الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أو) هنا بمعنى (حتى) علق زوال حبه عن محبوبته على جر النمل ثبيرا، لاستحالته عادة لا على أن يرتاع الممدوح لإمكانه عادة، والمقصود أن حبها لا يزول أبدا. هكذا قال بعضهم في هذا البيت وليس هذا مقصود المتنبي، بل علق زوال حبها على الأمرين، لاستحالة جر النمل ثبيرا حقيقة واستحالة ارتياع الممدوح إدعاء، فالأمران كلاهما مستحيلان في اعتقاده وإن كانا تقيضين في الحقيقة، ولذلك قدم المستحيل حقيقة على المستحيل ادعاء، ولو قصد المتنبي ما قاله هذا القائل لما كان في بيته كبير مدح.
وقلت أنا في هذا النوع في معنى سنح:
وخود تحاول وصلي وقد
…
أضاعت عهودي وملت جنابي
فقلت ستلقين مني الوصال
…
إذا شبت أوعاد عصر الشباب
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
وأنني سوف أسلوهم إذا عدمت روحي وأحييت بعد الموت والعدم
علق السلو على عدم روحه أولا وهو ممكن، وعلى وقوع الحياة في دار الدنيا بعد الموت ثانيا وهو مستحيل وهو المراد، لأن مقصوده أنه لا يسلو أبدا.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية العز الموصلي قوله:
إني أناقض عهد النازحين إذا
…
ما شاب عزمي وشبت شهوة الهرم
تعقبه ابن حجة بأنه قرر في بيته وشرحه أن شيب العزم ممكن، وشباب شهوة الهرم مستحيل، فرأيت تصوير شيب العزم وإمكانه، وسبك استعارته في قالب التشبيه كما تقرر في باب الاستعارة فيه أشكال، فأنهم قالوا الاستعارة هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء مبالغة في التشبيه، ولم أر في شيب العزم وجها للبالغة في التشبيه؛ وعلى كل تقدير فالممكن والمستحيل في بيت عز الدين فيهما نظر. انتهى.
ونحن نقول: أضمر تشبيه انحلال العزم بشيب الإنسان، وتشبيه استكمال شهوة الهرم بشباب الإنسان، ثم استعار اسم المشبه به في كلا التشبيهين للمشبه؛ واشتق منه صيغة الفعل على قانون الاستعارة التبعية؛ والعادة جارية بأن العزم والشهوة يهرمان بهرم الإنسان كما قيل:
وهت عزماتك عند المشيب
…
وما كان من شأنها أن تهي
وان ذكرت نفسك شهوات النفوس
…
فما تشتهي غير أن تشتهي
فيكون شيب العزم عند الهرم ممكنا عاديا وشباب الشهوة إذ ذاك محالا عاديا، وهذا القدر من الاستحالة كاف فيما رامه الموصلي من بيان المناقصة، فلا نظر حينئذ لابن حجة.
وبيت بديعية لبن حجة قوله:
إني أناقصهم إذ أزمعوا ونأوا
…
وجر نمل ثبيرا أثر عيسهم
أخذه من قول أبي الطيب:
أحبك أو يقولا جر نمل
…
ثبيرا وابن إبراهيم ريعا
وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:
وسوف أسلوهم إذ ناقضوه إذا
…
شبنا وعاد شبابي مترف الأدم
وبيت بديعيتي هو قولي:
وإنني سوف أوليهم مناقضة
…
إذا هرمت وشب الشيخ بالهرم
وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:
هيهات أسلو بلى أن عشت وانقلبت
…
صفا صفاتي أو أودعت في الرجم
الرجم بفتح الراء المهملة والجيم: القبر
المغايرة
غايرت غيري في حبيهم فأنا
…
أهوى الوشاة لتقريبي لسمعهم
المغايرة والتغاير، ويسميه قوم التلطف، هو أن يتلطف الناظم أو الناثر في التوصل إلى مدح مذموم، أو ذم ممدوح، سواء كان هو الذي ذمة أو مدحه من قبل نفسه أو غيره.
فمن ذلك مدح علي عليه السلام للدنيا بعد أن ذمها هو وغيره. فمن ذمها له قوله عليه السلام: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته؛ ومن قعد عنا واتته، ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته.
قال السيد الرضي رضي الله عنه: إذا تأمل المتأمل قوله: ومن أبصر بها بصرته، وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد، ما لا يبلغ غايته ولا يدرك غوره، ولاسيما إذا قرن إليه قوله عليه السلام: ومن أبصر إليها أعمته فأنه يجد الفرق بين (أبصر بها) و (أبصر إليها) واضحا نيرا وعجيبا باهرا. انتهى.
ومن ذمها قول يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من شرب منها سكر، فلم يفق منها إلا في عسكر الموتى.
وقال عبادة: الدنيا قحبة، فيوما عند عطار ويوما عند بيطار.
وقال أبو الحسن الباخرزي:
ما هذه الدنيا سوى قحبة
…
تبرز في الزينة للزاني
حتى إذا اغتر بإقبالها
…
مالت لأعراض وهجران
وكان المأمون يقول: لو نطقت الدنيا لما وصفت نفسها بأحسن من قول أبي نواس:
إذا خبر الدنيا لبيب تكشفت
…
له عن عدو في ثياب صديق
وما الناس إلا هالك وابن هالك
…
وذو نسب في الهالكين عريق
وقد ألم بمعناه ابن بسام حيث قال:
أف من الدنيا وأيامها
…
فأنها للحزن مخلوقة
غمومها لا تنقضي ساعة
…
عن ملك فيها ولا سوقه
يا عجبا منها ومن شأنها
…
عدوة للناس معشوقة
وذمها في النثر كثير جدا: ومدح علي عليه السلام للدنيا هو قوله، وقد سمع رجل يذمها: أيها الذّام للدنيا المغتر بغرورها، بم تذمها، أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟ متى استهو أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى؟ أبمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك، تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينقع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها؛ ودار عافية لمن فهم عنها؛ ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحياء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله. اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة. فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوفتهم بسرورها إلى السرور. راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيبا وترهيبا، وتخويفا وتحذيرا، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة. ذكرتهم الدنيا فذكروا وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا. انتهى.
ويوجد اختلاف كثير في روايات هذه الخطبة، وهذه الرواية أصحها فاني نقلتها من نهج البلاغة، وهو العمدة في كلامه عليه السلام.
وذكرت بقوله عليه السلام: مسجد أحباء الله قول بعضهم: الدنيا أحب إلي من الجنة فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لا أني في الدنيا مشغول بعبادة ربي، وفي الجنة مشغول بلذة نفسي، وبين الأمرين بون بائن.
ولعبد الله بن المعتز رسالة يمدح فيها الدنيا، حذا فيها حذو هذه الخطبة، وأين الثريا من الثرى، ومطلع سهيل من موقع السيل، قال فيها: الدنيا دار التأديب والتعريف التي بمكروهها يوصل إلى محبوب الآخرة، ومضمار الأعمال السابقة بأصحابها إلى الجنان، ودرجة الفوز التي يرقى عليها المتقون إلى دار الخلد، وهي الواعظة لمن عقل، والناصحة لمن قبل وبساط المهل، وميدان العمل، وقاصمة الجبارين، وملحقة الرغم بمعاطس المتكبرين، وكاسيه التراب أبدان المختالين، وصارعة المغترين، ومفرقة أموال الباخلين، وقاتلة القالين؛ والعادلة بالموت بين العالمين، ومهبط القرآن المبين، ومسجد العابدين، وأم النبيين صلوات اله عليهم أجمعين، وناصرة المؤمنين، ومبيرة الكافرين. فالحسنات فيها مضاعفة، والسيئات بآلامها ممحوة، ومع عسرها يسران، والله تعالى قد ضمن أرزاق أهلها وأقسم في كتابه بما فيها. ورب طيبة من نعمها قد حمد الله عليها فتلقفتها يد الكتبة، ووجبت بها الجنة، ومال من زينتها قد وجه إلى معروفها فكان جوازا على الصراط. وكم نائبة من نوائبها، وتجربة لحوادثها قد راضت الفهم، ونبهت الفطنة، وأذكت القريحة، وأفادت فضيلة الصبر وكثرت ذخيرة الآخرة. انتهى.
وقال أبو العتاهية:
ما أحسن الدنيا وإقبالها
…
إذا أطاع اله من نالها
وقال آخر:
تذم دنيا إن تأملتها
…
وجدت منها ثمر الجنة
ولأبي منصور عبد الملك الثعالبي كتاب كل شيء وذمه، ترجمه بيواقيت المواقيت، وهو غاية في بابه، فلنذكر منه هنا نبذا مستطرفة: مدح العقل_قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الناس يعملون الخيرات، وإنما يعطون أجورهم يوم القيامة على مقادير عقولهم.
وقيل له عليه السلام في الرجل الحسن العقل الكثير الذنوب فقال: ما من آدمي إلا وله خطأ وذنوب، فمن كانت سجيته العقل لم تضره ذنوبه لأنه كلما أخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتوبة تمحو ذنوبه وتدخله الجنة. وكان الحسن البصري يقول: العقل هو الذي يهدي إلى الجنة ويحمي من النار، أما سمعت قول الله تعالى حكاية عن أهلها (لو كنا نسمع ونعقل ما كنا في أصحاب السعير) .
وقال آخر: العقل أحصن معقل.
وقال آخر: أشد الفاقة عدم العقل.
ومن فصول ابن المعتز: العقل غريزة تزينها التجارب. ومنها: حسن الصورة الجمال الظاهر، وحسن العقل الجمال الباطن.
ومن الشعر السائر على وجه الدهر:
يعد شريف القوم من كان عاقلا
…
وإن لم يكن في قومه بحسيب
إذا حل أرضا عاش فيها بعقله
…
وما عاقل في بلدة بغريب
أرى العلم نورا والتأدب حكمة
…
فخذ منهما في رغبة بنصيب
وما اجتمعا إلا لمن صح عقله
…
وكم عالم للشيء غير لبيب
ذم العقل_كان يقال: إن العقل والهم لا يفترقان.
وقال ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها
…
ومرارة الدنيا لمن عقلا
ومن قلائد أبي الطيب:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
…
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فصل لابن المعتز - العقل كالمرآة المجلوة يرى صاحبه فيها مساوئ الدنيا حتى يشرب النبيذ، فإذا ابتدأ بشربه صدئ عقله بمقدار ما يشرب، فإن أكثر منه غشيه الصدأ كله حتى لا تظهر له صورة تلك المساوئ، فيفرح ويمرح. والجهل كالمرآة الصدية أبدا فلا يرى صاحبه إلا مسرورا نشيطا قبل الشرب وبعده.
وقال الحسن البصري: لو كانت للناس كلهم عقول لخربت الدنيا. وقال بعضهم: لو كان الناس كلهم عقلاء ما أكلنا رطبا ولا ماء باردا. يعني أن العاقل لا يقدم على صعود النخيل لاجتناء الرطب ولا على حفر الآبار لاستنباط المياه.
وأنشد:
لما رأيت الدهر دهر الجاهل
…
ولم رأى المغبون غير العاقل
رحلت عيسا من خمور بابل
…
فبت من عقلي على مراحل
مدح القلم والخط والكتابة - كان يقال: القلم أحد اللسانين، وعقول الرجال تحت أسنة أقلامها.
وقال بعض الفلاسفة: صورة الخط في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض.
وقال إقليدس: القلم صائغ الكلام، يفرغ ما يجمعه القلب، ويصوغ ما يسبكه اللب.
وقال أيضاً: الخط هندسة روحانية وإن ظهرت بآلة جثمانية.
وقال جعفر بن يحيى: لم أر باكيا أحسن تبسما من القلم.
وقال المأمون: لله در القلم كيف يحوك وشي المملكة.
وقال أبو الفتح البستي:
إذا افتخر الأبطال يوما بسيفهم
…
وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب فخرا ورفعة
…
مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
هذا ما اخترته في مدح الخط والقلم من الكتاب المذكور. ونضيف إليه من مختار غيره فنقول: قال صاحب كتاب أدب المسافر: الخط لليد لسان، وللخلد ترجمان فرداءته زمانة الأدب، وجودته تبلغ بصاحبه شرائف الرتب، وفيه المرافق العظام التي من الله بها على عباده فقال جل ثناؤه (وربك الأكرم الذي علم بالقلم) .
وروى جبير عن الضحاك في قوله تعالى (علمه البيان) قال: الخط، وهو لمحة الضمير، ووحي الفكر، وسفير العقل، ومستودع السر؛ وقيد العلوم والحكم؛ وعنوان المعارف، وترجمان الهمم. انتهى.
نظر أعرابي إلى فقال: كواكب الحكم في ظلم المداد.
(وقال) حكيم: القلم قيم الحكمة. إن هذه العلوم تند فاجعلوا الكتب لها حماة، والأقلام لها رعاة.
(وقال) سهل بن مروان: القلم أنف الضمير إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره.
وقيل: الأقلام رسل الكلام.
وقيل: ما أثبتته الأقلام لا تطمع في دروسه الأيام.
وقال فيلسوف: الخط لسان اليد.
قيل لنصر بن سيار: إن فلانا لا يكتب فقال: تلك الزمانة الخفية.
وزعم المنجمون: إن القلم في حساب الجمل وزنة نفاع، لأن لكل منهما من العدد مائتان وواحد.
وقال ابن الرومي وأجاد:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
…
له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شيء يعادله
…
ما زال يتبع ما يجري به القلم
بذا قضى الله للأقلام مذ بريت
…
أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
ذم القلم والخط والكتابة: قال ابن المعتز في ذم القلم:
وأجوف مشقوق كأن شباته
…
إذا استعجلتها الكف منقار لاقط
وتاه به قوم فقلت رويدكم
…
فما كاتب بالكف إلا كشارط
وقال أبو العلاء المعري: لو كان في الخط فضيلة لما حرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال بعض مجان الحكماء: ما لقينا من الكتاب في الدنيا والآخرة خيرا. أما الدنيا فقد بلينا به، وأخذنا بحفظ فرائضه، وإقامة شرائطه. أما في الآخرة فأنا نلقاه منشورا بسرائرنا، وخفايا صدورنا.
وذكر الجاحظ عامة الكتاب فقال: أخلاق حلوة، وشمائل معسولة وثياب مغسولة، وتظرف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإذا اصطلوا بنار الامتحان كانوا كالزبد بذهب جفاء، أو كنبات الربيع بالصيف يحركه هيف الرياح،، لا يستندون إلى وثيقة، ولا يدينون بحقيقة أخفر الخلق لأماناتهم وأشراهم بالثمن البخس لعهودهم (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) .
مدح الشعر والشعراء.
كان يقال: الشعر ديوان العرب، ومعدن حكمتها، وكنز آدابها، والشعر لسان الزمان، والشعراء أمراء الكلام.
وقال بعض السلف: الشعر أدنى مروة السري، وأسرى مروة الدني.
وقال آخر: الشعر جزل من كلام العرب تقام به المجالس، وتستنجح به الحوائج، ويشفى به الغيظ.
قلت: روي الزمخشري في ربيع الأبرار هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله، بتقديم وتأخير، وتغيير يسير، وعبارته عنه عليه السلام: الشعر جزل من كلام العرب يشفى به الغيظ ويوصل به إلى المجلس وتقضى به الحاجة.
وكان يقال: المدح مهزة الكرام، وإعطاء الشاعر من بر الوالدين.
وقال بعضهم: أنصف الشعراء فإن ظلامتهم تبقى، وعقابهم لا يفنى، وهم الحاكمون على الحكام.
وقال آخر: الشعر أصالة في العقل، وذكاء للقلب، وطول في السان وجود في الكف.
وقال عليه السلام: إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا.
وكان يقال: النثر يتطاير تطاير الشرر، والنظم يبقى بقاء النقش في الحجر.
وقال دعبل في كتابه -كتاب الشعراء- من فضائل الشعر أنه لا يكذب أحد إلا اجتواه الناس وقالوا كذاب إلا الشاعر، فأنه يكذب فيستحسن منه كذبه، ويحتمل ذلك له ولا يكون عليه عيبا، ثم لا يلبث إن يقال له أحسنت. أن الرجل_الملك أو السوقة_إذا صير ابنه في الكتاب أمر معلمه أن يعلمه القرآن والشعر، فيقرنه بالقرآن، ليس لأن الشعر كالقرآن، لا ولا كرامة للشعر ولكنه من أفضل الآداب فيأمره بتعليمه إياه، لأنه يوصل به المجالس، وتضرب فيه الأمثال ويعرف به محاسن الأخلاق ومساويها، فيذم به ويحمد ويهجى ويمدح. انتهى.
ومن أحسن ما قيل في مدح الشعر: قول أبي تمام:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
…
بناة المعالي أين تبنى المكارم
وأحسن منه قول ابن الرومي:
أرى الشعر يحيي الجود والباس بالذي
…
تبقيه أرواح له عطرات
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد
…
وما الناس إلا أعظم نخرات
فصل لأبي بكر الخوارزمي جامع في مدح الشعراء: ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم. إذا ذموا ثلبوا، وإذا مدحوا سلبوا، وإذا رضوا رفعوا الوضيع، وإذا غضبوا وضعوا الرفيع وإذا أقروا على أنفسهم بالكبائر لم يلزمهم حد، ولم تمتد إليهم بالعقوبة يد.
غنيهم لا يصادر، فقرهم لا يحتقر، وشيخهم يوقر، وشابهم لا يستصغر وسهامهم تنفذ في الإعراض إذا نبت السهام عن الأغراض، وشهادتهم مقبولة وإن لم ينطبق بها سجل، ولم يشهد عليها عدل، وسرقتهم مغفورة وإن جاوزت ربع دينار وبلغت ألف قنطار. إن باعوا المغشوش لم يرد عليهم وإن صادروا الصديق لم يستوحش منهم، بل ما ظنك بقوم هم صيارفة أخلاق الرجال، وسماسرة النقص والكمال، بل ما ظنك بقوم اسمهم ناطق بالفضل، واسم صناعتهم مشتقة من العقل.
هذا مختار ما ذكره في اليواقيت في مدح الشعر وأهله.
ومن مختاره: قال المطرزي: كان يقال: اختص اله العرب بأشياء.
العمائم تيجانها، والحبى حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها. وإنما قيل: الشعر ديوان العرب لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب، ولأنه مستودع علومهم، وحافظ آدابهم، ومعدن أخبارهم. انتهى.
وكانت العرب تعظم الشعر، وتفتخر بقوله. وكانت القبيلة منهم إذا نبغ فيهم شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وضعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتباشر الرجال والوالدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، واشادة لذكرهم. وكانوا لا يهنون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبع فيهم، أو فرس ينتج.
وقال بعضهم: الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويشيرون، ويختلسون، ويعيرون ويستعيرون. فأما لحن في إعراب أو إزالة كلمة عن نهج الصواب فليس لهم ذلك.
وعن الشريد قال: استنشدني النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هيه هيه، حتى أنشدته مائة قافية.
وقال بعضهم:
الشعر يحفظ ما أودى الزمان به
…
والشعر أفخر ما ينبي عن الكلم
لولا مقال زهير في قصائده
…
ما كنت تعرف جودا كان في هرم
فائدة - أعلم أن الشعر من خواص لغة العرب، ولم يكن في غيرها من اللغات، وما يذكر أنه كان لليونانيين شعر فليس المراد به هذا الشعر وإنما كانوا يؤلفون الألفاظ المشتملة على المعاني التي تورث النفس انفعالا من قبض أو بسط، ولا يراعون وزنا ولا قافية. وأما ما هو المشهور الآن من الشعر الذي للفرس والترك ونحوهم فهو أمر حادث أخذوا طريقته من العرب، وتتبعوا أقوالهم وأوزانهم، واستخرجوا بأفكارهم بحورا زائدة. وقد يكون لغير العرب إلى الآن أيضاً ألفاظ يتغنون بها، ويتصرفون فيها بحسب ما يريدون من الألحان من دون رجوع إلى وزن أو قافية والله أعلم. وقد أمليت كتابا لطيفا، وديوانا طريفا في مقاصد الشعر، ترجمته ب (محك القريض) أوردت فيه من مدح الشعر والشعراء ما فيه مقنع لمن كان منه بمرأى ومسمع والله الموفق ذم الشعر والشعراء - كان يقال: الشعر رقية الشيطان.
ولذلك قال جرير وهو يمدح عمر بن عبد العزيز ويصف ترفعه عن استماع الشعر:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
…
وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وقال آخر: لا خير في شيء أحسنه أكذبه.
وكان أبو مسلم يقول: إياك والشاعر فأنه لا يهجو إلا جليسه، ويطلب إلى الكذب مثوبة.
وقال آخر: لا تجالس الشاعر فأنه إذا غضب عليك هجاك، وإذا رضي عنك كذب عليك. وقد وصفهم الله سبحانه ومتبعهم من ورائهم بالصفة الخاصة بهم فقال "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ملا يفعلون".
وقرنهم بشر صنف من مستحلي الأباطيل وهم الكهنة فقال "وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون".
ومن أحسن وأصدق ما ذم به الشاعر قول عبد الصمد بن المعذل لأبي تمام وقد قصد البصرة وشارفها:
أنت بين اثنتين تبرز للنا
…
س وكلتاهما بوجه مذال.
لست تنفك طالبا لوصال
…
من حبيب أو راغبا في نوال.
أي ماء لحر وجهك يبقى
…
بين ذل الهوى وذل السؤال.
فلما بلغت الأبيات أبا تمام قال: صدق والله أحسن. وثنى عنانه عن البصرة وأقسم أن لا يدخلها أبدا.
وقال أبو سعيد المخزومي:
الكلب والشاعر في حالة
…
يا ليت أني لم أكن شاعرا.
أما تراه باسطا كفه
…
يستطعم الوارد والصادرا.
وقال أبو سعيد الرستمي الأصبهاني:
تركت الشعر للشعراء إني
…
رأيت الشعر من سقط المتاع.
مدح الكتب- قال الجاحظ: الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا.
إن شئت كان أعيى من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائبه، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه.
والكتاب نعم الظهر والعمدة، ونعم الكنز والعقدة، ونعم الذخر والعدة ونعم النزهة والسلوة؛ ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب هو الجليس الذي لا يغويك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والمستميح الذي لا يستزيدك، وهو الذي يعطيك بالليل طاعته بالنهار ويفيدك في السفر إفادته في الحضر.
ثم قال: وبعد فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة يقلب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء. ومن لك بواعظ مله وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبساكت ناطق. ومن لك بطيب أعرابي، وبرومي هندي، وبفارسي يوناني، وبقديم مولد، وبميت حي.
ثم قال: ولولا رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجائب حكمها، ودونت من محاسن سيرها، حتى شاهدنا به ما غاب عنا، وفتحنا به ما استغلق علينا، وأضفنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم ندركه إلا بهم، لقد كان يبخس حظنا من الحكمة؛ وتضعف أسبابنا عن المعرفة والفطنة. ولولا الكتب المدونة، والأخبار المخلدة، لبطل أكثر العلم، ولغلب سلطان النسيان على سلطان الذكر.
وكان يقال: إنفاق الفضة على كتب الآداب يخلفك عليه ذهب الألباب.
وقرأ أبو الحسن بن طباطبا العلوي في بعض الكتب: الكتب معقل العقلاء إليها يلجؤون، وبساتينهم فيها يتنزهون، فقال:
اجعل جليسك دفترا في نشره
…
للميت من حكم العلوم نشور.
فكتاب علم للأديب موانس
…
ومؤدب ومبشر ونذير.
ومفيد آداب ومؤنس وحشة
…
وإذا انفردت فصاحب وسمير.
وقال المتنبي:
أعز مكان في الدنا سرج سابح
…
وخير جليس في الزمان كتاب.
انتهى ما اخترناه من اليواقيت في مدح الكتب.
وقال جمال الدين إبراهيم بن القاقشوشي الكتبي في الكتب وأجاد ما أراد:
ورب صحب حووا جمع العلوم رضوا
…
بالفقر ليس لهم قوت ولا مال.
في الحر والبرد أطمار الجلود لهم
…
قمص وفخر لهم إذ هن أسماك.
سؤالهم بعيون الناس لا بفم
…
ونطقهم بفم السؤال قوال.
كل يراهم ولا يدري بخبرهم
…
إلا لبيب له في العلم إيغال.
يحيون في العلم ما عاشوا بلا ضجر
…
الجد عندهم والمزح أمثال.
وربما اختلفت منهم عقائدهم
…
ولا يرى بينهم قيل ولا قال.
فكن مصاحبهم تحيا بلا كدر
…
ومن سواهم فختار وختال.
فإن علمت بعلمي عشت في دعة
…
وإن جهلت فجل الناس جهال.
ذم الكتب- كان يقال: من تأدب من الكتاب صحف الكلام، ومن تفقه من الكتاب غير الأحكام. ومن تطبب من الكتاب قتل الأنام، ومن تنجم من الكتاب أخطأ الأيام وأنشد: ليس بعلم ما حوى القمطر=ما العلم إلا ما حواه الصدر.
وأنشدني مؤدب لي في صباي:
صاحب الكتب تراه أبدا
…
غير ذي فهم ولكن ذا غلط.
كلما فتشته عن علمه
…
قال علمي يا خليلي في سفط.
في كراريس جياد أحكمت
…
وبخط أي خط أي خط.
فإذا قلت له هات إذن
…
شد لحييه جميعا وامتخط.
وأنشد الجاحظ لمحمد بي يسير وهو أحسن ما قيل في معناه:
أما لو أعي كل ما أسمع
…
وأحفظ من ذلك ما أجمع.
ولم أستفد غير ما قد جمع
…
ت لقيل هو العلم المصقع.
ولكن نفسي إلى كل شيء
…
من العلم تسمعه تنزع.
فلا أنا أحفظ ما قد جمع
…
ت ولا أنا من جمعه أشبع.
ومن يك في علمه هكذا
…
يكن دهره القهقرى يرجع.
إذا لم تكن حافظا واعيا=فجمعك للكتب لا ينفع.
وأنشد يوسف النحوي قول الشاعر:
أستودع العلم قرطاسا فضيعه
…
وبئس مستودع العلم القراطيس.
فقال: قاتله الله ما أشد صبابته بالعلم، وأحسن صيانته له.
وقال أخر:
إني لأكون علما لا يكون معي
…
إذا خلوت به في جوف حمام.
ولأبي بكر الخوارزمي فصل في آفات الكتب نظم نكتها تلميذ له فقال:
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب
…
فإن للكتب آفات تفرقها.
الماء يغرقها والنار تحرقها
…
واللص يسرقها والفار يخرقها.
انتهى ما أورده الثعالبي.
وقال آخر في ذلك:
الكتب تذكرة لمن هو عالم
…
وصوابها بخطائها معجون.
من لم يشافه عالما بأصوله
…
فيقينه في المشكلات ظنون.
وقال آخر:
يظن الغمر أن الكتب تهدي
…
أخا جهل لإدراك العلوم.
وما علم الغبي بان فيها
…
مهامه حيرت عقل الفهيم.
إذا رمت العلوم بغير شيخ
…
ضللت عن الصراط المستقيم.
فائدة، ممن اخذ العلم بالمطالعة من الكتب- دون شيخ- ابن حزم الظاهري، وابن الجوازي، ووقع لهما بسبب ذلك تصحيفات كثيرة.
وقيل والزمخشري صاحب الكشاف، وليس بصحيح.
مدح الغنى- قال ابن المعتز:
إذا كنت ذا ثروة من غنى
…
فأنت المسود في العالم.
وحسبك من نسب صورة
…
تخبر أنك من آدم.
وقال أب الأسود الدؤلي: