبت لها في حسنها إذا تفردت
…
لآية معنى بعده قد تثنت.
وقول الصالح الصفدي:
وأهيف حاز قدا
…
قد حار فيه المعنى.
تراه في الحسن فردا
…
لكنه يتثنى.
وقول البدر الذهبي:
وحديقة مطلولة باكرتها
…
والشمس ترشف ريق أزهار الربى.
يتكسر الماء الزلزال على الحصى
…
فإذا غدا بين الرياض تشعبا.
وقول السراج الوراق:
وبي من البدو كحلاء الجفون بدت
…
في قومها كمهاة بين آساد.
بنت عليها المعالي من ذوائبها
…
بيتا من الشعر لم يمدد بأوتاد.
وأوقدت وجناتها النار لا القرى
…
لكن لأفئدة منا وأكبادا.
فلو بدت لحسان الحضر قمن لها
…
على الرؤوس وقلن الفضل للباد.
وقول ابن حجر:
خليلي ولى العمر منا ولم تنب
…
وننوي فعال الصالحين ولكنا.
فحتى متى بنبي بيوتا مشيدة
…
وأعمارنا منا تهد وما تبنا.
وقوله:
أتى من أحيبابي رسول فقال لي
…
تذلل وهن واخضع تغز برضانا.