الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأعظم من عفا عن قدرة، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أهل مكة كانوا يؤذونه في نفسه، ويقصدون نكايته في أهله، قتلوا أعمامه، وعذبوا أصحابه، وألبوا عليه، وأخرجوه من أحب البقاع إليه، حتى إذا فتحها الله عليه، ودخلها بغير حمدهم، وظهرت بها كلمته على رغمهم، قام فيهم خطيبا، فحمد الله وشكره على ما منحه من الظفر، ثم قال: أقول لكم كما قال أخي يوسف (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) .
وقرنت بين العز والانتقام مع صحة مقارنته بالاقتدار كما مر، لما بين العز والانتقام من الملائمة عند أهله، كما قال أبو الطيب المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
ولك أن تجعل المقارنة الأولى من النوع الثاني، والثانية من النوع الأول، لأن في الملائمة بين العز والانتقام نوع دقة، والله أعلم.
وبيت بديعة المقري قوله:
فرد المطالب لاثان لعزمته
…
شفع الرغائب دون الوتر لم ينم
قال في شرحه يمكن أن يقال في هذا البيت:
شفع الرغائب لا ثان لعزمته
…
فرد المطالب دون الوتر لم ينم
ولكن اخترنا الترتيب الأول لما فيه من التورية والترشيح، ومقابلة الشفع بالوتر. أما التورية فهي في قوله (لاثان لعزمته) أي لا شيء يرد عزمته، وقوله (فرد المطالب) رشحت (لاثان) للتورية، وصلحت لها. فيقول: لاثان لعزمته بل هي وحيدة. وقوله (شفع الرغائب) فيه تورية أيضاً، فإن الرغائب نوع من الصلاة معروف يسمى شفعا، والمراد بالرغائب العطايا، وإنها ليست ترد أفرادا بل أشفاعاً. وفي قوله (دون الوتر لم ينم) المراد به الذحل، ولكن ذكر الشفع قبله رشحه لصلاة الوتر، ولذلك ذكر النوم بعده وصلح له أيضاً، فأفهم ذلك. انتهى بنصه.
وبيت بديعية العلوي قوله:
فرد النظير فمن والاه في نعم
…
زوج المعالي فمن عاداه في نقم
قال في شرحه: كان يصح أن يقول:
فرد النظير فمن عاداه في نقم
…
زوج المعالي فمن والاه في نعم
فلا يختل معناه، إلا أن تقديم الموالاة والنعم أولى من تقديم المعاداة والنقم.
المبالغة
كل البليغ وقد أطرى مبالغة
…
عن حصر بعض الذي أولى من النعم
اختلف أرباب البديع في عد المبالغة من المحسنات في الكلام، فذهب قوم إلى أنها مردودة مطلقا، لا تعد من المحسنات أصلا، وأن خير الكلام ما خرج مخرج الحق، وجاء على منهج الصدق.
كما يشهد له قول حسان بن ثابت:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
…
على المسامع أن كيس وأن حمقا
وإن أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وذهب آخرون إلى أنها مقبولة مطلقا، بل الفضل مقصور عليها، لأن أحسن الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه. ومن فقراتهم المستعذبة قولهم في الشعر (أعذبه أكذبه) . ولهذا استدرك النابغة على حسان قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
حيث استعمل جمع القلة - أعني الجفنات والأسياف - وذكر وقت الضحوة وهو وقت تناول الطعام، وقال: يقطرون دون يسلن، ويفضن، أو نحو ذلك. ويروى هذا الاستدراك للخنساء بحضرة النابغة على وجه أتم من هذا.
ذكروا أن النابغة الذبياني كان يجلس للشعراء في سوق عكاظ وينشدونه فيفضل من يرى تفضيله.
وأنشدته الخنساء في بعض المواسم قصيدتها التي مطلعها:
قذى بعينيك أم بالعين عوار
…
أم أوحشت إذ خلت ن أهلها الدار
فأعجبه شعرها فقال: والله لولا أن هذا الأعمى - يعني الأعشى - أنشدني قبلك لفضلتك على شعراء هذا الموسم. وفي رواية، لقلت: أنك أشعر الجن والأنس، وقيل: قال لها: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت: وذا خصية يا أبا أمامة، فقال: وذا خصية. وكان ممن عرض شعره في ذلك الموسم حسان بن ثابت، فغضب وقال: انا أشعر منك ومنها، فقال: ليس الأمر كما ظننت، ثم ألتفت الخنساء فقال: يا خناس خاطبيه، فالتفتت إليه فقالت: ما أجود بيت في قصيدتك التي عرضتها آنفا؟ قال: قولي:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فقالت: ضعفت افتخارك وانزرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا، قال وكيف؟ قالت: قلت (الجفنات) والجفنات ما دون الشعر، ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقلت (الغر) والغرة بياض يكون في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعا. وقلت (يلمعن) واللمع شيء يأتي بعد شيء، ولو قلت: يشرقن لكان أكثر، لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت (بالضحى) ولو قلت: بالدجى لكان أكثر إشراقا. وقلت (وأسيافنا) والأسياف دون العشر ولو قلت: سيوفنا كان أكثر. وقلت: يقطرن، ولو قلت: يسلن كان أكثر. وقلت من نجدة، والنجدات أكثر. وقلت: دما والدماء أكثر من الدم. فلم يجر جوابا. انتهى.
وأجيب، أولا بأن حسان لا يرى حسن المبالغة، كما صرح به في شعره بالسابق، مع تسليمه فالجواب: عن الأول، بأن جمع القلة قد يستعمل في الكثرة،، وهنا كذلك كقوله تعالى (وهم في الغرفات آمنون) مع أن في الجنة غرفا كثيرة، والقرينة وصف الجفنات بالغر، وهي جمع كثرة.
وعن الثاني، بأن الغر هنا ليس جمع غرة كما نقد، وإنما الغرِ: البيض المشرقات من كثرة الشحوم وبياض اللحوم، وهي جمع غراء وهي البيضاء.
وعن الثالث، بأن اللمعان هو المستعمل في هذا النحو الذي يدل به على البياض كما تقول: لمع السراب، ولمع البرق.
وعن الرابع، بأن الذي يلمع في الضحى أشد نورا، فإن قليل النور يضمحل في ضوء الشمس، ولذلك ترى كثيرا من الأشياء المشرقة النيرة يلمع ليلا ولا يلمع نهارا، كعيون بعض السباع، وخاصة الضبع، فإن عينيه ترى في الليل كأنها جمرة تتقد، ولا ترى في النهار كذلك؛ وما ذلك إلا لضعف نورها وغلبه نور الشمس عليها. فكلما يلمع نهارا يلمع ليلا ولا عكس.
وعن الخامس، بما أجيب به عن الأول.
وعن السادس، بأنه تبع فيه الاستعمال في مثل هذا المقام. فإن العرب يقولون في وصف الشجاع: سيفه يقطر دما، ولم تجر العادة بأن يقال: سيفه يسيل دما، أو يجري دما. مع أن يقطر أمدح، لأنه يدل على مضاء السيف، وسرعة خروجه عن الضريبة، حتى لا يكاد يعلق به دم، ولو علق إنما يعلق شيء يسير، بحيث يقطر ولا يسيل، وكثرة الدم على السيف تدل على ثقل حركة الضارب وضعف ساعده. ومن هذا يظهر الجواب الثامن أيضاً.
وعن السابع، أن للتنكير في قوله: من نجدة، للتعظيم، فالمبالغة موجودة.
وعن الثامن، ما تقدم في جواب السادس والله وأعلم.
وقال جماعة من المحققين: إن المذهب المرضي في المبالغة أنه أن أريد بها ادعاء بلوغ وصف في الشدة والضعف حدا مستبدا، ممكنا عقلا وعادة، فهي من المحسنات المقبولة بل المطلوبة، وسماها بعضهم حينئذ: التبليغ، وابن المعتز: الإفراط في الصفة. وأن أريد بها ما يشتمل التبليغ والإغراق والغلو (كما في التلخيص والإيضاح) انقسمت باعتبار أقسامها المذكورة إلى مقبولة ومردودة. فالتبليغ والإغراق مبالغتان مقبولتان، والغلو أن أفضى إلى الكفر أو قاربه كان مبالغة مردودة وإلا فمقبولة، والفرق بين الثلاثة أن المدعي للوصف في الشدة أو الضعف إن كان ممكنا عقلا أو عادة فهو التبليغ كما عرفت، وإن كان ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق، وإن لم يكن ممكنا لا عقلا ولا عادة فهو الغلو.
وقال بعض المتأخرين - وهو القول الأمم والمذهب الأقوم -: الحق أن فضل المبالغة لا ينكر لوقوعها في القرآن الكريم، ومنها جميع أبواب التشبيه والاستعارة والكناية، وقد استكثر منها حسان وإضرابه من مرجحي جانب الصدق، لكن لا تنحصر الإجادة فيها فقد رأينا الصدق المحض كثيرا في غاية الحسن ونهاية الجودة.
كقول زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه
…
لا يذهب العرف بين الله والناس
وقول الآخر:
وأكرم أخلاق يدل بها الفتى
…
عفاف مشوق حين يخلو بشائق
ورأينا كثيرا من المبالغة لا يرضاها ذو طبع سليم كقول ابن الحجاج:
وراحة لو صفعت حاتما
…
علمت الجود قفا حاتم
وعلم من ذلك أن المردود من المبالغة غير منحصر في الغلو المفضي إلى الكفر. انتهى.
وهو كما تراه كلام من الحسن بمحل، ثم ليس المراد المبالغة هنا إلا التبليغ، وأما الإغراق والغلو فسيأتي الكلام على كل منها مستوفى في محله إنشاء الله تعالى.
ومن أمثلتها في الكتاب العزيز قوله تعالى: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها) . الذهول: الذهاب عن الأمر بدهشة. والمرضعة، هي التي ألقمت ثديها الصبي. والمرضع - بغير هاء - هي التي من شانها أن ترضع. والمعنى أن هول القيامة إذا فاجأها وقد ألقمت الصبي ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة عن الذي أرضعته.
وعن الحسن، تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. فالذهول والوضع المذكوران مبالغة في وصف يوم القيامة بالشدة وهما ممكنان، ووصف يوم القيامة في شدة الهول إلى هذا الحد أمر ممكن عقلا وعادة، وهي عادة مبالغة مستحسنة.
ومن أمثلتها في الشعر قول امرئ القيس:
فعادى عداء بين ثور ونعجة
…
دراكا فلم ينضح بماء فيغسل
العداء بالكسر والمد: الموالاة بين الصيدين، يصرع أحدهما على أثر الآخر في طلق واحد.
يقول: عاديت بين الصيدين، أي صدتهما في شوط واحد للفرس. واراد بالثور الذكر من بقر الوحش، وبالنعجة الأنثى منها. والدرك بالكسر: المتتابع، وهو صفة لعداء في البيت. ويغسل مجزوم معطوف على ينضح، أي لم يعرف فلم يغسل. ادعى أن هذا الفرس أدرك ثورا وبقرة وحشيين في مضمار واحد ولم يعرق. وهذا أمر ممكن عقلا وعادة.
ومثله قول أبي الطيب المتنبي:
وأصرع أي وحش قفَّيته به
…
وانزل عنه مثله حين أركب
وقال ابن أبي الأصبع: أبلغ شعر سمعته في باب المبالغة قول شاعر الحماسة، إذ بالغ في مدح ممدوحه فقال:
رهنت يدي بالعجز عن شكر بره
…
وما فوق شكري للشكور مزيد
ولو كان مما يستطاع استطعته
…
ولكن مالا يستطاع شديد
فانظر ما أحلى احتراسه عن ذلك بقوله (وما فوق شكري للشكور مزيد) . وانظر كيف أظهر عذره في عجزه مع قدرته بأن قال في البيت الثاني (ولو كان مما يستطاع استطعته) ثم اخرج بقية بيت المبالغة مخرج المثل السائر حيث قال (ولكن ما لا يستطاع شديد) .
ومن هنا قال أبو نواس:
لا تسدين إلي عارفة
…
حتى أقوم بشكر ما سلفا
قلت: ومثل هذين البيتين في حسن مبالغتهما وبديع لفظهما ومعناهما قول الآخر:
وكم لك نعمى لو تصدى لشكرها
…
لسان معد لاعتراه كلول
أكلف نفسي أن أقابل عفوها
…
بجهدي وهل يجزي الكثير قليل
ومن المبالغة المجازية قول نصيب في هشام. قيل: دخل نصيب بن رباح على هشام بن عبد الملك فأنشده:
إذا استبق الناس العلى سبقتهم
…
يمينك عفوا ثم صلت شمالكا
فقال له هشام: بلغت غاية المدح فسلني، فقال: يا أمير المؤمنين يداك. بالعطية أطلق من لساني بالمسألة، فقال: لابد أن تفعل، قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فأكسدها، فلو نفقها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها. فأقطعها أرضا وأمر بحلي وكسوة، فنفقت السوداء.
ومن المبالغة المستجادة قول مسلم بن الوليد في الخمر:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب
…
تمشت بنا مشي المقيد في الوحل
حكي أن الرشيد لما ظفر بمسلم بن الوليد وكان قد رمي عند بالتشيع رق عليه، وعفا عنه، ثم قال له. أنشدني أشعر شعر لك. فكلما بدأ بقصيدة قال: لا، التي يقول فيها: الوحل، فإني رويتها وأنا صغير، حتى انتهى إلى قوله:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب
…
تمشت بنا مشي المقيد في الوحل
فضحك هارون وقال: أما رضيت أن قيدته حتى جعلته يمشي في الوحل؟ انتهى.
وهذا الذي قصده قدامة في حده للمبالغة حيث قال: هي أن يذكر المتكلم حالا من الأحوال لو وقف عندها لا جزأت، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره أبلغ من معنى قصده. انتهى.
غير أن هذا الحد للمبالغة بالمعنى الشامل للإغراق، والغلو، والتبليغ. لا للتبليغ وحده كما توهمه ابن حجة. ويدلك على ذلك إنه مثل لها بما مثل من غير للإغراق وهو:
ونكرم جارنا ما دام فينا
…
ونتبعه الكرامة حيث مالا
فإن دعوى أن جاره لا يميل عنه إلى جانب، إلا وهو يرسل الكرامة والعطاء على أثره، أمر يمكن عقلا لا عادة، فهو إغراق لا تبليغ. والمبالغة في الشعر أكثر من أن يوقف لها على آخر.
ولقد تصفحت ديوان حسان بعد سماع قوله:
وإن أشعر بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فرأيت أكثر شعره مبنيا على المبالغة، كقوله في الغزل:
أما النهار فلا أفتر ذكرها
…
والليل توزعني بها أحلامي
أقسمت أنساها وأترك ذكرها
…
حتى تغيب في التراب عظامي
وقوله وهو من الإغراق:
لو يدب الحولي من ولد الذر عليها لأندبتها الكلوم
يقول لو يدب الصغير من ولد الذر على جلدها لأثر فيه وجرحه. ولم يرد بالحولي ما أتى عليه الحول ولكن جعله في صغره كالحولي من ولد الحافر والخف في صغره.
وقوله، وهو من الغلو المقبول:
ولو وزنت رضوى بحلم سراتنا
…
لمال برضوى حلمنا ويلملم
وقوله في وصف الحرب، وهو إغراق وتبليغ:
تشيب الناهد العذراء وفيها
…
يسقط من مخافتها الجنين
فالأول إغراق لا مكانه عقلا وامتناعه عادة، والثاني تبليغ لا مكانه عقلا وعادة. وهو في شعره كثير جدا. فالمنازع في حسن المبالغة، وعلو رتبتها مطلقا مكابرة لا عبرة بقوله.
واعلم أن كثيراً ممن تشبث بعلم البديع أورد في نوع المبالغة التي هي بمعنى التبليغ بعض أمثلة الإغراق والغلو، توهما منه أنه تبليغ، ولم يميز بفهمه بين الثلاثة، وقد أوضحنا في أول هذا النوع ما يتميز به كل واحد منها عن الآخر، فلا تخل ذهنك منه عند الوقوف على الأمثلة.
وبيت البديعية الشيح صفي الدين في هذا النوع قوله:
كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته
…
والشهب أحلك ألوانا من الدهم
قال في شرحه: موضع المبالغة في بيت القصيدة عجزه. انتهى.
وبيانها: إنه أدعى بلوغ ظلمة النقع وشدة سواده إلى حد صارت فيه الشهب - وهي التي يغلب بياض لونها على سواده - أشد حلكة - أي سوادا - من الدهم - وهي السود - وهذا ممكن عقلا وعادة.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلسي قوله:
يمم نبيا تباري الريح أنمله
…
والمزن من كل هامي الودق مرتكم
كان أولى بابن جابر أن يبالغ في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكرم بأكثر من هذا، فإن المبالغة في مدحه عليه وآله والصلاة والسلام كلا مبالغة.
وبيت عز الدين الموصلي قوله:
إمدح وجز كل حد في مبالغة
…
حقا ولا تطر تقبل غير متهم
هذا البيت لا يظهر منه إلا وصيته للمادح بأنه إذا مدح يتجاوز كل حد. قوله (ولا تطر تقبل غير متهم) لا يفهم ما غنى به، فإن الإطراء - كما في القاموس - المبالغة في المدح، فالنهي عنه لا معنى له هنا، ولعله له هنا، ولعله فهم للإطراء معنى آخر.
وبيت بديعة ابن حجة قوله:
بالغ وقل كم رجلا بالنور ليل وغى
…
والشهب قد رمدت من عثير الدهم
بالغ ابن حجة في إعجابه بمبالغة هذا البيت، وليس تحته كبير أمر. أما صدره فمأخوذ من صدر بيت الشيخ صفي الدين كما ترى، وأما عجزه فعليه مؤاخذة ظاهرة، ونقد بين، وذلك: أنه عنى بالشهب النجوم بقرينة استعارة الرمد منها، والحرب لا تكون في الليل حتى يغشى عثير الخيل ضوءها فيخفي شعاعها، إلا إذا كانت تبييتا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبيت أحدا من أعدائه قط، ولا كان يرى ذلك، وليس من عاداتهم استمرار الحرب إلى الليل، بل إذا أمسى المساء تحاجزوا، ورجعوا عن مصافهم إلى مواطنهم. وبعد الإغماض عن هذه المؤاخذة المعنوية التي لا يحوم حولها فهم ابن حجة نقول: ليس في هذا العجز كبير مبالغة - وقد زعم أنه أبلغ من صدره - وذلك أنه أراد برمد الشهب في قوله (قد رمدت من عثير الدهر) على طريق الاستعارة التبعية: قلة إشراقها، وعدم شدة لمعانها، من الغبار الذي أثارته حوافر الخيل، ولا خفاء أن كل جيش سار بالليل وأثارت حوافر خيله الغبار ضعف معه إشراق الكواكب وهذا أمر واقعي لا مبالغة فيه فتدبره. ولعله فهم أن الشيخ صفي الدين أراد بالشهب في بيته (الكواكب) فأراد أن يحذو حذوه، وليس في بيت الشيخ صفي الدين ما يعين أنه أراد بالشهب الكواكب. ولو سلم فالمبالغة فيه التي في بيت ابن حجة قطعا كما لا يخفى.
وبيت بديعيتي هو قولي:
كل البليغ وقد أطرى مبالغة في هذا البيت أظهر من أن تبين، والإطراء هو المبالغة في المدح كما في القاموس فإنه قال: أطراه: بالغ في مدحه، وفي الصحاح، أطراه: مدحه، غير أن صاحب القاموس جعله مهموزاً وصاحب الصحاح يائيا. ودعوى كلال البليغ حال مبالغته في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم بالجود عن حصر بعض ما جاد به من النعم الجسام، والرغائب العظام، أمر ممكن عقلا وعادة.