المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال في شرحه: قوله (قضى وولى وفاضت نفسه وعفا) أجاب - أنوار الربيع في أنواع البديع

[ابن معصوم الحسني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌أنوار الربيع في أنواع البديع

- ‌حسن الابتداء وبراعة الاستهلال

- ‌الجناس المركب والمطلق

- ‌الجناس الملفق

- ‌الجناس المذيل واللاحق

- ‌الجناس التام والمطرف

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب

- ‌الجناس المعنوي

- ‌الاستطراد

- ‌الاستعارة

- ‌المقابلة

- ‌وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي

- ‌الافتنان

- ‌اللف والنشر

- ‌الالتفاف

- ‌الاستدراك

- ‌تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني

- ‌ حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر

- ‌ الجزء الثاني

- ‌الإبهام

- ‌الطباق

- ‌إرسال المثل

- ‌الأمثال السائرة

- ‌التخيير

- ‌النزاهة

- ‌الهزل المراد به الجد

- ‌التهكم

- ‌تنبيهان

- ‌القول بالموجب

- ‌التسليم

- ‌الاقتباس

- ‌المواربة

- ‌التفويف

- ‌الكلام الجامع

- ‌المراجعة

- ‌المناقصة

- ‌المغايرة

- ‌الجزء الثالث

- ‌تتمة باب المغايرة

- ‌التوشيح

- ‌التذييل

- ‌تشابه الأطراف

- ‌التتميم

- ‌الهجو في معرض المدح

- ‌الاكتفاء

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌الاستثناء

- ‌مراعاة النظير

- ‌التوجيه

- ‌التمثيل

- ‌عتاب المرء نفسه

- ‌القسم

- ‌حسن التخلص

- ‌الإطراد

- ‌العكس

- ‌الترديد

- ‌المناسبة

- ‌الجمع

- ‌الانسجام

- ‌تناسب الأطراف

- ‌ائتلاف المعنى مع المعنى

- ‌المبالغة

- ‌ الإغراق

- ‌ الغلو

- ‌التفريق

- ‌التلميح

- ‌العنوان

- ‌التسهيم

- ‌التشريع

- ‌المذهب الكلامي

- ‌نفي الشيء بإيجابه

- ‌الرجوع

- ‌تنبيهات

- ‌تجاهل العارف

- ‌الاعتراض

- ‌حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

- ‌التهذيب والتأديب

- ‌الاتفاق

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌المماثلة

- ‌التوشيع

- ‌التكميل

- ‌شجاعة الفصاحة

- ‌التشبيه

- ‌الفصل الأول في الطرفين

- ‌الفصل الثاني في الوجه

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الثالث في الغرض

- ‌الفصل الرابع في الأحوال

- ‌الفصل الخامس في الأداة

- ‌الفرائد

- ‌التصريع

- ‌الاشتقاق

- ‌السلب والإيجاب

- ‌المشاكلة

- ‌ما لا يستحيل بالانعكاس

- ‌التقسيم

- ‌الإشارة

- ‌تشبيه شيئين بشيئين

- ‌الكناية

- ‌الترتيب

- ‌المشاركة

- ‌التوليد

- ‌الإبداع

- ‌الإيغال

- ‌النوادر

- ‌التطريز

- ‌التكرار

- ‌التنكيت

- ‌حسن الإتباع

- ‌الطاعة والعصيان

- ‌البسط

- ‌المدح في معرض الذم

- ‌الإيضاح

- ‌التوهيم

- ‌الألغاز

- ‌الإرداف

- ‌الاتساع

- ‌التعريض

- ‌جمع المؤتلف والمختلف

- ‌الإيداع

- ‌تنبيهات

- ‌المواردة

- ‌الالتزام

- ‌المزاوجة

- ‌المجاز

- ‌التفريع

- ‌التدبيج

- ‌التفسير

- ‌التعديد

- ‌حسن النسق

- ‌حسن التعليل

- ‌التعطف

- ‌الاستتباع

- ‌التمكين

- ‌التجريد

- ‌إيهام التوكيد

- ‌الترصيع

- ‌التفصيل

- ‌الترشيح

- ‌الحذف

- ‌التوزيع

- ‌التسميط

- ‌التجزئة

- ‌سلامة الاختراع

- ‌تضمين المزدوج

- ‌ائتلاف اللفظ مع المعنى

- ‌الموازنة

- ‌ائتلاف اللفظ مع الوزن

- ‌ائتلاف الوزن مع المعنى

- ‌ائتلاف اللفظ مع اللفظ

- ‌الإيجاز

- ‌التسجيع

- ‌تنبيهات

- ‌التسهيل

- ‌الإدماج

- ‌الاحتراس

- ‌حسن البيان

- ‌العقد

- ‌تنبيهات

- ‌التشطير

- ‌المساواة

- ‌براعة الطلب

- ‌حسن الختام

- ‌كلمة الختام للمؤلف

الفصل: قال في شرحه: قوله (قضى وولى وفاضت نفسه وعفا) أجاب

قال في شرحه: قوله (قضى وولى وفاضت نفسه وعفا) أجاب عن الجميع بقوله (عدلا) هذا نصه. ولا أقبح من قوله: وفاضت نفسه فإن مثل هذه العبارة لا تليق في مرثية صديق فضلا عن المديح النبوي. وأغرب من ذلك تفسيره (عفا) بقوله: يجوز أن يكون بمعنى عفا عن المسيء، وإن يكون بمعنى ذهب. نعوذ بالله من آفة الغفلة والله أعلم.

انتهى الجزء الأول من شرح البديعة.

أنوار الربيع في أنواع البديع الجزء الرابع

‌الانسجام

أوصافه انسجمت للذاكرين لها

في هل أتى في سبا في نون والقلم

الانسجام في اللغة: الانصباب، وفي الاصطلاح أن يكون الكلام عذب الألفاظ، سهل التركيب؛ حسن السبك، خالياً من التكلف والعقادة؛ يكاد يسيل من رقته؛ وينحدر انحدار الماء في انسجامه، لا يتكلف فيه بشيء من أنواع البديع إلا ما جاء عفواً من غير قصد. وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت فقراته موزونة من غير قصد، كما وقع في كثير من آيات القرآن العظيم، حتى وقع فيه من جميع البحور المشهورة أبيات، وأشطار أبيات.

فمن بحر الطويل، من صحيحه "فمن شاء فليؤممن ومن شاء فليكفر".

ومن مخرومه ويسمى الأثلم "منها خلقناكم وفيها نعيدكم".

ومن بحر المديد "واصنع الفلك بأعيننا" وتفعليه: فاعلاتن فعلن فعلن.

وغلط ابن حجة في قوله: إنه من العروض الثانية المحذوفة من المديد. بل هو من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة، لأن العروض الثانية المحذوفة لها ثلاثة أضرب، وكل منها وزن العرض فيه فاعلن، والعروض في الآية وزنه فعلن كما رأيت في تفعيله، لا فاعلن؛ وغلط في التمثيل لذلك أيضاً بقول الشاعر:

اعلموا إني لكم حافظ

شاهداً ما كنت أو غائبا

لأن هذا شاهد الضرب الثاني من العروض الثانية المحذوفة، وقد علمت أن وزن الآية ليس من هذا العروض، وهذا يدلك على أن ابن حجة كان راجلاً في هذا العلم أيضاً. وأعجب من ذلك أنه لم يدرك بسليقته أن وزن البيت زائد على وزن الآية.

ومن بحر البسيط "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً". ومثله "فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم".

ومن بحر الوافر وهو بيت تام: "ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنينا" ومنه "ويعلم ما جرحتم بالنهار".

ومن بحر الكامل من مخرومه "سيعملون غداً من الكذب". ومنه "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".

ومن بحر الهزج "تا لله لقد آثرك الله علينا". ومثله "ألقوه على وجه أبي يأت بصيراً".

ومن بحر الرجز "دانيةً عليهم ظلالها وذلِلت قطوفها تذليلاً". ومنه "فعميت عليهم الأنباء".

ومن بحر الرمل "قتل الإنسان ما أكفره". ومنه "بدت البغضاء من أفواههم". ومن مجزوه "وجفان كالجواب وقدور راسيات". ونظيره "أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم". ومثله "ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك".

ومن بحر السريع "واصبر وما صبرك إلا بالله". ومثله "ألا إلى الله تصير الأمور". ومثله "ذلك تقدير العزيز العليم" ومنه "أو كالذي مرّ على قريةٍ".

ومن بحر المنسرح "إنا خلقنا الإنسان من نطفة" وتفعليه: مستفعلن مفعولات مستفعلن.

ومن بحر الخفيف "ربنا إننا إليك أنبنا". ومنه "لا يكادون يفقهون حديثا". ومنه "قال يا قوم هؤلاء بناتي".

ومن بحر المضارع من مخرومه "يوم التناد. يوم تولون مدبرينا". وتفعيله: مفعول فاعلات مفاعيل فاعلاتن.

ومن بحر المقتضب "في قلوبهن مرض". وتفعليه: فاعلات مفتعلن.

ومن بحر المجتث "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم".

ومن بحر المتقارب "ولا تبخسوا الناس أشياءهم".

ومنه "وأملي لهم إن كيدي متين".

ومن بحر المتدارك "أم تأمرهم أحلامهم" وتفعليه: فعلن فعلن فعلن فعلن. وهذا البحر لم يذكره الجليل، واستدركه الأخفش والمحدثون فسمي متداركاً، ومحدثا، ومخترعا؛ ويسميه أهل الأندلس مشي البريد.

ومن بحر الدوبيت وهو المسمى عند العجم الرباعي، والترانة، وهو بحر مخترع مستحدث لطيف "إن كان الله يريد أن يغويكم" ومثله "ما كان عليهم من سلطان". وقد أكثر المتأخرون من العرب والعجم من النظم على هذا البحر لعذوبته، وسلاسته. وزعم بعضهم أنه مأخوذ من الكامل بطريقة متكلفة، وبعضهم أوصل أوزانه إلى عشرة آلاف.

ص: 261

ومن بحر المواليا وهو مشهور عند المتأخرين، واصله من البسيط "والطير محشورة كل له أواب". ومنه "لو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا".

وسبب تسميته بالمواليا، ما يحكى من أن الرشيد لما قتل جعفر البرمكي أمر أن لا يرثى بشعر، فرثته جارية له بهذا الوزن، حيث لم يكن من الشعر المعروف، وهي تندب وتقول: يا مواليا، فسمي بذلك.

ويقال: أن أول بيت قالته في هذا الوزن هذا البيت:

يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس

أين الذي قد حموك بالقنا والترس.

قالت تراهم رمم تحت الأراضي درس

سكوت بعد فصاحة السنتهم خرس

ويستعذب في هذا الوزن اللحن، وكونه ملحوناً أحسن من كونه معرباً.

وإذا تأملت اشتمال القرآن العظيم على جميع أوزان هذه البحور المذكورة، بل وعلى غيرها مما لم نذكره علمت أن ذلك كله مندرج تحت قوله - علت كلمته وعظمت قدرته - "ما فرطنا في الكتاب من شيء". سبحانه "لا إله إلا هو إليه المصير".

ومن النثر المسجم الذي جاء موزوناً من غير قصد لقوة الانسجام، قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا النبي لا كذب

أنا عبد المطلب

قيل: وقوله أيضاً صلى لله عليه وآله وسلم،_

هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

والصواب ما ذكره الجلال السيوطي، قال: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري؛ عن عروة، قال: خرج سلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والوليد بن الوليد مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فطلبهم ناس من قريش ليردوهم فلم يقدروا عليهم.

فلما كانوا بظهر الحرة قطعت إصبع الوليد بن الوليد فقال:

هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت.

فدخل المدينة فمات بها. انتهى.

وعلى هذا فيحتمل أن الوليد قصد بذلك الشعر، فلا يكون مما نحن فيه.

ومنه قول إبراهيم بن العباس الصولي الشاعر المشهور فيما كتبه عن الخليفة إلى بعض البغاة الخارجين يتهددهم ويتوعدهم: أما بعدد فإن لأمير المؤمنين أناة، فإن لم تغن عقب بعدها وعيداً، فإن لم يغن أغنت عزائمه والسلام. فإن هذا النثر مع وجازته وإبداعه في غاية الانسجام.

وينشأ منه بيت يشعر وهو:

أناة فان لم تغن عقب بعدها

وعيداً فإن لم يغن أغنت عزائمه

وأما الانسجام في النظم فأمر يضيق عن الإحاطة به نطاق الحصر والإحصاء، ويقصر دون منال جله - فضلاً عن كله - باع الضبط والاستقصاء، غير أنا نورد منه هنا نبذاً مستطرفة، وقطعاً من رياض محاسن الشعر مقتطفة، ونبتدئ فيه من شعراء الجاهلية إلى شعراء أهل العصر.

فمنه قول امرئ القيس في معلقته:

تسلمت عمايات الرجال علن الصبا

وليس فؤادي عن هواك بمنسل

ومنها:

أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

أغرك مني أن حبك قاتلي

وأنك مهما تأمري القلب يفعل

وقوله من أخرى:

وظلت في دمن الديار كأنني

نشوان باكره صبوح مدام

هذا البيت لو مزج بأرق شعر لمهيار الديلمي أو من هو في طبقته لامتزج امتزاج الراح بالماء القراح.

ومثله قوله أيضاً:

حلت لي الخمر وكنت امرءاً

عن شربها في شغل شاغل

وقوله:

وكل مكارم الأخلاق صارت

إليه همتي وبه اكتسابي

فقد طوفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

وقوله:

ولو أنني أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنني أسعى لمجد مؤثل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

هذا ما وقع عليه الاختيار من ديوانه في هذا النوع من غير استقصاء له.

ومنه قول زهير بن أبي سلمى:

فما كان من خير أتوه فإنما

توارثه آبائهم قبل

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه

وتغرس إلا في منابتها النحل

وقوله أيضاً:

قوم سنان أبوهم حيث تسبهم

طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأخلاقهم أو مجدهم قعدوا

وقوله أيضاً:

لعمرك والخطوب مغيرات

وفي طول المعاشرة التقالي

لقد باليت مظعن أم أو في

ولكن أوفى لا تبالي

وقوله:

قد جعل المبتغون الخير من هرم

والسائلون إلى أبوابه طرقا

ص: 262

من يلق يوماً على علاته هرما

يليق السماحة منه الندى خلقا

وفي معلقته أبيات تدخل في هذا الباب تقدم ذكرها في نوع المثل.

ومنه قول عبيد بن الأبرص الأسدي:

لا يبلغ الباني ولو

رفع الدعائم ما بيننا

كم من رئيس قد قتل

ناه وضيم قد أبينا

إنا لعمرك ما يضا

م حليفنا أبداً لدينا

وأوانس مثل الدمى

حور العيون قد استبيان

وقوله في مطلع قصيدة: طاف الخيال علينا ليلة الوادي=من أم عمرو ولم يلمم بميعاد ومنها:

اذهب إليك فإني من بني أسد

أهل القباب وأهل الجود والنادى

الخير يبقى وإن طال الزمان به

والشر أخبث ما أوعيت من زاد

وقوله من مجمهرته التي كان يخطب بها في الجاهلية:

وكل ذي غيبة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

ساعد بأرض تكون فيها

ولا تقل إنني غريب

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيب

ومنه قول عنترة بن شداد العبسي من معلقته:

وإذا شربت فإنني مستهلك

ما لي وعرضي وافر لم يكلم

وإذا صحوت فما أقصر عن ندى

وكما علمت شمائلي وتكرمي

وقوله أيضاً من أخرى:

أمن سمية دمع العين مذروف

لو أن ذا منك قبل اليوم معروف

كأنها يوم صدت ما تكلمني

ظبي بعسفان ساجي الطرف مطروف

العبد عبدكم والمال مالكم

فهل عذابك عني اليوم مصروف

وهذه الأبيات مع بديع انسجامها، فيها من أنواع البديع لزوم مالا يلزم، وقد جاء فيها عفواً من غير قصد.

وقوله وقد لامته أمه على لقاء الحروب:

بكرت تخوفني الحتوف كأنني

أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل

فأجبتها أن المنية منهل

لابد أن أسقى بذاك المنهل

فاقني حياءك لا أبالك وأعلمي

أني امرؤ سأموت أن لم أقتل

عن ابن عائشة قال: انشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول عنترة من هذه القصيدة:

ولقد أبيت على الطوى وأظله

حتى نال به كريم المأكل

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما وصف ليل أعربي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.

قلت: وهذا البيت يروى في معلقته أيضاً، وينشد بدل (المأكل) ، (المطعم) .

ومنه قول الحارث بن حلزة في أول معلقته:

آذنتنا بينها أسماء

رب ثاو يمل منه الثواء

آذنتنا ببينها ثم ولت

ليت شعري متى يكون اللقاء

ومنها:

وثمانون من تميم بأيدي

هم رماح صدورهن القضاء

وقوله وهي من جيد الشعر:

من حاكم بيني وبين الدهر

مال علي عمداً

أودى بسادتنا وقد

تركوا لنا حلقاً وجردا

خيلي وفارسها ورب أبي

ك كان أعز فقدا

فلو أن ما يأوي إلي

أصاب من ثهلان هذا

فضعي قناعك إن ري

ب الدهر قد أفنى معدا

ومنها البيت المشهور وهو:

والنوك خير ظلال العيش

ممن عاش كدا

ومنه قول النابغة الذبياني في النعمان بن الحارث وهو غلام:

هذا غلام حسن وجهه

مقتبل الخير سريع التمام

للحارث الأكبر والحارث إلا

... صغر والحارث خير الأنام

ثم لهند ولهند فقد

أسرع في الخيرات منه أمام

هي أمامة أم عمرو الأصغر بن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان الشقيقة.

خمسة أباء هم ما هم

أكرم من يشرب صوب الغمام

وقوله وهو من المرقص والمطرب:

نظرت إليك بحاجة لم تقضها

نظر المريض إلى وجود العود

وقوله من قصيدة طويلة:

لولا حبائل من نعم علقت بها

لأقصر القلب عنها أي إقصار

نبئت نعما على الهجران عاتبة

سقيا رعيا لذاك العاتب الزاري

أقول والنجم قد مالت أواخره

إلى المغيب تبين نظرة حار

ألمحة من سنا برق رأى بصري

أم وجه نعم بدالي أم سنا نار

بل وجه نعم بدا والليل معتكر

فلاح ما بين أثواب وأستار

ومنه قول المنخل اليشكري وكان نديماً للنعمان بن المنذر، فاتهمه بامرأته المتجردة، وقيل وجده معها فقتله. وهذا يعد في المرقص المطرب من مشهور شعره:

إن كنت عاذلتي فسيري

نحو العراق ولا تحوري

ص: 263

لا تسألي عن جل مالي

وانظري كرمي وخيري

وفوارس كأواحر ال

نار أحلاس الذكور

شدوا دوابر بيضهم

في كل محكمة التقير

واستلأموا وتلببوا

إن التلبب للمغير

وعلى الجياد المضمرات

فوارس مثل الصقور

يخرجن من خلل الغبار

يجفن بالنعم الكثير

أقررت عيني من أو

لئك والفوائح بالعبير

وإذا الرياح تناوحت

بجوانب البيت الكبير

ألفيتني هش اليدين

بمري قد حي أو شجيري

ولقد دخلت على الفتا

ة الخدر في اليوم المطير

الكاعب الحسناء ترفل

في الدمقس وفي الحرير

فدفعتها فتدافعت

مشي القطاة إلى الغدير

ولثمتها فتنفست

كتنفس الظبي الغريرٍ

فدنت وقالت يا منخ

ل هل بجسمك من فتور

ما شف جسمي غير جسمك

فاهدئي عني وسيري

يا هند هل من نائل

يا هند للعاني الأسير

وأحبها وتحبني

ويحب ناقتها بعيري

ولقد شربت من المدا

مة بالصغير والكبير

فإذا سكرت فإنني

رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فأنني

رب الشويهة والبعير

يا رب يوم للمنخل

قد لها فيه قصير

وقول عبد الله بن العجلان شاعر جاهلي، وهو أحد من قتله العشق:

فارقت هنداً طائعاً

فندمت عند فراقها

فالعين تذري عبرة

كالدر من آماقها

خود رداح طفلة

ما الفحش من أخلاقها

ولقد ألذ حديثها

وأسر عند عناقها

وقوله أيضاً وهو من المطرب:

خليلي زورا قبل الشحط النوى هنداً

ولا تأمنا من دار ذي لطف بعدا

ومرا عليها بارك الله فيكما

وإن لمت تكن هند لوجهكما قصدا

وقولا لها ليس الطريق أجازنا

ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا

والبيتان الأخيران يرويان من قصيدة للمرقش الأكبر.

حدث أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني قال: عن إسحاق بن حميد (كاتب أبي الرازي، قال: غنى علوية الأعسر يوماً بين يدي المأمون:

تخيرت من نعمان عود أراكة

لهند فمن هذا يبلغه هندا

فقال المأمون: اطلبوا لهذا البيت ثانياً، فلم يعرف وسأل كم من بحضرته من أهل الأدب والرواة والجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد. وقلد المأمون أبا الرازي كور دجلة وأنا أكتب له، ثم نقله إلى اليمامة والبحرين. وقال إسحاق بن حميد) : فلما خرجنا ركبت مع أبي الرازي في بعض الليالي في قبة على جمازة، فابتدأ الحادي يحدو بقصيدة طويلة، وإذا البيت الذي كنت أطلب له أخاً ثابت فيها، فسألته عنها، فذكر إنها للمرقش الأكبر. فاخترت منها وكتب بها إلى المأمون فسر بذلك، وأمر المغنين أن يصنعوا فيها ألحاناً ويغنون بها. انتهى.

قلت: واخترت أنا من الأبيات التي اختارها إسحاق هذه الأبيات:

خليلي عوجا بارك الله فيكما

وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا

وقولا لها ليس الضلال أجازنا

ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا

تنقيت من نعمان عود أراكة

لهند فمن هذا يبلغه هندا

ستبلغ هندا إن سلمنا قلائص

مهاري يقطعن الفلاة بنا وخدا

فناولتها المسواك والقلب خائف

وقلت لها يا هند أهلكتنا وجدا

فمدت يداً في حسن دل تناولا

إليه وقالت ما أرى مثل ذا يهدى

وأما ما وقع من الانسجام في أشعار المخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، فمنه قول الأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

فآليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من حفى حتى تلاقي محمدا

متى ما تناخى عند باب ابن هاشم

تراحي وتلقي من فواضله يدا

نبي يرى مالاً ترون وذكره

أغار لعمري في البلاد وانجدا

له صدقات ما تغب ونائل

وليس عطاء اليوم ما نعه غدا

ومنها:

شباب وشيب وافتقار وثروة

فلله هذا الدهر كيف ترددا

وما زلت أبغي المال مذ كنت يافعا

وليدا وكهلا حيث شبت وأمردا

وقوله:

ودع هريرة أن المركب مرتحل

وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

غراء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينا كما يمشي الوجل الوحل

ص: 264

كأن مشيتها من بيت جارتها

مر السحابة لا ريث ولا عجل

ويقال أن أغنج بيت قالته العرب قوله من هذه القصيدة:

قالت هريرة لما جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

ومنه قول لبيد بن ربيعة العامري من قصيدة:

أحمد الله فلا ند له

عنده الخير وما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

فإذا جوزيت قرضا فاجزه

إنما يجزي الفتى ليس الجمل

ومنها:

أعمل العيس على علاتها

إنما ينجح إخوان العمل

وأكذب النفس إذا حدثتها

إن صدق النفس يزري بالأمل

أي لا تحدث نفسك بعدم الظفر أبداً، بل بشرها بحصول الأمل فإن صدقها بالجبن عن ملاقاة الأهوال يثبطها عن بلوغ الآمال.

وقوله من معلقته:

من معشر سنت لهم آباؤهم

ولكل قوم سنة وإمامها

لا يطبعون ولا يبور فعالهم

بل لا تميل مع الهوى أحلامها

فاقنع بما قسم المليك فإنما

قسم الخلائق بيننا علامها

وإذا الأمانة قسمت في معشر

أوفى بأوفر حظنا قسامها

فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه

فسما إليه كهلها وغلامها

ومنه قول النابغة الجعدي من قصيدة أولها:

خليلي عوجا ساعة وتهجرا

ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا

ومنها:

وإن جاء أمر لا تطيقان دفعه

فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا

ألم تريا أن الملامة نفعها

قليل إذا ما الشيء ولى وأدبرا

ومنها:

أتيت رسول الله إذ قام للهدى

يتلو كتاباً كالمجرة نيرا

خليلي قد لاقيت ما لم تلاقيا

وسيرت في الآفاق ما لم تسيرا

تذكرت والذكرى تهيج لدى الهوى

ومن عادة المحزون أن يتذكرا

وعنه أنه قال: لما أنشدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولي من هذه القصيدة:

بلغنا السماء مجدنا وجدودنا

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فأين المظهر يا أبا ليلى؟ فقلت: الجنة، فقال: قل إن شاء الله.

ولما أنشد قوله منها أيضاً:

لا خير في حلم إذا لم تكن له

بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له

حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أجدت، لا يفضض الله فاك. فبقيت أسنانه إلى آخر عمره كأنها اللؤلؤ المنظوم، ولم تسقط له سن.

وعمر النابغة المذكور عمراً طويلاً في الجاهلية والإسلام، وكان أكبر من النابغة الذبياني، واختلف في عمره، قال الأصبهاني: والحق ما نقله ابن قتيبة: إنه عاش مائتين وعشرين سنة، وحضر صفين مع علي عليه السلام.

ولما خرج علي عليه السلام إلى صفين خرج معه النابغة، فساق به قوماً فقال:

قد علم المصران والعراق

أن عليا فحلها العتاق

أبيض جحجاح له رواق

وأمه غالى بها الصداق

أكرم من شد بها نطاق

أن الألى جاروك لا أفاقوا

لهم سياق ولكم سياق

قد علمت ذالكم الرفاق

سقتم إلى نهج الهدى وساقوا

إلى التي ليس لها عراق

في ملة عادتها النفاق

العتاق بضم العين المهملة - كغراب - العتيق وهو الفحل النجيب.

ومنه قول حسان بن ثابت الأنصاري من قصيدة قالها يوم الفتح:

ألا أبلغ أبا سفيان عني

مغلغلة فقد برج الخفاء

بأن سيوفنا تركتك عبدا

وعبد الدار سادتها الإماء

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

وقوله من أخرى وهي مشهور شعره:

لله در عصابة نادمته

يوماً بجلق في الزمان الأول

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم المفضل

يغشون حتى ما تهر كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

شم الأنوف من الطراز الأول

ص: 265

ولقد طالعت طيوان حسان فلم أر له أسجم من قصيدته التي يفتخر فيها بقومه، ويعدد أفعالهم، وقد عن لي إثباتها هنا برمتها، لأنها جميعها داخلة في نوع من الانسجام.

وديوان حسان قليل الوجود، وهذه القصيدة لم أرها في غير ديوانه وهي:

أنسيم ريقك أخت آل العنبر

هذا أم استنشأته من مجمر

أبديد ثغرك ما أرى أم لمحة

من بارق أن معدن من جوهر

أودعتني ببريق ثغرك حرقة

ألهبت جمرتها بطرف أحور

ونشرت فرعك فوق متن واضح

وطويت كشحك فوق خصر مضمر

قولي لطرفك أن يكف عن الحشا

سطوت نيران الهوى ثم اهجري

وانهي جمالك أن ينال مقاتلي

فينال قومك سطوة من معشري

إني من القوم الذين جيادهم

طلعت كسرى بريح صرصر

وسلبن تاج الملك قسرا بالقنا

وأخذن قهرا درب آل الأصفر

آباي من كهلان أرباب العلى

وبنو الملوك عمومتي من حمير

قدنا من اليمن الجياد فما انثنت

حتى حوت بالصين مهجة بعبر

ورمت سمرقندا بكل مثقف

لهج باحشاء الفوارس أسمر

ووطئن أرض الشام ثم وفارسا

بالحرث اليمني وابن المنذر

صبحت بلاد الهند بالبيض التي

صبحت بها كسرى صبيحة دستر

ونصرن في الأحزاب حزب محمد

وكسون مومة ثوب موت أحمر

وطلعن من رجوي حنين شزبا

يحملن كل سليل طبيب العنصر

يلقى الرماح الشاجرات بنحره

ويقيم هامته مقام المغفر

ويقول للطرف أصطبر لشبا القنا

فهدمت ركن المجد إن لم تعقر

وإذا تأمل شخص ضيف طارق

متسربل أثواب محل مقتر

أو ما إلى الكوماء هذا طارق

نحرتني الأعداء إن لم تنحري

من قد ولدنا من نجيب قسور

دامي الأظافر أو ربيع ممطر

سلكت أنامله بقائم مرهف

وبنثر فائدة وذروة منبر

كم فوق وجه الأرض من ذي ثروة

لولا فواضل رفدنا لم يذكر

لولا صوارم يعرب ورماحها

لم تسمع الآذان صوت مكبر

نحن الذين نذل أعناق القنا

ونعز بالمعروف قل المعسر

قحطان قومي ما ذكرت فخارهم

إلا علوت على سنام المفخر

السابقون إلى المكارم والعلى

والحائزون غدا حياض الكوثر

فإذا أردت بأن ترى مسعاتنا

فصل النواظر بالسماك الأزهر

لو أمت الجوزاء أن تعلوا على

أدنى ذؤابة مجدنا لم تقدر

ثم الصلاة على النبي وآله

ما لاح برق في غمام ممطر

هذه القصيدة من الرقة والانسجام والجزالة بمحل يشهد به الذوق السليم ولو قلت أنها أرق من كثير من شعر أبي تمام والبحتري لما أبعدت.

ومثلها قوله أيضاً من أخرى:

إن الذوائب من نهر أخوتهم

قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كل من كانت سريرته

تقوى الآله وبالأمر الذي شرعوا

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم

أو حالوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة

إن الخلائق فاعلم شرها البدع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم

عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

إن كان في الناس سباقون بعدهم

فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

لا يجهلون وأن حاولت جهلهم

في فضل أحلامهم عن ذاك متسع

أعفة ذكرت في الوحي عفتهم

لا يطبعون ولا يرديهم الطمع

خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا

ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

ومنه قول الحطيئة بضم الحاء المهملة على زنة جهينة، يمدح آل الشماس

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم

من اللوم أو مدوا المكان الذي سدوا

أولئك قوم أن بنوا أحسنوا البنى

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها

وإن أنعموا لأكدروها لا كدروا

وإن قال مولاهم على كل حادث

من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا

مطاعين في الهيجا مكاشيف الدجى

بنى لهم آباؤهم وبنى الجد

وقوله يمدح بغيض بن شماس السعدي:

تزور امرءاً يعطي على الحمد ماله

ومن يعط أثمان المكارم يحمد

يرى البخل ولا يبقي على المرء ماله

ويعلم أن البخل غير مخلد

ص: 266

كسوب ومتلاف إذا ما سألته

تهلل واهتز اهتزاز المهند

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

ومنه قول كعب بن زهير في بردته وأولها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلا أغن غضيض الطرف مكحول

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة

لا يشتكي قصر منها ولا طول

ومنها:

ولا تمسك بالعهد الذي زعمت

إلا كما تمسك الماء الغرابيل

فلا يغرنك ما منت وما وعدت

إن الأماني والأحلام تضليل

كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً

وما مواعيدها إلا الأباطيل

ومن مديحها:

وقال كل خليل كنت آمله

لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم

فكلما قدر الرحمن مفعول

أنبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

فقد أتيت رسول الله معتذرا

والعذر عند رسول الله مقبول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال

قرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت في الأقاويل

والغاية فيها قوله: إن الرسول لنور يستضاء به=مهند من سيوف الله مسلول وقوله أيضاً:

مقالة السوء إلى أهلها

أسرع من منحدر سائل

ومن دعا الناس إلى ذمه

ذموه بالحق وبالباطل

وقال ابن هشام: ومما يستحسن من شعر كعب قوله:

لو كنت أعجب من شيء لأعجبني

سعي الفتى وهو مخبوء له القدر

يسعى الفتى لأمور ليس يدركها

فالنفس واحدة والهم منتشر

والمرء ما عاش ممدود له أمل

لا تنتهي العين حين ينتهي الأثر

ونمنه قول أمية بن أبي الصلت وهو ممن أدرك زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسلم يمدح عبد الله بن جدعان:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إنَّ شيمتك الحياء

وعلمك بالأمور وأنت قرم

لك الحسب المهذب والسناء

كريم لا يغيره صباح

عن الخلق الكريم ولا مساء

إذا أثنى عليك المرء يوماً

كفاه من تعرُّضه الثناء

وعلى ذكر هذه الأبيات سئل عطاء، ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خير الدعاء دعائي ودعاء الأنبياء من قبلي وهو لا إله إلا الله وحده وحده، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؟ فقال: هذا.

كما قال أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوماً

كفاه من تعرضه الثناء

أفيعلم ابن جدعان ما يراد منه بالثناء عليه ولا يعلم الله ما يراد منه بالثناء عليه؟ وينسب هذا الجواب إلى سفيان بن عيينة كما في الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني والله أعلم.

ومنه قول فروة بن مسيك المرادي شاعر مخضرم من أهل اليمن، وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

فإن نغلب فغلابون قدما

وإن نهزم فغير مهزمينا

وما إن طبنا جبن ولكن

منايانا ودولة آخرينا

كذاك الدهر دولته سجال

تكر صروفه حينا فحينا

فلو خلد الملوك إذن خلدنا

ولو بقي الكرام إذن بقينا

إذا ما الدهر جر على أناس

كلاكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

وقد تمثل ببعض هذه الأبيات الحسين بن علي عليهما السلام بكربلاء يوم قتله ومنه قول نهشل الدارمي وهو من المخضرمين أيضاً. كان شاعراً شريفاً في قومه، وكان مع علي عليه السلام في حروبه:

إنا محيوك يا سلمى فحيينا

وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

وإن دعوت إلى جلى ومكرمة

يوما سراة كرام الناس فادعينا

وهي من قصيدة مشهورة مثبتة في أشعار الحماسة لأبي تمام.

ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخراً وهو غاية في الانسجام:

أعيناي جودا ولا تجمدا

ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجري الجميل

ألا تبكيان الفتى السيدا

طويل النجاد رفيع العما

د ساد عشيرته أمردا

ص: 267

إذا القوم مدوا بأيديهم

إلى المجد مد إليه يدا

فنال الذي فوق أيديهم

من المجد ثم مضى مصعدا

يحمله القوم ما عالهم

وإن كان أصغرهم مولدا

ترى الحمد يهوي إلى بيته

يرى أفضل الكسب أن يحمدا

إذا ذكر المجد ألفيته

تأزر بالمجد ثم أرتدى

وأما ما وقع من الانسجام في أشعار الإسلاميين، فمنه قول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهي قصيدة مشهورة لا يسقط منها بيت واحد. وأما انسجامها فغاية لا تدرك، وعقيلة لا تملك، وقد جنبها حوشي الكلام، وجاء فيها ببديع الانسجام. ومن رأى سائر شعر الفرزدق، ورأى هذه القصيدة ملك نفسه العجب، فإنه لا مناسبة بينها وبين سائر قوله، نسيبا ومدحا وهجاء، على أنه نظمها بديهة وارتجالا، ولا شك أن الله سبحانه أيده في مقالها، وسدده حال ارتجالها، ومع شهرة هذه القصيدة فقد آثرنا إيرادها هنا تبركاً بها وبممدوحها عليه السلام، لئلا يخلو هذا الكتاب منها. ولنذكرها برواية الشيخ الأجل السيد الإمام العالم الحافظ الفقيه الزاهد جمال الدين شيخ الإسلام أوحد الأنام فخر الأئمة مسند العصر أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني وهي: بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا الشيخ حسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي رحمه الله بقراءتي عليه، في جمادى الأخرى من سنة خمس وتسعين وأربعمائة ببغداد، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الوراق قراءة عليه، قال: أخبرنا أبوا أحمد عبه السلام بن الحسين بن محمد بن عبد الله طيفور البصري اللغوي، قال: قرأت على أبي عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب المتوثي بالبصرة سنة أربع وخمسين وثلاثمائة على باب داره، وكتبه عن كتاب إملاء أملاه من أصله، ثم قرأته بعد ذلك بعشر سنية عشية الجمعة لست بقين من شعبان سنة أربع وستين وثلاثمائة على أبي الحسين محمد ابن محمد بن جعفر بن لنكك اللغوي على باب داره، ولم يكن له أصل يرجع إليه، وذكر أنه قد سمعه، قالا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن دينار، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد - يعني بن عائشة - قال: حدثني أبي وغيره، قال: حج هشام بن عبد الملك في زمن عبد الملك أو الوليد، فطاف بالبيت، فجهد إلى الحجر ليستلمه فلم يقدر عليه، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه أهل الشام، إذ أقبل علي بن الحسين بن علي عليهم السلام من أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم ريحاً، فطاف بالبيت، فكلما بلغ إلى الحجر تنحى له الناس حتى يستلمه. فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال الفرزدق: لكني أعرفه، قال الشامي: من هو يا أبا فراس؟.

فقال الفرزدق:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

روى ابن لنكك (الظاهر) بظاء معجمة، وروى المتوثي بطاء غير المعجمة.

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياء ويغضي من مهابته

ولا يكلم إلا حين يبتسم

من جده دان فضل الأنبياء له

وفضل أمته دانت له الأمم

ينشق نور الهدى عن نور غرته

كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم

مشتقة من رسول الله نبعته

طابت عناصره والخيم والشيم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجده أنبياء الله قد ختموا

الله شرفه قدما وفضله

جرى بذاك له في لوحه القلم

فليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

ليس هذا البيت في رواية المتوثي، وعرفه ابن لنكك

كلتا يديه غياث عم نفعهما

يستو كفان ولا يعروهما العدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره

يزينه اثنان حسن الخلق والكرم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا

حلو الشمائل تحلو عنده نعم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته

رحب النفاء أريب حين يعتزم

ص: 268

عم البرية بالإحسان فانقشعت

عنه الغيابة والإملاق والعدم

من معشر حبهم دين وبغضهم

كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عد أهل التقى كلوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت

والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

لا ينقص العسر بسطا من أكفهم

سيان ذلك أن أثروا وإن عدموا

وروى ابن لنكك (لا يقبض) .

يستدفع السوء والبلوى بحبهم

ويسترب به الإحسان والنعم

مقدم بعد ذك الله ذكرهم

في كل بدء ومختوم به الكلم

يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم

خيم كريم وأيد بالندى هضم

أي الخلائق ليست في رقابهم

لأولية هذا أوله نعم

من يعرف الله يعرف أولوية ذا

والدين من بيت هذا ناله الأمم

قال: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة وبلغ ذلك علي بن الحسين عليهما السلام: فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم وقال: اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا وصلناك، فردها الفرزدق وقال: يا بن رسول الله، ما قلت الذي قلت إلا غضباً لله عز وجل ولرسوله، وما كنت لا رزأ عليه شيئاً، فقال: شكر الله لك ذلك، غير أنا أهل بيت إذا أنفذنا أمراً لم نعد فيه، فقبلها.

وجعل يهجو هشاما وهو في الحبس، فكان مما هجاه به:

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوي منيبها

يقلب رأساً لم يكن رأس سيد

وعينا له حولاء باد عيوبها

وقوله أيضاً وهو من المطرب:

حبيب دعا والرمل بيني وبينه

فاسمعني سقيا لذلك داعيا

فكان جوابي أن بكيت صبابة

وفديت من لو يستطيع فدائيا

لذكرى حبيب لم أزل مذ هجرته

أعد له بعد الليالي لياليا

ومثله قوله أيضاً:

والشيب ينهض في الشباب كأنه

ليل يصيح بحافتيه نهار

ومنه قول جرير وهو معدود من الطرب في هذا الباب:

إن العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثم لا يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله أركانا

وقوله أيضاً:

لعمرك لولا اليأس ما انقطع الهوى

ولولا الهوى ما حن من واله قلبي

سقى الرمل جون مستهل ربابه

وما ذاك إلا حب من حل بالرمل

وقوله أيضاً:

يا أخت ناجية السلام عليكم

قبل الرحيل وقبل لوم العذل

لو كنت أعلم أن آخر عهدكم

يوم الفراق فعلت ما لم أفعل

وقوله وبعضه من المرقص، وبعضه من المطرب:

سرت الهموم فبتن غير نيام

وأخو الهموم يورم كل مرام

ذم المنازل بعد منزلة الهوى

والعيش بعد أولئك الأيام

وإذا أتيت على المنازل باللوى

فاضت دموعك غير ذات نظام

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا

وقت الزيارة فارجعي بسلام

تجري السواك على أغر كأنه

برد تحدر من متون غمام

ومنه قول الأخطل وكان نصرانياً من بني تغلب:

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد

ذاخراً يكون كصالح الأعمال

وقوله أيضاً:

وإذا دعونك عمهن فإنه

نسب يزيدك عندهن خبلاً

وإذا وزنت حلومهن مع الصبا

رجح الصبا بحلومهن فمالا

ومنه قول سحيم عبد بني الحسحاس عندما باعه مولاه وكان عبداً أسوداً نوبيا:

أشوقا ولما تمض لي بعد ليلة

فكيف إذا سار المطي بكم عشر

وما كنت أخشى مالكاً أن يبيعني

بشيء ولو كانت أنامله صفرا

أخوكم ومولاكم وصاحب سركم

ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا

البيت الأول يعد من المرقص المطرب. سحيم هذا أقدم عصراً ممن قبله من الإسلاميين لأنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وأنشد عمر بن الخطاب قوله:

عميرة ودع أن تجهزت غاديا

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال له عمر: لو قلت شعرك كله مثل هذا لأعطيتك عليه ومن مشهور شعره ما تمثل به إبراهيم بن المهدي (حين قال له المأمون بعد الظفر به: إنه الخليفة الأسود يا عم، يهزأ به) وهو:

ص: 269

أشعار عبد بني الحسحاس قمن له

عند الفخار مقام الأصل والورق

إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما

أو أسود اللون إني أبيض الخلق

ومن دقيق شعره الذي يعد من المطرب في هذا الباب قوله في أخت مولاه وقد مرضت:

ماذا يريد السقام من قمر

كل جمال لوجهه تبع

ما يرتجى

خاب

من محاسنها

أما له في القباح متسع

وأنشد عمر بن الخطاب أيضاً قوله:

توسدني كفا وتثني بمعصم

علي وتلوي رجلها من ورائيا

فقال له عمر: ويلك إنك مقتول، فكان كذلك. فإنه لما أكثر تعرضه للنساء وتشبيبه بهن قال مولاه لقومه: إن هذا العبد قد فضحنا، فقالوا اقتله ونحن طوعك فمسكوه.

فمرت به امرأة كان بينها وبينه مودة فهجرها فضحكت شماتة فقال:

فإن تضحكي مني فيا رب ليلة

تركتك فيها كالقباء المفرج

ولما أرادوا قتله نادى ما منكم امرأة إلا وقد أصبتها، فقتلوه.

ومنه قول ذي الرمة غيلان:

إذا هبت الأرواح من كل جانب

به آل مي هاج قلبي هبوبها

هوى تذرف العينان منه وإنما

هوى كل نفس حيث حل حبيبها

وقوله أيضاً:

وإلا يكن إلا تعلة ساعة

قليل فإني نافع لي قليلها

ومنه قول جميل بثينة وهو من المرقص المطرب:

ولما تراجعنا الذي كان بيننا

جرى الدمع من عيني بثينة كالكحل

كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة

إلى إلفه واستعجلت عبرة قبلي

يقولون مهلاً يا جميل وإنني

لا قسم مالي عن بثينة من مهل

فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها

ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي

وقوله أيضاً: ألا هل إلى إلمامة أن ألمتها=بثينة يوماً في الحياة سبيل

فإن هي قالت لا سبيل فقل لها

عناء على العذري منك طويل

وما شرقي بالماء إلا تذكرا

لماء به أهل الحبيب نزول

يحرمه لمع الأسنة فوقه

فليس الظمآن إليه سبيل

فيا أثلاث القاع من بطن توضح

حنيني إلى أطلالكن طويل

ويا أثلاث القاع قلبي موكل

بكن وصبري دونكن قليل

ويا أثلاث القاع قد مل صحبتي

مسيري فهل في ظلكن مقيل

فاشرب من ماء الحجيلاء شربة

يداوى بها قبل الممات عليل

أريد انصبابا نحوكم فيصدني

ويمنعني دين علي ثقيل

أحدث نفسي عنك أن لست راجعاً

إليك فحزني في الفؤاد دخيل

قال صاحب الأغاني: ولجميل قصيدة يائية من الطويل، والناس يخلطون بين أبياتها وبين أبيات يائية المجنون وهي:

ألا طال كتماني بثينة حاجة

من الحاج ما تدري بثينة ما هي

أخاف إذا أنبأتها أن تضيعها

فتتركها ثقلاً علي كما هيا

أغرك إني لا بخيل عليكم

ولا مفحش فيما لديك التقاضيا

أعد الليالي ما نأيت ولم أكن

لما مر من دهري أعد اللياليا

ذكرتك بالديرين يوماً فأشرقت

بنات الهوى حتى بلغن التراقيا

إذا اكتحلت عيني بعينك لم يزل

قريرا وجلت غمرة عن فؤاديا

فأتت التي إن شئت كدرت عيشتي

وإن شئت بعد الله أنعمت باليا

وأنت التي ما من صديق ولا عدى

يرى نضو ما أبقيت ألا رثى ليا

وأخبرتماني أن تيماء منزل

لليلى إذا ما الضيف ألقى المراسيا

فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت

فما للنوى ترمى بليلى المراميا

وإني لتثنيني الحفيظة كلما

رأيتك يوماً إن أبثك ما بيا

وما زلت بي يا بثن حتى لو أنني

من الشوق استبكي الحمام بكى لي

إذا خدرت رجلي وقيل شفاؤها

دعاء حبيب كنت أنت دعائيا

وما زادني النأي المفرق بيننا

سلوا ولا طول التلاقي تقاليا

ولا زادني الواشون إلا صبابة

ولا كثرة الناهين إلا تماديا

ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني

أظل إذا لم أسق ريقك صاديا

لقد خفت أن ألقى المنية بغتة

وفي النفس حاجات إليك كما هيا

وممن خلط بين أبيات هذه القصيدة وأبيات قصيدة المجنون، ابن حجة في شرح بديعيته، وجعل أول قصيدة المجنون قول جميل هذه القصيدة:

ص: 270

وخبرتماني أن تيماء منزل

لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا

ظنا منه أن ليلى هذه صاحبة المجنون، وليس كذلك، بل هي من أخوات بثينة، وتيماء من منازل بني عذرة الذي هم قوم جميل وبثينة لا من منازل بني عامر قوم المجنون وصاحبته ليلى، كما نص عليه الأصبهاني في الأغاني.

ومنه قول كثير عزة وهو معدود من المرقص:

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الاباطح

وقيل هذان البيتان من أبيات ليزيد بن الطثرية، وقيل لعقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى وهو الذي ذكره الشريف المرتضى رضي الله عنه في الغرر والدرر.

وقوله:

وادنيتني حتى إذا ما سبيتني

بقول يحل العصم سهل الاباطح

تجافيت عني حين لا لي حيلة

وغادرت ما غادرت بين الجوانح

أأقيل أن جريرا ساير رواية كثير قاصدين الشام، فطرب وقال: أنشدني لأخي بني مليح - يعني كثيراً - فلما انتهى إلى هذين البيتين قال: لولا أنه لا يحسن بشيخ مثلي النخير لنخرت حتى يسمعني هشام على سريره.

ومن مشهور شعره كثير وجيده الفائق قصيدته التالية، وهي غاية في باب الانسجام، وهي:

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا

قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت

وما كنت أدري قبل عزة ما البكا

ولا موجعات القلب حتى تولت

فلا يحسب الواشون أن صبابتي

بعزة كانت غمرة فتجلت

فوالله ثم الله ما حل قبلها

ولا بعدها من خلة حيث حلت

وما مر من يوم علي كيومها

وأن عظمت أيام أخرى وجلت

وكانت لقطع الحبل بيني وبينها

كناذرة نذرا فأوفت وبرت

فقلت لها يا عز كل مصيبة

إذا وطنت يوما لها النفس ذلت

ولم يلق إنسان من الحب منعة

بغم ولا عمياء إلا تجلت

أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها

وحلت تلاعا لم تكن قبل حلت

أريد ثواء عندها وأظنها

إذا ما أطلنا عندها المكث ملت

فوالله ما قاربت إلا تباعدت

بهجر ولا أكثرت إلا أقلت

يكلفها الغيران شتمي وما بها

هواني ولكن للمليك استذلت

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

فان تكن العتبى فأهلا ومرحبا

وحقت لها العتبى علينا وقلت

وإن تكن الأخرى فان وراءنا

مهامه لو سارت بها العيس كلت

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية أن نقلت

فما أنا بالداعي لغزة بالردى

ولا شامت أن نعل عزة زلت

وإني وتهيامي بعزة بعدما

تخليت عنها برهة وتخلت

لكالمرتجى ظل الغمامة كلما

تبوء منها للمقيل اضمحلت

كأني وإياها غمامة ممحل

رجاها فلما جاوزته استهلت

كأني أنادي صخرة حين أعرضت

من الصم لو تمشي بها العصم زلت

صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة

فمن مل منها ذلك النيل ملت

فما أنصفت أما النساء فبغضت

إلي وأما بالنوال فضنت

فوا عجبا للقلب كيف اغتراره

وللنفس لما وطنت كيف ذلت

وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا

فلما تواثقنا شددت وحلت

وكنا سلكنا في صعود من الهوى

فلما توافينا ثبت وزلت

فإن سأل الواشون كيف سلوتها

فقل نفس حر سليت فتسلت

وللعين تذراف إذا ما ذكرتها

وللقلب وسواس إذا العين ملت

فكنت كذي رجلين رجل صحيحة

وأخرى رمى فيها الزمان فشلت

ولي عبرت لو يدمن قتلنني

توالي التي ما بالتي قد تولت

فليت قلوصي عند عزة قيدت

بحبل ضعيف بان منها فضلت

وأصبح في القوم المقيمين رحلها

وكان لها باغ سواي فبلت

تمنيتها حتى إذا ما رأيتها

رأيت المنايا شرعاً قد أظلت

أصاب الردى من كان يبغي لها الردى

وجن اللواتي قلن عزة جنت

عليها تحيات السلام هدية

لها كل حين مقبل حيث حلت

ومنه قول مجنون ليلى واسمه قيس بن الملوح

تعلقت ليلى وهي ذات ذوائب

ولم يبد للأتراب من صدرها حجم

ص: 271

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم

وقوله أيضاً:

إلى الله أشكو نية شقت العصا

هي اليوم شتى هي أمسى جميع

مضى زمن والناس يستشفعون بي

فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع

أعائدة يا ليل أيامنا الألى

بذي الرمث أم ما إن لهن رجوع

وقوله أيضاً:

قضى الله حب العامرية فاصطبر

عليه وقد تجري الأمور على قدر

ألا ليقل من شاء ما شاء إنما

يلام الفتى فيما استطاع من الأمر

وقوله أيضاً:

أمر على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

وقوله أيضاً:

وداع داعا إذ نحن بالخيف من منى

فهيج أشجان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

أطار بليلى طائرا كان في صدري

ومنه قول صاحبته ليلى فيه:

ألا ليت شعري والخطوب كثيرة

متى رحل قيس مستقل فراجع

بنفسي من لا يستقل بنفسه

ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع

ومنه قول عبد الله بن الدمينة:

قفي قبل وشك البين يا ابنة مالك

ولا تحرمينا نظرة من جمالك

قفي يا أميم القلب نقضي لبانة

قبيل النوى ثم افعلي ما بدا لك

سلي البانة الغناء بالأجرع الذي

به البان هل حييت أطلال دارك

ومنها:

تعاللت كي أشجي وما بك علة

تريدين قتلي قد ظفرت بذلك

تقولين للعواد كيف ترونه

فقالوا قتيلاً قلت أيسرها لك

لئن ساءني أن نلتني بمساءةٍ

لقد سرني أني خطرت ببالك

أبيني أفي يمنى يديك جعلتني

فافرح أم صيرتني في شمالك

حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئاً يستحسنه أطرفني به، وأفعل مثل ذلك، فجاني يوماً فوقف بين الناس. وأنشد لابن الدمينة:

إلا يا صبا نجد متى هجت من نجد

لقد زادني مسراك وجدا على وجد

أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى

على فنن غض النبات من الرند

بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن

جزوعاً وأبديت الذي لم تكن تبدي

وقد زعموا أن المحب إذا دنا

يمل وأن النأي يشفي من الوجد

بكل تداوينا فلم يشف ما بنا

على أن قرب الدار خير من البعد

على أن قرب الدار ليس بنافع

إذا كان من أهواه ليس بذي ود

ثم ترنح ساعة، وترجح أخرى، ثم قال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا الشعر؟ فقلت: لا، أرفق بنفسك.

والدمينة بضم الدال المهملة، وفتح الميم وسكون المثناة التحتية وفتح النون، تصغير دمنة وهي أمه، وعهدي ببعض الطلبة المتزيدين لا يعرف كيف ينطق بهذا اللفظ لحيرته في ضبطه والله الموفق.

ومنه قول بشار بن برد وهو من مخضرمين الدولتين الأموية والعباسية:

عبد إني إليك بالأشواق

لتلاق كيف لي بالتلاق

أنا والله اشتهى سحر عيني

ك وأخشى مصارع العشاق

وقوله أيضاً وهو من المطرب:

أيها الساقيان صبا شرابي

وأسقياني من ريق بيضاء رود

إن دائي الظما وإن شفائي

رشفة من رضاب ثغر برود

ولها مضحك كغر الأقاحي

وحديث كالوشي وشي البرود

نزلت في السواد من حبة القل

ب ونالت زيادة المستزيد

ثم قالت نلقاك بعد ليال

والليالي يبلين كل جديد

عندها الصبر عن لقائي وعندي

زفرات يأكلن قلب الجليد

وقوله أيضاً:

عذيري من العذال إذ يعذلونني

سفاها وما في العاذلين لبيب

يقولون لو عزيت قلبك لارعوى

فقلت وهل للعاشقين قلوب

ومن المرقص قوله من أرجوزة:

يا طلل الحي بذات الصمد

بالله خبر كيف كنت بعدي

أوحشت من دعد وترب دعد

سقيا لأسماء ابنة المرشد

صدت بخد وجلت عن خد

ثم انثنت كالنفس المرتد

عهدي بها سقيا له من عهد

تخلف وعدا وتفي بوعد

ومنه قول العباس بن الأحنف وهو من المبرزين في هذا الباب:

وحدثتني يا سعد عنها فزدتني

جنوناً فزدني من حديثك يا سعد

هواها هوى لا يعرف القلب غيره

وليس له قبل وليس له بعد

ص: 272

وقوله:

أيها النائمون حولي أعينو

ني على الليل حسبة وائتجارا

حدثوني عن النهار حديثا

وصفوه فقد نسيت النهارا

وقوله:

لو كنت عاتبة لسكن روعتي

أملي رضاك وزرت غير مراقب

لكن مللت فلم تكن لي حيلة

صد الملول خلاف صد العاتب

ما ضر من قطع الرجاء بهجره

لو كان عللني بوعد كاذب

وقوله:

قد سحب الناس أذيال الظنون بنا

وفرق الناس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمى بالحب غيركم

وصادق ليس يدري أنه صدقا

وقوله:

تحمل عظيم الذنب ممن تحبه

وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم

فإنك أن لا تغفر الذنب في الهوى

يفارقك من تهوى وأنفك راغم

وقوله:

أبكي الذين أذاقوني مودتهم

حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا

فاستنهضوني فلما قمت منتصبا

بثقل ما حملوني منهم قعدوا

لا خرجن من الدنيا حبهم

بين الجوانح لم يشعر به أحد

وقوله:

يا أيها الرجل المعذب نفسه

أقصر فإن شفاءك الإقصار

نزف البكاء دموع عينك فاستعر

عينا لغيرك دمعها مدرار

من ذا يعيرك عينه تبكي بها

أرأيت عينا للدموع تعار

وقوله:

إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة

فلا خير في ود يكون بشافع

وأقسم ما تركي عتابك عن قلى

ولكن لعلمي أنه غير نافع

واني إن لم ألزم الصبر طائعا

فلا بد منه مكرها غير طائع

وقوله:

أحرم منكم بما أقول وقد

نال به العاشقون من عشقوا

صرت كأني ذبالة نصبت

تضيء للناس وهي تحترق

وقوله:

تعب يطول مع الرجاء الذي الهوى

خير له من راحة في اليأس

لولا محبتكم لما عاتبتكم

ولكنني عندي كبعض الناس

حكى عمر بن شبة قال: مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكائي النحوي، والعباس بن الأحنف وهشيمة الخمارة، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا الأول؟ فقالوا: إبراهيم الموصلي، فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه. فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقديم على من حضر؟ قال: بقوله:

وسعى بها ناس قالوا إنها

لهي التي تشقى بها وتكابد

نجدتهم ليكون غيرك ظنهم

إني ليعجبني المحب الجاحد

ثم قال: أتحفظهما؟ فقلت: نعم وأنشدته، فقال لي المأمون: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدم؟ فقلت: بلى والله يا سيدي. انتهى.

قلت: هكذا أورد هذه الحكاية غير واحد من المؤرخين، غير أن ابن خلكان وغيره تعقب صحتها بأن الكسائي توفي بالري سنة تسع وثمانين ومائة، وقيل بطوس سنة اثنين أو ثلاث وثمانين ومائة، والعباس توفي سنة اثنين وتسعين لأن الرشيد مات ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين بمدينة طوس. قال ابن خلكان: وقال غيره: ومما يكذب هذه الحكاية أن المأمون ما كان ممن يقدم العباس بن الأحنف على مثل الكسائي وهو شيخه وأستاذه، مع منزلته عند الرشيد والله أعلم.

ومنه قول مسلم بن الوليد من قصيدته التي لقب بها صريع الغواني أولها:

أديرا علي الكاس لا تشربا قبلي

ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي

فما جزعي أني أموت صبابة

ولكن على من لا يحل لها قتلي

كتمت تباريح الصبابة عاذلي

فلم يدر ما بي واسترحت من العذل

أحب التي صدت وقالت لتربها

دعيه الثريا منه أقرب من وصلي

أماتت وأحيت مهجتي فهي عندها

معلقة بين المواعيد والمطل

سأنقاد للذات متبع الهوى

لا مضى هماً أو أصيب فتى مثلي

هل العيش ألا أن تروح مع الصبا

وتغدو صريح الكأس والأعين النجل

يقال أنه أنشدها بحضرة الرشيد فلما بلغ هذا البيت سماه صريع الغواني.

ومنه قول أبي نواس:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

ودواني بالتي كانت هي الداء

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها

لو مسها حجر مسته سراء

ص: 273

من كف ذات حر في زي ذكر ذكر

لها محبان لوطي وزناء

قامت بإبريقها والليل متعكر

فلاح من وجهها في البيت لألاء

فأرسلت من فم الإبريق صافية

كأنما أخذها بالعقل إعفاء

رقت عن الماء حتى لا يلائمها

لطافة وجفا عن شكلها الماء

فلو مزجت بها نورا لمازجها

حتى تولد أنوار وأضواء

دارت على فتية ذل الزمان لهم

فما يصيبهم إلا بما شاؤا

لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة

كانت تحل بها هند وأسماء

فقل لم يدعي في الحب فلسفة

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

وقوله:

قامت بكأس إلى ناش على طرب

كلاهما عجب في منظر عجب

قامت تريني وأمر الليل مجتمع

صبا تولد بين الماء والعنب

كأن صغري وكبرى من فواقعها

حصباء در على أرض من الذهب

ويتعلق بهذا البيت حكاية لطيفة، وبحث نحوي.

أما الحكاية فهي ما ذكره المؤرخون، من أن المأمون ليلة دخوله ببوران بنت الحسن بن سهل فرش له حصير منسوج بالذهب، فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلي كثيرة، فلما رأى تساقط اللآلي المختلفة على الحصير المنسوج بالذهب قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذا الحال حين قال في صفة الخمر والحباب (كأن صغرى وكبرى من فواقعها) .

وأما البحث فهو أنه يجب استعمال (فعلى أفعل) بأل، أو بالإضافة، وقد استعملها أبوا نواس بدونهما فهو لحن. وأجاب بعضهم بأن (من) زائدة، فصغرى وكبرى مضافان، على حد قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد. ورد بان (من) لا تقحم في الإيجاب. ولا مع تعريف المجرور.

والجواب الصحيح: أن اسم التفضيل المجرد إذا قصد أصل الفعل لا المفاضلة، فتكون (صغرى) ، و (كبرى) في البيت بمعنى صغيرة، وكبيرة، فلا لحن فتأمل.

وقال أبي نواس أيضاً:

كأن ثيابه أطلع

ن من أزراره قمرا

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظرا

بعين خالط التفتير من

أجفانها الحورا

وخد سابري لو تصوب

ماؤه قطرا

ومنه قول الحسين بن الضحاك الملقب بالخليع:

إذا ما الماء أمكنني

وصفو سلافة العنب

صببت الفضة البيضا

ء فوق قراضة الذهب

وقوله:

وصف البدر حسن وجهك حتى

خلت أني وما أراك أراكا

وإذا ما تنفس النرجس الغض توسمنته بسيم شذاكا

خدع للمنى تعللني فيك

بإشراق ذا وبهجة ذاكا

لا دومن يا حبيبي على العه

د لها وذاك إذ حكياكا

وقوله:

بأبي زور تلفت له

وتنفست عليه صعدا

بينما أضحك مسروا به

إذ تقطعت عليه كمدا

وقوله:

تمنيت أن أسقى بعينيه شربة

تذكرني ما قد نسيت من العهد

سقى الله عيشا لم أبت فيه ليلة

من الدهر إلا من حبيب على وعد

وقول أبي العتاهية:

لهفي على الزمن القصير

بين الخورنق والسدير

إذ نحن في غرف الجنا

ن نعوم في بحر السرور

في فتية ملكون عنا

ن الدهر أمثال الصقور

ما منهم إلا الجسور

على الهوى غير الحصور

يتعاورون مدامة

صهباء من حلب العصير

عذراء رباها شعاع ال

شمس في حر الهجير

لم تدن من نار ولم

يعلق بها وضر القدور

ومقرطق يمشي أمام القوم

كالرشأ الغرير

بزجاجة تستخرج السر

الدفين من الضمير

زهراء مثل الكوكب ال

دري في كف المدير

تدع الكريم ليس يد

ري ما قبيل من دبير

ومخصرات زرننا

بعد الهدو من الخدور

ريا رواد فهن يل

بسن الخواتم في الخصور

غر الوجوه محجبا

ت قاصرات الطرف حور

متغمسات في النعي

م مضخمات بالعبير

يرفلن في حلل المحا

سن والمجاسد والحرير.

ومن الانسجام المرقص قول ديك الجن الحمصي:

أنظر إلى شمس القصور وبدرها

وإلى خزاماها وبهجة زهرها

لم تبل عينك أبيضا في أسود

جمع الجمال كوجهها في شعرها

وردية الوجنات يختبر اسمها

من نعتها من لا يحيط بخبرها

وتمايلت فضحكت من أردافها

عجبا ولكني بكيت لخصرها

ص: 274

تستقيك كأس مدامة من كفها

وردية ومدامة من ثغرها

وهذه الأبيات قالها في جارية نصرانية من أهل حمص عشقها ودعاها إلى الإسلام فأسلمت فتزوجها، ثم بلغه أنها تهوى غلاماً فقتلها، وقال فيها:

يا طلعة طلع الحمام عليها

وجنى لها ثمر الردى بيديها

رويت من دمها الثرى ولطالما

روى الهوى شفتي من شفتيها

مكنت سيفي من مجال خناقها

ومدامعي تجري على خديها

فوحق نعليها وما وطيء الحصى

شيء أعز علي من نعليها

ما كان قتليها لأني لم أكن

أبكي إذا سقط الغبار عليها

لكن ضننت على سواي بحبها

وأنفت من نظر الغلام إليها

وقوله أيضاً:

بها غير معذور فداو خمارها

وصل بعشيات الغبوق ابتكارها

ونل من عظيم الوزر كل عظيمة

إذا ذكرت خاف الخفيظان نارها

وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر

ولا تسق إلا خمرها وعقارها

فقام تكاد الكأس تحرق كفه

من الشمس أو من وجنتيه استعارها

موردة من كف ظبي كأنما

تناولها من خده فأدارها

ظللنا بأيدينا نتعتع روحها

فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها

ويحكى أنه لما اجتاز أبو نواس بحمص قاصداً مصر لامتداح الخصيب سمع ديك الجن بوصوله فاستخفى منه خوفاً من أن يظهر لأبي نواس، لكونه قاصراً بالنسبة إليه، فقصده أبو نواس في داره وهو بها، فطرب الباب، واستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو هنا، فعرف مقصده فقال لها قولي له: أخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك:

موردة في كف ظبي كأنما

تناولها من خده فأدارها

فلما سمع دين الجن ذلك خرج إليه واجتمع به وأضافه.

ومن بديع الانسجام ما أنشده إسحاق الموصلي لبعض الأعراب:

ألا قاتل الله الحمامة غدوة

على الغصن ما هيجت حين غنت

تغنت بصوت أعجمي فهيجت

من الشوق ما كانت ضلوعي أجنت

فلو قطرت عين امرء من صبابة

دما قطرت عيني دما فألمت

فما سكنت حتى أويت لصوتها

وقلت ترى هذي الحمامة جنت

ولي زفرات لو يدمن قتلنني

بشوق إلى نأي التي قد تولت

فيا محيي الموتى أقدني من التي

بها نهلت نفسي سقاما وعلت

لقد بخلت حتى لوني سألتها

قذى العين من سافي التراب لضنت

فقلت ارحلا يا صاحبي فليتني

أرى كل نفس أعطيت ما تمنت

حلفت لها بالله ما أم واحد

إذا ذكرته آخر الليل حنت

وما وجد أعرابية قذفت بها

صروف النوى من حيث لم تك ظنت

إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه

وبرد الحمى من بطن خبت أرنت

بأكثر مني لوعة غير أنني

أجمجم أحشائي على ما أجنت

ومنه قول إسحاق الموصلي:

إذا مضر الحمراء كانت أرومتي

وقام بنصري خازم وابن خازم

عطست بأنف شامخ وتناولت

يداي الثريا قاعدا غير قائم

ومنه قول محمد بن كناسة:

في انقباض وحشمة فإذا

لاقيت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها

وقلت ما قلت غير محتشم

قيل: أنشد محمد بن كناسة هذين البيتين إسحاق الموصلي، فقال له الموصلي: وددت أني نقص من عمري سنتان وإني كنت سبقت إلى إلى هذين البيتين فقلتهما.

ومن المرقص في باب الانسجام قول عمر بن أبي ربيعة من قصيدة:

أتاني رسول من ثلاث خرائد

ورابعة تستكمل الحسن أجمعا

تنوعتن حتى عاود القلب سقمه

وحتى تذكرت الحديث المودعا

فقلت لمطريهن في الحسن إنما

ضررت فهل تستطيع نفعا فتنفعا

وهيجت قلبا كان قد ودع الصبا

وأشياعه فاشفع عسى أن تشفعا

لئن كان ما قد قلت حقا فما أرى

كمثل الألى أطريت في الناس أربعا

ومنا وهو الغاية التي لا تدرك:

فلما توافقنا وسلمت أشرقت

وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا

قربن أسباب الهوى لمتيم

يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا

وقوله أيضاً:

ردوا التحية أيها السفر

وقفوا فإن وقوفكم أجر

ماذا عليكم في وقوفكم

ريث السؤال سقاكم القطر

بالله ربكم أما لكم

بالمشعرين وأهله خبر

ص: 275

مكية هام الفؤاد بها

نسي العزاء فماله صبرا

قدرت له حيناً لتقتله

ولكل ما هو كائن قدر

فالشهر مثل اليوم إن حضرت

واليوم إن غابت به شهر

زهراء آنسة مقبلها

عذب كأنه مذاقه الخمر

وإذا تجلت في الظلام جلت

دجن الظلام كأنها البدر

نظرت إليك بعين مغزلة

حوراء خالط طرفها فتر

وقوله أيضاً كما في تاريخ ابن خلكان ولم أجدها في ديوانه:

حي طيفا من الأحبة زارا

بعد ما صرع الكرى السمارا

طارقا في المنام تحت دجى الليل ضنينا بأن يزور نهارا

قلت ما بالنا جفينا كنا

قبل ذاك الأسماع والأبصارا

قال أنا كما عهدت ولكن

شغل الحلي وأهله أن يعارا

وقوله وقد تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري محبوبته الثريا:

أيها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا استقل يماني

ومنه قول يزيد بن الطثرية:

عقيلية أما ملاث إزارها

فدعص وأما خصرها فبتيل

تقيظ أكناف الحمى ويظلها

بنعمان من وادي الأراك مقيل

أليس قليلا نظرة أن نظرتها

إليك وكلا ليس منك قليل

فيا خلة النفس التي ليس دونها

لنا من أخلاء الصفاء خليل

ويا من كتمنا حبها لم يطع به

عدو ولم يؤمن عليه دخيل

أما من مقام أشتكي غربة النوى

وخوف العدى فيه إليك سبيل

فديتك أعدائي كثير وشقتي

بعيد وأشياعي لديك قليل

وكنت إذا ما جئت جئت بعلة

فأفنيت علاتي فكيف أقول

فما كل يوم لي بأرضك حاجة

ولا كل يول لي إليك رسول

صحائف عندي للعتاب طويتها

ستنشر يوماً والعتاب طويل

فلا تحملي إثمي وأنت ضعيفة

فإن دمي يوم الحساب ثقيل

ومن الفائق قول أبي تمام:

وما حسرتي إن كدت أقضي إنما

حسرات قليب إنني لم أفعل

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدا لأول منزل

وقوله وهو من المطراب:

استزارته فكرتي في المنام

فأتاني في خفية واكتتام

ألليالي أحفى بقلبي إذا ما

جرحته النوى من الأيام

يا لها زورة تلذذت الأر

واح فيها سرا من الأجسام

مجلس لم يكن لنا فيه عيب

غير أنا في دعوة الأحلام

وقوله أيضاً:

أنت في حل فزدني سقما

أفن صبري وأجعل الدمع دما

وأرض لي الموت بهجريك فإن

ألمت نفسي فزدني ألما

محنة العاشق في ذل الهوى

فإذا استودع سرا كتما

ليس منا من شكا علته

من شكا ظلم حبيب ظلما

ومثله قوله أيضاً:

الحسن جزء من وجهك الحسن

يا قمرا موفيا على غصن

وإن كنت في الحسن واحدا فأنا

يا واحد الحسن واحد الحزن

كل سقام تراه في أحد

فذاك فرع والأصل في بدني

كوامن الحب قبل كونك في

أفئدة العاشقين لم تكن

وقوله أيضاً:

إذا راح مشهور المحاسن أو غدا

بلين على لحظ العيون الغوامز

فمن لم تفز عيناه منه بنظرة

فليس بخير في الحياة بفائز

إذا ما انتضى سيف الملاحة طرفه

ونادى قلوب القوم هل من مبارز

عجزت فألقى السلم قلبي لطرفه

على أنه عن غيره عير حاجز

وقوله من قصيدة:

ومعرس للغيث تخفق فوقه

رايات كل دجنة وطفاء

نشرت حدائقه فصرن مآلفا

لطرائف الأنواء والأنداء

فسقاه مسك الطل كافور الصبا

وانحل فيه خيط كل سماء

عني الربيع بروضه فكأنما

أهدى إليه الواشي من صنعاء

صحبته بمدامة صحبتها

بسلافة الخلطاء والندماء

بمدامة تغدو المنى لكؤسها

خولا على السراء والضراء

راح إذا ما الراح كن مطيها

كانت مطايا الشوق في الأحشاء

عنبية ذهبية سكبت لها

ذهب المعاني صاغة الشعراء

صعبت وراض المزج سيء خلقها

فتعلمت من حسن خلق الماء

ص: 276

خرقاء يلعب بالعقول حبابها

كتلاعب الأفعال بالأسماء

وضعيفة فإذا أصابت فرصة

قتلت كذلك قدرة الضعفاء

ومن مديحه المرقص قوله رحمه الله:

بيمين أبي إسحاق طالت يد العلى

وقامت قناة الدين واشتد كاهله

هو اليم من أي النواحي أتيته

فلجته المعروف والبر ساحله

تعود بسط الكف حتى لواته

ثناها لقبض لم تطعه أنامله

ولو لم يكن في كفه غير نفسه

لجاد بها فليتق الله سائله

ومنه قول أبي عبادة البحتري وعد من المرقص أيضاً:

أشرب على زهر الرياض تشوبه

زهر الخدود وزهرة الصهباء

من قهوة تنسي الهموم وتبعث ال

شوق الذي قد ضل في الأحشاء

يخفي الزجاجة لونها فكأنها

في الكف قائمة بغير إناء

ولها نسيم كالرياض تنفست

في أوجه الأرواح والأنداء

وفواقع مثل الدموع ترددت

في صحن خد الكاعب العذراء

يسقيكها رشأ بالكاد يزيدها

سكرا بفترة مقلة حوراء

يسعى بها وبمثلها من طرفه

عوداً وإبداء على الندماء

وقوله وهو أول قصيدة يمدح بها الفتح بن خاقان:

بنا أنت من مجفوة لم تعتب

معذورة في هجرها لم تؤتب

نازحة والدار منها قريبة

وما قرب ثاو في التراب مغيب

قضت نوب الأيام فيها بفرقة

متى ما تغالب بالتجلد تغلب

فإن أبك لأشفي الغليل وأن أدع

أدع لوعة في القبلب ذات تلهب

ألا لا تذكرني الحمى إن ذكره

جوى للمشوق المستهام المعذب

أتت دون ذاك الدهر أيام جرهم

وطارت بذاك العيش عنقاء مغرب

ويا لائمي في عبرة قد سفحتها

لبين وأخرى قبلها للتجنب

تحاول مني شيمة غير شيمتي

وتطلب مني مذهبا غير مذهبي

وما كبدي بالمستطيعة للأسى

فأسلو ولا قلبي كثير التقلب

ولما تزايلنا عن الجزع وانثنى

مشرق ركب مصعدا عن مغرب

تبينت أن لا دار من بعد عالج

تسر وأن لا خلة بعد زينب

لعل وجيف الركب في غلس الدجى

وطي الفيافي سبسبا بع سبسب

يبلغني الفتح بن خاقان أنه

نهاية آمالي وغاية مطلبي

حكي أنه سبب نظم البحتري لهذه القصيدة أنه ماتت للمتوكل جارية بارعة الجمال اسمها شجر الدر، فحزن المتوكل لموتها حزناً شديدا وتركها بغير دفن أياماً لشدة وجده عليها، ولم يستطع أحد من الوزراء أن ينصحه في ذلك، ولا قدر أحد من الشعراء أن يرثيها. فتقد الفتح بن خاقان إلى أبي عبادة البحتري بنظم قصيدة يكون نسيبها متعلقاً بشجر الدر ومديحها فيه، وأن ينشدها بين يدي المتوكل. فنظم هذه القصيدة وحظر بين يدي المتوكل، فأخذ في إنشادها والمتوكل يهتز لها طربا، ويستعيد كل بيت منها استحسانا، إلى أن بلغ قوله: يبلغني الفتح بن خاقان - البيت - فقال المتوكل: ويحك يا أبا عبادة انتقلت مما يطرب إلى ما ينصب. ثم أجازه كل من الخليفة والوزير جائزة سنية، وحصل للمتوكل بذلك سلوة، والله أعلم.

ومن المطرب قوله أيضاً:

بات نديما لي حتى الصباح

أغيد مجدول مكان الوشاح

كأنما يضحك عن لؤلؤ

منضد أو برد أو أقاح

تحسبه نشوان إمارنا

للفتر في أجفانه وهو صاح

بت أفديه ولا أرعوي

لنهي ناه عنه أو لحي لاح

أمزج كأسي بجنى ريقه

وإنما أمزج راحا براح

يساقط الورد علينا وقد

تبلج الصبح نسيم صباح

أغضيت عن بعض الذي يتقى

من حرج في حبه أو جناح

سحر العيون النجل مستهلك

لبي وتوريد الخدود الملاح

وقوله:

يا عارضا متلفعا ببروده

يختال بين بروقه ورعوده

لو شئت عدت بلاد نجد عودة

فنزلت بين عقيقة وزروده

لتجود في ربع بمنعرج اللوى

قفر تبدل وجشه من غيده

رفع الفراق قبابهم وتحملوا

بفؤاد مختبل الفؤاد عميده

وأنا الفداء لمرهف غض الصبا

يوهيه حمل وشاحه وعقوده

قصرت تحيته فجاد بخده

يوم الوداع لنا وضن بجيده

عنيت به عين الرقيب فلم تدع

من نيله المطلوب غير زهيده

ص: 277

ولو استطاع لكان يوم وصاله

للمستهام مكان يوم صدوده

وقوله في غلام له اسمه نسيم، باعه فاشتراه أبو الفضل الحسن بن وهب ثم ندم على بيعه وتتبعته نفسه:

دعا مقلتي تجري على الجور والقصد

أظن نسيما قارف الهجر من بعدي

خلا ناظري من طيفه بعد شخصه

فيا عجبا للدهر فقداً على فقد

خليل هل من نظرة توصلانها

إلى وجنات ينتسبن إلى الورد

وقد يكاد القلب يفقد دونه

إذا اهتز في قرب من العين أو بعد

بنفسي حبيب نقلوه عن اسمه

فبات غريبا في رخاء وفي سعد

فبا حائلا عن ذلك الاسم لا تحل

وإن جهد الأعداء عن ذلك العهد

كفى حزنا أنا على الوصل نلتقي

فواقا فتثنينا العيون إلى الصد

فلو تمكن الشكوى لخبرك البكا

حقيقة ما عندي وإن جل ما عندي

هوى لا جميل في بثينة ناله

بمثل ولا عمرو بن عجلان في هند

أبا الفضل في تسع وتسعين نعجة

غنى لك عن ظبي بساحتنا فرد

أتأخذه مني وقد أخذ الجوى

مآخذه مما أسر وما أبدي

وقلت أسل عنه والجوانح دونه

وكيف سلو ابن المفرغ عن برد

ابن المفرغ هذا هو يزيد بن زياد بن مفرغ واسمه ربيعة، وإنما لقب مفرغا لأنه راهن على سقاء من لبن يشربه كله فشربه حتى فرغه فسمي مفرغا وقيل في سبب لقبه بذلك غير هذا، وكان يزيد المذكور شاعراً غزلا محسنا من شعراء الصدر الأول في زمن معاوية بن أبي سفيان، وبرد الذي ذكره البحتري غلام له كان رباه مع قينة له تسمى الأراكة، وكان شديد الضن بهما، وله فيهما أشعار والله أعلم.

ومنه قول أبي الطيب المتنبي:

عزيز أسى من داؤه الحق النجل

عياء به مات المحبون من قبل

فمن شاء فلينظر إلي فمنظري

نذير إلى من ظن أن الهوى سهل

وما هي إلا لحظة بعد لحظة

إذا نزلت في قلبه رحل العقل

جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي

فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

ومن جسدي لم يترك الحب شعرة

فما فوقها إلا وفيها له فعل

ومنها:

كأن رقيباً منك سد مسامعي

عن العذل حتى ليس يدخلها العذل

كأن سهاد الليل يعشق مقلتي

فبينهما في كل هجر لنا وصل

وقوله:

من الجآذر في زي الأعاريب

حمر الحلى والمطايا والجلابيب

إن كنت تسأل شكا في معارفها

فمن بلاك بتسهيد وتعذيب

ومنها:

سوائر بما سارت هوادجها

منيعة بين مطعون ومضروب

وربما وخدت أيدي المطي بها

على نجيع من الفرسان مصبوب

كم زورة لك في الأعرب خافية

أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها

وحالفوها بتقويض وتطنيب

ومنها:

فؤاد كل محب في بيوتهم

ومال كل أخيذ المال محروب

ما أوجه الحضر المستحسنات به

كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

ومنها:

أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ولا برزن من الحمام مائلة

أوراكهن صقيلات العراقيب

قال الثعالبي في اليتيمة: وناهيك بهذه الأبيات جزالة وحلاوة، وحسن معان، وله طريقة طريفة في وصف البدويات قد تفرد بحسنها، وأجاد ما شاء فيها.

ومنها قوله:

هام الفؤاد بأعرابية سكنت

بيتا من القلب لم تمدد له طنبا

مظلومة القد في تشبيهه غصنا

مظلومة الريق في تشبيهه ضربا

وقوله:

إن الذين أقمت واحتملوا

أيامهم لديارهم دول

الحسن يرحل كلما رحلوا

معهم وينزل حيثما نزلوا

في مقلتي رشأ تديرهما

بدوية فتنت بها الحلل

ومنها:

ما أسارت في العقب من لبن

تركته وهو المسك والعسل

وقوله أيضاً، قال الثعالبي: وهي مما يتغنى به لرشاقتها وبلوغها كل مبلغ من حسن اللفظ وجودة المعنى واستحكام الصنعة:

قد كان يمنعني الحياء من البكا

والآن يمنعه البكا أن يمنعا

حتى كأن لكل عظم رنة

في جلده ولكل عرق مدمعا

ص: 278

سفرت وبرقعها الحياء بصفرة

سترت محاجرها ول تك برقعا

فكأنها والدمع يقطر فوقها

ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا

نشرت ثلاث ذوائب من شعرها

في ليلية فأرت ليالي أربعا

واستقبلت قمر السماء بوجهها

فأرتني القمرين في وقت معاً

وقوله:

فليت هوى الأحبة كان عدلا

فحمل كل قلب ما أطاقا

ومنها:

وقد أخذ التمام البدر فيهم

وأعطاني من السقم المحاقا

وبين الفرع والقدمين نور

يقود بلا أزمتها النياقا

وطرف أن سقى العشاق كاسا

بها نقص سقانيها دهاقا

وخصر تثبت الأبصار فيه

كأن عليه من حدق نطاقا

وقوله:

كأنما قدها إذا انقلبت

سكران من خمر طرفها ثمل

يجذبها تحت خصرها كفل

كأنه من فراقها وجل

وقوله:

مثلت عينك في حشاي جراحة

فتشابها كلتاهما نجلاء

نفذت على السابري وربما

تندق فيه الصعدة السمراء

وقوله وهو من المرقص:

كأن العيس كانت فوق جفني

مناخات فلما ثرن سالا

لبسن الوشي لا متجملات

ولكن لكي يصن به الجمالا

وضفرن الغدائر لا الحسن

ولكن خفن في الشعر الضلالا

وهذا من إحسانه المشهور الذي لا يشق غباره في والله أعلم.

ومن الانسجام البديع قول سيف الدولة بن حمدان رحمه الله تعالى في جارية له من بنات ملوك الروم، كان لا يرى الدنيا إلا بها، ويشفق من الريح الهابة عليها، فحسدها سائر خطاياه على لطف محلها منه، وأزمعن على إيقاع مكروه بها من سم وغيره، وبلغ سيف الدولة ذلك فأمر بنقلها إلى الحصون احتياطاً على روحها وقال:

راقبتني العيون فيك فأشفق

ت ولم أخل قط من إشفاق

ورأيت العذول يحسدني في

ك اغتباطا يا أنفس الاعلاق

فتمنيت أن تكوني بعيدا

والذي بيننا من الود باق

رب هجر يكون من خوف هجر

وفراق يكون من خوف فراق

وقوله أيضاً:

تجنى علي الذنب والذنب ذنبه

وعاتبني ظلما وفي شقه العتب

وأعرض لما صار قلبي بكفه

فهلا جفاني حين كان لي القلب

إذا برم المولى بخدمة عبده

تجنى له ذنبا وإن لم يكن ذنب

وقوله أيضاً:

أقبله على جزع

كشرب الطائر الفزع

رأى ماء فأطعمه

وخاف عواقب الطمع

فصادف فرصة فدنا

فلم يلتذ بالجرع

وقول أبي فراس بن حمدان وهو ابن عم سيف الدولة. قال الثعالبي في ترجمته: كان فرد دهره، وشمس عصره أدبا وفضلا، وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة، والحلاوة والمتانة، ومعه رقة الطبع وسمة الظرف وعزة الملك، ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز، وأبو فراس بعده أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام. وكان الصاحب يقول: بديء الشعر بملك، وختم بملك، يعني امرأ القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه، فلا ينبري لمباراته، ولا يجتري على مجاراته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلالاً لا إغفالاً وإخلالاً. وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس، ويميزه بالإكرام على سائر قومه. انتهى.

وقوله المشار إليه هو:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة

ولكن مثلي لا يذاع له سر

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى

وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر

تكاد تضيء النار بين جوانحي

إذا هي أذكتها الصبابة والفكر

معللتي بالوصل والموت دونه

إذا مت عطشانا فلا نزل القطر

بدوت وأهلي حاضرون لأنني

أرى أن دارا لست من أهلها ققر

وحاربت قومي في هواك وأنهم

وإياي لولا حبك الماء والماء والخمر

وإن كان ما قال الوشاة ولم يكن

فقد يهدم الإيمان ما شيد الكفر

وفيت وفي بعض الوفاء مذلة

لإنسانة في الحي شيمتها الغدر

وقور وريعان الصبا يستفزها

فتأرن أحيانكما يارن المهر

ص: 279

تسائلني من أنت وهي عليمة

وهل بفتى مثلي على حالة نكر

فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى

قتيلك قالت أيهم فهم كثير

فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق

وأن يدي مما علقت به صفر

فلا تنكريني يا ابنة العم إنني

ليعرف ما أنكرته البدو والحضر

وقلبت أمري لا أرى لي راحة

إذا البين أنساني ألح بي الهجر

فعدت إلى حكم الزمان وحكمها

لها الذنب لا تجزي به ولي العذر

واني لحراب بكل مخوفة

كثير إلى نزالها النظر الشزر

فأظمأ حتى ترتوي البيض والقنا

واسغب حتى يشبع الذيب والنسر

ويا رب دار لم تخفني منيعة

طلعت عليها بالردى وأنا والفجر

وما حاجتي بالمال أبغي وفوره

إذا لم أفر عرضي فلا وفر الوفر

وقال أصيحا بي الفرار أو الردى

فقلت هما أمران أحلاهما مر

ولكنني أمضي لما لا يعيبني

وحسبك من أمرين خيرهما الأسر

أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى

ولا فرسي مهر ولا ربه غمر

ولكن إذا حم القضاء على امرئ=فليس له بر يقيه ولا بحر

هو الموت فاختر ما علا لك ذكره

ولم يمت الإنسان ما حيي الذكر

ولا خير في دفع الردى بمذلة

كما ردها يوما بسوءته عمرو

فإن عشت فالطعن الذي تعرفونه

وتكل القنا والبيض والضمر الشقر

وإن مت فالإنسان لا بد ميت

وإن طالت الأيام وانفسح العمر

يمنون أن خلوا ثيابي وإنما

على ثياب من دمائهم حمر

وقائم سيف فيهم اندق نصله

وأعقاب رمح فيهم حطم الصدر

سيذكرني قومي إذا جد جدها

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ولو سد غير ما سددت اكتفوا به

وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر

ونحن أناس لا توسط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المالي نفوسنا

ومن خطب الحسناء لم يغله المهر

وهي من غرر قصائده، ومع شهرتها فهذا المقدار كاف منها.

وقوله من أخرى:

وطال الليل بي ولرب دهر

نعمت به لياليه قصار

وندماني السريع إلى ندائي

على عجل وأقداحي الكبار

وكم من ليلة لم أرو منها

حننت لها وأرقني أدكار

قضاني الدين ماطله وأوفى

إلي بها الفؤاد المستطار

فبت أعل خمر من رضاب

لها سكر وليس لها خمار

إلى أن رق ثوب الليل عنا

وقالت قم فقد برد السوار

وقوله في النسيب:

من أين للرشأ الغرير الأحور

في الخد مثل عذراء المتحدر

قمر كأن بعارضيه كليهما

مسكا تساقط فوق ورد أحمر

وقوله أيضاً:

تبسم إذ تبسم عن أقاح

وأسفر حين أسفر عن صباح

وأتحفني براح من رضاب

وراح من جنى خد وراح

فمن لألاء غرته صباحي

ومن صهباء ريقته اصطباحي

وقوله أيضاً:

أساء فزادته الإساءة حظوة

حبيب على ما كان منه حبيب

يعد علي الواشيان ذنوبه

ومن أين للوجه المليح ذنوب

وقوله وهو من المطرب:

قمر دون حسنه الأقمار

وكثيب من النقا مستعار

وغزال فيه نفار وما ين

كر من شيمة الظباء النفار

لا أعاصيه في اجتراح المعاصي

في هوى مثله تطيب النار

قد حذرت الملاح دهرا ولكن

ساقني نحو حبه المقدار

كم أردت السلو فاستعطفتني

رقية من بين أصحابي

وقوله وهو من المرقص:

هبت لنا ريح شآمية

متت إلى القلب بأسباب

أدت رسالات الهوى بيننا

فهمتها من بين أصحابي

قال في اليتيمة: كان الصاحب يستطرف هذين البيتين ويستملحهما ويكثر الإعجاب بهما. انتهى.

قلت: ورأيت في كتب كثير من الأدباء المتأخرين كابن حجة والنواجي نسبة هذين البيتين إلى أبي نواس، وهو غلط، والصواب أنهما لأبي فراس، وأظن القائل بذلك تصحف عليه أبو فراس بأبي نواس، فإن صورتها في الخط قريبة والله أعلم.

وقوله رحمه الله تعالى:

قد كنت عدتي التي أسطوبها

يدي إذا اشتد الزمان وساعدي

فرميت منك بضد ما أملته

والمرء يشرق بالزلال البارد

ص: 280

وجميع شعر أبي فراس من الجيد الحسن، وهو كما قال فيه بعض العلماء: لو سمعته الوحش أنست، أو خوطب به الخرس نطقت، أو استدعي به الطير نزلت.

ومن بديع الانسجام قول أبي زهير مهلهل بن نصر بن حمدان:

وقد علمت بما لاقته منا

قبائل يعرب وابنا نزار

لقيناهم بأرماح طوال

تبشرهم بأعمار قصار

وقوله وهو مما يتغنى به:

وزعمت أني ظالم فهجرتني

ورميت في قلبي بسهم نافذ

فنعم ظلمتك فاغفري لي زلتي

هذا مقام المستجير العائذ

وقول أبي المطاع بن ناصر الدولة بن حمدان:

إني لأحسد (لا) في أسطر الصحف

إذا رأيت عناق اللام للألف

وما أظنهما طال اجتماعهما

إلا لما لقيا من شدة الشغف

وقوله أيضاً:

أفدي الذي زرته بالسيف مشتملا

ولحظ عينيه أمضى من مضاربه

فما خلعت نجادي للعناق له

حتى لبست نجادا من ذوائبه

وقوله وهو من المرقص:

قالت لطيف خيال زارها ومضى

بالله صفه ولا تنتقص ولا تزد

فقال خلفته لو مات من ظمأ

وقلت قف عن ورود الماء لم يرد

قالت صدقت الوفا في الحب عادته

يا برد ذاك الذي قالت في كبدي

وقول أبي وائل الحمداني لما أسر:

يا خليلي أسعداني فقد عي

ل اصطباري على احتمال البلية

غربة قارظية وغرام

عامري وحنة علويه

وقول أبي العاشر:

أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي

والخيل من تحت الفوارس تنحط

لقرأت منها ما تخط يد الوغى

والبيض تشكل والأسنة تنقط

وقوله أيضاً وأجاد: سطا علين امن حاز الجمال سطا=ظبي من الجنة الفردوس قد هبطا

له عذران قد خطا بوجنته

فاستوقفا فوق خديه وما انبسطا

وظل يخطو فكل قال من شغف

يا ليته في سواد الناظرين خطا

وحدث بعضهم قال: دخلت إلى أبي العاشر أعوده من علة عرضت له فقلت له: ما يجد الأمير؟ فأشار إلى غلام بين يديه كان رضوان غفل عنه فابق من الجنة، وأنشد:

أسقم هذا الغلام جسمي

بما بعينيه من سقام

فتور عينيه من دلال

أهدى فتورا إلى عظامي

وامتزجت روحه بروحي

تمازج الماء بالمدام

وهؤلاء آل حمدان رضوان الله عليهم، ما منهم إلا شجاع مدقع وفصيح مصقع، وفيهم يقول الثعالبي: كان بنو حمدان ملوكاً؛ أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة.

وقال: اخبرني جماعة من أهل الأدب؛ أن المتنبي لما عوتب في آخر أيامه على تراجع شعره قال: قد تجوزت في قولي، وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان. انتهى.

ومن الانسجام المرقص قول أبي الفرج الببغاء:

يا سادتي هذه روحي تودعكم

إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع

قد كنت أطمع في روح الحياة لها

فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع

لا عذب الله روحي بالبقاء فما

أظنني بعدكم بالعيش أنتفع

ومثله قول الوأواء الدمشقي:

بالله ربكما عوجا على سكني

عاتباه لعل العتب يعطفه

وعرضا بي قولا في كلامكما

ما بال عبدك بالهجران تتلفه

فان بدا لكما من سيدي غضبا

فغالطاه وقولا ليس نعرفه

ومثله قول أبي طالب الرقي:

ولقد ذكرتك والظلام كأنه

يوم النوى وفؤاد من لم يعشق

وكأن أجرام النجوم لوامعا

درر نثرن على زجاج أزرق

والفجر فيه كأنه قطر الندى

ينهل من سيح الغمام المغدق

وقوله أيضاً:

ومعير وجه البدر ما في وجهه

والغصن ما في قده المتأود

رمدت جفوني من تورد خده

فكحلتها من عارضيه بأثمد

ومن البديع في هذا الباب قول تميم بن أبي تميم معد بن تميم صاحب مصر:

ما بان عذري فيه حتى عذرا

ومشى الدجى في خده فتحيرا

همت تقبله عقارب صدغه

فاستل عارضه عليها خنجرا

والله لولا أن يقال تغيرا

وسلا وإن كان التسلي أجدرا

لا عدت تفاح الخدود بنفسجا

لثما وكافور الترائب عنبرا

وفاة ابنه:

نحن بنو المصطفى ذوو محن

يجرعها في الحياة كاظمنا

عجيبة في الأنام محنتنا

أولنا مبتلى وخاتمنا

ص: 281

يفرح هذا الورى بعيدهم

طرا وأعيادنا مآتمنا

وعدوا من الانسجامات المطربة قول محمد بن صالح العلوي:

وبدا له من بعد ما اندمل الهوى

برق تألق موهنا لمعانه

يبدو كحاشية الرداء ودونه

صعب الذرى متمتع أركانه

فبدا لينظر أين لاح فلم يطق

نظرا إليه وصده سبحانه

فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه

والماء ما سمحت به أجفانه

ومن الانسجامات المرقصة قول أبي الحسين علي بن محمد الحماني العلوي:

يا شادنا أفرغ من فضه

في خده تفاحة غضة

كأنما القبلة في خده

للحسن من رقته عضه

يهتز أعلاه إذا ما مشى

وكله في لينه قبضه

أرحم فتى لما تملكته

أقر بالرق فلم ترضه

وقوله أيضاً رحمه الله:

بأبي فم شهد الضمير

قبل المذاق بأنه عذب

كشهادتي لله خالصة

قبل العيان بأنه الرب

والعين لا تغني بنظرتها حتى يكون دليلها القلب

وقوله في الفخر:

لنا من هاشم هضبات مجد مطنبة بأبراج السماء

تطوف بنا الملائك كل يوم

ونكفل في حجور الأنبياء

ويهتز المقام لنا ارتياحا

ويلقانا صفاه بالصفاء

ومنه قول ابن المعتز:

سقى المطيرة ذات الظل والشجر

ودير عبدون هطال من المطر

وطالما نبهتني للصبوح بها

في غرة الفجر والعصفور لم يطر

أصوات رهبان في دير صلاتهم

سود المدارع نعارين في السحر

مزترين على الأوساط قد جعلوا

على الرؤوس أكاليلا من الشعر

كم فيهم من مليح الوجه مكتحل

بالسحر يطبق جفنيه على حور

لاحظته بالهوى حتى استطاب له

طوعا وأسلفته الميعاد بالنظر

وجاءني في قميص الليل مستترا

مستعجل الخطو من خوف ومن حذر

فقمت أفرش خدي في الطريق له

ذلا وأسحب أذيالي على الأثر

ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا

مثل القلامة قد قدت من الظفر

وكان ما كان مما لست أذكره

فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

وقوله وهو من المطرب في هذا الباب:

ومقرطق يسعى إلى الندماء

بعقيقة في درة بيضاء

والبدر في أفق السماء كدرهم

ملقى على ياقوته زرقاء

كم ليلة قد سرني بمبيته

عندي بلا خوف من الرقباء

مهفهف عقد الشراب لسانه

فحديثه بالرمز والإيماء

حركته بيدي وقلت له انتبه

يا فرحة الخلطاء والندماء

فأجابني والخمر يخفض صوته

بتلجلج كتلجلج الفأفاء

إني لأفهم ما تقول وإنما

غلبت علي سلافة الصهباء

دعني أفيق من الخمار إلى غد

واحكم بما تختار يا مولائي

وقوله وهو من المرقص:

ما أقصر الليل على الراقد

وأهون السقم على العائد

تفديك ما أبقيت من مهجتي

لست لما أوليت بالجاحد

كأنني عانقت ريحانة

تنفست في ليلها البارد

فلو ترانا في قميص الدحى

حسبتنا في جسد واحد

ومنه قول ابن الرومي:

بلد صبحت به الشبيبة والصبا

ولبست ثوب العيش وهو جديد

وإذا تمثل في الضمير رأيته

وعليه أغصان الشباب تميد

وقول السري الرفاء:

قامت وخوط البانة ال

مياس في أثوابها

ويهزها سكران سك

ر شرابها وشبابها

تسمى بصهبائين من

ألحاظها وشرابها

فكأن كأس مدامها

لما ارتدت بحبابها

توريد وجنتها إذا

ما لاح تحت نقابها

وقوله أيضاً:

ومن وراء سجوف الرقم شمس ضحى

تجول في جنح ليل مظلم داج

مقدودة خرطت أيدي الشباب لها

حقين دون مجال العقد من عاج

قال الثعالبي: عهدي بأبي بكر الخوارزمي يحن على هذا الوصف.

وقوله وهو من المطرب:

قم فانتصف من صروف الدهر والنوب

واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب

أما ترى الصبح قد قامت عساكره

في الشرق ينشر أعلاما من الذهب

والجو يختال في حجب ممسكة

كأنما البرق فيها قلب ذي رعب

تجنبتك صروف الدهر فانصرفت

وقابلتك سعود العيش عن كثب

ص: 282

فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت

بقهوة الفلج المعسول والشنب

فالعيش في ظل أيام الصبا فإذا

ودعت طيب الشباب الغض لم يطب

توج بكأسك قبل الحادثات يدا

فالكأس تاج يد المثري من الأدب

وقوله وهو من المرقص:

خذوا من العيش فالأعمار فانية

والدهر منصرف والعمر منقرض

في حامل الكأس من بدر الدجى خلف

وفي المدامة من شمس الضحى عوض

كأن نجم الثريا كف ذي كرم

مبسوطة للعطايا ليس تنقبض

دارت علينا كؤوس الراح مترعة

وللدجى عارض في الجو معترض

حتى رأيت نجوم الليل غائرة

كأنهن عيون حشوها مرض

ومنه قول الخباز البلدي

ذرى شجر للطير فيها تشاجر

كأن صنوف النور فيها جواهر

كأن القماري والبلابل فوقها

قيان وأوراق الغصون ستائر

شربنا على ذاك الترنم قهوة

كأن على حافاتها الدر دائر

ومما وقع الاتفاق على أنه من الانسجام المرقص قول الوزير المهلبي:

تصارمت الأجفان منذ ضرمتني

فما نلتقي إلا على عبرة تجري

وقوله أيضاً:

قال لي من أحب والبين قد وجد

ودمعي مواصلا لشهيقي

ما الذي في الطريق تصنع بعدي

قلت أبكي عليك طول الطريق

ومنه قول أبي إسحاق إبراهيم الصابي:

لست أشكو هواك يا من هواه

كل يوم يروعني منه خطب

مر ما مر بي من أجلك حلو

وعذابي في مثل حبك عذب

وقوله أيضاً:

أيها اللائم المضيق صدري

لا تلمني فكثرة اللوم تغري

قد أقام القوام حجة عشقي

وأبان العذار في الحب عذري

وقوله أيضاً:

إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد

حفنا عليك به ظلما وعدوانا

لأن أحسن ما نلقاه مكتسيا

وأنت أحسن ما نلقاك عريانا

ومنه قول القاضي التنوخي:

غصن تأود فوق دعص من نقا

ليل تبلج عن نهار مسفر

كالشمس إلا أنه متنفس

عن مسكة متبسم عن جوهر

وأطال من ليلي وقصر ليله

إني سهرت وأنه لم يسهر

وقول أبي نصر الخبزارزي:

خليلي هل أبصرتما أو سمعتما

بأحسن من مولى تمشى إلى عبد

أتى زائرا من غير وعد وقال لي

أصونك عن تعليق قلبك بالوعد

فما زال نجم الكأس بيني وبينه

يدور بأفلاك السعادة والسعد

فطورا على تقبيل نرجس ناظر

وطورا على تعضيض تفاحة الخد

وقوله أيضاً:

شاقني الأهل ولم تشقني الديار

والهوى صائر إلى حيث صاروا

جيرة فرقتهم غربة البين

وبين القلوب ذاك الجوار

كم أناس زعوا لنا حين غابوا

وأناس جفوا وهم حضار

عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا

ثم مالوا وأنصفوا ثم جاروا

لا تلهم على التجني فلو لم

يتجنوا لم يحسن الاعتذار

وقوله أيضاً: قالوا عشت صغيرا قلت أرتع في=روض المحاسن حتى يدرك الثمر

ربيع حسن دعاني لافتتاح هوى

لما تفتح منه النور والزهر

ومن بديعه قول أبي طاهر الواسطي قال الثعالبي (وهو أحسن وأبلغ ما سمعته في طول الليل) :

عهدي بنا ورداء الصبح يجمعنا

والليل أطوله كاللمح بالبصر

فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم

ليل الضرير فصبحي غير منتظر

وقول أبي عبد الله الحامدي

يا راحلا ترك البكاء مباحا

ما رحت أنت بل اصطباري راحا

إن أخلفتني فيك أسباب المنى

وغدوت لي سقما وكنت صلاحا

فلقد عهدتك مسعدا لي في الهوى

وعهدت وجهك في الظلام صباحا

وقول ابن نباتة السعدي:

يا من أضر بحسن الشمس والقمر

ولم يدع فيهما للناس من وطر

نفسي فداؤك من بدر على غصن

تكاد تأكله عيناي بالنظر

وقوله وهو من المطرب

سقى الله أرضاً لا أبوح بذكرها

فتعرف أشجاني بها حين تذكر

سوى أنها مسكية الترب ريحها

ترف وتندى والهواجر تزفر

نمت بها يجلو علي كؤوسها

أغر الثنايا واضح الجيد أحور

فوالله ما أدري أكانت مدامة

من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر

إذا صبها جنح الظلام وعبها

رأيت رداء الليل يطوى وينشر

ص: 283

وقوله وهو من المرقص:

خلقنا بأطراف القنا في صدورهم

عيونا لها وقع السيوف حواجب

بقوا قبلنا مرد العوارض وانثنوا

وأوجههم منها لحى وشوارب

وقوله في فرس أغر محجل أهداه إليه سيف الدولة:

قد جاءنا الطرف الذي أهديته

هاديه يعقد أرضه بسمائه

أولاية وليتنا فبعثته

رمحا سبيب العرف عقد لوائه

نختال منه على أغر محجل

ماء الدياجي قطرة من مائه

وكأنما لطم الصباح جبينه

فاقتص منه وخاض في أحشائه

متمهلا والبرق من أسمائه

متبرقعا والحسن من أكفائه

لا تعلق الألحاظ في أعطافه

إلا إذا كفكفت من غلوائه

لا يكمل الطرف المحاسن كلها

حتى يكون الطرف من إسرائه

وقال فيه أيضاً:

وأدهم يستمد الليل منه

وتطلع بين عينيه الثريا

سرى خلف الصباح يطير مشيا

ويطوي خلفه الأفلاك طيا

فلما خاف وشك الفوت منه

تشبث بالقوائم والمحيا

ومن المرقص البديع قول السلامي:

تبسطنا على الآثام لما

رأينا العفو من ثمر الذنوب

ومثله قوله:

الكأس للسكر التبري صائفة

والماء للحبب الدري نظام

بتنا نكفكف بالكاسات أدمعنا

كأننا في حجور الروض أيتام

وقوله:

نفرغ أكياسنا في الكؤوس

نبيع العقار ونشري العقارا

حمدنا الهوى ونسينا الفراق

ومن يشرب الخمر ينس الخمارا

وقوله من قصيدة يمدح بها عضد الدولة:

إليك طوى عرض البسيطة جاعل

قصارى المطايا أن يلوح لها القصر

فكنت وعزمي في الظلام وصارمي

ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر

وبشرت آمالي بملك هو الورى

ودار وهي الدنيا ويوم هو الدهر

قال القاضي ابن خلكان في تاريخه بعد إنشاد هذه الأبيات: وعلى الحقيقة هذا الشعر هو السحر الحلال كما يقال.

وقد أخذ هذا المعنى القاضي أبو بكر الأرجاني فقال:

يا سائلي عنه لما جئت أمدحه

هذا هو الرجل العاري من العار

كم من شنوف لطاف من محاسنه

علقن منه على آذان سمار

لقيته فرأيت الناس في رجل

والدهر في ساعة والأرض في دار

ولكن أين الثريا من الثرى، وهذا المعنى موجود في الشطر الأخير من بيت المتنبي وهو:

هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى

ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

لكنه ما استوفاه، فإنه ما تعرض إلى ذكر اليوم الذي جعله السلامي هو الدهر، ومع هذا فليس عليه طلاوة ببيت السلامي. انتهى.

ومن المطرب أيضاً قوله:

عدل الحبيب فمن يجور

ودنا فأين بنا تسير

عوضت من عيس تدور

بنا الفلا كأسا تدور

وشربت ما وسع الصغير

وزدت ما حمل الكبير

نبهت ندماني وقد

عبرت بنا الشعرى العبور

والبدر في أفق السما

ء كروضة فيها غدير

هبوا فقد عيي الرقيب

فنام وانتبه السرور

وأشار إبليس فقل

نا كلنا نعم المشير

صرعى بمعركة تعف

الوحش عنها والنسور

نوار روضتنا خدو

د والغصون بها خصور

والعيش آنس ما يكون

إذا تهتكت الستور

هبوا إلى شرب المدا

م فإنما الدنيا غرور

طاف السقاة بها كما

أهدت لك الصيد الصقور

عذراء يكتمها المزا

ج كأنها فيه ضمير

وتظن تحت حبابها

خدا تقبله ثغور

حتى سجدنا والإمام

أما منا بم وزير

ومن الانسجام المطرب قول ابن سكرة الهاشمي في غلام بيده غصن منور:

غصن بان أتى وفي اليد منه

غصن فيه لؤلؤ منظوم

فتحيرت بين غصنين في ذا

قمر طالع وفي ذا نجوم

وقوله أيضاً:

الليالي تسوء ثم تسر

وصروف الزمان ما تستقر

غير أني عن الحوادث راض

بعد سخط والعيش حلو ومر

كنت صبا بواحد ثم ثني

ت فلي بالجميع وصل وهجر

من كمثلي وعن يميني شمس

تتجلى وعن يساري بدر

ذا على خده من الحسن سطر

وعلى طرف ذا من الغنج سحر

بت يجري علي من ريق هذين

وكأسي شهد ومسك وخمر

وقال:

ص: 284

أنا والله سيدي

آيس من سلامتي

أو أرى القامة التي

قد أقامت قيامتي

ومنه قول أبي الحسن علي بن هارون المنجم وهو مما يتغنى به:

بيني وبين الدهر فيك عتاب

سيطول إن لم يغنه الإعتاب

يا غائبا بوصاله وكتابه

هل يرتجى من غيبتك إياب

لولا التعلل بالرجاء تقطعت

نفس عليك شعارها الأوصاب

لا يأس من فرج الإله فربما

يصل القطوع ويقدم الغياب

وقوله:

سقى الله أياما لنا ولياليا

مضين فلا يرجى لهن رجوع

إذ العيش صاف والأحبة جيرة

جميعاً وإذ كل الزمان ربيع

وإذ أنا أما للعواذل في الصبا

فعاص وأما للهوى فمطيع

قال الصاحب رحمه الله تعالى: هذا الشعر إن شئت كان أعرابياً في شملته، وإن أردت كان عراقيا في حلته.

وقوله من قصيدة صاحبية:

ولما تنسمنا صبا صاحبيه

تعيد عجاج الجو وهو عبير

تركنا الظي الرمضاء وهي حديقة

ندى وحصى المزاء وهي شذور

ونلنا هشيم النبت وهو منور

وجزنا قتاد الأيك وهو حرير

وزير ومما يعجب الناس أنه

وزير عليه للسماح أمير

ويخطب من فوق الثريا بفخره

فلا تعجبوا أن الخطيب خطيرا

وقوله من أخرى فيه وهي من قلائده:

هذا فؤادك نهبا بين أهواء

وذاك رأيك شورى بين آراء

هواك بين العيون النجل مقتسم

داء لعمرك ما أدواه من داء

لا تستقر بأرض أو تسير إلى

أخرى بشخص غريب عزمه نائي

يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال

عذيب يوما ويوما بالخليصاء

وتارة تنتحي نجدا وآونه

شعب العقيق وطورا قصر تيماء

قال أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي: عهدي بأبي محمد الخازن ماثلاً بين يدي الصاحب ينشده هذه القصيدة، فرأيت الصاحب مقبلا عليه بمجامعه، حسن الإصغاء إليه، مستعيدا لأكثر أبياته، مظهرا من الإعجاب به والاهتزاز لهل ما تعجب الحاضرون منه.

فلما بلغ قوله:

أدعى بأسماء نبزا في قبائلها

كأن أسماء أضحت بعض أسمائي

أطلعت شعري وألقت شعرها طربا

فألفا بين إصباح وإمساء

زحف عن دسته طربا. فلما بلغ قوله بالمدح:

لو أن سبحان باراه لا سحبه

على خطابته أذيال فأفاء

أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها

إليه مستبقات أي إلقاء

فساس سبعتها منه بأربعة

أمر ونهي وتثبيت وإمضاء

كذاك ألوى الهدى منه بأربعة

كفر وجبر وتشبيه وإرجاء

جعل يحرك رأسه مستحسنا. فلما قال:

نعم تجنب (لا) يوم العطاء كما

تجنب ابن عطاء لثغة الراء

استعاده وصفق بيديه. فلما ختمها بهذه الأبيات:

أطري وأطرب بالأشعار أنشدها

أحسن ببهجة إطرابي وإطرائي

ومن منائح مولانا مدائحه

لان من زنده قدحي وإيرائي

فخذ إليك ابن عباد محبرة

لا البحتري يدانيها ولا الطائي

قال: أحسنت أحسنت والله أنت. وتناول النسخة، وتشاغل بإعارتها نظره، ثم أمر له بخلعة وحملان وصلة.

ومن البديع المطرب قول أبي عثمان سعيد بن هاشم الخالدي:

أدن من الدن يا فداك أبي

وأشرب وسق الكبير وانتخب

أما ترى الطل كيف يلمع في

عيون نور يدعو إلى الطرب

في كل عين للطل لؤلؤة

كدمعة في جفون منتحب

والصبح قد جردت صوارمه

والليل قد هم منه بالهرب

والجو في حلة ممسكة

قد كتبتها البروق بالذهب

فهاتها كالعروس محمرة ال

خدين في معجز من الحبب

كادت تكون الهواء في أرج ال

عنبر لو لم تكن من العنب

في كف را عند الصدود وقد

غضبت من حبه على الغضب

فلو ترى الكأس حين يمزجها

رأيت شيئاً من أعجب العجب

نار حواها الزجاج يلهبها ال

ياء ودر يدور في لهب

وقول أبي العلاء السروي في غلام سكران، وهو مما يتغنى به:

بالورد في وجنتيك من لطمك

ومن سقاك المدام لم ظلمك

خلاك لا تستفيق من سكر

توسع شتما وجفوة خدمك

مشوش الصدغ قد ثملت فما

تمنع من لثم عاشقيك فمك

ص: 285

بالله يا أقحوان مبسمه

على قضيب العقيق من نظمك

وقول القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي:

قل للمليحة في الخمار المذهب

أفسدت دين أخي التقي المترهب

نور الخمار ونور خدك تحته

عجبا لوجهك كيف لم يلتهب

وجمعت بين المذهبين فلم يكن

للحسن عن ذهبيهما من مذهب

وإذا أتت عين لتسرق نظرة

قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي

وما ألطف قوله: اذهبي لا تذهبي وعلى ذكر هذه الأبيات، يحكى أن بعض التجار قدم مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه حمل من الخمر السود، فلم يجد لها طالبا، فكسدت عليه، وضاق صدره، فقيل له: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين في الظرف والخلاعة. فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد، فأتاه وقص عليه القصة، فقال: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحالة، فقال له التاجر: أنا غريب وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل، وتضرع إليه فخرج من المسجد وأعاد لباسه الأول.

وعمل هذين البيتين وشهرهما، وهما:

قل للمليحة في الخمار الأسود

ماذا أردت بناسك متعبد

قد كان شمر للصلاة إزاره

حتى وقفت له بباب المسجد

فشاع بين الناس أن مسكين الدرامي رجع إلى ما كان عليه، وأحب واحدة ذات خمار أسود، فلم يبق في المدينة ظريفة إلا وطلب خمارا أسود، فباع التاجر الحمل الذي كان معه لكثرة رغبتهم، فلما فرغ منه عاد مسكين إلى تعبده وانقطاعه، والله أعلم.

وهذا حين أتلو عليك من انسجامات مهيار بن مرزويه الديلمي ما هو أرق من النسيم، وأشرف من المحيا الوسيم. وما أصدق قول أبي الحسن الباخرزي في حقه: هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر، وكاتب تجلى تحت كل كلمة من كلماته كاعب، وما في قصيدة من قصائده بيت يتحكم عليه لو، وليت، فهي مصبوبة في قوالب القلوب، وبمثلها يعتذر الزمان المذنب عن الذنوب.

فمن ذلك قوله من قصيدة:

يا نسيم الريح من كاظمة

شد ما هجت البكا والبرجا

من عذيري يوم شرقي الحمى

من هوى جد بقلب مزرحا

الصبا إن كان لابد الصبا

أنها كانت لقلبي أروحا

يا نداماي بسلع أهل أرى

ذلك المغبق والمصطحبا

اذكرونا مثل ذكرانا لكم

رب ذكرى قربت من نزحا

وارحموا صبا إذا غنى بكم

شرب الدمع وعاف القدحا

وقوله من أخرى:

ولائم ملتفت عن صبوتي

ينكرها ولو أحب لصب

إذا نسيت بهواي ساءه

مصرحا وإن كنيت غضبا

وما عليه أن غرمت بابلا

بحاجر وفاطما بزينبا

يلومني لا مات إلا لائما

أو عاش عاش بالهوى معذبا

قال عشقت أيبا يعدها

منقصة نعم عشقت اشيبا

هل شعر بدلته بشعر

مبدل بأرب لي أربا

أبى الوفاء والهوى وبالغ

معذرة من سيم عذرا فأبى

وقوله في صدر أخرى:

أتراها يوم صدت أن أرها

علمت أني من قتلى هواها

أم رمت جاهلة ألحاظها

لم تميز عمدها لي من خطاها

لا ومن أرسلها مفتنة

تجرح النسك بجمع وقضاها

ما رمى نفسي إلا واثق

أنه يقضي عليها من رماها

سنحت بين المصلى ومنى

مسنح الظبية تستقري طلاها

فجزاها الله عن فتكها

في حريم الله سواءا ما جزها

قال واشيها وقد راودتها

رشفة تبرد قلبي من لماها

لا تسمها فما أن الذي

حرم الخمرة قد حرم فاها

أعطيت من كل حسن ما اشتهت

فرآها كل طرف فاشتهاها

حماها خفر في وجهها

ووقار قبل أن تسمي أباها

غدت الشمس إذا ما أسفرت

أختها والغصن إن مست أخاها

ولو أن النجم يرتاح لها

لحظة في غير ما جمع ما اجتلاها

آه مما أسارت في كبدي

من جوى تلك الليالي البيض آها

وقال من أخرى

من بمنى وأين جيران منى

كانت ثلاثا لا تكون أربعا

راحوا فمن ضامن دين ما وفي

وحالف بالبيت ما تورعا

وفي الحدوج غاربون أقسموا

لا تركوا شمسا تضيء مطلعا

سعى بي الواشي إلى أميرهم

لا طاف إلا خائفا ولا سعى

ص: 286

لا بأبي ظبية لولا طيفها

ما أستأذنتها مقلتي أن تهجعا

ولا رجوت بسؤالي عندها

جدوى سوى أن أشتكي وتسمعا

يا صاحبي سر الهوى إذاعة

طغت خروق سرنا أن ترقعا

إشرافة على منى إشرافة

واجتهداها دعوة أن تسمعا

يا طلقاء الغدر هل من عطفة

على أسير بالوفاء جمعا

سلبتموني كبدا صحيحة

أمس فردوها علي قطعا

عدمت صبري فجزعت بعدكم

ثم ذهلت فعدمت الجزعا

وأنت يا ذات الهوى من بينهم

عهدك يوم وجرة ما صنعا

لما ملكت بالخداع جسدي

نقلت قلبي وسكنت الأضلعا

وارتجعا لي ليلة بحاجر

إن تم في الفائت أن يرتجعا

وغفلة سرقتها من زمني

بلعلع سقى الغمام لعلعا

وقال في صدر أخرى:

أنذرتني أخت سعد أن سعدا

دونها ينهد لي بالشر نهدا

ما على قومك أن صار لهم

أحد الأحرار من أجلك عبدا

أجتلي البدر فلا أنساك وجهها

وأرى الغصن فلا أسلاك قدا

وإذا هبت صبا أرضكم

جملت تراب الغضابان ورندا

لام في نجد وما استنصحته

بابلي لا أراه الله نجدا

لو تصدى رشأ السفح له

لم يلم فيه ولو جار وصدا

يصل الحول على العهد وما

أنكر التذكار من قلبي عهدا

أفيروى عندكم ذو غلة

عدم الظلم فما يشرب بردا

رد لي يوما على وادي منى

أن قضى الله لأمر أن يردا

وقال في صدر أخرى:

بطرفك والمسحور يقسم بالسحر

أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري

تعرض لي في القانصين مسدد

الإشارة مدلول السهام على النحر

رمى اللحظة الأولى فقلب مجرب

فكررها أخرى فأحسست بالشر

فهل ظن ما قد حرم الله من دمي

مباحاً له أم نام قومي عن الوتر

بنجد ونجد دار جود وذمة

مطال بلا عس ومطل بلا عذر

وسمراء ود البدر لو حال لونه

إلى لونها في صبغة الأوجه السمر

خليلي هل من وقفة والتفاتة

إلى القبة السوداء من جانب الحجر

وهل من أرانا الحج بالخيف عائد

إلى مثلها أم عدها حجة العمر

ولله ما أوفى الثلاث على منى

لأهل الهوى لو لم تحن ليلة النفر

لقد كنت لا أوتى من الصبر قلة

فهل تعلمان اليوم أين مضى صبري

وكنت ألوم العاشقين ولا أرى

مزية ما بين الوصال إلى الهجر

فأعدي إلي الحب صحبة أهله

ولم يدر قلبي أن داء الهواء يسري

أيشرد لبي يا غزالة حاجر

وأنت بذات البان مجموعة الأمر

وخذي الحظ عيني في الغصون إضافة

إلى القلب أو ردي فؤادي إلى صدري

وقال من أخرى:

ولما وقفنا بالديار تشابهت

جسوم براهن البلى وطلول

فبال بداء بين جنبيه عارف

وبال بما جر الفراق جهول

ونسأل عن ظمياء صماء لا تعي

فترضى بما قالت وليس تقول

هل أنت يا ظمياء إلا يراعة

تميل مع الأرواح حيث تميل

فإن كان سؤلا للنفوس بلاؤها

فإنك للبلوى وإنك سول

تهجر واش فيك عندي فسائني

فقلت عدو أنت قال عذول

وسفهني في أن تعلقت مانعا

فقلت وأي الغانيات منيل

إذا لم تكن حسناء إلا بخيلة

فلا عجب في أن يحب بخيل

وقال في صدر أخرى وهي من مشهور شعره:

بكر العارض تحدوه النعام

فسقاك الري يا دار أمام

وتمشت فيك أرواح الصبا

يتأرجن بأنفاس الخزامى

أجتدي المزن وماذا أر بي

أن تجود المزن أطلالا رماما

وقليلا قبلا أن أدعو لها

ما رآني الله أستجدي الغماما

أين سكانك لا أين هم

أحجازا أوطنوها أما شآما

صدعوا بعد التئام فغدت

بهم أيدي المرامي تتراما

يا لواة الدين عن ميسرة

الضنينات وما كن لئاما

قد وقفنا بعدكم في ربعكم

فقضيناه استلاما والتثاما

بجرعاء الحمى قلبي فعج

بالحمى وأقرأ على قلبي السلام

وترجل فتحدث عجبا

إن قلبا سار عن جسم أقاما

قل لجيران الغضا آه على

طيب عيش بالغضا لو كان داما

ص: 287

نصل العام وما أنساكم

وقصارى الوجد أن أسلخ عاما

حملوا ريح الصبا نشركم

قبل أن تحمل شيحا وثماما

وابعثوا أشباحكم لي في الكرى

إن أذنتم لجفوني أن تناما

وقف الظامي على أبوابكم

أفيقضي وهو لم يشف أواما

ما يبالي من سقيتن اللمى

منعكن الماء عنه والمداما

أشتكيكم وإلى من أشتكي

شمل الداء فمن يبري السقاما

وقال في صدر أخرى:

ليتها إذ منعت ماعونها

لم تكن ناهرة مسكينها

دمية ما اجتمع والشمس في

موطن إلا رأتها دونها

ما عليها إذ أطاعت حسنها

يوم جمع لو أطاعت دينها

نسكت بين المصلى ومنى

حجة لم تتبع مسنونها

تصف الظبية إلا عطفها

لك والبانة إلا لينها

فأسالت أنفسا معجلة

لم تشارف من كتاب حينها

أنبلتها وهي لا سهم لها

إنما ألحاظها يكفينها

سألت ظمياء من ذا فتنت

أي قلب لم يكن فمتونها

يا ابنة المثنى عليهم بالندى

وعهود حرموا تخوينها

ما لهم جادوا وأبخلت وما

للمواثيق التي تلوينها

رمست عند عادات لهم

كان حق المجد لو تحيينها

أزف النفر وفي أسرى الهوى

كبد عند لا تفدينها

ذهبت هائمة فأطلعت

عذرة تحسبها مجنونها

قضي الحج تماما ولنا

حاجة بعد نهل تقضينها

ما بك الصد ولكن وفرة

لونتها نوب تلوينها

كالقطا مرَّ عليها قانص

أخذ الكر وبقى جونها

وإنما آثرت إيراد هذا المقدار من رقائق مهيار لغرابة أسلوبه في طريقته وتفرده في مجازه وحقيقته، وعزة وجود ديوانه في هذا الزمن الذي وقف فيه الأدب على ثنية الوداع، وهم قبلي مزنه بالإقلاع والله المستعان.

ومن الغايات في باب الانسجام قول أبي عبد الله محمد بن نصر المعروف بابن القيسراني

بالسفح من نعمان لي

قمر منازله القلوب

حملت تحيته الشمال

فردها عني الجنوب

فرد الصفات غريبها

والحسن في الدنيا غريب

لم أنس ليلة قال لي

لما رأى جسدي يذوب

بالله قل لي من أعللك يا

فتى قلت الطبيب

وقول أبي بكر محمد بن الصائغ الأندلسي:

أسكان نعمان الأرك تيقنوا

بأنكم في ربع قلبي سكان

ودوموا على حفظ الوداد فطالما

بلينا بأقوام إذا ائتمنوا خانوا

سلو الليل عني مذ تناءت دياركم

هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان

وقول أبي إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:

ألا ساجل دموعي يا غمام

وطارحني يشجوك يا حمام

فقد وفيتها ستين حولا

ونادتني ورائي هل أمام

وكنت من الباناتي لبينى

هناك ومن مراضعي المدام

يطالعنا الصباح ببطن حزوى

فيعرفنا وينكرنا الظلام

وكان به البشام مراح أنس

فيالله ما فعل البشام

فيا شرخ الشباب ألا لقاء

يبل به على برح أوام

ويا ظل الشباب وكنت تندى

على أوفياء دوحتك السلام

وقول أبي عبد الله محمد بن بختيار المعروف بالأبله البغدادي:

زار من أحيا بزورته

والدجى في لون طرته

قمر يثني معاطفه

بانة في طي بردته

بت أستجلي المدام على

غرة الواشي وغرته

يا لها من ليلة قصرت

وأماتت طول جفوته

يا له من الحسن من صنم

كلنا في جاهليته

وقول موفق الدين محمد بن يوسف الأربلي:

رب دار بالفضا طال بلاها

عكف الركب عليها فبكاها

درست إلا بقايا أسطر

سمح الدهر بها ثم محاها

كان لي فيها زمان وانقضى

فسقى الله زماني وسقاها

وقفت فيها الغوادي وقفة

ألصقت حر ثراها بحشاها

وبكت أطلالها نائبة

عن جفوني أحسن الله جزاها

قل الجيران مواثيقهم

كلما أحكمتها رثت قواها

كنت مشغوفا بكم إذ كنتم شجرا لا يبلغ الطير ذراها

لا تبيت الليل إلا حولها

حرس ترشح بالموت ظباها

وإذا مدت إلى أغصانها

كف جان قطعت دون جناها

ص: 288

فتراخى الأمر حتى أصبحت

هملا يطمع فيها من يراها

تخصب الأرض فلا أقربه

رائدا إلا إذا عز حماها

لا يراني الله أرعى روضة

سهلة الأكناف من شاء رعاها

وإذا طمع أعرى بكم

عرض اليأس لنفسي فثناها

فصبابات الهوى أولها

طمع النفس وهذا منتهاها

لا تظنوا لي إليكم رجعة

كشف التجريب عن عيني عماها

وقول أبي الفتح محمد بن عبد الله المعروف بسبط بن التعاويدي:

قل للسحاب إذا مرت

هـ يد الجنائب فارجحن

عج باللوى فاسمح بدم

عك في المعاهد والدمن

يا منزل الأنس الجميع

وملعب الحي الأغن

سكنت بك الآرام من

بعد الأحبة السكن

أين استقلت بالحبيب

ركابه ومتى ظعن

شوقي إلى زمن الحمى

سقي الغوادي من زمن

شوق المغرب شردت

هـ يد البعاد عن الوطن

ولقد عهدتك والزمان

لشملنا بك ما فطن

وثراك ما اغبرت مسار

حه وماؤك ما أجن

وظباؤك الأتراب لي

وطر وتربك لي وطن

لام العذول وما درى

وجدي وبلبالي بمن

وجدي بمن فضح القضي

ب وأخجل الرشأ الأغن

ما ضر من هو فتنتي

لو كان يرحم من فتن

دمعي طليق في

محبته وقلبي مرتهن

يا منيتي أودى الصدو

د بعاشق بك ممتحن

غادرته وقفا على ال

عبرات بعدك والحزن

كلف الفؤاد معذبا

بين الإقامة والظعن

عطفا على قرح الجفو

ن بعيد عهد السوسن

لا تبخلي فالبخل يذ

هب بهجة الوجه الحسن

ولرب ليل بت في

هـ صريع باطية ودن

أختال من مرح وأسحب فضل ذيلي والردن

مع معطف لدن القوا

م إذا انثنى رخص البدن

وقوله في صدر أخرى:

سقاك سار من الوسمي هتان

ولا رقت للغوادي فيك أجفان

يا دار الهوى وأطرابي وملعب أت

رابي وللهو الأطراب أوطان

هل عائد لي ماض من جديد الهوى

أبليته وشباب فيك فينان

إذ الرقيب لنا عين مساعدة

والكاشحون لنا في الحب أعوان

وإذ جميلة توليني الجميل وعن

د الغانيات وراء الحسن إحسان

ولي إلى الرمل من نحو الحمى طرب

واليوم لا الرمل يصبيني ولا البان

وما عسى يدرك المشتاق من وطر

إذا بكى والأحباب قد بانوا

كانوا معاني المغاني والمنازل أم

وات إذا لم يكن فيهن سكان

لله كم قمرت لبي بجوك أق

مار وكم غازلتني فيك غزلان

خال من الهم في خلخاله حرج

فقلبه فارغ والقلب ملآن

يذكي الجوى بارد من ثغره شبم

ويوقظ الوجد طرف منه وسنان

أن يمس ريان من ماء الشباب فلي

قلب إلى ريقه المعسول ظمآن

بين السيوف وعينيه مشاركة

من أجلها قيل للأغماد أجفان

وقول أبي الغنائم محمد بن علي المعروف بابن المعلم الواسطي:

هو الحمى ومعانيه ومغانيه

فاحبس وعان بليلى ما تعانيه

لا تسأل الركب والحادي فما سأل العشاق قبلك من ركب وحاديه

ما في الصحاب أخو وجد تطارحه

حديث نجد ولا صب تجاريه

إليك عن كل قلب في أماكنه

ساه وعن كل دمع في أماقيه

وقوله أيضاً من أخرى:

ردوا علي شوارد الأظعان

ما الدار إن لم تغن من أوطاني

ولكن بذاك الجزع من متمنع

هزأت معاطفه بغصن البان

ألوى تلونه بأول موعد

فمن الكفيل لنا بوعد ثاني

ومتى اللقاء ودونه من قومه

أبناء معركة وأسد طعان

نقلوا الرماح وما أظن أكفهم

خلقت لغير ذوابل المران

وتقلدوا بيض السيوف فما ترى

في الحي غير مهند وسنان

ولئن صددت فمن مراقبة العدى

ما الصد عن ملم ولا سلوان

يا ساكني نعمان أين زماننا

بطويلع يا ساكني نعمان

وقول أبي الحسن علي بن محمد بن بسام المعروف بالبسامي الشاعر:

لله أيام الشباب ولهوه

لو أن أيام الشباب تباع

فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى

ما فيك بعد مشيبك استمتاع

ص: 289

وقول أبي منصور علي بن الحسن المعروف بصردر من قصيدة:

نسائل عن ثمامات بحزوى

وبان الرمل يعلم ما عنينا

فقد كشف الغطاء فما نبالي

أصرحنا بذكرك أم كنينا

ولو أني أنادي يا سليمى

لقالوا ما عنيت سوى لبينى

وقول الأمير ناصر الدين محمد وهو من المرقص:

قلب المتيم كاد أن يتفتتا

فإلى متى هذا الصدود إلى متى

يا معرضين عن المشوق تلفتوا

فعوائد الغزلان أن تتلفتا

كنا وكنتم والزمان مساعد

لله ذاك الشمل كيف تشتتا

صد وبعد واشتياق دائم

ما كل هذا الحال يحمله الفتى

وعدوا من الانسجام المرقص أيضاً قول ابن الدباغ:

يا رب أن قدرته لمقبل

غيري فللمسواك أو للأكؤس

ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث

يا رب فلتك شمعة في المجلس

وإذا حكمت لنا بعين مراقب

يا رب فلتك من عيون النرجس

وذيل عليها الشيخ عبد الرحمن الخياري من أهل العصر فقال:

ولئن قضيت لجسمه بملامس

يا رب فليك من سني الأطلس

وذيل عليه آخر فقال:

ولئن قضيت لنا بصوت مطرب

فمن الحمائم في الليالي الحندس

وذيلت عليه أنا فقلت:

ولئن قضيت لنا بشرب مدامة

يا رب فلتك من لماه الألعس

وقول أبي عبد الله أحمد بن محمد المعروف بابن الخياط الدمشقي:

يا نسيم الصبا الولوع بوجدي

حبذا أنت إن مررت بنجد

أجر ذكري نعمت وأنعمت غرامي

بالحمى ولتكن يدا لك عندي

ولقد رابني شذاك فبالله متى عهد بأطلال هند

إن يكن عرفها امتطاك إلينا

فلقد زرتنا بأسعد سعد

يا خليلي خلياني وهمي

أنا أولاكما بغيي ورشدي

لو أمنت الملام والذم ما اخ

ترت وقوفي على المنازل وحدي

ولقد أصحب المراح إلى اللذ

ات ملقى الوشاح أسحب بردي

بين دعج من الظباء ونعج

ولدان من الحسان ملد

في زمان من الشبيبة مصقو

ل وعيش من البطالة رغد

وقوله في صدر أخرى وهي من مشهور شعره:

خذا من صبا نجد أمانا لقلبه

فقد كاد رياها يطير بلبه

وإياكما ذاك النسيم فإنه

متى هب كان الوجد أيسر خطبه

خليلي لو أحببتما لعلمتما

محل الهوى من مغرم القلب صبه

تذكر والذكرى تشوق ذو الهوى

يتوق ومن يعلق به الحب يصبه

غرام على يأس الهوى ورجائه

وشوق على بعد المزار وقربه

وفي الركب مطوي الضلوع على جوى

متى يدعه داعي الغرام يلبه

إذا خطرت من جانب الرمل نفحة

تضمن منها داءه دون صحبه

ومحتجب بين الأسنة معرض

وفي القلب من أعراضه مثل حجبه

أغار إذا آنست في الحي أنه

حذارا وخوفا أن تكون لحبه

وقد طويت كشحا عن إيراد ما لكثير من المتأخرين، كالبلهاء زهير، والحاجري وابن الفارض، وابن النبيه، والتلعفري وابن نباته، والصفي الجلي، والتلمساني وابن الجهني وأمثالهم، وما ذلك إلا لاشتهار دواوينهم، وتداول أشعارهم.

فلنذكر طرفا مما وقع لأهل العصر في هذا الباب، ونمتع بلذتها الأسماع والألباب، فإن لكل جديد لذة، خصوصاً إذا كان من النوادر الفذة.

فمن ذلك قول الشيخ العلامة بهاء الدين محمد بن حسين العاملي:

خلياني بلوعتي وغرامي

يا خليلي واذهبا بسلام

قد دعاني الهوى فلباه لبي

فدعاني ولا تطيلا ملامي

خامرت خمرة المحبة عقلي

وجرت في مفاصلي وعظامي

أيها السائر الملح إذا ما

جئت نجدا فعج بوادي الخزام

وتجاوز عن ذي المجاز وعرج

عادلا عن يمين ذاك المقام

وإذا ما بلغت حزوى فبلغ

جيرة الحي يا أخي سلامي

وأنشدن قلبي المعنى لديهم

فلقد ضاع بين تلك الخيام

وإذا ما رثوا لحالي فسلهم

أن يمنوا ولو بطيف منام

يا نزولا بذي الأرك إلى كم

تنقضي في فراقكم أعوامي

ما سرت نسمة ولا ناح في الدو

ح حمام إلا وحان حمامي

أين أيامنا بشرقي نجد

يا رعاها الإله من أيام

حيث غصن الشباب غض وروض العيش قد طرزته أيدي الغمام

ص: 290

وزماني مساعد وأيادي ال

لهو نحو المنى تجر زمامي

ومن المرقص قول الأديب حسين جلبي بن الجزري الشامي:

اغمدا شبا مرهفك الباتر

بالسيف لا حاجة للساحر

لحظك أمضى منه فينا شب

ما أقتل الفاتك بالفاتر

يا قمرا أشرق من فرعه

الزاهي على غصن نقا زاهر

أهديت لي السهد وفرط البكا

أمرك محمول على الناظر

ويا غزالا آنسا نافرا

ما عهدنا بالآنس النافر

لا تقس قلبا وتلن جانبا

فهذه من شيم الغادر

ولا تطع واشيك في عذله

فالعذل لا يؤخذ من جائر

كم ليلة سامرت فيه السها

شوقا إلى لقياك يا هاجري

لا سامح الله ليالي الهوى

فإنها أظلم من كافر

أهيم أن هبت نسيم الصبا

وليل من هام بلا آخر

تقصر للراقد في هجعة

وطالما طالت على الساهر

وقول أبي الطيب بدر الدين رضي الدين الغزي العامري الشامي:

هات اسقني حلب العصير ولا سوى

زهر النجوم تجاه زهر المجلس

أنظر إليه كأنه متبرم

مما تغازله عيون النرجس

وكأن صفحة خده ياقوته

وكأن عارضه خميلة سندس

وقول الخفاجي:

أتظن الورق في الأيك تغني

إنما تضمر حزنا مثل حزني

لا أراك الله نجدا بعدها

أيها الحادي بها إن لم تجبني

هل تباريني إلى بث الجوى

في دياري الحي نشوى ذات غصن

هب لها السيبق ولكن زادنا

أننا نبكي عليها وتغني

يا أهيل الخيف هل من عودة

يسمح الدهر بها من بعد ضن

أرضينا بثنيات اللوى

عن زرود يا لها صفقة غبن

سل أراك الجزع هل مرت به

مزنة روت ثراه غير جفني

وأحاديث الغضا هل علمت

أنها تملك قلبي قبل أذني

وقول الشيخ الأديب الأريب عبد العلي بن ناصر بن رحمة الحويزي:

لمن العيس عشيا تترامى

تركتها شقق البين سهاما

كلما برقعها نشر الصبا

لبست من أحمر الدمع لثاما

وترامت خضعا أعناقها

كلما هز لها البرق حساما

شفها جذب براها للحمى

وهي تثني لربا نجد زماما

وتلقيها حديثا حاملا

عن ثرى وجرة أنفاس الخزامى

ما على من حملت لو وقفوا

ساعة نشرح وجدا وغراما

ومن الجهل ارتجائي يقظة

أربا لا أترجاه مناما

يا بني عذرة هل من آخذ

بدمي المسفوك من حل الخياما

قمرا لو لم ير البدر دجى

ما حوى البدر كمالا وتماما

غادرا لم يرع مني نسبا

دون أن يحفظ عهدا وذماما

نسبا أيسره أن الحشا

مثل خديه لهيبا واضطراما

ولجسمي من بقايا حبه

شبه الطرف فتورا وسقاما

يا نديمي دعا خمريكما

أن أراق الحب من فيه مداما

وانثني يا قضيب البان إذا

رنحت سكرى اللمى ذاك القواما

وانس يا روض أقاحيك بها فلقد لاح لنا الثغر ابتساما

أيها الظاعن عن عيني وفي

مهجتي بوء ربعا ومقاما

عاقب الله بأدهى صصم

أذني إن سمعت فيك ملاما

وقوله أيضاً في صدر أخرى:

لمع البرق في أكف السقاة

وبدا الصبح من سنى الكاسات

فالبدار البدار حي على الرا

ح وهبوا لأكمل اللذات

نار موسى بدت فأين كليم الذات يمحو بها حجاب الصفات

صاح ديك الصباح يا صاح بالراح فوات الأفراح قبل الفوات

واصطحباه اصطباح من راح لا يف

رق بين الشموس والذرات

تلق فيها العقول منتقشات

كانتقاش الأشخاص في المرآة

فهي الشربة التي عثر الخض

ر عليها في عين ماء الحياة

وتقصى الإسكندر البحث عنها

فعداها وتاه في الظلمات

سكنت حظائر القدس حانا

جل عن أن يقاس بالحانات

نور حق بنفسه قام ما أحتا

ج إلى كوة ولا مشكاة

قبس أشعلته أيدي التجلي

فأضاءت به جميع الجهات

حجبت بالزجاج وهي عيان

كاحتجاب البدور بالهلات

يا نديمي اجل لي عرائس سر

بغواشي الكؤوس محتجبات

هات راحي وناد خذها فإني

لست أنسى يوم اللقا خذ وهات

ص: 291

فلقد هد ركن نحسي لما

سعدت بالحبيب كل جهاتي

يا سقاتي لا تصرفوا الصرف عني

فحياتي في رشفها يا سقاتي

هي شهد الشهود بل راحة الأر

واح بل حسن طلعة الحسنات

غير بدع ممن حساها إذا ارتا

ح وقال الوجود بعض هباتي

قام زين العباد من شربها قط

با عليه دارت رحى البينات

وخطت بالجنيد لجة بدر

غرقت فيه أكثر الكائنات

ورزت بالحسين حتى ترقى

فأن المحق أرفع الدرجات

اسمعتنا من شيخ بسطام ما أع

ظم شاني بالنفي والإثبات

وقصارى خلع العذار بهل ني

ل مقام يقاوم المعجزات

ومن الانسجام المرقص قول شيخي العلامة المحقق، محمد بن علي بن محمود الشامي العاملي قدس الله روحه، وجعل من الرضوان غبوقه وصبوحه، وهو أستاذي الذي أخذت عنه في بدء حالي، وأنضيت إلى موائد فوائده يعملات رحالي، واشتغلت عليه فاشتغل بي، وكان دأبه تهذيب أدبي ووهبني من فضله مالا يضيع، وحنا علي حنو الظئر على الرضيع، حتى شحذ من طبعي مرهفا، وبرى من نبعي مثقفا، وكان قطب الفضل الذي عليه مداره، وإليه إيراده وإصداره. وأما الأدب فهو مناره السامي، وملتزم كعبته وركنه الشامي، ينشر منه ما هو أذكى من النشر في أثناء النواسم، بل أحلى من الظلم يترقرق في ثنايا المباسم، ونظمه أبهى من نظيم الدر الباهر، وألذ من الغمض في مقلة الساهر. إن ذكرت الرقة فهو سوق رقيقها، أو الجزالة فهو سفح عقيقها، أو الانسجام فهو غيثه الصيب، أو السهولة فهو نهجها الذي تنكبه أبو الطيب.

وقوله المشار إليه وهو:

أنت يا شغل المحب الواجد

قبلة الداعي ووجه المقاصد

فت آرام الفلا حسنا فما

قابلت إلا بطرف جامد

شأن قلبينا إذا صح الهوى

يا حياتي شأن قلب واحد

أكثر الواشون فينا قولهم

ما علينا من مقال الحاسد

لست أصغي لا راجيف العدا

من يغالي في المتاع الكاسد

وقوله أيضاً:

يا خليلي دعاني والهوى

أنني عبد الهوى لو تعلمان

عرجا نقضي لبانات الهوى

في ربوع أقفرت منذ زمان

مربع أولع عيني بالبكا

أمر العين به ثم نهاني

وقصارى الخل وجد وبكا

فأبكياني قبل أن لا تبكياني

يا عريبا منحناهم أضلعي

وغضاهم نار شوق في جناني

إن قلبا أنتم سكانه

ضاع مني بين شعب والقنان

وقوله أيضاً من قصيدة:

باجتلاء المدام والأقداح

وبمرآة وجهك الوضاح

لا تذرني على مرارة عيشي

أكل واش ولا فريسة لاح

صاح كلني إلى المدام ودعين

والليالي تجول جول القداح

لا تخف جور حادثات الليالي

نحن في ذمة الظبا والرماح

صاح إن الزمان أقص عمرا

من بكاء في دمنة ونواح

رق عنا ملاحف الجو فاسمح

برقيق من طبعك المرتاح

يا مليك الملاح إن زمانا

أنت فيه زمان روح وراح

طاب وقت المدام فاشرب عساه

يا صاحبي يطيب وقت الصباح

واسقنيها سقيت في فلق الفج

ر على نغمة الطيور الفصاح

لا تؤآخذ جفونه بفؤادي

يا إلهي كلاهما غير صاح

وقوله:

ما أنس ولا أنس خيالا سرى

يسترشد الشوق إلى مضجعي

حسبت بدر التم قد زارني

فبت لا أقفو سوى المطلع

أسأل عنه الشوق لا يرعوي

وأنشد البين به لو يعي

آليت والدار لها حرمة

لا أسأل الدار وصبري معي

كأن دمي حجراً على حاجر

فلم أباحته مها الاجرع

علالة كان وقوفي بها

أبغي شفا القلب من الموجع

وقوله من أخرى:

نسخت سحر بابل مقلتاه

فتنب في فترة الأجفان

في ربوع كأنهن جنان

عطفت حورها على الولدان

ورياض كأنهن سماء أطلعت أنجما من الأقحوان

بين ورق كأنهن نشاوى

يترقصن عن قدود الغواني

وأقاح كأنهن ثغور

يتبسمن في وجوه الجنان

ونسيم الصبا يصح ويعتل على برده وحر جناني

كلما غنت البلابل فيها

رقص الدمع بالبكا أجفاني

عطفتني على الرياض قدود

خلعت لينها على الأغصان

ص: 292

يتلقاني الاقاح بنشر

غصون النقا علي حوان

قل لعتب وما أظن نوالا

عند عتب لواجد أسيان

أين قلبي لا أين إلا طلولا

أذهبتها الرياح منذ زمان

أذكرتني معاهدا وربوعا

كاد يدمى لذكرهن بناني

حيث غصني من الشباب رطيب

وعيون المها إلي رواني

أطرد النوم عن جفون نشاوى

بحديث أرق من جثماني

وقواف لو ساعد الجد نيطت

موضع الدر من رقاب الغواني

سائرات بيوتهن على الأل

سن سير الأمثال في البلدان

قصد كالفرند في صفحات

الدهر أو كالشنوف في الآذان

عاصيات على الطباع ذلول

يتغنى بهن في الركبان

ساقطت والنوى يطل علينا

من عيون المها حصى المرجان

أنظر أيها المتأمل إلى انسجام هذا الكلام، وشرف هذا النظام، لتعلم مصداق (كم ترك الأول للآخر) ويقف العقل حسير دون لج الفيض الزاخر.

ومن ذلك قوله أيضاً:

لثموا موشى العصب فوق بدور

وتنقبوا بالنور فوق النور

وفروا جلابيب الظلام ودونهم

سوران سور قنا وسور خدور

يزجون مهزوز القوام إذا مشى

جالت عليه مناطق الزنبور

نشوان من خمر الشبا وحى به

سكران سكر صبا وسكر غرور

لاطفته سحرا فبرقعه الحيا

بالورد فوق صفائح البلور

هل ركبوا الخيلان وجناته

أم فتتوا مسكا على كافور

قمر يفور النور من أطواقه

فكأنها فوارة للنور

أو غادة نظرت بعيني شادن

وتلفتت عن ناظري مذعور

قال وقد عجبت لشيب مفارقي

هذا البياض قذى عيون الحور

فأجبتها والبين يخلج صدرها

إن المشيب جلا صدا المأثور

لله ليلتنا وقد لف الهوى

منا قواما ذابلا بنضير

حيت فأحيت بالمدام معاشرا

حضروا وما ألبابهم بحضور

في حبهم صرعى وما حضروا وغى

نشوى وما مزجوا الهوى بخمور

أنظر إلى الورد الجني كأنه

متبرم من رنة الشحرور

والنرجس الغض الشهي كأنه

يرنو إليه عن عيون غيور

في روضة لعب الصبا بغصونها

لعب الصبا بمعاطف وخصور

أصبا الأصايل لا كبت بك عثرة

كم عقبة لك في جيوب الحور

لله درك إن مررت على اللوى

حلي عري جيب الحيا المزرور

وقوله أيضاً من أخرى:

ليت التي بعثت إلي خيالها

أذنت لعيني أن تذوق كراها

ما انسها لا انس ليلة أقبلت

والدل يمزج سخطها برضاها

فالدعص ما عقدت عليه إزارها

والغصن ما زرت عليه قباها

ولرب نفس مثل نفسي حرة

ضربت عليها النائبات خباها

تالله لولا أن يعنفني الهوى

لا صاب بعدهم الأساة دواها

جلبت إلى الشامي أسباب الردى

لو أنها في كفه لرماها

وقوله أيضاً:

على رسلك يا صاح

فما أنت وأتراحي

وما شأنك والواشي

وما خطبك والملاحي

فهب قلبك للساقي

وهب عقلك للراح

وخذ أهبة مشتاق

وثب وثبة مرتاح

فمن عالم أشباح

إلى عالم أرواح

وقوله من أبيات:

بعث طيفها إلي وأخرى الشوق في قلبها وأولاه عندي

ثم قالت لتربها ليت شعري

كيف حال الشامي يا مي بعدي

إن بي فوق ما به من هواه

غير أني أخفي هواه ويبدي

ما درت أنني وإن طال وجدي

في هواها نسيج وحدي وحدي

وقوله أيضاً:

إذا أبصرت شخصك قلت بدر

يلوح وأنت إنسان العيون

جرى ماء الحياة بفيك حتى

أمنت عليك من ريب المنون

وقوله من قصيدة، وهو من إحسانه المشهور:

وقد جعلت نفسي تحن إلى الهوى

حلا فيه عيش من بثينة أو مرا

وأرسلت قلبي نحو تيماء رائدا

لي الخفرات البيض والشدن العفرا

تعرف منها كل لمياء خاذل

هي الريم لولا أن في طرفها فترا

من الظبيات الرود لو أن حسنها

يكلمها أبدت على حسنها كبرا

وآخر أن عرفته الشوق راعني

بصد كأني قد أبنت لو وترا

أناشد فيه البدر والبدر غائر

وأسأل عنه الريم وهو به مغرى

ص: 293

فما ركب البيداء لو لم يكن رشا

ولا صدع الديجور لو لم يكن بدرا

لحاظ كأن السحر فيها علامة

تعلم هاروت الكهانة والسحرا

وقد هو الغصن الرطيب كأنما

كسته تلابيب الصبا ورقا نضرا

رتقت على الواشين فيه مسامعا

طريق الردى منها إلى كبدي وعرا

أعاذلتي واللوم لؤم ألم تري

كأن بها عن كلا لائمة وقرا

بفيك الثرى ما أنت والنصح إنما

رأيت بعينيك الخيانة والغدرا

وما للصبا يا ويح نفسي من الصبا

تبيت تناجي طول ليلتها البدرا

تطارحه القول حق وباطل

أحاديث لا تبقي لمستودع سرا

وتلقي على النمام فضل ردائها

فيعرف للأشواق في طيها نشرا

تعانقها خوف النوى ثم تنثني

تمزق من غيظ على قدك الأزرا

ألما ترى بأن النقا كيف هذه

تميل بعطفيها حنوا على الأخرى

وكيف وشى غصن إلى غصن هوى

وأبدى فنونا من خيانته تترى

فمن غصن يومي إلى غصن هوى

ومن رشأ يوحي إلى رشأ ذكرى

هما عذلاني في الهوى غير أنني

عذرت الصبا لو تقبلين لها عذرا

هبيها فدتك النفس راحت تسره

إليه فقد أبدته وهي به سكرى

على أنها لو شايعت كثب النقا

وريح الخزامى إنما حملت عطرا

ولنكتف من لطائفه بهذا المقدار طلبا للاختصار، فإن محاسنها لا تنتهي حتى ينتهي عنها، ولا تقف حتى يوقف عليها.

ومن لطائف الانسجام قول الشيخ الفاضل الحكيم حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي رحمه الله، في صدر قصيدة يمدح بها الوالد رحمة الله تعال:

سرت والليل محلول الوشاح

ونسر الجو مبلول الجناح

وثغر الشرق يبسم عن رياض

مكللة الجوانب بالأقاح

كأن المشتري والنجم ساق

يدير على الندامى كأنه كأس راح

فوا عجبا وهل يخفي سراها

وقد أرجت برياها النواحي

من البيض الحسان إذا تجلت

تخال جبينها فلق الصباح

مهفهفة يغار البدر منها

ويخجل قدها هيف الرماح

أبث لطرفها شكوى غرامي

وهل يشكو الجريح إلى السلاح

واطمع أن يزايلني هواها

ومن ينجو من القدر المتاح

فلا تأوي لكسرة ناظريها

فكم أودت بألباب صحاح

أحن إلى هواها وهو حتفي

كمجروح يداوى بالجراح

ولا وأبيك ليس الحب سهلا

فكم جد تولد من مزاح

خلقت من الغرام فلا أبالي

أكان به فسادي أم صلاحي

ولولا تمسك الأطمار جسمي

لطار من النحول مع الرياح

وحب الغانيات حياة روحي

وراحتها وريحاني وراحي

ومن الانسجام المطرب قول الشيخ الأديب محمد بن سيعد باقشير المكي رحمه الله:

ألآل ما أرى أم حبب

أم أقام لا ولكن شنب

حرمت وهي حلال قد جرى

في خلال الطلع منها الضرب

ما درى بارق ذياك اللمى

أن لي قلبا به يلتهب

دع لما قد نقل الراوي لنا

عن لماه ما روته الكتب

آه ما أعذبه من مبسم

وهو لو جاد به لي أعذب

ليت لو أن منالا منه لي

غير أن البرق منه خلب

جؤذر يرنو بعيني أغيد

من مها الرمل أغن أغلب

ومحيا كلف الحسن به

فغدا ينشد أين المذهب

هز عطفيه فلم يدر النقا

أقنا ما هزه أم قضب

رق فاستبعد ألباب الورى

فله في كل قلب ملعب

يا لها من نعمة في ضمنها

مهلك هان وعز المطلب

وهذا فصل عقدته لما وقع من الانسجام في أشعار العترة النبوية، والسلالة العلوية، التي يلوح عليها سيماء النبوة والخلافة، ويفوح منها ريا السيادة والشرافة. وإنما أفردته عما سبق، وميزته طبقا عن طبق، لتعلم أن الحصباء ليست كالدرر، والحجول وأن اتضحت دون الغرر.

فمن المطرب المرقص قول السيد أبي محمد بن عبد الله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام:

بيض حرائر ما هممن بريبة

كظباء مكة صيدهن حرم

يحسبن من لين الكلام فواسقا

ويصدهن عن الخنا الإسلام

وقول الشريف أبي عبد الله محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض المذكور:

ص: 294

طرب الفؤاد وعاودت أحزانه

وتلعبت شعبا به أشجانه

وبدا له من بعد ما اندمل الهوى

برق تألق موهنا لمعانه

يبدو كحاشية الرداء ودونه

صعب الذرى متمنع أركانه

فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق

نظرا إليه وصده سبحانه

فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه

والماء ما سمحت به أجفانه

وقول السيد علي بن محمد بن محمد بن زيد الشهيد المعروف بالحماني:

لنا من هاشم هضبات مجد

مطبنة بأبراج السماء

تطوف بنا الملائك كل يوم

ونكفل في حجور الأنبياء

ويهتز المقام لنا ارتياحا

ويلقانا صفاه بالصفاء

وقوله:

وإنا لتصبح أسيافنا

إذا ما انتضين ليوم سفوك

منابرهن بطون الأكف

وأغمادهن رؤوس الملوك

وقوله:

لقد فاخرتنا من قريش عصابة

بمط خدود وامتداد أصابع

فلما تنازعنا الفخار قضى لنا

عليهم بما نهوى نداء الصوامع

ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا

عليهم جهير الصوت في كل جامع

ومن نسيبه المرقص قوله:

يا شادنا أفرغ من فضه

في خده تفاحة غضة

كأنما القبلة في خده

بالحسن من رقته عضه

يهتز أعلاه إذا ما مشى

وكله في لينه قبضه

أرحم فتى لما تملكته

أقر بارق فلم ترض

وقوله أيضاً:

بأبي فم شهد الضمير له

قبل المذاق بأنه عذب

كشهادتي لله خالصة

قبل العيان بأنه الرب

والعين لا تغني بنظرتها

حتى يكون دليلها القلب

وقوله:

كأن هموم الناس في الأرض كلها

علي وقلبي بينهم قلب واحد

ولي شاهدا عدل سهاد وعبرة

وكم مدع للحق من غير شاهد

وقوله:

وجه هو البد إلا أن بينهما

فضلا تحير عن حافاته النور

في وجه ذاك أخاليط مسودة

وفي مضاحك هذا الدر منثور

حدث بعض الصالحين قال: لقيت علي بن محمد الحماني المذكور بالكوفة بعد خلاصه من حبس الموفق - وكان قد حبس مرتين، مرة لكفالته بعض أهله، ومرة لسعاية عليه - وهنأته بالسلامة، وقلت له، قد عدت إلى وطنك الذي تلذه، وإخوانك الذين تحبهم. فقال: يا أبا علي، ذهب الأتراب والشباب والأصحاب.

وأنشد:

هبني بقيت على الأيام والأبد

ونلت ما شئت من مال ومن ولد

من لي برؤية من قد كنت آلفه

وبالزمان الذي ولى ولم يعد

لا فارق الهم قلبي بعد فرقتهم

حتى يفرق بين الروح والجسد

والحماني بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون. قال السمعاني في الأنساب هذه النسبة إلى حمان وهي قبيلة من تميم نزلوا الكوفة. قال صاحب العمة كان جده ينزل بالكوفة في بني حمان وتخفيف الميم فهو تصحيف لا يعول عليه والله أعلم.

ومن المرقص في هذا الباب قول الشريف المرتضى ذي المجدين أبي القاسم علي بن أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي:

يا خليلي من ذؤابة قيس

في التصابي رياضة الأخلاق

علاني بذكرها تطرباني

واسقياني دمعي بكأس دهاق

وخذا النوم عن جفوني فإني

قد خلعت الكرى على العشاق

لما وصلت هذه الأبيات إلى البصري الشاعر قال: المرتضى خلع مالا يملك على من لا يقبل.

وحي عن الشريف المرتضى المذكور أنه كان جالساً في علية له تشرف على الطريق، فمر به المطرز الشاعر يجر نعلاً له بالية وهي تثير الغبار، فأمر بإحضاره ثم قال له أنشدني أبياتك التي تقول منها:

إذا لم تبلغني إليكم ركائبي

فلا وردت ماء ولا رعت العشبا

فانشده إياها، فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال: هذه كانت من ركائبك؟ فاطرق المطرز ساعة ثم قال: لما عادت هبات سيدنا الشريف إلى مثل قوله:

وخذا النوم عن جفوني فإني

قد خلعت الكرى على العشاق

عادت ركائبي إلى مثل ما يرى، فإنه خلع مالا يملك على من لا يقبل. فاستحيا الشريف ووصله.

سرى مغرما بالعيس ينتجع الركبا

يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا

إذا لم تبلغني إليكم ركائبي

فلا وردت ماء ولا رعت العشبا

على عذبات الجزع من ماء تغلب

غزال يرى ماء العيون له شربا

ص: 295

إذا ملأ البدر العيون فإنه

لعمرك بدر يملأ العين والقلبا

ومن المرقص أيضاً قول المرتضى المذكور:

قل لمن خده من اللحظ دام

رق لي من جوانح فيك تدمى

يا سقيم الجفون من غير سقم

لا تلمني أن مت منهن سقما

أنا خاطرت في هواك بقلب

ركب البحر فيك أما وأما

ومن المطر قوله أيضاً:

أحب ثرى نجد ونجد بعيدة

ألا حبذا نجد وإن لم تفد قربا

يقولون نجد لست من شعب أهلها

وقد صدقوا لكنني منهم حبا

كأني وقد فارقت نجدا شقاوة

فتى ضل عنه قلبه ينشد القلبا

وقوله:

مولاي يا بدر كل داجية

خذ بيدي قد وقعت في اللجج

حسنك ما تنقضي عجائبه

كالبحر حدث عنه بلا حرج

بحق من خط عارضيك ومن

سلط سلطانها على المهج

مد يديك الكريمتين معا

ثم ادع لي من هواك بالفرج

وقوله:

ولما تفرقنا كما شاءت النوى

تبين ود خالص وتودد

كأني وقد سار الخليط عشية

أخو جنة مما أقوم وأقعد

وقوله:

قل لمغر بالصبر وهو خلي

وجميل العذول ليس جميلا

ما جهلنا أن السلو مريح

لو وجدنا إلى السلو سبيلا

وقوله:

ألا يا نسيم الريح من أرض بابل

تحمل إلى أهل الخيام سلامي

وقل لحبيب فيك بعض نسيمه

أما آن أن تستطيع رجع كلامي

وأني لأرضى أن أكون بأرضكم

على أنني منها استفدت سقامي

وقوله:

قل للذين على موا

عدهم لنا خلف ومطل

كم ضامني من لا أضي

م وملني من لا أمل

يا عاذلا لملامه

كل على سمعي وثقيل

إن كنت تأمر بالسلو فقل لقلبي كيف يسلو

قلبي رهين في الهوى

أن الهوى سقم وذل

وتعجبت جمل لشي

ب مفارقي وتشيب جمل

ورأت بياضا في سوا

د ما رأته هناك قبل

كذبالة رفعت على ال

هضبات للسارين ضلوا

لا تنكريه ويب غير

ك فهو للجهلات غل

ومن المقص أيضاً قول أخيه الشريف أبي الحسن الرضي رضي الله عنه:

يا روض ذي الاثل من شرقي كاظمة

قد عاود القلب من ذكراك أشجانا

أشم منك نسيما لست أعرفه

أظن ظيماء جرت فيك أردانا

ألقاك والقلب صاح من رحيق هوى

وأنثني عنك بالأشواق نشوانا

وما تداويت من قرح على كبدي

ولا سقاني راقي الحب سلوانا

وقوله:

خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى

فلاقي بها ليلا نسيم ربى نجد

فإن بذاك الجو حيا عهدته

وبالرغم مني أن يطول به عهدي

ولولا تداوي القلب من ألم الجوى

بذكر تلاقينا قضيت من الوجد

وقوله:

أحبك ما أقام منى وجمع

وما أرسى بكمة أخشباها

وما اندفع الحجيج إلى المصلى

يجرون المطي على وجاها

وما نحروا بخفيف منى وكبوا

على الأذقان مشعرة ذراها

نظرتك نظرة بالخيف كانت

جلاء العين بل كانت قذها

ولم يكن غير موقفنا وطارت

بكل قبيلة منا نواها

فواها كيف تجمعنا الليالي

وآها من تفرقنا وآها

وقوله:

يا ليلة كرم الزمان..

.. بها لوان الليل باق

كان اتفاق بيننا

جار على غير اتفاق

فاستروح المشتاق من

زفرات هم واشتياق

حتى إذا نست رياح ال

صبح تؤذن بالفراق

برد السوار لها فأحميت القلائد بالعناق

وقوله:

عارضا بي ركب الحجاز أسائله متى عهده بأعلام جمع

واستملا حديث من سكن الخي

ف ولا تكتباه إلا بدمعي

فاتني أن أرى الديار بطرفي

فلعلي أرى الديار بسمعي

يا غزالا بين النقا والمصلى

ليس تقوى على نبالك درعي

كلما سل من فؤادي سهم

عاد سهم لكم مضيض الوقع

من معيد أيام سلع على ما

كان منها وأين أيام سلع

وقوله:

أيها الرائح المجد تحمل

حاجة للمتيم المشتاق

أقر عني السلام أهل المصلى

فبلاغ السلام بعض التلاقي

وإذا ما مررت بالخيف فاشهد

أن قلبي إليه بالأشواق

ص: 296

وابك عني فطالما كنت من قب

ل أعير الدموع للعشاق

حكى أبو الحسن العمري قال: دخلت على الشريف المرتضى، فأراني بيتين قد عملهما وهما:

سرى طيف سعدى فارقا فاستفزني

هبوبا وصحبي بالفلاة هجود

فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي

لعل خيالا طارقا سيعود

فخرجت من عنده ودخلت على أخيه الرضي، فعرضت عليه البيتين فقال بديها:

فردت جوابا والدموع بوادر

وقد آن للشمل المشت ورود

فهيهات من لقيا حبيب تعرضت

لنا دون لقياه مهامه بيد

فعدت إلى المرتضى بالخبر فقال: يعز علي، أخي قتله الذكاء، فما كان إلا يسير حتى مضى الرضي لسبيله.

ومن المرقص قول السيد أبي الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم طباطبا الحسني:

بانوا وأبقوا في حشاي لبينهم

وجدا إذا ظعن الخليط أقاما

لله أيام السرور كأنما

كانت لسرعة مرها أحلاما

لو دام عيش رحمة لأخي هوى

لأقام لي ذاك السرور وداما

يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا

عاما ورد من الصبا أياما

وقوله في طول الليل:

كأن نجوم الليل سارت نهارها

فوافت عشاء وهي انضاء أسفار

وقد خيمت كي يستريح ركابها

فلا فلك جار ولا كوكب سار

وما أحسن قوله في العفاف:

الله يعلم ما أتيت خنى

أن لا مني العذال أو سفهوا

ماذا يعيب الناس من رجل

خلص العفاف من الأنام له

يقضانه ومنامه شرع

كل بكل منه مشتبه

إن هم في حلم بفاحشة

زجرته عفته فينتبه

ومنه قول الشريف أبي القاسم أحمد بن محمد بن إسماعيل بن طباطبا:

خليلي إني للثريا لحاسد

وإني على ريب الزمان لواجد

أيبقى جميعا شملها وهي سبعة

وأفقد من أحببته وهو واحد

وقوله:

قالت لطيف خيال زارني مضى

بالله صفه ولا تنقص ولا تزد

فقال أبصرته لو مات من ظمأ

وقلت قف لا ترد للماء لم يرد

قالت صدقت وفاء الحب عادته

يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

وقول السيد ذي المجدين أبي القاسم علي بن موسى الموسوي نقيب النقباء بمرو:

يا أضعف العالمين وصلا

وأسعف الناس بالفراق

ومن غرامي به شديد

ليس يداوي بألف راق

إن كان لابد من فراق

فعن وداع وعن عناق

وزورة ترغم الأعادي

وخلوة حلوة المذاق

ومن المطرب قول السيد شرف السادة محمد بن عبيد الله الحسيني البلخي من قصيدة:

أشبه الغصن إذ قدا

وحكى الورد إذ تفتح خدا

وثنى للوداع في حومة البي

ن بنانا يكاد يعقد عقدا

لست أنسى وإن تقادم عهدا

عهد أحبابنا بنجد ونجدا

حين غصن الشباب غض ونجم ال

وصل سعد بحسن إسعاد سعدى

وغزال قد أورث البدر غيظا

وجهه الطلق والغزالة حقدا

ألف الصد والتجنب حتى

علم الطيف في الكرى أن يصدا

فسقى عهده العهاد وإن لم

يقض لنا ولم يرع عهدا

وقوله وهو في معنى غريب:

شد النطاق بخصره

فغدا فريدا في جماله

يجبى اللجين من الجبال

فكيف عاد إلى جباله

وقول السيد أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عبيد الله البلخي بن أخي المذكور قبله رحمهما الله:

وكم مضى ليل على أبرق الحمى

مضيء ويوم بالمسرة مشرق

تسرَّقت فيه اللهو أملس ناعما

وأطيب عيش المرء ما يتسرق

ويا حسن طيف قد تعرض موهنا

وقلب الدجى من صولة الصبح يخفق

تنسمت رياه قبيل وروده

وما خلته يحنو علي ويشفق

ومنه قول السيد أبي المحاسن إسماعيل بن حيدر العلوي رحمه الله:

أفي الصبا أشتاق وصل الصبا

كلا ولكن معالي شيب

لو أن ما حملته همتي

حمل رضوى لاعتراه المشيب

ومن المرقص قول السيد أبي البركات علي بن الحسين بن جعفر الحسيني:

وأغيد سحار بألحاظ عينه

حكى لي تثنيه من البان أملودا

سلخت بذكراه عن الصبح ليلة

أنادمه والكأس والناي والعودا

ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها

كباسط كفيه ليقطف عنقودا

ص: 297

ومنه قول السيد الإمام أبي الرضا ضياء الدين فضل الله بن علي بن عبد الله الراوندي من قصيدة:

سفرت لنا عن طلعة البدر

إحدى الخرائد من بني بدر

فأجل قدر الليل مطلعها

حتى تراءت ليلة القدر

لو أنها كشفت لآلئها

من قولها والعقد والثغر

لأضاءت الدنيا لساكنها

والليل في باكورة العمر

حتى يظن الناس أنهم

هجم العشاء بهم على الفجر

وحديثها سحر إذا نطقت

لو كان طعم الشهد للسحر

وحسبتها بدر التمام إذا

حاذاك لولا كلفة البدر

يا لائمي كف الملام فقد

غلب الغرام بها على الصبر

فوحق فاحمها الأثيث وهل

في ذلكم قسم لذي حجر

إني إلى معسول ريقتها

أظما من الصادي إلى القطر

عهدي بنا والوصل يجمعنا

كالوز توأمتين في قشر

أقول: هذا تشبيه ليس في اللطف شبيه، وهو معنى بكر، ولم يفتضه قبله فكر في هذا الباب.

وقوله أيضاً:

آه لبرق أومضا

هاج غرامي ومضى

كأنه لما بدا

لمع سيوف تنتضى

أو التواء حية

قتلته فنضنضا

ويا لريح نسمت

من ساكني ذات الاضا

مريضة لم تستطع

من ضعفها أن تنهضا

فاحتبست على الربى

وكل نبت روضا

حتى غدت لطيمة

مفضوضة على الفضا

يا برق يا ريح معا

تركتماني حرضا

ما لكما أوقدتما

على الحشا جمر الغضا

وا أسفا على الصبا

أكان دينا يقتضي

عاد برغم معطسي

ذاك الغداف أبيضا

وعاد حقي باطلا

وعدا جسمي غرضا

لهفي على عهد الصبا

أفلت عني وانقضى

جار عليه الشيب لما أن قضى فلا قضى

أظلمت الدينا على

عيني لما أن أضا

من الذي أشكو إذا

صار الطبيب ممرضا

آه على شبيبة

إذا شدا أو قرضا

على مراثيها فقد

أبقت بقلبي مرضا

وقوله أيضاً وهو من الحسن بمكان:

يا سقى الله عشيات الحمى

بين أكناف النقا فالمنحنى

وليالي بجمع أنها

فرص العمر وتارات المنى

بينما نحن معا نرتع إذ

تركوا الخيف وأمو اليمنا

حرست بيضهم بيض الظبي

ورعت سمرهم سمر القنا

وأتت عاذلتي باكرة

أن رأتني صبا حلف ضنى

ثم لما أعجبتها نفسها

وأذابت قلبي الممتحنا

حلفت لو أنني كنت أنا

أنت لم أختر لروحي المحنا

قالت خليني وخلي عذلي

ما أنا أنت ولا أنت أنا

ومنه قول ابنه السيد الإمام عز الدين علي بن أبي الرضا فضل الله الراوندي رحمه الله:

سلا عذبات رامة بل رباها

سلاها لا عدمتكما سلاها

أنازحه فراجعة سليمى

إليك أم استقر بها نواهاه

أما ومنى وزمزم والمصلى

وأركان العقيق من بناها

لقد ألف الفؤاد هوى سليمي

ولم يخلص إليه هوى سواها

وربة ليلة زهراء بتنا

نروي من جوانحنا صداها

فلف الصبح أردية الدياجي

ورف على مطارفنا نداها

فقامت تعقد الأزرار عجلى

وقد حلت مدامعنا حباها

فتبكي تارة وتنوح أخرى

أسى فلها بكاي ولي بكاها

وقوله أيضاً: يقولون أن الركب بعد غد غاد=فهل لفؤادي أن غدا الركب من فادي

يقولون لا قالوا ويحكون لا حكوا

بأن غدا يحدو بضعنهم الحادي

فيا نفس فيضي لات حين تبلد

ويا عين فيضي ليس ذا وقت ابلاد

فهذا ولما يخل منهم نديهم

فكيف بأحوالي إذا ما خلا النادي

فديتك هل بعد الفراق تواصل

وهل يرتجى التقريب من بعد إبعاد

هداني إليك الحب ثم أضلني

فكيف احتيالي والمضل هو الهادي

دعاني الهوى سرا فلبيت جهرة

وإن كان إضلالي إليه وإرشادي

فقال الحجى مهلا فقلت له مهٍ

فإني في واد وإنك في واد

ومن المطرب قوله أيضاً:

ذكرتكم والشهب رزجى من السرى

وكف الثريا للغرب تشير

فقلت لندماني قوما فعالجا

فؤادا يسير الوجد حيث يسير

ص: 298

فقال إلى صب له من جوى النوى

قرين ومن فرط الغرام عشير

له رنة من بعدها ألف رنة

إليكم ومن بعد الزفير زفير

فقالا معا في السر ناد فؤاده

فإن لم يعد لا عاد فهو أسير

نهل من فؤاد سالم نستعيره

فإن فؤاد الهاشمي كسير

وقوله أيضاً:

سري طيفها والشهب صاح ونشوان

وجنح الدجى في عرصة الجو حيران

وكف الثريا بالدعاء مليحة

وصحن الثرى من عسكر الزنج ملآن

فأرقني بالوجد والركب جنح

وأكثرهم من قهوة النوم سكران

ألا أيها الوجد الذي هو قاتلي

ترفق قليلا إنما أنا إنسان

فلو أنه ما بي بثهلان بعضه

لأصبح رجراج الذرى منه ثهلان

ومنه قول الشريف أبي السعادات هبة الله بن علي الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي:

هذي السديرة والغدير الطافح

فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح

يا سدرة الوادي التي هي ظلة

الساري هداه نشرها المتفاوح

هل عائد قبل الممات لمغرم

عيش تقضى في ظلالك صالح

ومنها:

ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا

فيه مراتع للمها ومسارح

ظلنا بها نبكي فكم من مضمر

وجدا أذاع هواه دمع سافح

محت السنون رسومها فكأنما

تلك العراص المقفرات نواضح

يا صاحبي تأملا حييتما

وسقى دياركما الملث الرائح

أدمى بدت لعيوننا أم ربرب

أم خرد أكفالهن رواج

أم هذه مقل الصوار رنت لنا

خلل البراقع أم قنا وصفائح

لم تبق جارحة وقد واجهننا

إلا وهن لها بهن جوارح

كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى

ومن الشقاوة أن يراض القارح

لو بله من ماء ضارج شربة

ما أثرت للوجد ففيه لواقح

ومنه قول السيد أبي الحسن علي بن رضي الدين الحسيني:

لعمرك ما نجدية الدار أتهمت

فحنت إلى نجد وأنت من الوجد

بأجزع مني لا وأسكب عبرة

وأدنى الذي أخفي كأقصى الذي تبدي

أقول إذا ما الليل أرخى سدوله

وطال مطال الصبح والقول لا يجدي

ألا ليت شعري هل أرى الصبح طالعا

بوجهك لي أفديه من طالع سعد

وإن جل ذاك الوجه عن قدر مهجتي

فليس على العبد الضعيف سوى الجهد

لو كنت أعطى ما أشاء من المنى

لما كنت تمشي قط إلا على خدي

وقوله أيضاً:

وما زهرات الروض باكرها الندى

ولا البدر فيما بين أنجمه الزهر

بأحسن من سعدى إذا ما تبسمت

بياقوت فيها عن نظام من الدر

ومن المرقص قول الشريف أبي محمد الحسن بن أبي الضوء العلوي الحسيني من قصيدة يرثي بها النقيب الطاهر أبا عبيد الله:

أحملاني إن لم يكن لكما عق

ر إلى جنب قبره فاعقراني

وانضحا من دمي عليه فقد كا

ن دمي من نداه لو تعلمان

هكذا عزا هذين البيتين العماد الكاتب في الخريدة للشريف.

قال المؤلف: ووقفت في كتاب الأذكياء للشيخ أبي الفرج بن الجوزي على حكاية تنافي كون البيتين المذكورين للشريف أبي محمد المذكور. وصورة الحكاية: قال: بلغني عن بعض أصحاب المبرد أنه قال: انصرفت من مجلس المبرد فعبرت على خربة، فإذا أنا بشيخ قد خرج منها وفي يده حجر، فهم أن يرميني به، فتسترت بالمحبرة والدفتر. فقال لي: مرحبا بالشيخ، فقلت: وبك، فقال لي: من أين أقبلت؟ فقلت: من مجلس المبرد، قال: البارد، ثم قال: ما الذي أنشدكم وكان عادته أن يختم مجلسه ببيت وببيتين؟ فقلت: أنشدنا:

أعار الغيث نائله

إذا ما ماؤه نفدا

وأن أسد شكا جبنا

أعار فؤاده الأسدا

فقال أخطأ قائل هذا الشعر. قلت كيف؟ قال: ألا يعلم أنه إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل، وإذا أعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد؟ هلا قال مثل هذا.

وأنشد:

علم الغيث نداه فإذا

ما وعاه علم البأس الأسد

فله الغيث مقر بالندى

وله الليث مقر بالجلد

فكتبتهما عنه وانصرفت. ثم مررت به بعد أيام، وإذا به قد خرج وبيده حجر، فكاد أن يرميني به ثم ضحك وقال مرحبا بالشيخ، أتيت من مجلس المبرد؟ فقلت نعم، فقال: ما الذي أنشدكم؟ فقلت: أنشدنا:

ص: 299

إن السماحة والمروة ضمنا

قبرا بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الجياد وكل طرف سابح

فقال لي: أخطأ قائل هذا الشعر، فقلت: كيف؟ قال: ويحك لو نحر نجب خراسان ما أثر في حقه، هلا قال مثل هذا.

وأنشد:

احملاني إن لم يكن لكما عق

ر إلى جنب قبره فاعقراني

وافضحا من دمي عليه فقد كا

ن دمي من نداه لو تعلمان

فلما عدت إلى المبرد قصصت عليه القصة فقال لي: تعرفه؟ قلت: لا، قال: ذاك خالد الكاتب، تأخذه السوداء أيام الباذنجان. انتهى قلت: إن صحت هذه الحكاية، بطل نسبة البيتين المذكورين إلى السيد أبي محمد المذكور، لأن المبرد توفي سنة خمس وقيل ست وثمانين ومائتين ووفاة الشريف أبي محمد المذكور على ما أرخه العماد الكاتب في الخريدة سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، فيتعين نظم البيتين المذكورين قبل وجوده بمدة مديدة والله أعلم.

ومن المرقص أيضاً قول السيد شيخ الشرف تاج الدين محمد بن القاسم بن معيد الحسيني:

لا وما قد ضمه مر

طك من غصن رطيب

ما حوى رمان نهدي

ك سوى حب القلوب

وقول الشريف ضياء الدين ابي عبد الله زيد بن محمد بن عبيد الله الحسيني نقيب العلويين بالموصل:

قالوا سلا صدقوا عن السلوان ليس عن الحبيب

قالوا فلم ترك الزيا

رة قلت من خوف الرقيب

قالوا فكيف يعيش مع

هذا فقلت من العجيب

وأنشدني شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي للسيد أحمد الصفوي الشامي من شعراء العصر:

صه يا حمام فلست المشوق

ولا بات حالك فيها كحالي

فمن من تباكى كمن قد بكى

ودمع الأسى غير دمع الدلال

وهو من مهيار الديلمي:

أبكي وتبكي غير أن الأسى

دموعه غير دموع الدلال

ومما وقع لي أنا في هذا الباب قولي:

على ما حاديهم لو كان عاجا

فقضى حين مضى للصب حاجا

ظعنوا والقلب يقفوا إثرهم

تبع العيس بكورا وأدلاجا

سلكوا من بطن فج سبلا

لا عدا صوب الحيات تلك الفجاجا

هم أرقوا بنواهم أدمعي

وأهاجوا لاعج الوجد فهاجا

كم أداجي في هواهم كاشحا

أعجز الكتمان من حب فداجى

وعذولا يظهر النصح بهم

فإذا نهنهته زاد لجاجا

طارحتني الورق فيهم شجنا

والصبا أوجت شجى والبرق ناجى

يا بريقا لاح من حيهم

يصدع الجو ضياء وابتلاجا

أنت جددت بتذكارهم

للحشا وجدا وللطرف اختلاجا

هات فاشرح لي أحاديهم

إنها كانت لما تشكو علاجا

علها تبرئ وجدا كامنا

كلما عالجته زاد اعتلاجا

ما لقلبي والصبا ويح الصبا

كلما مرت به زاد اهتياجا

خطرت سكرى بريا نشرهم

وتحلت منهم عقدا وتاجا

يحسد الروض شذاها سحرا

فترى الأغصان سرا تتناجى

آه من قوم سقوني في الهوى

صرف حب لم أذق معه مزاجا

خلفوا جسمي وقلبي معهم

كيفما عاجت حداة العيس عاجا

أتراهم علموا كيف دجا

مربع كانوا لناديه سراجا

أم دروا أنا ودنا بعدهم

سائغ العذب من البلوى أجاجا

وهم غاية آمالي وهم

سار في الحب بهم ذكري فراجا

لا عراهم حادث الدهر ولا

برحت أيامهم تبدي ابتهاجا

وقولي أيضاً:

يا دار مية باللوى فالأجرع

حياك منهمل الحيا من أدمعي

وسرى نسيم الروض يسحب ذيله

بمصيف أنس من حماك ومربع

لو لم تبيتي من أنيسك بلقعا

ما بت أندب كل دار بلقع

لم أنس عهدي والأحبة جيرة

والعيش صفو في ثراك الممرع

أيام لا أصغي للومة لائم

سمعاً وأن تعر الصبابة أسمع

حيث الربى تسري برياها الصبا

والروض زاهي النور عذب المشرع

تحنو علي عواطفا أفنانه

عند المبيت به حنو المرضع

والورق في عذب الغصون سواجع

تشد وبمرأى من سعاد ومسمع

كم بت فيه صريع كأس مدامة

حلف البطالة لا أفيق ولا أعي

أصبو بقلب لا يزال موزعا

في الحب بين معمم ومقنع

مستهترا طوع الصبابة في هوى

قمري جمال مسفر ومبرقع

ص: 300

ما ساءني أن كنت أول مغرم

بجمال رب ردا وربة برقع

يقتادني زهو الشباب وعفتي

فيه عفاف الناسك المتورع

لله أيامي بمنعرج اللوى

حيث الهوى طوعي ومن أهوى معي

لم أنسه والبين ينعق بيننا

متصاعد الزفرات وهو مودعي

إن شب في قلبي الغضا بفراقه

فلقد ثوى بالمنحى من أضلعي

أتجشم السلوان تكلفا

والطبع يغلب شيمة المتطبع

وقولي أيضاً:

طاب نشر الصبا ووقت الصباح

وزمان الصبا ووصل الصباح

فاسقني الراح يا نديمي ودعني

أتلهى ما بين روح وراح

ما ترى الروض مذ بكى الغيم فيها

كيف يضحكن عن ثغور الأقاح

وقد وفى لي الربيع منه بشرطي

وضماني عليه حسب اقتراحي

برح اليوم عن هواي خفاه

ما لقلبي عن الهوى من براح

فاسقنيها وداو قرح فؤادي

واجتنب مزجها بماء قراح

ذات لون كأنما اعتصروها

من جنى الورد أو خدود الملاح

اغتنم بهجة الربيع وقض

باقتراحي ليالي الأفراح

مرحبا بالربيع والقصف وال

عزف وحث الكؤوس والأقداح

إن يكن للخليع فيك اصطباح

يا صاحبي فذا أوان اصطباحي

وقولي أيضاً:

من أين يا ريح الصبا هذا الشذا

إن كان من حي الحبيب فحبذا

بالله هل يممت شرقي الحمى

ووردت منهله المصون عن القذى

أم هل حظيت بلثم مسحب برده

فسكبت من أنفاسه طيب الشذا

وبمهجتي إن كان يرضاها فدا

رشأ على كل القلوب استحوذا

لما رأت منه المحيا عذلي

فداه كل بالنفوس وعوذا

وعدا يقول مكلفي بسلوه

ما كنت أحسب من كفلت به كذا

لما جلا ياقوت صفحة خده

أبدى لنا من عارضيه زمرذا

ورمى القلوب فكان سهم لحاظه

أمضى من السهم المصيب وأنفذا

ليت الذي أروى بقلبي حبه

أنجاه من نار الصدود وأنقذا

وعلى جفاه فما ألذ غرامه

لو كنت أسلم في هواه من الأذى

ظن العذول بأن هداني نصحه

بعد الضلال وما هدى لكن هذى

وقول أبي نواس وهو أول ما قاله من الشعر وهو صبي:

حامل الهوى تعب

يستخفه الطرب

إن بكى يحق له

ليس ما به لعب

تضحكين لاهية

والمحب ينتحب

تعجبين من سقمي

صحتي هي العجب

وقوله يخاطب الأمين وكان قد سخط عليه وحبسه:

بك أستجير من الردى

متعوذا من سطو باسك

وحياة رأسك لا أعو

د لمثلها وحياة رأسك

من ذا يكون أبا نواس

ك أن قتلت أبا نواسك

وقول إسحاق الموصلي:

سلام على سير القلاص مع الركب

ووصل الغواني والمدامة والشرب

سلام وإن لم تبق منه بقية

سوى نظر العينين أو شهوة القلب

لعمري لئن حلئت عن منهل الصبا

لقد كنت وراداً لمشربه العذب

ليالي أمسي بين بردي لاهيا

أميس كغصن البانة الناعم الرطب

ومن المطرب قول البحتري:

ألام على هواك وليس عدلا

إذا أحببت مثلك أن ألاما

لقد حرمت من وصلي حلالا

وقد حللت هجري حراما

تناءت درة علوة بعد قرب

فهل ركب يبلغها السلاما

وجدد طيفها عتبا علينا

فما يعتادنا إلا لماما

وربة ليلة قد بت أسقي

بعينيها وكفيها مداما

قطعنا الليل لثما واعتناقا

وأفنيناه ضما والتزاما

وقد علمت بأني لم أضيع

لها عهدا ولم أفخر ذماما

ومن مديحه المرقص قوله من قصيدة يمدح بها المتوكل ويذكر خروجه لصلاة عيد الفطر:

بالبر صمت وأنت أفضل صائم

وبسنة الله الرضية تفطر

فانعم بيوم الفطر عيدا أنه

يوم أغر من الزمان مشهر

أظهرت عز الملك فيه بجحفل

لجب يحاط الدين فيه وينصر

خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت

عدداً يسيرا بها العديد الأكثر

فالخيل تصهل والفوارس تدعي

والبيض تلمع والأسنة تزهر

والأرض خاشعة تميد بثقلها

والجو متعكر الجوانب أغبر

حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى

ذاك الدجى وأنجاب عنه العثير

ص: 301

وافتن فيك الناظرون فأصبع

يومي إليك بها وعين تنظر

ذكروا بطلعتك النبي فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابسا

نور الهدى يبدو عليك ويظهر

فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

أيدت من فصل الخطاب بحكمة

تنبي عن الحق المبين وتخبر

ووقفت في برد النبي مذكرا

بالله تنذر تارة وتبشر

سبحان الله ما أشرف هذا الكلام، وانهج هذا النظام، وهذا هو السحر الحلال على الحقيقة، والسهل الممتنع. فلله دره ما أسلس قياده، وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه، وألطف مقاصده، وبحق ما قال أبو العلاء المعري وقد سئل، أي الثلاثة أشعر، أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟ فقال: حكيمان والشاعر البحتري. وكان يقال لشعره سلاسل الذهب. ومع شهرة ديوانه فلا حاجة إلى الإكثار منه.

ومن الغايات في باب الانسجام قول علي بن الجهم يمدح المتوكل أيضاً:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري

أعدن لي الشوق القديم ولم أكن

سلوت ولكن زدن جمرا على جمر

سلمن وأسلمن القلوب كأنما

تشك بأطراف المثقفة السمر

خليلي ما أحلى الهوى وأمره

وأعرفني بالحلو منه وبالمر

كفى بالهوى شغلا وبالشيب زاجرا

لو أن الهوى مما ينهنه بالزجر

بما بيننا من حرمة هل علمتما

أرق من الشكوى وأقسى من الهجر

وأفضح من عين المحب لسره

ولاسيما أن أطلقت عبرة تجري

وما أنس من الأشياء لا أنس قولها

لجارتها ما أولع الحب بالحر

فقالت لها الأخرى فما لصديقنا

معنى وه في قتله لك من عذر

صليه لعل الوصل يحييه وأعلمي

بأن أسير الحب في أعظم الأسر

فقالت أذود الناس عنه وقلما

يطيب الهوى إلا لمهنتك الستر

وأيقنا أن قد سمعت فقالتا

من الطارق المصغي إلينا وما ندري

فقلت فتى أن شئتما كتم الهوى

وإلا فخلاع الأعنة والعذر

على أنه يشكو ظلوما وبخلها

عليه بتسليم البشاشة والبشر

فقالت هجينا قلت قد كان بعض ما

ذكرت لعل الشر يدفع بالشر

فقالت كأني بالقوافي سوائرا

يردن بنا مصرا ويصدرن عن مصر

فقلت أسأت الظن بي لست شاعرا

وإن كان أحيانا يجيش به صدري

وما أنا ممن سار بالشعر ذكره

ولكن أشعاري يسير بها ذكري

وللشعر أتباع كثير ولم أكن

له تابعا في حال عسر ولا يسر

ولكن إحسان الخليفة جعفر

دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر

فسار مسير الشمس في كل بلدة

وهب هبوب الريح في البر والبحر

ولو جل عن شكر الصنيعة منعم

لجل أمير المؤمنين عن الشكر

ومن قال إن البحر والقطر أشبها

نداه فقد أثنى على القطر والبحر

ومن المطرب قول ابن الرومي:

يا شبابي وأين منى شبابي

آذنتني أيامه بانقضاب

لهف نفسي على نعيمي ولهوي

تحت أفنانه اللدن الرطاب

ومعز عن الشباب مؤس

بمشيب الأتراب والأصحاب

قلت لما انتحى يعد أناساً

من مصاب شبابه فمصاب

ليس تأسو كلوم غيري كلومي

ما به ما به وما بي ما بي

ومن الغايات التي لا تدرك قول موسى بن عبد الملك الاصبهاني:

لما وردنا القادسي

ة حيث مجتمع الرفاق

وشممت من أرض الحجا

ز نسيم أنفاس العراق

أيقنت لي ولمن أحب

بجمع شمل واتفاق

وضحكت من فرح اللقا

ء كما بكيت من الفراق

لم يبق لي إلا تجش

م هذه السبع البواقي

حتى يطول حديثنا

بصفات ما كنا نلاقي

القادسية بفتح القاف بعد الألف دال مهملة وياء مثناة من تحتها: قرية فوق الكوفة، مر بها إبراهيم الخليل عليه السلام فوجد بها عجوزاً، فغسلت رأسه فقال: قدست من أرض، فسميت بالقادسية، ودعا لها أن تكون محلة الحاج، فلم تزل كذلك.

ص: 302

وأنت إذا انتهيت في هذا الباب إلى قصيدة الأديب محمد بن زريق الكاتب البغدادي انتهي إلى ما يسكر بلا شراب، ويطرب بلا سماع. وقد عن لي إثباتها هنا برمتها على طولها، لئلا يخلو هذا المجموع منها، وهي:

لا تعذليه فإن العذل يولعه

قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه

جاوزت في لومه حد أضر به

من حيث قدرت أن اللوم ينفعه

فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا

من عنفه فهو مضنى القلب موجعه

قد كان مضطلعا بالخطب يحمله

فضلعت بخطوب البين أضلعه

يكفيه من لوعة التفنيد أن له

من النوى كل يوم ما يروعه

ما آب من سفر إلا وأزعجه

رأي إلى سفر بالرغم يجمعه

كأنما هو من حل ومرتحل

موكل بفضاء الأرض يذرعه

إذا الزماع أراه في الرحيل غنى

ولوالى السند أضحى وهو مزمعه

يأبى المطامع إلا أن تجشمه

للرزق كدحا وكم ممن يودعه

وما مجاهدة الإنسان توصله

زرقا ولا دعة الإنسان تقطعه

والله قسم بين الخلق رزقهم

لم يخلق الله مخلوقا يضيعه

لكنهم ملئوا حرصا فلست ترى

مسترزقا وسوى الغايات تقنعه

والسعي في الرزق قد قسمت

بغي ألا إن بغي المرء يصرعه

والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه

يوما ويمنعه من حيث يطعمه

أستودع الله في بغداد لي قمرا

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبودي لو يودعني

صفو الحياة وأني لا أودعه

وكم تشفع بي أن لا أفارقه: وللضرورات حال لا تشفعه

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى

وأدمعي مستهلات وأدمعه

لا أكذب الله ثوب العذر منخرق

عني بفرقته لكن أرفعه

إني أوسع عذري في خيانته

بالبين عنه وقلبي لا يوسعه

أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته

وكل من لا يسوس الملك يخلعه

ومن عدا لابسا ثوب النعيم بلا

شكر الإله فعنه الله ينزعه

اعتضت عن وجه خلي بعد فرقته

كأسا أجرع منها ما أجرعه

كم قائل لي ذنب البين قلت له

ألذنب الله ذنبي لست أدفعه

هلا أقمت فكان الرشد أجمعه

لو أنني يوم بان الرشد أتبعه

إني لأقطع أيامي وانفدها

بحسرة منه في قلبي تقطعه

بمن إذا هجع النوام بت له

بلوعة مني ليلي لست أهجعه

لا يطمئن لجنبي مضجع كذا

لا يطمئن له مذ بنت مضجعه

بالله يا منزل القصف الذي درست

آثاره وعفت مذ غبت أربعه

هل الزمان معيد فيك لذتنا

أم الليالي التي أمضته ترجعه

في ذمة الله من أصبحت منزله

وجاد غيث على مغناك يمرعه

من عنده لي عهد لا يضيعه

كما له عهد صدق لا أضيعه

ومن يصدع قلبي ذكره وإذا

جرى على قلبه ذكري يصدعه

لا صبرن لدهر لا يمتعني

به ولا بي في حال يمتعه

علما بأن اصطباري معقب فرجا

وأضيق الأمر أن فكرت أوسعه

عل الليالي التي أضنت بفرقتنا

جسمي ستجمعني يوما وتجمعه

وأن تنل أحدا منا منيته

فما الذي بقضاء الله يصنعه

ومن بديعه المطرب قول أبي الطيب المتنبي من قصيدة في سيف الدولة رحمه الله:

وقد طرقت فتاة الحي مرتديا

بصاحب غير عزهاة ولا غزل

فبات بين تراقينا ندفعه

وليس يعلم بالشكوى ولا القبل

ثم اغتدى وبه من ردعها اثر

على ذوائبه والجفن والخلل

لا أكسب الذكر إلا من مضاربه

أو من سنان أصم الكعب معتدل

جاد الأمير به لي في مواهبه

فزانها وكساني الدرع في الحلل

ومن علي بن عبد الله معفتي

بحمله من كعبد الله أو كعلي

معطي الكواعب والجرد السلاهب

والبيض القواضب والعسالة الذبل

ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك

ملء الزمان وملء السهل والجبل

فنحن في جذل الروم في وجل

والبر في شغل البحر في خجل

من تغلب الغالبين الناس منصبه

ومن عدي أعادي الجبن والبخل

والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده

بالجاهلية عين العي والخطل

ص: 303

ليت المدائح تستوفي مناقبه

فما كليب وأهل الأعصر الأول

خذ ما تراه ودع ما قد سمت به

في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

وقد وجدت مكان القول ذا سعة

فإن وجدت لسانا قائلا فقل

ومن المطرب المرقص قول أبي محمد عبد الرزاق بن الحسين المعروف بابن أبي الثياب البغدادي اللغوي المنطقي، من قصيدة في الوزير ابن العميد الكاتب:

برح اشتياق وادكار

ولهيب أنفاس حرار

ومدامع عبراتها

ترفض عن نوم مطار

لله قلبي ما يجن

من الهموم وما يواري

لقد انقضى سكر الشباب

وما انقضى وصب الخمار

وكبرت عن وصل الصغا

ر وما سلوت عن الكبار

سقيا لتغليسي إلى

باب الرصابة وابتكاري

أيام أخطر في الصبا

نشوان مسحوب الأزار

حجي إلى حجر الصراة

وفي حدائقها اعتماري

ومواطن اللذات أوطا

ني ودار اللهو داري

لم يبق لي عيش يلذ

سوى معاقرة العقار

حثا بألحان قمرت

بهن ألحان القماري

وإذا استهل ابن العميد

تضاحكت ديم القطار

خرق صفت أخلاقه

صفو السبيك من النضار

كان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد أنزل من الفلك إلي ووقف بين يدي. ومن شعر السلامي قوله:

فسمونا والفجر يضحك في الشر

ق إلينا مبشرا بالصباح

والثرايا كراية أو كجام

أو بنان أو طائر أو وشاح

وكأن النجوم في يد ساق

تتهادى تهادي الأقداح

وجمعنا بين اللواحظ والرا

ح وبين الخدود والتفاح

وشممنا بنفسج الصدغ حتى

طالعتنا من الثغور الأقاحي

زمن فات بين لهو وشرب

وغناء وراحة وارتياح

ولعمري ما كذب حيث يقول في قصيدة من شعره:

كلما أنشدت شهدت بأن ال

شعر أمر مسلم للسلامي

ومن المطرب المرقص أيضاً قول عبد الصمد بن بابك من قصيدة:

وأغيد معسول الشمائل زارني

على فرق والنجم حيران طالع

فلما جلا صبغ الدجى قلت حاجب

من الصبح أو قرن من الشمس لامع

إلى أن دنا والسحر رائد طرفه

كما ريع ظبي بالصريمة راتع

فنازعته الصهباء والليل دامس

رقيق حواشي البرد والنسر واقع

عقار عليها من دم الصب نقطة

ومن عبرات المستهام فواقع

تدير إذا شجت عيونا كأنها

عيون العذارى شق عنها البراقع

معودة غصب العقول كأنما

لها عند ألباب الرجال ودائع

تحير دمع المزج في كأسها كما

تحير في ورد الخدود المدامع

فبتنا وظل الوصل باد وسرنا

مصون ومكتوم الصبابة ذائع

إلى أن سلاعن ورده فارط القطا

ولاذت بأطراف الغصون السواجع

وقول محمد بن أحمد الرستمي من قصيدة يمدح بها الصاحب ابن عباد:

سلام على رمل الحمى عدد الرمل

وقل له التسليم من عاشق مثلي

وقفت وقوف الغيث بين طلوله

بمنسكب سح ومنسجم وبل

وما حلت حتى خالني الريم رمة

كأن لم يقف في دمنة أحد من قبلي

ومما شجاني والعواذل وقف

ولي أذن صمت هناك عن العذل

ظباء سرت بالأبطحين عواطلا

وكنت أراها في الرعاث وفي الحجل

تبدلن أسماء سوى ما عرفتها

لهن مما تدعى بسعدى ولاجمل

تشابهن أحداقا وطول سوالف

وخص الغواني بالملاحة والدل

ومكحولة الأجفان مخضوبة الشوى

ولم تدر ما لون الخضاب من الكحل

ذكرت بها من لست أنسى دنوها

وإن بعدت والشيء بالشيء يذكر بالمثل

سقى الدمع مغنى الوائلية بالحمى

سواجم تغني جانبيه عن المحل

ولا برحت عيني تنوب عن الحيا

بدمع على تلك المناهل منهل

مغاني الغواني والشبيبة والصبا

ومأوى الموالي والعشيرة والأهل

ليالي لا روض الكثيب بلا ندى

ولا شجرات الأبرقين بلا ظل

وما كان يخلو أبرق الحزن من هوى

ولكنني أمسي بغير الهوى شغلي

وقول القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني:

يا نسيم الجنوب بالله بلغ

ما يقول المتيم المستهام

ص: 304

قل لأحبابنا فداكم فؤاد

ليس يسلو ومقلة لا تنام

بنتم فالسهاد عندي رقاد

مذنأ يتم والعيش عندي حمام

فعلى الكرخ فالقطيعة فالشط فباب الشعير مني السلام

يا ديار السرور لا زال يبكي

بك في مضحك الرياض غمام

رب عيش صحبته فيك غض

وجفون الخطوب عني نيام

في ليال كأنهن أمان

من زمان كأنه أحلام

وكأن الأوقات فيها كؤوس

دائرات وأنسهن مدام

زمن مسعد والفٌ وصولٌ

ومنى تستلذها الأوهام

كل أنس ولذة وسرور

قبل لقياكم علي حرام

وقوله:

قد برح الحب بمشتاقك

فأوله أحسن أخلاقك

لا تجفه وأروع له حقه

فإنه خاتم عشاقك

وقوله:

مالي ومالك يا فراق

أبدا رحيل وانطلاق

يا نفس موتي بعدهم

فكذا يكون الاشتياق

ومن المرقص أيضاً قول القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي:

وراح من الشمس مخلوقة

بدت لك في قدح من نهار

هواء لكنه ساكن

وماء ولكنه غير جار

كأن المدير لها باليمين

إذا مال للسقي أو باليسار

تدرع ثوبا من الياسمين

له فرد كم من الجلنار

هكذا أورد هذه الأبيات الثعالبي في يتيمة الدهر.

وحكى أبو محمد الحسن بن عسكر الصولي الواسطي قال: كنت ببغداد في سنة أحدى وعشرين وخمسمائة جالساً على دكة بباب أبرز للفرجة، إذ جاء ثلاث نسوة جلسن إلى جانبي فأنشدت متمثلا:

هواء ولكنه راكد

وماء ولكنه غير جار

وسكت فقالت إحداهن: هل تحفظ لهذا البيت تماما؟ فقلت: وما أحفظ سواه، فقالت: أن أنشدك أحد تمامه وما قبله ماذا تعطيه؟ فقلت: ليس لي شيء أعطيه، ولكني أقبل فاه. فأنشدتني الأبيات المذكورة، وزادت بعد البيت الأول:

إذا ما تأملته وهي فيه

تأملت ماء محيطا بنار

فهذه النهاية في الابيضاض

وهذا النهاية في الاحمرار

فحفظت الأبيات منها، فقالت لي: أين الوعد؟ - يعني التقبيل - أرادت مداعبة بذلك والله أعلم ومن المطرب قول أبي القاسم نصر الخبز أرزي:

جيرة فرقتهم غربة البين وبين القلوب وذاك الجوار

كم أناس رعوا لنا حين غابوا

وأناس جفوا وهو حضار

عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا

ثم مالوا وأنصفوا ثم جاروا

لا تلمهم على التجني فلو لم

يتجنوا لم يحسن الاعتذار

ومن المرقص قول بديع الزمان الهمداني:

طربا فقد رق الظلا

م ولاح مصباح الصباح

وسرى إلى القلب العلي

ل عليل أنفاس الرياح

ومليحة ترنو بنرجسة وتبسم عن أقاح

تشدو كل غنائها

برد على نيل اقتراحي

قامت وقد برد الحيل تميس في ثني الوشاح

يا ليل هل لك من صبا

ح أم لنجمك من براح

سأريق ماء شبيبتي

ما بين ريحاني وراحي

فيم العتاب ولا لهم

غيي ولا لهم صلاحي

ولعاذلاتي في المليحة عاذلاتك في السماح

وهواي للبيض الصبا

ح هواك للبيض الصفاح

وولوع كفي بالقداح

ولوع كفك بالرماح

وعليك إدمان الندى

وعلي إدمان امتداحي

وقوله من أخرى في السلطان محمود بن سبكتكين:

تعالى الله ما شاء

وزاد الله إيماني

أأفريدون في التاج

أم الإسكندر الثاني

أم الرجعة قد عادت

إلينا بسليمان

أظلت شمس محمود

على أنجم سامان

وأمسى آل بهرام

عبيدا لابن خاقان

إذا ما ركب الفيل

لحرب أو لميدان

رأت عيناك سلطان

على منكب شيطان

فمن واسطة الهند

إلى ساحة جرجان

ومن ناحية السند

إلى أقصى خرسان

على مقتبل العمر

وفي مفتتح الشان

لك السرج إذا شئت

على كاهل كيوان

يمين الدولة العقبى

لبغداد وغمدان

وما يقعد بالمغرب

عن طاعتك اثنان

إذا شئت ففي يمن

وفي أمن وإيمان

لما رأيت الزمان نكسا

ليس في العشرة انتفاع

كل رئيس به ملال

وكل رأس به صداع

لزمت بيتي وصنت عرضا

به عن الذلة امتناع

ص: 305