المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

في البيت الأول، اخترت: من الخيرة واخترت الثانية: من الاختيار. - أنوار الربيع في أنواع البديع

[ابن معصوم الحسني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌أنوار الربيع في أنواع البديع

- ‌حسن الابتداء وبراعة الاستهلال

- ‌الجناس المركب والمطلق

- ‌الجناس الملفق

- ‌الجناس المذيل واللاحق

- ‌الجناس التام والمطرف

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب

- ‌الجناس المعنوي

- ‌الاستطراد

- ‌الاستعارة

- ‌المقابلة

- ‌وإن هم استخدموا عيني لرعيهم=أو حاولوا بذلها فالسعد من خدمي

- ‌الافتنان

- ‌اللف والنشر

- ‌الالتفاف

- ‌الاستدراك

- ‌تأليف السيد علي صدر الدين معصوم المدني

- ‌ حققه وترجم لشعرائه شاكر هادي شاكر

- ‌ الجزء الثاني

- ‌الإبهام

- ‌الطباق

- ‌إرسال المثل

- ‌الأمثال السائرة

- ‌التخيير

- ‌النزاهة

- ‌الهزل المراد به الجد

- ‌التهكم

- ‌تنبيهان

- ‌القول بالموجب

- ‌التسليم

- ‌الاقتباس

- ‌المواربة

- ‌التفويف

- ‌الكلام الجامع

- ‌المراجعة

- ‌المناقصة

- ‌المغايرة

- ‌الجزء الثالث

- ‌تتمة باب المغايرة

- ‌التوشيح

- ‌التذييل

- ‌تشابه الأطراف

- ‌التتميم

- ‌الهجو في معرض المدح

- ‌الاكتفاء

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌الاستثناء

- ‌مراعاة النظير

- ‌التوجيه

- ‌التمثيل

- ‌عتاب المرء نفسه

- ‌القسم

- ‌حسن التخلص

- ‌الإطراد

- ‌العكس

- ‌الترديد

- ‌المناسبة

- ‌الجمع

- ‌الانسجام

- ‌تناسب الأطراف

- ‌ائتلاف المعنى مع المعنى

- ‌المبالغة

- ‌ الإغراق

- ‌ الغلو

- ‌التفريق

- ‌التلميح

- ‌العنوان

- ‌التسهيم

- ‌التشريع

- ‌المذهب الكلامي

- ‌نفي الشيء بإيجابه

- ‌الرجوع

- ‌تنبيهات

- ‌تجاهل العارف

- ‌الاعتراض

- ‌حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي

- ‌التهذيب والتأديب

- ‌الاتفاق

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌المماثلة

- ‌التوشيع

- ‌التكميل

- ‌شجاعة الفصاحة

- ‌التشبيه

- ‌الفصل الأول في الطرفين

- ‌الفصل الثاني في الوجه

- ‌تنبيهات

- ‌الفصل الثالث في الغرض

- ‌الفصل الرابع في الأحوال

- ‌الفصل الخامس في الأداة

- ‌الفرائد

- ‌التصريع

- ‌الاشتقاق

- ‌السلب والإيجاب

- ‌المشاكلة

- ‌ما لا يستحيل بالانعكاس

- ‌التقسيم

- ‌الإشارة

- ‌تشبيه شيئين بشيئين

- ‌الكناية

- ‌الترتيب

- ‌المشاركة

- ‌التوليد

- ‌الإبداع

- ‌الإيغال

- ‌النوادر

- ‌التطريز

- ‌التكرار

- ‌التنكيت

- ‌حسن الإتباع

- ‌الطاعة والعصيان

- ‌البسط

- ‌المدح في معرض الذم

- ‌الإيضاح

- ‌التوهيم

- ‌الألغاز

- ‌الإرداف

- ‌الاتساع

- ‌التعريض

- ‌جمع المؤتلف والمختلف

- ‌الإيداع

- ‌تنبيهات

- ‌المواردة

- ‌الالتزام

- ‌المزاوجة

- ‌المجاز

- ‌التفريع

- ‌التدبيج

- ‌التفسير

- ‌التعديد

- ‌حسن النسق

- ‌حسن التعليل

- ‌التعطف

- ‌الاستتباع

- ‌التمكين

- ‌التجريد

- ‌إيهام التوكيد

- ‌الترصيع

- ‌التفصيل

- ‌الترشيح

- ‌الحذف

- ‌التوزيع

- ‌التسميط

- ‌التجزئة

- ‌سلامة الاختراع

- ‌تضمين المزدوج

- ‌ائتلاف اللفظ مع المعنى

- ‌الموازنة

- ‌ائتلاف اللفظ مع الوزن

- ‌ائتلاف الوزن مع المعنى

- ‌ائتلاف اللفظ مع اللفظ

- ‌الإيجاز

- ‌التسجيع

- ‌تنبيهات

- ‌التسهيل

- ‌الإدماج

- ‌الاحتراس

- ‌حسن البيان

- ‌العقد

- ‌تنبيهات

- ‌التشطير

- ‌المساواة

- ‌براعة الطلب

- ‌حسن الختام

- ‌كلمة الختام للمؤلف

الفصل: في البيت الأول، اخترت: من الخيرة واخترت الثانية: من الاختيار.

في البيت الأول، اخترت: من الخيرة واخترت الثانية: من الاختيار. وفي الثاني، تجد الأولى: من الجود؛ والثانية: من الوجدان. وهذه الأشياء لا يخفى على الذوق السليم ما فيها من الاستثقال. ولم أقل هذا الكلام جهلاً بمقدار الشيخ شرف الدين بن الفارض، وأنه لم يكن من الفصحاء، ألا ترى قصائده التي أخلاها من الجناس مثل الميميتين والجيمية، واللامية؛ والمهموزة، وغيرها ما أرقها وأحلاها. والجناس إذا كثر في الكلام مُل، اللهم إلا أن يكون سهل التركيب، ليس على المتكلم فيه كلفة. انتهى كلامه.

وقال الشيخ شهاب الدين محمود: إنما يحسن الجناس إذا أتى في الكلام عفواً من غير كد، ولا بعد، ولا ميل إلى جانب الركة، ولا يكون كقول الأعشى:

وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني

شاوٍ مشل شلولٌ شلشل شول

ولا كقول مسلم بن الوليد:

سلت وسلت ثم سلَّ سليلها

فأتى سليل سليلها مسلولا

انتهى.

ومثل هذين البيتين قول أبي الطيب المتنبي:

فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا

قلاقل عيس كلهم قلاقل

قال ابن حجة: هذا البيت حكمت علي أبي الطيب به المقادير.

قال الثعالبي: قال ليس سهل بن المرزبان يوماً: إن من الشعراء من شلشل، ومنهم من سلسل، ومنهم من قلقل، يشر إلى الأبيات الثلاثة. فقال الثعالبي: إني أخاف أن أكون رابع الشعراء، أراد قول الشاعر:

الشعراء فاعلمن أربعة

فشاعر يجري ولا يجرى معه

وشاعر من حقه أن ترفعه

وشاعر من حقه أن تسمعه

قال الثعالبي: ثم إني قلت بعد ذلك بحين:

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فأنف البلابل باحتساء بلابل

والله أعلم.

‌الاستطراد

أجروا سوابق دمعي في محبتهم

واستطردوها كخيل يوم مزدحم

الاستطراد في اللغة: مصدر استطراد الفارس لقرنه، إذا طرد فرسه بين يديه، يوهمه الفرار، ثم يعطف عليه على غرة منه، وهو ضرب من المكيدة. وفي الاصطلاح، هو أن يكون الناظم أو الناثر آخذاً في غرض من أغراض الكلام، من غزل أو مدح أو وصف أو غير ذلك، فيخرج منه إلى غرض آخر.

وقال ابن أبي الحديد: الاستطراد، هو أن تخرج بعد تمهيد ما تريد أن تمهده إلى الأمر الذي تروم ذكره، فتذكره وكأنك غير قاصد لذكره بالذات، بل قد حصل ووقع ذكره بالعرض من غير قصد، ثم تدعه وتتركه وتعود إلى الأمر الذي كنت في تمهيده كالمقبل عليه وكالملغي لما استطردت بذكره.

فمن ذلك قول البحتري وهو يصف فرساً:

واغر في الزمن البهيم محجل

قد رحت منه على أغر محجلِ

كالهيكل المبني إلا أنه

في الحسن جاء كصورة في هيكلِ

يهوي كما هوت العقاب وقد رأت

صيداً وينتصب انتصاب الأجدل

ما إن يعوف قذى ولو أوردته

يوماً خلائق حمدوية الأحول

ذنب كما سحب الرشاء يذب عن

عرف وعرفه كالقناع المسبل

جذلان ينفض عذرة في غرة

يفقٍ تسيل حجولها في جندل

كالرائح النشوان أكثر مشية

عرضاً على السنن البعيد الأطول

هزج الصهيل كأن في نغماته

نبرات معبد في الثقيل الأول

ملك القلوب فإن بدا أعطيته

نظر المحب إلى الحبيب المقبل

ألا تراه كيف استطرد بذكر حمدويه الأحول الكاتب، وكأنه لم يقصد لذلك ولا أراده، وإنما جرته القافية، ثم ترك ذكره وعاد إلى وصف الفرس ولو أقسم إنسان أنه ما بنى القصيدة منذ افتتحها إلا على ذكره، ولذلك أتى بها على روي اللام لكان صادقاً، فهذا هو الاستطراد. ومن الفرق بينه وبين التخلص، أنك في التخلص متى شرعت في ذكر الممدوح أو المهجو تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه من المديح والهجاء بيتاً بعد بيت حتى تنقضي القصيدة. وفي الاستطراد يمر ذكر الأمر الذي استطردت به مروراً كالبرق الخاطف، ثم تتركه وتنساه وتعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصد قصد ذاك، وإنما عرض عروضاً، لم يقصد بذكر الأول التوصل إليه، ثم يعود إلى ما كان فيه، فإن لم يعد فهو تخلص. وهذا هو الفرق بينه وبين المخلص. وأحسن ما سمع في مثاله قول السمؤل، بل قيل أنه أول شاهد ورد في هذا النوع:

وأنا لقوم لا نرى الموت سبة

إذا ما رأته عامر وسلولُ

ص: 41

فاستطرد من الفخر بالشجاعة إلى هجو أعدائه، ثم عاد إلى ما كان عليه من الافتخار فقال:

يقرب حب الموت آجالنا لنا

وتكره آجالهم فتطولُ

وما مات منا سيد حتف أنفه

ولا طل منا حيث كان قتيل

تسيل على حد الظبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

إلى آخر القصيدة.

ومثله قول الآخر:

إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه

فليس به بأس وإن كان من جرم

فخرج من الوعظ إلى الهجو المؤلم في قبيلة جرم. ووقع منه في القرآن العظيم آيات، منها في سورة لقمان، قوله تعالى:(وإذا قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنت تعملون) . فاستطرد من حكاية وصية لقمان لابنه وصيته سبحانه لعباده، لما بينهما من المناسبة، ثم عاد إلى ما كان عليه من وصية لقمان لابنه فقال:(يا بني إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردلٍ) إلى آخر الآيات. ومنها في سورة الشعراء، حيث حكى قول إبراهيم:(ولا تخزني يوم يبعثون) فاستطرد إلى وصف المعاد بقوله: (يوم لا ينفع مال ولا بنون) إلى آخره، ثم عاد إلى ذكر الأنبياء والأمم. ومثل كثير فيه يظهر عند التتبع.

ومما وقع في الشعر قول الشريف الرضي عليه من الله الرضا:

أبونا الذي أبدى بصفين سيفه

ضغاء ابن هند والقنا يتقصف

ومن قبل ما أبلى ببدرٍ وغيرهما

ولا موقف إلا له فيه موقفُ

ورثنا رسول الله علوي مجده

ومعظم ما ضم الصفا والمعرف

وعند رجال إن جل تراثه

قضيب محلى أو رداء مفوف

يريدون أن نلقي إليهم أكفنا

ومن دمنا أيديهم الدهر تنطف

فلله ما أقسى ضمائر قومنا

لقد جاوزوا حد العقوق وأسرفوا

يضنون أن تعطى نصيباً من العلا

وقد عاجلوا دين العلى وتسلفوا

فاستطرد من الافتخار إلى الشكوى من بني العباس وجورهم، ثم عاد إلى غرضه من الافتخار فقال:

وهذا أبي الأدنى الذي تعرفونه

مقدم مجد أول ومخلف

مؤلف ما بين الملوك إذا هفوا

وأشفوا على حز الرقاب وأشرفروا

إلى آخر القصيدة وهي من محاسن قصائده. وأراد بالقضيب والرداء في قوله: قضيب محلى أو رداء مفوف، قضيب النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (وبردته، اللذين كان الخلفاء يتوارثونهما. قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: أما القضيب فهو السيف الذي نحله علياً) عليه السلام (في مرضه، وليس بذي الفقار، بل هو سيف آخر. وأما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير، ثم صار هذا السيف وهذه البردة إلى الخلفاء بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ. انتهى.

وقول الأبيوردي:

وواش يسر الحقد واللحظ ناطق

به وعلى الشحناء تطوى ترائبه

وشى بسليمي مظهراً لي نصيحة

ومن نصحاء المرء من هو كاذبه

ورشح من هنا وهنا حديثه

ليخدعني والليل يغتال خاطبه

فقربته مني ولم يدر أنه

إذا عد مجد ليس منن يقاربه

وأرعيته سمعي ليحسب أنني

سريع إلى الأمر الذي هو طالبه

ولو رام عمرو والمغيرة غيرتي

لاعيتهما فليحذر الشر جالبه

أراد عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة لأنهما كانا أدهى دهاة العرب وأمكرها.

وما الصقر مني حين يرسل نظرة

وتصدقه عيناه فيما يراقبه

ولا الأسد الضاري يريد شكيمتي

وإن دميت عند الدفاع مخالبه

فاستطرد من وصف الواشي وذمه إلى وصف نفسه بالحزم والعقل وتقرب النظر والفراسة والشجاعة، ثم عاد إلى الواشي فقال:

فقلت له لما تبين أنني

فتى الحي لا يشقى به من يصاحبه

أتعذلني

فاهاً لفيك

على الهوى

لأرمي بالحبل الذي أنت قاضبه

وأهجر من أغرى إذا عبته به

جعلت فداء الذي أنت عائبه

ومنه قولي:

وافي وافق الدجى بالزهر متشح

والنجم يخفي لرائيه ويتضحُ

والبدر يرفل في ظلمائه مرحاً

وضرة البدر عندي زانها المرح

ص: 42

مهفهف تستخف الراح راحته

ويثقل السكر عطفيه فيرتنح

بدا يطوف بها حمراء ساطعة

في جبهة الليل من لالائها وضح

فاطرح زنادك لا تستورده قبساً

لا يقدح الزند من في كفه القدح

وافي بها أسرة في المجد راسية

لا يستفزهم حزن ولا فرح

هم سمام العدى إن غارة عرضت

وهم غمام الندى والفضل إن سمحوا

تخفي وجوههم الأقمار إن سفروا

وتخجل السحب أيديهم إذا منحوا

مالوا إلى فرص اللذات من أمم

ولم يميلوا عن العليا ولا جنحوا

فاستطرد من وصف الساقي والخمر إلى وصف ندمائه بالرجاحة والشجاعة والسماحة والصاحبة، ثم عاد إلى ما كان عليه من وصف الساقي فقال:

وبات يمنحني من دونهم منحا

كانت أماني نفسي والهوى منح

وقلت بعده:

وذات حسن إذا ميطت براقعها

فالشمس داهشة والبدر مفتضح

عاتبتها بعدما مال الحديث بها

عتباً يمازحه من دلها ملح

فأعرضت ثم لانت بعد قسوتها

حتى إذا لم يكن للوصل مطرح

أغضت وأرضت بما أهوى وعفتنا

تأبى لنا مأثماً في الحب يجترح

فلم نزل لابسي ثوب العفاف إلى

أن كاد يظهر في فرح الدجى جلح

قامت وقمت وفي أثوابنا أرج

من الوصال وفي أكبادنا قرح

ما أصعب الحب في خطب وأبرحه

بذي العفاف وإن أخفى الذي يضح

وأورد ابن حجة من شواهد الاستطراد قول حسان بن ثابت:

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا رأس طمرة ولجسام

قال: فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحارث بن هشام. والحارث هذا هو أخو أبي جهل، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، ومات يوم اليرموك بالشام. انتهى.

وأنا أقول: ليس هذا من الاستطراد في شيء، بل هو تخلص البتة، لأن الاستطراد يشترط فيه العود إلى الكلام الأولى كما تقدم، وحسان لم يعد إلى ما كان عليه من ذكر العاذلة، بل أتم القصيدة مستمراً على ذكر هزيمة الحارث بن هشام والإيقاع بقومه في يوم بدر. ولنذكر ما قبل البيتين مما يتعلق بهما، وما بعدهما إلى آخر القصيدة حتى يعلم صحة ما ذكرناه.

قال حسان:

يا من لعاذلة تلوم سفاحة

ولقد عصيت على الهوى لوامي

بكرت علي بسحرة بعد الكرى

وتقارب من حادث الأيام

زعمت بأن المرء يكرب عمره

حدث لمعتكر من الأصرام

يقول: زعمت أن الرجل يقرب أجله الفقر، فأمرتني بالإمساك، والمعتكر المال الكثير، والأصرام جمع صرمة بكسر الصاد المهملة، وهي القطعة من الإبل، ما بين العشرين إلى الثلاثين، وقيل غير ذلك.

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام

تذر العناجيج الجياد بقفزة

مر الدموك بمحصد ورجام

العناجيج: جياد الخيل والإبل. قال شارح الديوان: أراد بالدموك البكرة وهي الخشبة المستديرة التي يستقي عليها، يريد أنها تسرع سرعان الكبرة. والمحصد: الحيل المحكم الفتل. والرجامان: قرنا البئر اللتان تكون بينهما البكرة.

ملأت به الفرجين فارمدت به=وثوى أحبته بشر مقام يريد ملأت به الفرس فرجيها، وهو ما بين رجليها عدوا. وأرمدت: أسرعت.

وبنو أبيه ورهطه في معرك

نصر الإله به ذوي الإسلام

طحنتهم والله ينفذ أمره

حرب يشب سعيرها بضرام

لولا الإله وجريها لتركنه

جزر السباع ودسنه بحوامي

الحوامي: ميامن الحافر ومياسره.

من كل مأسور يشد صفاده

صقر إذا لاقى الكتيبة حامي

ومجدل لا يستجيب لدعوة

حتى تزول شوامخ الأعلام

ومرنح فيه الأسنة شرعا

كالجفر غير مقابل الأعمام

الجفر: الجدي، والمقابل الذي أبوه وأمه من قبيلة واحدة، أو الكريم النسب من قبل أبويه.

من صلب خندف ماجد أعراقه

بخلت به بيضاء ذات تمام

هذا آخر القصيدة فأين الاستطراد الذي ذكره ابن حجة؟ وقد قال هو: الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول، وقطع الكلام بعد المستطرد به.

ص: 43

ولما بلغت هذه القصيدة الحارث بن هشام قال، وهو أحسن ما قيل في الاعتذار عن الفرار:

الله أعلم ما تركت قتالهم

حتى رموا فرسي بأشقر مزبدِ

وعلمت أني إن أقاتل واحداً

أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي

فصددت عنهم والأحبة فيهم

طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد

وقد ذكر ابن حجة وغيره أبياتاً كثيرة، وعدوها من الاستطراد لا يعلم هل عاد الشاعر فيها إلى ما ابتدأ فيه من الكلام أم لا، فلا يقطع بكونها من هذا الباب حتى يعلم ذلك.

قال ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على المثل السائر: ومما زعم صاحب كتاب المثل السائر أنه استطراد قول بعض شعراء الموصل يمدح الأمي قرواش بن المقلد وقد أمره أن يعبث بهجو وزيره سليمان بن فهد وحاجبه أبي جابر، ومغنيه البرقعيدي، في ليلة من ليالي الشتاء، وأراد بذلك الدعابة والولع بهم وهم في مجلس الشراب:

وليل كوجه البرقعيدي ظلمة

وبرد أغانيه وطول قرونه

سريت ونومي فيه نوم مشرد

كعقل سليمان بن فهد ودينه

على أبلق فيه التفات كأنه

أبو جابر في خبطه وجنونه

إلى أن بدى ضوء الصباح كأنه

سنا وجه قرواش وضوء جبينه

وليس من الاستطراد في شيء، لأن الشاعر قصد هجاء كل واحد منهم ووضع الأبيات لذلك، ومضمون الأبيات كله مقصود له، فكيف يكون استطراد؟. انتهى.

قلت: وقد أورد هذه الأبيات القاضي ابن خلكان في تاريخه في ترجمة المقلد بن المسيب قال: ومن جملة شعراء دمية القصر، الطاهر الجزري وقد مدح قرواشاً بقوله وهو في نهاية الحسن في باب الاستطراد، ثم أورد الأبيات وقال بعدها: ولشرف الدين بن عنين الشاعر على هذا الأسلوب في فقيهين كانا بدمشق، ينبز أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس وهو:

البغل والجاموس في جدليهما

قد أصبحا عظة لكل مناظرِ

برزا عشية ليلة فتباحثا

هذا بقرنيه وذا بالحافر

لم يتقنا غير الصياح كأنما

لقنا جدال المرتضى ابن عساكر

لفظ طويل تحت معنى قاصر

كالعقل في عبد اللطيف الناظر

اثنان مالهما وحقك ثالث

إلا رقاعة مذلويه الشاعر

ولقد حكى لي بعض الأصحاب، أنه سأل ابن عنين عن أبيات الطاهر الجزري وأنه استحسن البناء عليها، فحلف أنه ما كان سمعها والله أعلم.

ومذلويه المذكور لقب كان ينبز به الرشيد عبد الرحمن بن بدر النابلسي الشاعر المعروف. انتهى كلام ابن خلكان.

قلت: وفي قول ابن أبي الحديد: إن الأبيات المذكورة ليست من الاستطراد في شيء، نظر، فقد قال القزويني في الإيضاح: الاستطراد هو الانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به، لم يقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني، كقول الحماسي:

وأنا لقوم ما نرى الموت سبة

إذا ما رأته عامر وسلول

ثم قال: وقد يكون الثاني هو المقصود فيذكر الأول قبله ليتوصل إليه كقول أبي اسحاق الصابي:

إن كنت خنتك في المودة ساعة

فذممت سيف الدولة المحمودا

وزعمت أن له شريكاً في العلى

وجحدته في فضله التوحيدا

قسماً لو أن حالف بغموسها

لغريم دين ما أراد مزيدا

قال: ولا بأس أن يسمى هذا إبهام الاستطراد. انتهى.

فالأبيات التي أنكر ابن أبي الحديد كونها من الاستطراد من هذا القبيل فاعلم.

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته من هذا القبيل أيضاً وهو:

كأن آناء ليلي في تطاولها

تسويف كاذب آمالي بقربهم

فإنه قدم أداة التشبيه ليتوصل إلى ما قصده من ذم كاذب الآمال.

وكذلك بيت ابن جابر الأندلسي في بديعيته وهو:

قد أفصح الضب تصديقاً ببعثته

إفصاح قس وفهم القوم لم يهم

وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:

يستطرد الشوق خيل الدمع سابقه

فيفضل السحب فضل العرب للعجمِ

قال ابن حجة: الشيخ عز الدين أحرز قصبات السبق باستطراده هنا على الشيخ صفي الدين والعميان، مع التزامه تسمية النوع المورى به من جنس الغزل، ومراعاة جانب الرقة ونظم الاستطراد على الشرط المذكور.

وبيت ابن حجة قوله:

واستطردوا خيل صبري عنهم فكبت

قصرت كليالينا بوصلهم

ص: 44