الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أهل البيان: إذا أردت أن تبهم ثم توضح، فأنك تطنب، وفائدته غما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين، الإبهام والإيضاح، أو ليتمكن المعنى في النفس تمكنا زائدا، لما طبع الله النفوس عليه من ظان الشيء إذا ذكر مبهما ثم بين كان أوقع فيها من أن يبين أولا، أو لتكمل لذة العلم فإن الشيء إذا علم من وجه دون وجه تشوقت النفوس على العلم بالمجهول، فيحصل لها بسبب العلم لذة، وبسبب حرمانها من الباقي ألم، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه حصلت بها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم، كقوله تعالى (قال رب اشرح لي صدري)، فإن قوله: اشرح لي، يفيد طلب شرح شيء لشيء ما له، وقوله: صدري، يفيد إيضاحه، وقد يكون لتفخيم الأمر وتعظيمه، كقوله تعالى (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) ففي إبهامه وإيضاحه تفخيم للأمر وتعظيم.
قال البديعيون: الإيضاح أن يذكر المتكلم في كلامه مفردا لا يفهم معناه لغرابته حتى يوضحه في بقية كلامه، أو جملة في ظاهرها لبس وخفاء لا يستقل الفهم بالمراد منها حتى يوضحها في آخر الكلام.
فالأول كقوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا. وقد سأل عبد بن طاهر أحم بن يحيى: ما الهلع؟ فما زاد على التلاوة. وسئل الأصمعي عن معنى الألمعي فأنشد: قول أوس بن حجر:
الألمعي الذي يظن بك الظ
…
ن كأن قد رأى وقد سمعا.
وقال أبو العالية: القيوم: لا تأخذه سنة ولا نوم. وقال القرظي: الصمد: لم يلد ولم يولد. وهو في القرآن كثير.
والثاني كقوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. فقوله: خلقه وما بعده، إيضاح للجملة الأولى. قال المفسرون: قوله: خلقه من تراب جملة مفسرة للتمثيل، مبينة لما له الشبه، وهو انه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا أب وأم، شبه حاله بما هو أغرب إفحاما للخصم وقطعا لمواد التشبيه.
ومثاله من الشعر قول أبي الطيب:
وكم لظلال الليل عندك من يد
…
تخبر أن المانوية تكذب.
وقال ردى الأعداء تسري إليهم
…
وزارك فيه ذو الدلال المحجب.
قال أبو العلاء: المانوية منسوبة إلى ماني، وهو رجل يعظمه أهل مذهبه، ويقال: أن طائفة من الترك عظيمة يرون مذهبه، وإن أهل الصين على مذهبه، وإن لأصحابه كتبا ومناظرات، ويزعمون باثنين: رب يفعل الخير لا غير، وهو في بعض الألسنة الذي يسمى يزدان، وضده يفعل الشر ويسمونه أهرمن. ويذكر عنهم أنهم يقولون: الخير من النهار، والشر من الليل، وأنهما أصلان للعالم حيان حساسان دراكان، فرد عليهم أبو الطيب بالبيت الأول فقال:
كم نعمة لظلام الليل تكذب قولهم. ثم أوضح ذلك في البيثاني.
ومنه قول الآخر:
يذكر نيك الخير والشر كله
…
وقيل الخنا والحلم والعلم والجهل.
فألقاك عن مكروهها متنزها
…
وألقاك كن محبوبها ولك الفضل.
فإن البيت الأول معناه ملتبس لكونه يقتضي المدح والذم، فأوضحه في البيت الثاني بما أزال اللبس.
وقول أبي الحسن الباخرزي:
ألا لا سقى صوب العوارض قبره
…
ففي قبره من فيض كفيه أبحر.
ولا غفر الرحمن ذنبا أتى به
…
إذا لم يكن ذنب فمن أن يغفر
والفرق بين الإيضاح والتفسير إصطلاحي، وقد تقدم بيانه في نوع التفسير فليرجع إليه.
وبيت بديعية الصفي قوله:
قادوا الشوازب كالأجيال حاملة
…
أمثالها ثبتة في كل مصطدم.
قال في شرحه: قوله: ثبتة في كل مصطدم، يوضح قوله أمثالها.
وبيت الموصلي قوله:
هذا وتزداد إيضاحا مخافتهم
…
في كل معترك من بطش ربهم.
وبيت بديعية المقري قوله:
مثبت الجأش يحمي الجيش إذا فرقوا
…
وباذل العفو إذ يردي لكل كمي.
وبيت بديعيتي قولي:
وضنهم زاد إيضاحا وبخلهم
…
بعرضهم ونداهم فاض كالديم.
فقولي: بعرضهم إيضاح للضن والبخل الذي أضافه إليهم في صدر البيت والله أعلم.
التوهيم
.
محققون لتوهيم العدى أبدا
…
كأنهم يعشقون البيض في القمم.
هذا النوع عبارة عن أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما قبلها أو بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها أو تحريفها باختلاف بعض إعرابها، أو اختلاف معناها، أو اشتراك لغتها بأخرى، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، والأمر بضد ذلك.
فمثال التصحيف قوله تعالى: (أصيب به من أشاء) ، فإن إصابة العذاب أوهمت السامع أن لفظة (أشاء) بالسين المهملة من الإساءة، ولذلك قرأها حماد الراوية كذلك، وكان لا يحسن القرآن.
وقوا أبي الطيب:
وأن الفيام التي حوله
…
لتحسد أرجلها الأرؤس.
فأن لفظة الأرجل أوهمت السامع أنه أراد (القيام) بالقاف، ومراده بالفاء- كما وردت به الرواية- وهي الجماعات، وهو الذي تقتضيه المبالغة، لأن القيام بالقاف يصدق على أقل الجمع.
ومثال اختلاف الأعراب قوله تعالى (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) فإن القياس يقتضي أن يقول: ثم لا ينصروا، بالجزم، عطفا على ما قبله، لكن لما كان الغرض الإخبار بأنهم لا ينصرون أبدا ألغى العطف، وأبقى صيغة الفعل على حالها لتدل على الحال والاستقبال.
وقول الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يوما
…
يلق فيها جآذرا وضباء.
فإن لفظة (إن) في البيت توهم السامع أن (من) اسمها، وليس كذلك، بل اسمها ضمير شأن محذوف، والجملة خبرها، أي (أنه من يدخل الكنيسة. وإنما لم يجعل (من) اسمها لأنها شرطية بدليل جزمها الفعلين، والشرط له الصدر فلا يعمل فيما قبله.
ومثال اختلاف المعنى قوله تعالى: (ومن يكرههن فإن الله من بع إكراههن غفور رحيم) ، فإنه يوهم السامع أنه غفور للمكره، وإنما هو لهن.
ومنه قول الشاعر:
يلقاك مرتديا بأحمر من دم
…
هبت بخضرته الطلى والأكبد.
فإن قوله: بأحمر من دم، يوهم السامع أن معناه: بأشد حمرة من الدم، وهذا يقتضي كونه اسم تفضيل وهو ممتنع في الألوان وإنما قوله: من دم، تعليل، أي أحم من اجل التباسه بالدم أو صفة، كأن السيف لكثرة التباسه بالدم صار دما.
ومثاله قول المتنبي:
إبعد بعدت بياضا لا بياض له
…
لأنت أسود في عيني من الظلم.
أي أسود كائن من جملة الظلم، لا أشد سوادا من الظلم.
ومثال توهمه بالاشتراك قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان) ، فإن ذكر الشمس والقمر يوهم السامع أن النجم احد النجوم السماوية، وإنما المراد به النبت الذي لا ساق له وبالشجر الذي له ساق.
وقول الصفي الحلي:
وساق من بني الأتراك طفل
…
آتيه به على جمع الرفاق.
أملكه قيادي وهو رقي
…
وأفديه بعيني وهو ساقي.
فإن ذكر العين يوهم أنه أراد بقوله (ساقي) العضو المعروف الذي هو ما بين الركبة والقدم، وإنما أراد الساقي. وتوهم ابن حجة انه قصد بذلك التورية، فأورد لبيتين في باب التورية وقال: لا شك أن مراده بالمعنى الواحد من التورية ساقي الراح وهو ظاهر صحيح. وبالمعنى الثاني أن يكون هذا الساقي ساقيا للشيخ صفي الدين وهو غير ممكن. انتهى.
وهذا عمى بصيرة من ابن حجة عن المقصود، ولم يقصد الشيخ صفي الدين التورية، وإنما قصد التوهيم. وهذا أحد وجوه الفرق بين التورية والتوهيم، فإن الفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها، إن التورية توهم وجهين صحيحين قريبا وبعيدا، والمراد البعيد منهما، والتوهيم يوهم صحيحا وفاسدا والمراد الصحيح منهما. وكذلك هو في البيتين المذكورين.
الثاني: أن التورية لا تكون إلا باللفظة المشتركة، والتوهيم بها وبغيرها.
الثالث: أن إيهام التورية مما يتعمده الناظم، والتوهيم مما يتوهمه القارئ أو السامع. إذا عرفت ذلك فقول ابن حجة: هذا النوع أعني التوهيم كان لا يليق به أن ينتظم في سلك التورية، ليس بصحيح.
وبيت بديعية الصفي قوله:
حتى إذا صدروا والخيل صائمة
…
من بعد ما صلت الأسياف في القمم.
قال في شرحه قوله: صائمة، يوهم أن مراده بقوله صلت الأسياف من الصلاة، مراده الصليل، وهو صوت الحديد.
وبيت بديعية الصفي قوله:
يا سائرا مفردا أعربت لحنك في
…
توهيم منع رضاع الشاء من حلم.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
والبعض ماتوا من التوهيم وأطرحوا
…
والسمر قد قبلتهم عند موتهم.
وبيت بديعية المقري قوله: