الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هموم لا تزال تبكى، وعلل الدهر تشكى؛ وأحاديث تقص وتحكى. فإن كنت أعزك الله من النمط الأول ولم تق:(وهل عند رسم دارس من معول) . فقد جنيت الثمر، واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة؛ واخرج على قومك في ثياب الزينة، واستبشر بالوفود، وعرف المسمع عارفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود؛ واجن رمان النهود من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود. وإن كانت الأخرى فاخف الكمد، وأرض الثمد، وانتظر الأمد؛ واكذب التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهم الرشوة؛ وتقلد المغالطة وارتكب؛ وجيء على قميصه بدم كذب؛ واستنجد الرحمن؛ واستعن على أمرك بالكتمان.
لا تظهرن لعاذل أو عاذر
…
حاليك في السراء والضراء.
فلرحمة المتوجعين حزازة
…
في القلب مثل شماتة الأعداء.
وانتشق الأرج، وارتقب الفرج، فكم غمام طبق وما همى وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى. واملك بعدها عنان نفسك حتى تمكنك الفرصة؛ وترفع إليك القصة. ولا تسرع إلى عمل لا تفيء منه بتمام، وخذ عن غمام، واللبانات تلين وتجمح؛ والمآرب تدنو وتنزح وتحزن ثم تسمح. وكم من شجاع خام، ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق؛ والله عز وجل يجعلها خلة موصولة وشملا أكنافه بالخير مشمولة، وبينة أركانها بركائب اليمن مأهولة، حتى تكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه؛ وتضفو عليه نعم باريه؛ ما طورد قنيص واقتحم عيص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص والسلام.
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله:
أشبعت نفسك من ذمي فهاضك ما
…
تلقى وأكثر موت الناس بالتخم.
فقوله: (أكثر موت الناس بالتخم) كناية يهزؤون بها على من يفرط في المآكل اللذيذة ويخص بها نفسه.
وبيت بديعية ابن جابر الأندلس قوله:
قل للصباح إذا ما لاح نورهم
…
إن كان عندك هذا النور فابتسم.
قال ابن حجة: لم أر في هذا البيت هزلا يراد به الجد.
قلت: ومثل هذا ما أنشده رفيقه له في شرح بديعيته المذكورة، وادعى فيه أنه من هذا النوع: تزعم يا بدر مساوتها=ولست أبدي لك تفنيدا.
إن كان ما تزعم عارض لنا
…
مقلتها واحك لنا الجيدا.
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
هزل أريد به جد عتابك لي
…
كما كتمت بياض الشيب بالكتم.
هذا أيضاً لا يظهر فيه شاهد البيت المذكور.
وبيت ابن حجة في بديعيته قوله:
والبين هازلني بالجد حين أرى
…
دمعي وقال تبرد أنت بالديم.
أقول: الهزل في هذا البيت ظاهر، ولكن لا حقيقة له، وقد علمت أنه لا بد فيه من الجد؛ وإلا لم يكن من هذا النوع أصلا.
وبيت بديعية الطبري قوله:
أكثرت هزلك جدا لي فحسبك لا
…
تكن كهيلة ذات العار في الغنم.
قال في القاموس: هيلة عنزة لامرأة؛ كان من أساء إليها درت له؛ ومن أحسن إليها نطحته؛ ومنه المثل: هيل خير حالبيك تنطحين.
وبيت بديعيتي قولي:
هازلت بالجد عزالي فقلت لهم
…
أكثرتم العذل فاخشوا كظة البشم.
الهزل في هذا البيت على حده في بيت الصفي، فإن الكظة بالكسر شيء يعتري من امتلاء الطعام؛ والبشم، هو التخمة، والمراد هنا الجد؛ لأن المقصود منعهم عن كثرة العذل.
وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري قوله:
ما أنت يا عاذلي والحب تنكره
…
فخص بنا في حدود القول والكلم.
قال ناظمه في شرحه: يقول: ما أنت من رجال الحب، غنما أنت ممن يعرف حدود القول والكلم، فخض بنا فيما أنت من أهله، ودع الحب فله رجال لست منهم. انتهى.
قلت: لم يظهر لي من البيت ولا من شرحه شاهد النوع؛ فإنه لم يزد على أن جعل عاذله عارفا بالعربية، جاهلا بالحب؛ فتأمله.
وبيت بديعية العلوي قوله:
أخاف لومك إن شاهدت نورهم
…
يجني عليك فإن السم في الدسم.
قال ناظمه: الشاهد في قولنا: إن السم في الدسم؛ وهي كلمة تخرج مخرج الهزل وهو جد؛ لأن أكثر ما يكون السم في الدسم. انتهى.
قلت قد تقدم أن السم في الدسم من الأمثال؛ وليست من الهزل في شيء؛ على أن إيراده هنا لا معنى له؛ بل هو موهم لذم أحبابه؛ والله أعلم.
التهكم
.
تهكما قلت للواشين لي بهم
…
لقد هديتم لفصل القول الحكم.
قال في القاموس: التهكم: التهدم في البئر ونحوها، والاستهزاء، والطعن المتدارك، والتبختر، والغضب الشديد؛ والتندم على الأمر الفائت والمطر الكثير الذي لا يطاق، والتغني. انتهى.
والمقصود هنا: المعنى الثاني وهو الاستهزاء، وفي كونه منقولا من التهدم- ما قال بعضهم- أو الغضب- كما قال آخرون- نظر، لأنه قد ورد التهكم بمعنى الاستهزاء في اللغة، فأي داع إلى كونه منقولا من معنى أخر؟ نعم في الاصطلاح أخص منه في اللغة، لأنه في اللغة بمعنى الاستهزاء مطلقا، وفي الاصطلاح هو الخطاب بلفظ الإجلال في موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير؛ والوعد في مكان الوعيد، والعذر في موضع اللوم؛ والمدح في معرض السخرية، ونحو ذلك.
فمن الخطاب بلفظ الإجلال في موضع التحقير، قوله تعالى:(ذق إنك أنت العزيز الكريم) ومن البشارة في موضع التحذير، قوله تعالى:(بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) وقوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) ومن الوعد في موضع الوعيد، قوله تعالى:(وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل) وهذا ضد الإغاثة.
ومن العذر في موضع اللوم، قول ابن أبي الحديد:
عذرتكما إن الحمام لمبغض
…
وان حياة النفس للنفس محبوب.
ومن أمثلة هذا النوع في الشعر، قول ابن الرومي:
فيا له من عمل صالح
…
يرفعه الله إلى أسفل.
وقول أبي بكر أحمد بن محمد الأبيض الإشبيلي يتهكم برجل زعم أنه ينال الخلافة:
أمير المؤمنين نداء شيخ
…
أفادك من نصائحه اللطيفه.
تحفظ أن يكون الجذع يوما
…
سريرا من أسرتك المنيفه.
وقول جاسوس الملك في الوزير أبي القاسم الجرجاني، وكان أقطع اليدين من المرافق:
وأقمت نفسك في الثقاة
…
وهبك فيما قلت صادق.
فمن الأمانة والتقى
…
قطعت يداك من المرافق.
وقول بعضهم:
بجيش يناطح زهر النجو
…
م إذا ما طلعت به أسفلا.
وقول المتنبي في كافور: من علم الأسود المخصى مكرمة=أقومه البيض أم آباؤه الصيد.
وقول ابن الذروي في ابن أبي حصينة وكان أحدب، وهو من شاهد المدح في معرض السخرية:
يا أخي كيف غيرتنا الليالي
…
وأحالت ما بيننا بالمحال.
حاش الله أن أصافي خليلا
…
فيراني في وده ذا اختلال.
زعموا أنني نظمت هجاء
…
معربا فيك عن شيع القتال.
كذبوا إنما وصفت الذي حز
…
ت من فضلها والبها والكمال.
لا تظنن حدبة الظهر عيبا
…
وهي في الحسن من صفات الهلال.
وكذاك القسي محدودبات
…
وهي أنكى من الظبى والعوالي.
وإذا ما علا السنام ففيه
…
لقروم الجمال أي الجمال.
وأرى الانحناء في مخلب البازي ولم يعد مخلب الرئبال.
كون الله حدبة إن شئ
…
ت من الفضل أو من الأفضال.
فأتت ربوة على طود علم
…
وأتت موجة ببحر رمال.
ما رأتها النساء إلا تمنت
…
أنها حلية لكل الرجال.
وأبو الغصن أنت لا شك فيه
…
وهو رب القوام ذو الاعتدال.
عد إلى ودنا القديم ولا
…
تضع لقيل من الوشاة وقال.
وتذكر لياليا حين ولت
…
أودعت حسنها عقود اللآلي.
أترى بالرجال يجمع شملي
…
أم رجائي مخيب وابتهالي.
وإذا لم يكن من الهجر بد
…
فعسى أن تزورنا في الخيال.
ولأبي الفتح ابن دانيال قصيدة في رجل أحدب على هذا النمط، وأنا أفضلها على هذه القصيدة وأرى الاستشهاد بها أقعد من تلك في هذا النوع وهي:
قسما بحسن قوامك الفتان
…
يا أوحد الأمراء في الحدبان.
أنت الحسام زها برونق حدبة
…
فزها على الخطية المران.
يا مخجلا شكل الهلال يقده
…
حاشاك أن تعزى إلى نقصان.
وممايلاً قد القضيب إذا مشى
…
من حدبتيه يميس كالريان.
ما عاب قامتك الحسود جهالة
…
إلا أجبت مقاله ببيان.
هل يحسن الجو كان إلا أن يرى
…
مع أكره في حلبة الميدان.
أو هل يزين المتن إلا ردفه
…
حسنا فكيف بمن له ردفان.
والعود أحدب وهو ألهى مطرب
…
والقد سمعت بنغمة العيدان.
وكذا سفين البحر لولا حدبة
…
في ظهره لم يقو للطوفان.