الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا بيت معمور بالحسن لفظا ومعنى. قال ناظمه في شرحه: قوله: ما في عذولي بأس، تورية ظاهرها أنه لا بأس فيه، أي لا عيب، والمراد: لا قوة فيه ولا شجاعة، وهذا من باب الإبهام. وقوله: تغضي احتمالا، يصفهم بالذل وإن كان ظاهره أنهم حلماء. وقوله: تشفي الكلم بالكلم، أي أنهم يشفون غيظهم بالكلام، كما قال الشاعر:(أشبعتهم سبا وراحوا بالإبل) وإن كان ظاهره أن كلامهم يقوم مقام الدواء للجراحات. انتهى.
الاكتفاء
لم يكتفوا بي عميدا في محبتهم
…
بل كل ذي نظر فيهم أراه عمي (دا)
الاكتفاء - ضرب من الإيجاز، وهو نوعان: نوع يكون بكلمة فأكثر ونوع يكون ببعض كلمة.
فالأول هو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط، فيكتفي بأحدهما عن الآخر لنكتة، ولا يكون المكتفى عنه إلا آخرا لدلالة الأول عليه. وذلك الارتباط قد يكون بالعطف وهو الغالب، وأعظم شواهده قوله تعالى:(سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد، وخص الحر بالذكر لأن الخطاب للعرب وبلادهم حارة، والوقاية عندهم من الحر أهم، لأنه أشد عندهم من البرد. وقوله تعالى:(وله ما سكن بالليل والنهار) أي وما تحرك، وخص السكون بالذكر لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد، ولأن كل متحرك يصير إلى السكون.
وقد يكون بالشرط وجوابه، كقوله تعالى:(فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء) أي فافعل. وقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون) أي أعرضوا، بدليل ما بعده، وقوله تعالى:(ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) أي لرأيت أمرا فظيعا، وقوله تعالى:(ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم) أي لسلطكم على أهل مكة.
وقد يكون بالقسم بدأ به، كقوله تعالى:(والنازعات غرقا - الآيات _) أي لتبعثن، وقوله تعالى:(ص والقرآن ذي الذكر) أي أنه لمعجز.
وقد يكون بطلب الفعل للمتعلق، كقوله تعالى:(خلطوا عملا صالحا) أي بسيئ (وآخر سيئا) أي بصالح. أو بطلبه للمفعول كقوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل) أي إلها (وقوله تعالى) : (كلا سوف تعلمون) أي عاقبة أمركم.
وقد يكون بطلب حرف الشرط لجملة الشرط وجوابه كقوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإن
…
كان فقيرا معدا قالت وإن
أي وإن كان كذلك رضيته أيضاً. وفي الخبر، أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها وإن، أي وإن كانت بدنة اركبها.
وقد يكون بالاسمية والخبرية لأن وأمثالها، كما روي أن المهاجرين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الأنصار قد فضلونا وفعلوا بنا كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ألستم تعرفون ذلك؟ قالوا: بلى، قال: فإن ذاك. قال أبو عبيدة: إن الحديث ليس فيه أكثر من قوله: فإن ذاك، ومعناه: فإن ذاك مكافأة، أي معرفتكم إحسانهم مكافأة لهم.
وقول الشاعر:
ويقلن شبي قد علاك
…
وقد كبرت فقلت إنه
على قول ابن هشام (إنه) يجوز أن لا تكون الهاء للسكت، بل اسما لأن، على أنها المؤكدة والخبر محذوف، أي أنه كذلك. وقد يكون بغير ذلك من وجوه الارتباط كما يظهر من الأمثلة الآتية في النظم.
وقد حد الشيخ صفي الدين الحلي الاكتفاء في النظم بقوله: هو أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف تقاضى ذكره ليفهم به المعنى، فلا يذكره لدلالة ما في لفظ البيت عليه، ويكتفي بما هو معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى.
كقوله:
لا أنثني لا أنتهي لا أرعوي
…
ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
فمن المعلوم أن تمامه: ولا إذا مت، ومتى ذكر تمامه في البيت الثاني كان عيبا من عيوب الشعر، يسمى في علم القوافي بالتضمين. انتهى. وهذا الحد شامل لنوعي الاكتفاء، غير أنه لا يشمل الاكتفاء في النثر كما هو ظاهر، والحد الذي ذكرناه شامل للنظم والنثر معا.
وأما النوع الثاني فسيأتي الكلام عليه، وهذا محل إثبات محاسن الأمثلة الشعرية لهذا النوع الأول من الاكتفاء: فمنه قول هبة الله بن سناء الملك في مطلع قصيدة:
دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى
…
فقبلته في الثغر تسعين أو إحدى
وقول ابن مطروح:
والله ما خطر السلو بخاطري
…
ما دمت في قيد الحياة ولا إذا
إن عشت عشت على هواه وإن أمت
…
وجدا به وصبابة يا حبذا
وقول أبي الحسن الباخرزي:
يا جاهلا عاب شعري
…
فكد قلبي وآلم
علي نحت القوافي
…
وما علي إذا لم
وأصله من قول الشاعر:
عليَّ نحت القوافي من معادنها
…
وما عليَّ إذا لم تفهم البقر
وقد كان أبو الحسن الباخرزي المذكور مولعا بهذا النوع من الاكتفاء ونظمه في شعره كثير، فمنه قوله:
بالأمل الكاذب والخوف
…
جعلت لي قلبين في جوفي
آمل قربا وأخاف النوى
…
فمهجتي في راحة أو في
وقوله:
قد صح عندي أن حبك لم يكن
…
إلا كنرجسك الكحيل سقيما
ووجدت عندك ما كرهت وكلما
…
حاسبت فعلي لم تجد عندي ما
وقوله أيضاً:
لقد كنت أعرف بابن الحسن
…
فلقبني الحب بابن الحزن
ولولا الهوى ما لقيت الهوان
…
ولولا الدمى لم أقف بالدمن
فيا أيها النفس لا تيأسي
…
من الاجتماع عسى الله أن
وقوله:
ولي حشف وبي تطفيف كيل
…
وها حشفي مع الكيل الطقيف
فإن تردد علي فرغبتي من
…
وإن تحسن إلي فرغبتي في
وقوله:
وما زاده عز الولاية رفعة
…
وقد كان مرفوع الدعائم قبل أن
وقوله:
يا صاحبي سلا فؤادي هل سلا
…
عمن كلفت بحبه ليجيب لا
وما أحسن قوله بعده:
يا رب إن تك لا تجود بسلوة
…
تحيا بها نفس المشوق المبتلي
فانف الحلاوة عن مجاجة ريقه=وأمر بنفسج صدغه أن يذبلا وقوله أيضاً:
يا شرف السادة أعلق يدي
…
حبلك أمسك عقده المحكما
بي بكم خطيت شفاهي به
…
وقصة تستنطق الأبكما
مسني الضر
…
وحوشيته
والمشتكى أنت وحالي كما
وقوله مع الاقتباس:
قل لإخواننا أعينوا على الله
…
وونفسي فداكم أن أعنتم
نحن من قبل أن
…
..
بعد لا تقربوا الصلاة وأنتم
وقوله في التعزية:
لئن مضى من رضعت درته
…
ففيك مستمتع من الخلف
وربما يشمت العدى جزع
…
والصبر مستروح فرأيك في
ومنه قول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض:
ما للنوى ذنب ومن أهوى معي
…
إن غاب عن إنسان عيني فهو في
ومن لطائف شيخ شيوخ حماة عبد العزيز الأنصاري قوله مع التضمين:
صلي ودعي نفارك عن محب
…
بذكرك آنس والليل ساكن
ولا تستقبحي شيبا برأسي
…
فما إن شبت من كبر ولكن
هذا صدر بيت لأبي فراس بن حمدان عجزه (رأيت من الأحبة ما أشابا) .
وقوله أيضاً:
أهلا بطيفكم وسهلا
…
(لو كنت للإغفاء) أهلا
لكنه وافى وقد
…
حلف السهاد علي أن لا
وقوله:
راموا فطامي عن هوى
…
غذيته طفلا وكهلا
فوضعت في طوقي يدي
…
وقلت خلوني وإلا
وقول سراج الدين الوراق بين اكتفائين مع التضمين:
يا لائمي في هواها
…
أفرطت في اللوم جهلا
ما يعرف الشوق إلا
…
ولا الصبابة إلا
البيت لابن المعلم وأصله هكذا:
ما يعرف الشوق إلا من يكابده
…
ولا الصبابة إلا من يعانيها
وقول سديد الدين بن كاتب المرج في النيل، وقد زاد زيادة مؤذية، وفيه اقتباس:
يا نيل يا ملك الأنهار قد رزقت
…
منك الأراضي شرابا سائغا وإذا
وقد أتيت القرى تبغي منافعها
…
فنالها بعد فرط النفع منك أذى
فقال تذكر عني أنني ملك
…
وتغتذي ناسيا أن الملوك إذا
وقول ابن أبي حجلة في مثل ذلك:
يا رب أن النيل زاد زيادة
…
أدت إلى هدم وطول تشتت
ما ضره لوجا على عاداته
…
في دفعه أو كان يدفع بالتي
وقول الآخر، وجمع فيه بين اكتفائين مع الاقتباس:
بمكارم الأخلاق كن مختلقا
…
ليفوح عطر ثنائك العطر الشذي
وانفع صديقك إن صدقت وداده
…
وادفع عدوك بالتي فإذا الذي
ومن لطائف البهاء زهير قوله:
فما كان أحسن من مجلسي
…
فحدث بما شئت عن ليلتي
بشمس الضحى وببدر الدجى
…
على يمنتي وعلى يسرتي
وبت وعن خبري لا تسل
…
بذاك الذي وبتلك التي
وقوله:
يا حسن بعض الناس مهلا
…
صيرت كل الناس قتلى
أغرت جفونك بالهوى
…
من كان يعرفه ومن لا
لم تبق غير حشاشة
…
في مهجتي وأخاف أن لا
ورسوم قلب لم يدع
…
منه الهوى إلا الأقلا
وبمهجتي من لا أسمي
…
هـ وأكتمه لئلا
عانقت منه الغصن في
…
حركاته قدا وشكلا
وكشفت فضل قناعه
…
بيدي عن قمر تجلى
فلثمته في خده
…
تسعين أو تسعين إلا
ومنه قول جمال الدين بن نباتة:
ولقد كملت فلا يقال لقد
…
حزت الجمال جميع إلا
وقول ابن مكانس مع التورية:
من شرطنا أن أكسرتنا الطلا
…
صرفا تداوينا بشرب اللما
نعاف مزج الماء في كأسها
…
لا وأخذ الله الندامى بما
وقول صدر الدين بن عبد الحق مع زيادة التورية والاقتباس:
جهنم حمامكم نارها
…
تقطع أكبادنا بالظما
وفيها عصاة لهم ضجة
…
وإن يستغيثوا يغاثوا بما
ومثله قول الشيخ برهان الدين القيراطي:
بأبي شامات حسن
…
قد أطالت حسراتي
كلما ساءت فعالا
…
قلت إن الحسنات
وقول ابن أبي حجلة مع التضمين:
شمس الضحى بعد العشا
…
زارت فزال تلهفي
واستقبلت قمر السما
…
فأرتني القمرين في
وقوله يرثي أخا له:
أخي تركتني فقضيت نجا
…
فدمعي قد ملا حزنا وسهلا
وكل أخ مفارقه أخوه
…
كذا قالوا لعمر أبيك إلا
يشير إلى قول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه
…
لعمر أبيك إلا الفرقدان
ومن بديع الاكتفاء مع زيادة التورية ما اتفق للشيخ شهاب الدين التلعفي مع شمس الدين الشيرجي، وذلك أنهما حضرا بين يدي الملك الناصر في ليلة أنس، فاتفق أن الشيرجي ذهب لضرورة وعاد، فأشار إليه الملك الناصر بصفع التلعفري (فصفعه، فنهض) التلعفري على الفور، وقبض على لحية الشيرجي - وكان رجلا ألحى _.
وأنشد ارتجالا ويده فيها:
قد صفعنا في ذا المقام الشريف
…
وهو إن كنت ترتضي تشريفي
فارث للعبد من مصيف صفاع
…
يا ربيع الندى وإلا خري في
ومنه قول الأديب لاعبده من أدباء العصر بالمدينة المنورة على ساكنها وآله الصلاة والسلام مؤرخا دارا بناها بعض قضاة تلك الديار:
صاح بين النقا وبين المصلى
…
منزل في حلى المفاخر يجلى
مجلس من أتاه يسمع منه
…
مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا
فيه حبر وهمت بل فيه بحر
…
جامع للعلوم عقلا ونقلا
جاء سهل التاريخ من غير عيب
…
هكذا من أراد يبني وإلا
وقلت أنا في ذلك:
يا عاذلي في الأماني
…
أكثرت في العذل قولا
دعني أعلل نفسي
…
ما أضيق العيش لولا
وهو من قول الطغرائي في لامية العجم:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
…
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
تنبيه - قد تبين من الأمثلة المذكورة أن الاكتفاء قد يكون بحذف المستثنى، ومعمول الجوازم، والجار، والصلة، من غير دلالة صلة أخرى عليها، وكل ذلك عند النحويين ضرورة.
قال الحافظ السيوطي في جمع الجوامع: واستحسن أهل البديع بعض ما سماه النحاة ضرورة، كحذف معمول الجوازم المسمى بالاكتفاء، فإن اشتمل على تورية تصرفه عنه - أي عن الاكتفاء - فأحسن. انتهى.
وقيل على هذا: يرد على البديعيين أن المحسنات البديعية إنما تعد محسنة بعد رعاية الفصاحة، فما خالفها يعد قبيحا، فكيف تعد الضرورة من المحسنات؟.
وأما النوع الثاني من الاكتفاء وهو الذي يكون ببعض الكلمة.
فهو حذف بعض حروف القافية من آخرها لدلالة الباقي عليه. واحترزنا (بالقافية) عن غيرها.
كقوله:
فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره
…
طريف بن مال ليلة الجوع والحصر
أي ابن مالك. وبقولنا (من آخرها) عن مثل قوله (غرثى الوشاحين صموت الخلخل) أي الخلخال، فلا يسمى ذلك كله اكتفاء عند البديعين. وقد يسمى في غير هذا العلم بالاقتطاع، ولا يختص بالقافية.
وسماه ابن جني في كتاب التعاقب بالإيماء وعقد له بابا، فقال باب الإيماء وهو الاكتفاء عن الكلمة بحرف من أولها.
وسماه ابن فارس في فقه اللغة بالقبض. وهو وارد في القرآن والحديث وكلام العرب.
أما وروده في القرآن، فقال الحافظ السيوطي في الإتقان: أنكره ابن الأثير ورد: بأن بعضهم جعل منه فواتح السور، على القول بأن كل حرف منها، من اسم من أسمائه تعالى، وهو منقول عن ابن عباس. وادعى بعضهم: أن الباء في (وامسحوا برؤوسكم) أول كلمة (بعض) ثم حذف الباقي، ومنه قراءة بعضهم (ونادوا يا مال) بالترخيم. ولما سمعها بعض السلف قال: ما أغنى أهل النار عن الترخيم، (وأجاب) بعضهم: بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة.
قال: ويدخل في هذا النوع، حذف همزة (أنا) من قوله:(لكنا هو الله ربي) إذ الأصل (لكن أنا) حذفت همزة (أنا) تخفيفا، وأدغمت النون في النون.
ومثله ما قرئ (ويمسك السماء أن تقع علرض)(بما أنزليك)(فمن تعجل في يومين فلثم عليه)(إنها لحدى الكبر) . انتهى.
وأما وروده في الحديث فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كفى بالسيف شا) أي شاهدا، وقيل: أنه مكتفى به عن (شافي) وله وجه.
وأما وروده في كلام العرب فكثير جدا، بل قال ابن فارس في فقه اللغة: في سنن العرب، القبض محاداة للبسط، وهو النقصان من عدد الحروف، كقولهم: درس المنا، يريدون المنازل. ونار الحبا، أي الحباحب. انتهى.
وأنشد ابن جني عليه قول الشاعر (وعدتني أم عمر وإن تاريخ) أي أن تسمح، وقول علقمة (مفدم بسبا الكتان مختوم) أي بسبائب، وقول لبيد (درس المنا بمتالع فأبان) ، وقال آخر (قواطن مكة من ورق الحما) أي الحمام، وقال آخر (ليس حي على المنون بخال) أي بخالد.
إذا علمت ذلك، بالاكتفاء ببعض الكلمة على ضربين، ضرب يكون بدون تورية كما تقدم من قول الشاعر (قواطن مكة من ورق الحما) وقوله (ليس حي على المنون بخال) .
ومنه قول القاضي الفاضل من قصيدة فريدة:
لعبت جفونك بالقلوب وحبها
…
والخد ميدان وصدغك صولجا (ن)
وأول هذه القصيدة:
زار الصباح فكيف حالك يا دجى
…
قم فاستند بفروعه أو فالنجا
رأت الغصون قوامه فتأودت
…
والروض أنشر نشره فتأرجا
يا زائري من بعد يأس ربما
…
تمنى المنى من بعد أرجاء الرجا
أترى الهلال ركبت منه زورقا
…
أولا فكيف قطعت بحرا من دجى
أم زرتني ومن النجوم ركائب
…
فأرى ثرياها تريني هودجا
ومنه قول هبة الله بن سناء الملك:
أهوى الغزالة والغزال وإنما
…
نهنهت نفسي عفة وتدينا
ولقد كففت عنان عيني جاهدا
…
حتى إذا أعييت أطلقت العنا (ن)
ويعجبني من هذا النوع قول الشيخ قطب الدين الحنفي المكي المتوفى سنة تسعين وتسعمائة بمكة المشرفة زادها الله شرفا وتعظيما:
رعى الله ليلة زار الحبيب
…
وغاب الرقيب إلى حيث أل
يشير إلى قول الشاعر (إلى حيث ألقت رحالها أم قشعم) وأم قشعم: المنية والداهية. وهذا البيت من جملة أبيات لطيفة للشيخ المذكور لا بأس بغيرادها هنا، وهي:
ألا حلل الله سيف المقل
…
فكم ذا أباد وكم ذا قتل
وما من قتيل له في الهوى
…
سوى ألف راض بما قد فعل
لقد نصر الله جيش الملاح
…
ببدر لنا حسنه قد كمل
إذا قتلتني عيون الظبا
…
فيا فرحي قد بلغت الأمل
رعى الله ليلة زار الحبيب
…
وغاب الرقيب إلى حيث أل
فأجلسته في سواد العيون
…
وقد غسل الدمع ذاك المحل
وألصقت خدي بأقدامه
…
وذبلت أخمصه بالقبل
وعانقته وخلعت العذار
…
ومزقت ثوب الحيا والخجل
فرق ومال بأعطافه
…
فديت بروحي ذاك الميل
وما زلت أشغله بالحديث
…
وستر الظلام علينا انسدل
إلى أن غفا جفنه ناعسا
…
وعني تغافل أو قد غفل
فحليت عن خصره نده
…
وأنضيت عن معطفيه الحلل
وبت أشاهد صنع الإله
…
تبارك رب البرايا وجل
فظن بي الخير أولا تظن
…
فما أنت تسأل عما حصل
حكى لي بعض الأصحاب: أن الشيخ كان قد ختم هذه الأبيات بالبيت الذي قبل البيت الأخير، حتى أنشدها يوما في مجلس سلطان مكة المشرفة الشريف حسن بن أبي نمى، فقال له الشريف مداعبا: ثم ماذا؟ فإنه محل ريبة. فأنشد البيت الأخير مرتجلا وختم به الأبيات، والله أعلم.
ومن هذا النوع من الاكتفاء أيضاً قول سيدي الوالد متع الله ببقائه:
يا خليلي أبكيا عني فقد
…
صار دمع العين مني أحمرا
وأمطرا دمعكما وادي الحمى
…
إن من حق الحمى أن يمطرا
وإذا شارفتما بي رامة
…
فرما الريم الذي قد نفرا
تجداه راتعا مستفيئا
…
سلمات وبشاما وأرا (ك)
والضرب الثاني - ما كان مع التورية كقول الشيخ جمال الدين بن نباتة:
بروحي أمر الناس نأيا وجفوة
…
وأحلاهم ثغرا وأملحهم شكلا
يقولون في الأحلام يوجد شخصه
…
فقلت ومن ذا بعده يجد الأحلا (م)
وقل فخر الدين بن مكانس:
لم أنس بدرا زارني ليلة
…
مستوقرا ممتطيا للخطر
فلم يقم إلا بمقدار أن
…
قلت له أهلا وسهلا ومر (حبا)
وقول ابنه مجد الدين بن مكانس:
نزل الطل بكرة
…
وتوالى تجددا
والندامى تجمعوا
…
فأجل كأسي على الندا (مى)
وقول العلامة بدر الدين الدماميني:
أقول لصاحبي والروض زاه
…
وقد فرش الربيع بساط زهر
تعال نباكر الروض المفدى
…
وقم نسعى إلى ورد ونسري (ن)
وقوله أيضاً:
شقائق النعمان الهو بها
…
إن غاب من أهوى وعز اللقا
فالخد في القرب نعيمي وإن
…
غاب فإني اكتفي بالشقا (ئق)
وقوله:
الدمع قاض فافتضاحي في هوى
…
رشأ يغار الغصن منه إذا مشى
وغدا بوجدي شاهدا ووشى بما
…
أخفي فيا لله من قاض وشا (هد)
وقوله:
ورب نهار فيه نادمت أغيدا
…
فما كان أحلاه حديثا وأحسنا
منادمتي فيها مناي وحبذا
…
نهارا تقضى بالحديث وبالمنا (دمه)
وقول صدر الدين بن الآدمي الحنفي:
يا متهمي بالسقم كن منجدي
…
ولا تطل رفضي فإني علي (ل)
أنت خليلي فبحق الهوى
…
كن لشجوني راحما يا خلي (ل)
وأغرب ابن حجر في قوله وأجاد:
أطيل الملام لمن لامني
…
وأملأ في الروض كأس الطلا
وأهوى الملاهي وطيب الملاذ
…
فها أنا منهمك في الملا (م. ذ. هي)
وأبدع ابن حجة في قوله:
يقولون صف أنفاسه وجبينه
…
عسى للقا يصبو فقلت له صبا (ح)
وغالطت إذ قالوا أباح وصاله
…
وإلا أبى قربا فقلت لهم أبا (ح)
وقلت أنا في ذلك وفيه توريتان:
هجر الحبائب جانبي
…
ونزلن منعرج اللوى
فظللت أعسف في الهوا
…
جر سائرا طوع النوى
وصلى الهوى قلبي فوا
…
كرباه من حر الهوا (جر)
وقلت أيضاً:
سمح البدر بوصل فشفى
…
من جوى الحب سقيما مغرما
وسما عن مشبه ثم ومن
…
أين للبدر شبيه في السما (ح)
وقلت أيضاً:
أصابت نواظره مهجتي
…
وزادت نواه فؤادي جوى
فقلت وقد أكثر العاذلون
…
دعوني فأني قتيل النوا (ظر)
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي من النوع الأول من الاكتفاء الذي هو بجميع الكلمة وهو قوله:
قالوا ألم تدر أن الحب غايته
…
سلب الخواطر والألباب قلت لم
قال ابن حجة: عجبت للشيخ صفي الدين كيف استحسن هذا البيت ونظمه في سلك أبيات بديعيته مع ما فيه من الركة، والنظم السافل، وبرد موضع الاكتفاء بلفظة (لم) مع أنه غير مكلف بتسمية النوع، ولا ملتفت إلى تورية. انتهى. أسرف وما أنصف.
ولم ينظم ابن جابر الأندلسي هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي جمع بين نوعي الاكتفاء وهو:
وما اكتفى الحب كسف الشمس منه إذا
…
حتى انثنى يخجل الأغصان حين يمي
فقوله: (إذا) من النوع الأول، إذ من المعلوم أن بعده (بدا) لما تقدم ذكره كسف الشمس، وقوله (حين يمي) من النوع الثاني، لأن المراد (حين يميل) أو (يميس) أو (يميد) ، ولا أرى في هذا البيت تورية، وقد قال ابن حجة: أنه التزم فيه التورية.
وبيت بديعية ابن حجة من النوع الثاني من الاكتفاء مع التورية:
لما اكتفى خده القاني بحمرته
…
قال العواذل بغضا أنه لدمي
أراد: لدميم، وهو بالدال المهملة: الحقير، وهذا الاكتفاء ينظر إلى قول القائل:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
…
حسدا وبغضا أنه لدميم